العددان ٨-٩ - ربيع / صيف ٢٠١٤

محور «الحكمة – الترك»

الدولة في فوضى الفضاء العام

تحت ذريعة تحسين السير والتخلص من الزحمة، اتخذ في سبعينيات القرن الماضي قرار بإنشاء ما يعرف باسم محور «الحكمة – الترك» في منطقة الأشرفية في العاصمة اللبنانية بيروت. المشروع هو عبارة عن طريق تخرُق المنطقة الشرقيّة من مدينة بيروت بمجموع 6 خطوط سير (4 رئيسيّة و2 جانبيّة) وبطول إجمالي حوالى 1000 متر، يشقّ طريقه ضمن منطقتيّ الرميل والمدوّر المأهولتين والمزدحمتين.
كذلك يشمل هذا المشروع بحسب مُخطّطه الأساسيّ إنشاءات جديدة مؤلّفة من نفق جزئيّ (ممرّ سفليّ) مع مداخله المُنحدرة بالاتجاهين (شرقاً وغرباً)، بمجموع 4 خطوط سير ومسلك جانبي واحد من كلّ جهة (أي بإجمالي 6 خطوط)، بالإضافة إلى تقاطع مستطيل فوق هذا النفق / الممرّ، بالاتجاهين نفسيهما لكن بإجماليّ 3 خطوط سير فقط.
إنّ لهذا المشروع ظاهريّاً وبحسب تصريحات المسؤولين في مجلس الإنماء والإعمار وبلدية بيروت، هدفين رئيسيّين: أوّلهما إنشاء «خط ترانزيت» يصل الطرفيّن الجنوبي والشمالي من بيروت بضعهما ببعض بشكل مباشر. أمّا الهدف الثاني، فهو حلّ مشكلة زحمة السير ضمن مناطق الأشرفية، وذلك بتأمين مداخل ومخارج جديدة لها كما بتسهيل التنقّل الداخلي للسيارات ضمن أحياء المناطق التي يمرّ فيها هذا المحور.

أسباب رفض المشروع

يمكن القول إنّ تخطيط طريق محور «الحكمة - الترك» بجميع أقسامه وأجزائه وتفرّعاته ومُكوّناته هو نتيجة لمُقاربة إستراتيجيّة خاطئة، بالرغم من التعديلات التي أضيفت إلى تصميمه الأساسي. إذ إنّ كلّ الدراسات المُتعلّقة بكثافة السير في المدينة تُظهرُ أنّ السبب الرئيسي لمُشكلة الزحمة ليست شبكة الطرقات غير الكافية بل كثرة السيارات.
وضع التخطيط الأولي لهذا المشروع في العام 1955، ومسار الطرقات ضمن مناطقه تمّ تحديدها منذ أكثر من نصف قرن استناداً إلى أسس ومبادئ لم تعُد صالحة إطلاقاً اليوم. لكنّ حتّى في ذلك الحين لم يكن من المُفترض أن ينفذ المشروع بواسطة هذا التخطيط، أي «اختراق قلب المدينة»، عبر وصل «البحر بالبر» أو «المرفأ بطريق الشام». وقد تم إنشاء أساس هذه الوصلة المفترضة، أي شارع ألفرد نقاش، في السبعينيات بدون الأخذ بعين الاعتبار الشروط والنتائج المُحتملة لجهة التطور العمراني والمُدني والديموغرافي الذي كان يجب ُتوقّع حصوله. ونظراً لوضع الشارع الحالي لم يعد من الممكن توسيعه أبداً. كما أنّه لم توضع أي «دراسة تخطيط مُدُني شامل» ودراسة الجدوى (feasibility study)، أقلّه في جزءيها القانوني والاقتصادي المالي (التكلفة المباشرة وغير المُباشرة)، وخصوصاً دراسة سير حديثة العهد تغُطّي وضع وحجم السير اليوم في كل مدينة بيروت، كما لم يجري التطرق إلى «البدائل المُحتملة».

الأهم أنّ بلدية بيروت ومجلس الإنماء والإعمار لم يفكرا بوضع دراسة كاملة لتقييم الأثر البيئي من جراء تنفيذ هذا التصميم، ولا حتّى أيّ قسم من أقسامها، إذ هي تشمُلُ: دراسة السير ومُحاكاة حركته وحجمه، التلوّث السمعي والبصري والهوائي والبيئة الجوّيّة والطبيعيّة والجيولوجيّة والبيولوجيّة، التأثيرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة من أثريّة وتراثيّة كما على المساحات العامة من مساحات خضراء وغيرها. فكان على جمعيات المجتمع المدني بالتعاون مع وزارة البيئة، إلزام البلدية ومجلس الإنماء والإعمار القيام بدراسة تقييم الأثر البيئي هذه، التي لم تنطلق إلّا في شهر كانون الأول من سنة 2013 (أي بعد سنة ونصف سنة من تاريخ مرسوم تصديق المشروع) لكن التقرير لم يصدر حتى اليوم.

