العددان ٨-٩ - ربيع / صيف ٢٠١٤

الثورة في مكان آخر

ثمة أمر لافت أثاره الاعتداء على العسكريين في عرسال. كأن الحادثة تحوّلت إلى مناسبة للاحتفال بـ«الـشعور الوطني» الذي اكتشفه اللبنانيّون فجأة. راحت كلمات التأييد وقصائد الغزل تنتشر بكثافة. ارتفعت أصوات تطالب الجيش بالضرب بيد من حديد. واستبدل الأكثر حماسة صورهم الشخصية على موقع «فايس بوك» بأخرى «وطنية» تَنافس أصحابها على إعدادها، مستعينين بمهاراتهم في العمل على «فوتوشوب».
من بين هذه الصور واحدة يظهر فيها وجه رجل يرتدي بزّة عسكريّة، ويحمل سكين ينتصب أمام علم لبنان الذي يحتلّ خلفية الصورة. وفي وسطها، عبارة كُتبت بخطّ أبيض تلوّن بعضه بخيط دم أحمر: الأمر لك!
كان ذلك تعبيراً عن تأييد مطلق للجيش، يستعين بشعار راج استخدامه وتعدّد مستخدموه في لبنان. لكن عبارة جديدة لافتة حلّت مكان شعار «الأمر لك» في الصورة نفسها، بكلمات بدت كأنها مقتبسة من «تجربة» أخرى: تفويض الجيش بمحاربة الإرهاب.
وهذه الصورة التي لاقت إعجاب عدد من متابعيها، جعلها أيمن غلافاً لصفحته الشخصيّة على «فايس بوك»، طوال أيام المواجهة العسكرية بين الجيش اللبناني والمسلحين «الغرباء».

أيمن، شاب لبناني، ولد في العام ١٩٨٧، وانضم إلى «فايس بوك» في نهاية العام ٢٠٠٨. درس في الجامعة اللبنانية في بيروت، المدينة التي يقول إنه يعيش فيها.
لا شيء في حسابه الشخصي يدّل على انتماء حزبي. ناشط اجتماعي كما توحي حركته على «فايس بوك»، وناشط على وسائل التواصل كما تؤكد مشاركاته الكثيرة التي تتسع مضامينها لتصل إلى الصراع في أوكرانيا!
في الخانة المخصّصة للوظيفة كتب ما معناه أنه «باحث دائم عن عمل»، أما خانة الديانة فأعلن فيها انتماءه إلى: الحرّية.

على صفحته الخاصة في «فايس بوك»، سنجد صورة لأيمن، نشرها بعد يوم واحد فقط على سقوط حسني مبارك، مع تعليق مختصر: «صباح الخير على الورد لي فتّح في جناين مصر». كانت العبارة السابقة قد صارت نشيد تلك المرحلة. لكن بدا من الصورة التي التقطت له أمام السفارة المصرية في بيروت، ومن التعليقات التي فاقت السبعين أسفلها، أن لها معنى خاصاً عند أيمن. كأنها كانت جسر عبوره إلى القاهرة وميادينها.

قبلها، نجد على حائط أيمن عشرات الصور والتعليقات وروابط أخبار ومقالات عن الثورة المصريّة، وثلاث صور فقط عن ثورة تونس، من بينها واحدة نشرها بعد هروب بن علي، وفيها لافتة تحمل شعار الثورة الشهير: الشعب يريد إسقاط النظام.

هذا أيمن في صورة أخرى، تبتعد مسافة شهر تقريباً. بدا مختلفاً هنا. تراجعت ابتسامة عينيه لتحلّ مكانها نظرة توحي بالإصرار، كما بالثقة. ويداه، خلافاً لانطلاقتهما الفرحة نحو السماء، في الصورة السابقة، كانتا تمتدان بحزم إلى جانب جسده الذي كان لا بد متعباً من مسير الكيلومترات الطويلة التي قطعتها تظاهرة إسقاط النظام الطائفي في ذلك اليوم.

في الصورة التي نشرها صديق على حائطه، يحتلّ أيمن ربع الكادر فقط. إلى جانبه تماماً، يظهر عنصر أمن، أدار ظهره لعدسة الكاميرا، وقد بدا منشغلاً بتنظيم سير المتظاهرين. وفي الخلف، وجوه لشبان وشابات اتسع لها كادر الصورة، تماماً في اللحظة التي كانت فيها فتاة لفّت عنقها بكوفيّة تصرخ بقوّة، كما يوحي فمها المفتوح على اتساعه.

