أعتقد أنّ المرة الأولى التي رأيت فيها علي الرافعي يستعمل الطلاء، كانت قبل أكثر من 17 عاماً في مدخل ما هو اليوم موقف السيارات الخاص بالمبنى الذي ولدنا ونشأنا فيه في طرابلس، شمالي لبنان. كنّا حينها قد حوّلنا هذا المدخل إلى ملعب لكرة السلة، بسلة منزلية الصنع وأرض ليس فيها أي بقعة مستوية، تغطيها الحصى وتعرقلها الحفر. تأقلمنا مع طبيعة الملعب، وبتنا نستبق ارتدادات الكرة على زوايا التضاريس المختلفة، لكنّ عليّاً أصرّ على طلاء خطوط الرمي وحدود الملعب بلون أزرق داكن. لا قياسات دقيقة، نعمل بما لدينا.
مساحة اللعب تلك، تختصر الكثير مما آلت إليه أمورنا. هي في الأصل انحسارٌ عن كرة القدم التي كانت لعبة إخوتنا الكبار المفضلة، يمارسونها في «البوَر» العديدة أو حتى على الأرصفة. جيلنا رأى هذه المساحات الكبيرة الفارغة تمتلئ بالباطون المتكدس لحركة البناء، وطُرد اللاعبون من الأرصفة تحت رشقات صراخ أصحاب المحال التجارية المستجدّة.
مساحة اللعب تلك، كانت على ما أذكر صراعنا الأوّل على حصّتنا من المجال العام، في مواجهة بعض سكّان المبنى الذين كانوا يمتلكون سيارات يخافون عليها من «غبرتنا»، ورفاهية قيلولة يخافون عليها أيضاً من «ضجيجنا» الذي بدأ يجتذب أطفالاً من شوارع وأحياء أخرى، فصار يقلق الغيارى على لباقة المبنى. حتى المطعم المقابل أطلق علينا كلبه الأسود الضخم مرة، فتسلق على أحد المولدات الكهربائية واختبأت أنا خلف بوابة حديدية.
لكننا لم نستسلم، بل أخذنا نحسّن ظروف اللعبة: سلّة دائرية تماماً، ثم كرة خاصة. ثم بدأنا نتمدّد، ومعنا مساحة اللعب في المدينة التي كان يغطّيها حينها لونٌ رمادي طوال فصول السنة. رمادي، إحباط وخوف. ثم نتساءل عن مصادر هذا الرماد، لأننا مع توسّع حركتنا في المدينة بتنا نلمسه أكثر. كان يحدث أن نسمع في الليل صريخ ضحية تحت التعذيب في مركز «مار مارون» التابع للاستخبارات السورية (الجوية على ما أظنّ)، أن نتعرف إلى فتى فلسطيني يعرّفنا بالمخيّم ومآسيه، أن يخاف صديقٌ لنا شعره طويل من التوجه وحيداً إلى حيّ ما في المدينة. صار اللعب صعباً جدّاً، واصطدمنا بحواجز كثيرة راحت تثقل كاهل المدينة واكتافنا.
تزامناً، بدأ علي يمارس الغرافيتي في شوارع المدينة، وشرعتُ أنا في اكتشاف عالم الكتابة والموسيقى من خلال «الراب» بشكل خاص، فاستند كلٌّ منا إلى نزعاته الداخلية في اختيار أسلحته ضمن الصراع على المجال العام، على العقول والأبصار والأسماع. لكنّنا لم نكن بعد قد تملّكنا استقلاليتنا، فوجدنا نفسينا في متاهات أكاديمية لا تعنينا كثيراً، إكراماً لعيون العائلة والمجتمع. سنين طويلة أمضاها كلٌ منّا محاولاً الحفاظ على نفسه، وتطوير أسلحته في ظلّ الإلتزامات اليومية تلك. حتى حان موعد العودة إلى الذات، إلى الفعل الذي إن هجره واحدنا تغرّب عن نفسه.
عاد علي بعد أكثر من 10 سنوات على واقعة طلاء الملعب، موجداً لنفسه أسلوباً خاصاً في الخط العربيّ المعاصر أو في الشخصيات التي بدأ ينثرها على بعض جدران المدينة، مرتكزاً على ثقافة واسعة كوّنها بنفسه في الفنون البصرية وأكملها بعام أكاديمي حين سنحت له الفرصة مجدداً.
الثورات العربية بعثت لنا رسالةً قوية: أن مئات الآلاف من مجايلينا العرب يريدون مثلنا استملاك حصصهم في المساحة العامة، حمايتها وتطويرها كما يطمحون. فشعرنا بنوع من الانتماء لم نكن نجده في الايديولوجيات القومية والإسلاموية التي اختبرناها باكراً ولمسنا تجوّفها وفراغ شعاراتها الطنّانة. انتماء لا يموت مع انتكاسة هذه الثورات واهتزازها، فهو سابقٌ لها يمارس حقّه في وجه استبداد الجماعات، جداراً تلو الجدار وعيناً تلو العين وأذناً تلو الأذن.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.