المجتمع الخاسر الأكبر من المشروع

من البديهي التأكيد أنّ المجتمع وسكان المنطقة سيكونان الأكثر تضرراً من تنفيذ هذا المشروع، وأصبح واضحاً مدى عدم مُلاءمته وحتّى كارثيّته، على الإطار الاجتماعي والمُدُني والبيئي، كما على الطابع التراثي المعماري (هدم كلي أو جزئيّ لحوالى 30 منزلاً ما بين تراثي وقديم) والطابع النباتي (بتدمير مساحات خضراء شاسعة ونادرة تُقدّر بحوالى 10.000 متر مربع). إذ سيتمّ القضاء على حيّز مدينيّ كبير ومأهول ذي طابع تراثيّ وبنسيج زراعيّ غنيّ ومُميّز. ولهذا المشروع تأثيرات سلبيّة جسيمة على المؤسسات الثقافيّة والتربويّة والاستشفائيّة. كما سينشأ عن تنفيذ هذا المحور نقص كبير بمواقف السيارات، مهما كانت أعداد المواقف التي ستفام.

كذلك المخطّطات الحاليّة لهذا المشروع مُتخمة بالأخطاء «التصميميّة الوظيفيّة» لعدم احترامها الأصول والمعايير، خصوصاً معايير السلامة، مثلاً: بالنسبة إلى عرض الطرقات الرئيسيّة التي لم توضع وفق المعايير الدوليّة، كما لا يحترم المشروع إلزاميّة ابتعاد المباني بمسافة 6 أمتار عن الجسور، بالإضافة إلى أنّ تنظيم السير الداخلي في الأحياء المتواجدة ضمن حدود هذا الخط وضمن أطره المُجاورة، قد تمّ تصميمه في المُخطّطات الحاليّة، بواسطة طرقات ذات مسلك سير واحد فقط (خطّ سيارة واحدة) كما في مُجمل أقسام هذه الطريق (الخطوط الجانبيّة مثلاً) بدون أي مساحات إضافيّة لركن السيارات على طولها (حتّى لو بنحو مؤقّت). وستكون نتائج ذلك بكل تأكيد سلبيّة على السكان.

هذا المحور هو مشروع تقسيميّ للحياة ضمن المناطق التي يمرّ فيها. وهو مشروع تهجيريّ لأهالي هذه المناطق، الأمر الذي سيحصل حتماً أثناء تنفيذ الأشغال وبعد انتهائها. وذلك مُرتبط مُباشرة بعدم احترام التراجعات من قبل مُصمّمي هذا الخط، كأنّهم على علم مُسبق بأنّ المباني المُتاخمة للخط إن كانت مُشمولة بالتخطيط او لا، سيتمّ تهديمها وإعادة إعمار غيرها، ممّا سيؤمّن احترام التراجع المفروض قانوناً.

تكلفة باهظة

يظهر الاحتساب الأوّلي لتكلفة هذا المشروع، بوضوح، التضليل المُعلن والهدر المفضوح المُرتقب للمال العام من قبل القيّمين في بلدية بيروت ومجلس الإنماء والإعمار. فقد تم تحديد قيمة الاستملاكات بمبلغ 30 - 33 مليون دولار أميركي، كما أعلنه رئيس بلدية بيروت شخصّياً، من أصل 55 – 60 مليون دولار كقيمة إجماليّة، ولكن عندما يتمّ احتساب دقيق لقيمة الاستملاكات مع إنصاف أصحاب الحقوق، تُقارب التكلفة الحقيقيّة لها حوالى 4 إلى 5 أضعاف المبلغ المرصود، أي 120 – 157 مليون دولار أميركي. ومع إضافة كلفة الدراسات والأشغال التقديريّة (حوالى 30 مليون دولار) تصبح التكلفة الإجمالية الإضافية اليوم، وبحدّها الأدنى فقط، حوالى 195 مليون دولار أميركي مع إمكانيّة أن تصل إلى أكثر من 250 مليون دولار، لطريق طولها كيلومتر ونصف كيلومتر (بما فيها احتساب كلفة ما يُسمّى «التحسينات» ومرائب السيارات كما قيمة الفضلات، إضافة إلى قيمة رصيد بدل تعويض الاستملاكات القديمة، الخ). ممّا يجعلُ من هذه التكلفة «رقماً قياسياً» للفضائح الماليّة في تاريخ لبنان المعاصر.

النسيج العمراني وضمنه التراث، هو قسم أساسيّ من ثقافة الشعوب، والمحافظة عليه واجب وطنيّ، وجزء لا يتجزأ من مصلحة المواطن الإنسان في مجتمعه، كما إرث محميّ لصالح الأجيال القادمة، لاسيما كما هي الحال هنا بالنسبة إلى الأحياء التراثيّة التي لم يبق منها الكثير، ليس فقط في بيروت بل على طول مساحة الوطن والتي يجب إعادة ترميم مكوّنات العدد المتبقّي منها والحفاظ عليها كوحدات متكاملة غير مجزّأة.