Line_3.psd

كان سقوط بن علي مفاجئاً، رغم الأيام الكثيرة التي فصلت بين انتفاضة الشعب ضد نظامه وبين هروبه. كان سقوطه مباغتاً ومدوياً، لكنه لم يكفِ لنصدّق أن أمراً بهذا الحجم يمكن أن يحدث بالفعل. أن رئيساً عربياً يمكن أن يترك نظامه ويهرب تحت ضغط الناس المتظاهرين في الشوارع.

ثم اشتعلت مصر.

أخذنا ننظر إلى الصور وقد صارت الآن حقيقة. صرنا ننشر صور شباب الثورة وأخبارها ونتابع صفحاتها الكثيرة التي أطلقت على «فايس بوك». كأننا كنّا، عندما ننضم إلى صفحات الثورة ونلصق صورها وأخبارها على صفحاتنا، نضع أنفسنا وسط الناس المحتشدين في الميادين. أو كأن الصور هذه تنقل ميادين القاهرة والإسكندرية ومدن مصر كلها إلى بيروت. ننظر إلى الصور البعيدة، ونبحث عن أنفسنا بين المتظاهرين، ونعرف أننا لن نجد ما نبحث عنه.

رحنا نخوض ثورات الآخرين بالوكالة. نقترب منها لنصير جزءاً منها، ليكون لنا دور بطولة في رواية سيسجّلها التاريخ.

كانت ثورة مصر صورتنا المشتهاة، وكانت أيضاً انعكاس عجزنا الذي أخفيناه خلف الاستعارة. وكانت كقصيدة حب جميلة تغري قارئها بالاقتباس. وقد اقتبسناها بالفعل.

حدث الأمر بسرعة. سقط مبارك، فنزل المئات من الشابات والشبان إلى شوارع بيروت. رحنا نردد هنا، في مدينتنا، ما كنا نشارك في ترديده افتراضياً هناك، في القاهرة وتونس. وما بدأ باقتباس أخذ يكبر. صار «الشعب يريد إسقاط النظام»، وصرنا نهتف في الشوارع، بصوت واحد، «ثورة، ثورة».

كان الشعب في مصر يخوض ثورته، وقبله وبعده في تونس وليبيا وسورية واليمن والبحرين، وكنا نخوض معهم ثوراتهم بالوكالة. لكن صارت لنا الآن ثورتنا نحن، وصرنا نلقي تحيّة احترام على «الورد لي فتّح» في ميادين بيروت.

صارت لنا الآن صورتنا التي لا بد ستغري آخرين بالاقتباس والفعل.

Line_3.psd

لم يفقد أيمن، في فترة «الثورة» اللبنانية، اهتمامه بالثورة المصرية. صارت تعليقاته ومشاركاته تتناوب بين الثورتين. نقرأ دعوة إلى المشاركة في تحرّك مقبل، ثم بعدها مباشرة نشاهد صورة من ميدان التحرير. نتابع نقاشاً عن مطالب شباب الثورة، ثم نقرأ مقالاً عن طموح المنتفضين ضد النظام الطائفي وآفاقه. وبين هذا وذلك، يغرق حائطه بصور التظاهرات التي ملأت شوارع لبنان ومصر.

تداخلت أخبار «الثورتين»، حتى بدت شيئاً واحداً. كانت صورتنا عن أنفسنا تكبر أكثر كلما اقترنت بتلك الآتية من القاهرة وميادينها. ظلّ أيمن وفياً للثورة الكبرى كما وصفها في أكثر من تعليق، ثورة أم الدنيا، الصورة الأنقى، من دون أن يغفل متابعة تطورات «الحراك» في سورية والانتفاضة في البحرين. أما ليبيا، التي راحت تردنا منها قصص المسلحين فيها وصور المواجهات، فكانت بعيدة لا تصله بشؤونها وشجونها سوى تعليقات متفرّقة تحكي عن أحجار الدومينو والعقيد المجنون.

Line_3.psd

في منتصف نيسان من العام ٢٠١١، ينشر أيمن تعليقاً مقتضباً يشرح فيه موقفه من حملة إسقاط النظام الطائفي، ثم يختم بالإعلان عن انسحابه مما سيصير فجأة: «المهزلة».

بعد هذا التعليق، سيمتنع أيمن تماماً عن نشر أي مشاركة تتعلق بحملة إسقاط النظام على صفحته.

كان ذلك بعد أقل من شهر على تظاهرة الصنائع الشهيرة (٢٠ آذار\ مارس ٢٠١١)، التظاهرة التي مثّلت ذروة التحرّك، قبل أن ينتهي، سريعاً كما بدأ، إلى انقسامات واتهامات، ثم إلى الاختفاء.

