شهدت فلسطين في الفترة الأخيرة سلسلة علميات طعن ودهس نفّذها مقاومون ومواطنون عاديون لم يعودوا يتحملون ظلف العيش في كنف الاحتلال والإذلال الإسرائيلي اليومي. توالت العمليات بدون تنسيق بين منفذيها، وزرعت أملاً لدى الفلسطينيين بأنّ المقاومة مستمرة وإن اختلفت وسائلها. الرد الإسرائيلي جاء سريعاً عبر المزيد من القمع والقتل والسماح للمواطنين الإسرائيليين بالتسلح وحمل السلاح علناً. ولم يكن اغتيال الوزير زياد أبو عين بداية ديسمبر / كانون الأول الماضي بعد ضربه والاعتداء عليه في خلال تظاهرة مناهضة لجدار الفصل العنصري سوى واحدة من الحوادث التي شهدتها الأراضي المحتلة التي حاولت إثباط عزيمة الفلسطينيين.
واحدة من العمليات التي أخذت الكثير من حيّز النقاش كانت حين أقدم مقاومان فلسطينيان على اقتحام كنيس يهودي في القدس وقتل خمسة من المصلّين فيه قبل أن يقتلهما الأمن الإسرائيلي. في جدلية هذه العملية، بين شرعيتها واستنكارها، تبيّن لنا أنه يمكن الاختلاف على أسلوب المقاومة. فقد يوافق البعض عليها تماماً ويباركها وقد يختلف البعض الآخر برفضها وشجبها. ولكننا في الحقيقة لسنا في صدد أي تحليل أو نظرية تحكم الموضوع. فالمقاومة ليست عملاً محكوماً وفق مزاجاتنا المتقلّبة، ولا تُختصر بالعمليات الفردية، أو غير المدروسة عسكرياً، أو تلك التي لم يخطط لها أي فصيل. فصائل لم يتبنّ أيّ منها العملية في القدس، بل اكتفت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بمباركتها كون المنفذين ينتمون لكوادرها.
من جهة، يمكننا أن نختلف حول أساليب المقاومة، ونقدها أيضاً، بغية الوصول إلى استراتيجية شعبية وبلورة خطة تحرير ناجعة أكثر، بينما من جهة أخرى، قد لا يكون باستطاعتنا البتّ في صلاحية وشرعية العملية أو لوم الشهداء، او حتى التشكيك في شهادتهم (مثلما فعل الكثيرون على شبكات التواصل الاجتماعي).. كما أنه لا مكان لوعظهم عبر أخلاقيات بديهية للتحلّي بها، لأن للاحتلال مظاهر كثيرة ولكل فلسطيني تجربته الخاصة التي تنطبق عليه وتندرج بكافة أشكال تعامُله مع هذه المؤسسة.
أقدم الشهيدان المقدسيان على تنفيذ العملية في الكنيس اليهودي، وقد خلّفت خمسة قتلى. وفي تحليل بسيط للعملية نستنتج بوضوح أنها نُفّذت بسبب تراكمات واقع حزين مليء بالقهر والإذلال للمقدسيين. وكما قال المثل «طباخ السمّ ذوّاقهُ»، فـإسرائيل هنا هي طبّاخة السمّ وعليها أن تتذوق ما تُسببهُ لهذا الشعب ولأبناء فلسطين كنتيجةٍ للتضييقات التي تتحداهم بها يوميّاً. بما أنّ «الوجع لا يعرفه إلا صاحبه» وأصحاب الوجع الحقيقيين هم الشباب الذين استشهدوا، فلم تعُد تضيق بهم ذرعاً «شوارع القدس العتيقه». لكن، يجب أن لا نُنكر أنه في الوقت الذي يتشبع فيه البعض مجداً بسبب عملية مقاومة كهذه، بعضٌ آخر قد يتحسّر وبمرارة على شباب بعمر الورد، خسِر عُمره وفضَّل الموت على أن يعيش الحياة القاسية اليومية في فلسطين والقدس تحديداً.
فصلت عملية القدس النشطاءَ والمثقفين وشرائح المجتمع على أنواعها إلى معسكرين: المُعسكر المناهض والرافض لها، والمُعسكر المؤيد لها. وظهر أحد أبرز المشاهد التي تتوالى تبعاُ لمثل ما جرى، وكأن الجميع يقف أمام كشك نبتاع منه الشهادات الوطنية. وكلاهما اتسما بالمبالغة سواء في التهليل للعملية وتمجيدها ونسيان النتائج الوخيمة المرافقة لها، أو في الاعتراض بحجة الانسانية، وكأن المؤيدين ليسوا انسانيّين وكأن المعترضين هم وحدهم ذوو وعي وأخلاق ومبادئ تجبرهم على الرفض.