حان الوقت لكي يصبح الهدف الأساسي لأيّة سياسة نقل ضمن المدينة وضواحيها، هو تعزيز «التنقّل السلس» (الحركيّة) وليس فقط تحسين ظروف حركة المرور (السير)؛ وذلك، من جهة، بتعميم مشاريع لحدائق ومُتنزهات ومرافق عامة أخرى، تؤمّن في الوقت نفسه مساحات خضراء عامة إضافيّة دائمة، ومن جهة أخرى، بدعم وترويج «النقل المشترك» (أقلّه لصالح كل بيروت وضواحيها)، بشكله العصري المناسب للإنسان ولبيئته، مع إقرار إلزاميّة تطبيق شروطه.

وهذا النوع من النقل (المُشترك)، الذي هو ليس فقط المحفز الأساسي والأقوى، بل وبالمطلق الحل الأفضل والأمثل لأيّ برنامج أو سياسة نقل صحيحة حاضرة أو مستقبليّة، وذلك إن كان على المدى القريب، المتوسّط أو البعيد. فإن تمّت إدارته بشكل صحيح، تُضيف حتماً إلى صناديق جميع البلديات المعنيّة مبالغ طائلة، تسمح لها بالقيام بمشاريع إنمائيّة إضافيّة، تُحسّن بواسطتها وضمن هذه البلديات، الإطار الحياتي للمواطنين كما للإنسان عامة؛ ومنها مثلاً القيام بشراء وتجهيز مساحات جديدة لمواقف عامة للسيارات على مداخل المدينة (بطريقة مركزيّة)، كما ضمن المدينة مع أفضليّة أن يتمّ تُشّييدها على أطراف الأحياء الداخليّة (باعتماد مقاربة لا مركزيّة)، بالإضافة إلى حماية جميع المناطق والأحياء التراثيّة باستملاك بعض العقارات الداخلية وتجهيزها كحدائق عامة ومراكز ثقافيّة وحتّى تثقيفيّة وسواها.

وبصورة عامة، وبغية تصحيح المسار والسير في الاتجاه الصائب القائم على «احترام المواطن الإنسان وبيئته»، علينا في مجال النقل والتنقل اعتماد خطة خمسيّة أو عشرية تستند إلى مبدأ وشروط «الاقتصاد المستدام» بمعناه العريض إن في مجال الصحة أو البيئة او التراث أو الطاقة او الاشغال، الخ. ذلك خصوصاً بهدف خدمة مصلحة الأجيال القادمة؛ وهذه الخطة لكي تنجح، يجب ان تنطلق وتقوم، كما هي الحال بالنسبة إلى سواها، على الخطوات والمراحل التالية: رؤية مستقبلية شاملة، تخطيط عصري، استشارة جامعة – دراسة دقيقة علميّة، تلزيم متوازن، تنفيذ جيّد مطابق، مراقبة مهنية ومحاسبة عقلانية.

المشروع البديل

عوضاً عن مشروع الترك يمكن إنشاء «منتزه فؤاد بطرس» على طول المساحة المُستملكة سابقاً مع بعض الإضافات في المساحات. ومن جهة أخرى يمكن بناء نفق مُقفل على طول «شارل مالك» وتأهيل تقاطع «الفرد نقاش/ شارل مالك»، بالإضافة إلى تأهيل التقاطعات الأخرى وبعض الإصلاحات الإضافية ضمن طرقات المنطقة الرئيسيّة. ومن أجل حل مشكلة السير يمكن إنشاء نفق كامل (بطريقة
Tunnelier) على طول شارع شارل مالك وتجهيزه بمداخل ومخارج جانبية.

يتميز هذا المشروع البديل بأنّه ذو منفعة عامة، إذ يأخذ بعين الاعتبار المواطن وتحسين إطاره الحياتي بما فيه سهولة التنقّل، والمحافظة على وحدة المجتمع وعلى الطابع المُدني والتراثي الفريد لأحياء هذه المنطقة، كما أنّه ذو تأثير جيد على البيئة.

كان من الأحرى بأصحاب القرار إشراك أفراد المُجتمع الأهلي، خصوصاً القاطنين في هذه الأحياء، والمُجتمع المدني الناشط والاختصاصيّين المُدُنيّين والمعماريّين والبيئيّين والزراعيّين والتُراثيّين والآثاريّين ومُهندسي النقل والتنقّل، كل هؤلاء كان من الممكن إشراكهم في التخطيط لهذا المشروع للتوصل إلى تحسين حياة سكان هذه المدينة والحفاظ على حقهم فيها.

العددان ٨-٩ - ربيع / صيف ٢٠١٤
الدولة في فوضى الفضاء العام

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.