Line_3.psd

انهارت «ثورتنا» سريعاً، لكن الصور الآتية من بلاد الثورات ظلت حاضرة. وكلما تراجعت صورتنا التي صنعناها فجأة، كلما مرّ عليها الزمن، كنا نزداد حضوراً في صور الآخرين. عدنا إلى لعب دورنا الأول. كان انكسار صورتنا وتراجعنا عن لعب دور البطولة في روايتنا الخاصة، في «ثورتنا» التي سقطت سريعاً، دافعنا إلى اشتهاء البطولة أكثر.

إذ أنّ الثورة، في مكان آخر، مستمرة. وكان لا بد أن نكون جزءاً منها. إنها الحاجة إلى الاحتفاظ بدورنا، إلى تأكيد المشاركة في صنع الحدث، إن لم يكن بالفعل، كما منّينا النفس يوم وقفنا ضد النظام هنا، فلا بأس إذاً بالوكالة.

كان التخلّص من عبء التجربة سهلاً وسريعاً. لم يحتج الأمر إلى مراجعة أو قراءة. فعدا قلّة ظلّت حريصة على ذلك، انفضّ كثيرون عن الحراك الذي صار الآن مجرد حدث عابر. بل إن شيئا ما راح يسود تعاملنا معه كان يوحي برغبة عارمة بتجاهله. كأن في تجاهل التجربة إنكاراً لها. كأننا في نسيانها الحاسم والسريع ننكر وقوعها، فنتخلّص من وزر فشلها. ولولا قدرتنا على العودة إلى الخلف، على مسار الخط الزمني لحياة أيمن الافتراضية مثلاً، لما كنّا عرفنا أصلاً أنه شارك يوماً في «الثورة».

كانت الثورة مستمرة، وكانت «ثورتنا» قد تجمّدت عند الصورة التي انتهت إليها. كان هذا إعلاناً فظّاً عن انفصال الصورتين، بعدما كانتا قد تقاربتا حد التماهي. خسرنا قصّتنا إذاً، وكانت خسارة كهذه مدعاة تمسّك أكبر بحياة الآخرين.

هكذا رحنا ننغمس فيها أكثر فأكثر. صار لنا مرشحون وتيّارات وتحليلات وآراء ننقسم حولها ونتبنّاها. نجد، مثلاً، على الخط الزمني لحياة أيمن الافتراضية، نقاشاً يمتدّ لأيام، عن خطر المطالب الفئوية على مسار الثورة، ومن بين المشاركات تعليقات تحدّد أولويات التحرّك وشروط تراكمه، وتحكي عن النضال وخيانة الثورة!

ثم بدأت تنتقل مخاوف المنتفضين في وجه الأنظمة إلينا، أو أننا كنا نتبنّاها. نحكي عن البديل وعن الخوف، عن المعارضات الفاشلة والتنافس، عن تفويض العسكر وعودة الفلول، عن الحائط المسدود وعن المواجهة والتسوية والهزيمة. وكان هذا امتداداً منطقياً بالنسبة إلينا. كنّا نخوض ثورات الآخرين، وكنّا نتقمص غضبهم وانفعالاتهم ومخاوفهم، وكان مسار كهذا لا بد أن ينتهي بنا إلى ما انتهى إليه الآخرون.

لكننا، بينما كنا نلتصق بحياة الآخرين أكثر فأكثر، كما التصقنا بها في زمن الحماسة والثقة بالقدرة على الفعل، ثم بما أثارته من مخاوف وما ولّدته من إحباط، كنا نترك عالمنا الافتراضي ونعود إلى حقيقتنا، إلى روايتنا الأصليّة: نضفي على تجاربهم التي خاضوها هم خلاصات تجاربنا نحن، نعيد تقييم الانتماءات هناك بحسب انتماءاتنا هنا، وننقسم، في مواجهة ما يواجهه الآخرون هناك، إلى جماعات وطوائف.

هكذا اكتمل التناقض، بين الصورة التي عدنا إليها، حقيقتنا التي عادت الآن لتصير أقوى، وبين الصورة التي ظننا أننا صنعناها لأنفسنا، يوم اقتبسنا صورة الآخرين فتحركنا لإسقاط النظام.

Line_3.psd

على حائط أيمن جملة شديدة الاختصار، نشرها قبل أسابيع، من دون أن يقرنها بزمان أو مكان أو مناسبة، فظلّت مجهولة النسب والسبب.

كتب أيمن ما يبدو أنها خلاصة تجربته الثورية التي زاد عمرها الآن عن ثلاث سنوات ونصف السنة: الشعب أسوأ من النظام.

العددان ٨-٩ - ربيع / صيف ٢٠١٤

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.