لا أبيض أو أسود هنا، وبالتأكيد ليست قضية «إنسانية أو عدم إنسانية» ولا يمكننا نعت المؤيدين للعملية بغير الإنسانيين، كما لا يمكننا توجيه الذم والهجوم الشرس للمعسكر الرافض ووصفه بالابتذال وبالإنسانية المفرطة. يجب أن نصغي للنقد مهما كان ومن أي مصدر. ففي رفض الند والامتناع عن الإصغاء والاكتفاء بقناعاتنا الشخصية حتى في علمية كهذه، هو للأسف إفلاس سياسي ربما نعاني منه، وشعور عام بالخوف على فعل المقاومة الذي هو نتيجة، على ما يبدو، لتجنّبنا مناقشة ونقد أدائها. لا يمكن لمقاوم أن يكون مقاوماً وغير إنساني في الوقت ذاته. رفضنا كشعب، وبشتّى الأشكال، للاحتلال الصهيوني هو دليل على كفاحنا لنعيش بكرامة إنمّا تتصف بالإنسانية أولاً. ربما التفاوت في طبقات المجتمع في فلسطين فرض علينا هذا التشرذم، وجعلنا نواجه، وبسوطٍ من حديد، كل من اعتقد أنه «أخلاقي ومبدئي» أكثر منا، خوفاً من ضياع البوصلة الأساسية في تحرير كامل الأرض.
وبعودة إلى الجوهر، علينا ألّا نغفل تسهيلنا، بعمليات كهذه، لإسرائيل تبريرَ نفسها لأفعالها ضدّنا، والاتكاء على دور الضحية ولعب شخصية المُستهدف من قِبَل «الإرهابيين الفلسطينيين» أمام الرأي العام والحكومات الصديقة الداعمة. إن غياب استراتيجية المقاومة، ومن ضمنها المفهوم العام والشعبيّ لها، يغيّب معه المُراد، قد لا تعطي العمليات الفردية النتائج المرجوّة، وذلك يعود بالضرر الشديد لعوائل الشهداء ذاتهم. وكما هو متوقع فإن إسرائيل، بهمجيّتها وشراستها، قادرة على تحويل حياة ذويهم إلى سواد، ابتداءً من أوامر هدم بيوتهم والخنق والتضييق، إلى الكثير من ردود الفعل المجنونة والمفاجئة. من السهل لدولة كإسرائيل أن تعيد تشريدنا مجدداً، بطرق التفافية أو سواها، كقانون القومية اليهودية أخيراً الذي يشرّع اللامساواة علناً وممارسة طقوس عنصريه على الملأ.
سَعت الأحزاب العربية في الكنيست الى التنديد واستنكار العملية، متناسين ما حدث للشهيد الذي قتل شنقاً على ايدي مستوطنين قبلها بأيام قليلة، واصفين القتلى «بالأبرياء» وأطلقوا بياناً بلا خجل، متجاهلين معرفتهم بعدم صلاحية هذا المنبر بعد اليوم وبأنه لا تمثيل لنا عبره. بالإضافة إلى ذلك، فقد استخدموا مصطلح «مدنيين» والذي يشكّل بوزنه جدلاً قائماً. إن هذه المصطلحات الدخيلة التي غذّتنا بها سياسات الغرب والمجتمع الدولي والخطاب الحقوقي، لا تنطبق على كيان مُحتلّ غاصب. إسرائيل دولة احتلال يسكنها عسكر ومستوطنون ونسبة قليلة من المتضامنين، لا فرق بين صهيوني يسكن في حيفا وبين آخر يسكن في المستوطنات.
في خضمّ كل هذه التناقضات والمُركّبات، الأهمّ هو الانتباه للخطاب الاسرائيلي ووصفه لما يحدث بملامح انتفاضة ذات طابع ديني، كما الخطاب الفلسطيني الاسلامي إن شئتم، بأنّ القدس هي «مهد الأديان» و«الأرض المقدّسة والأقصى». إنها محاولة ساذجة لزجّ الصراع في المنطقة الدينية كما لو أن إسرائيل بريئة من ذلك، فالصراع المؤسَّس على الحق الديني من قِبَل دولة الاحتلال متناسياً الحق التاريخي لا يمكن وصفه بالديني اليوم. عدا أن القضية الفلسطينية وعدالتها تتجاوز أي نقاش ساذج حول مذهبية الصراع كما لو أنها «طوشة» زعران في حارة!
العدد العاشر - شتاء ٢٠١٥
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.