صورة المكان، رواية الروشة
كانت صخرة الروشة في بيروت إحدى المحطات الأساسية لمستشرقي القرنين الثامن والتاسع عشر الذين وفدوا لاستكشاف الشرق الأوسط في ظل الحكم العثماني. تبرز الصخرة وتطغى بوضوح على سائر المشهد في الرسومات التي أعدّها أولئك المستكشفون الأوائل. وبين عامي ١٨٣١ و١٨٤٠ – خلال السيطرة المصرية على بيروت أثناء حملة محمد علي باشا على بلاد الشام – أطلق الكثير من الخبراء الفرنسيين الذين رافقوا ابراهيم باشا إسم «لا روشيه La Rocher» على هذا الموقع الصخري، بعدما كان يُعرَف سابقاً باسم «مغارة الحمام» (فاخوري ٢٠١٤).
عدد هائل من مخطوطات القرن التاسع عشر تصف بيروت من خلال صخرتها. في ذلك الوقت، كان ما يُعرَف اليوم بمنطقة الروشة عبارة عن مساحة زراعية شاسعة، فيها أنواع مختلفة من الزراعات. فحقول التوت كانت منتشرة على السهول المطلة على البحر، وأشجار الصبار كانت تفصل بين الحقل والآخر١. وبمطلع القرن العشرين، كانت حقول الخس وبساتين اخرى منتشرة في الروشة. بقيت المنطقة على حالها حتى خمسينيات القرن الماضي حين بدأت عمليات البناء فيها٢. كانت بيروت في تلك المرحلة تتحول إلى معلم أساسي للسياح في المنطقة، وكانت الناحية الأكثر جاذبية فيها باتجاه ساحلها: منطقة ذات بولفارات واسعة على الطريقة الباريسية، فيها أشجار نخيل، ومقاهٍ على الكورنيش تطل على البحر الذي تتلاطم أمواجه على هذه الكتلة الصخرية في خليج صخرة الروشة.
تظهر خريطة بيروت للعام ١٩٦١ فنادق فخمة عدّة أقيمت في منطقة الروشة وتطل على البحر: فندق «فيدرال» (Federal Hotel)، وفندق الكارلتون (Carlton Hotel)، فضلاً عن مبانٍ سكنية فخمة صممها معماريون مشهورون أمثال «مبنى شمص» لفيليب كرم، ومبنيي «شيل» (Shell) و«غندور» من تصميم واثق أديب وكارل شاير. ينتمي هؤلاء المعماريون إلى ما يسمى بحركة الحداثة في لبنان، التي تحّدر روادها من عائلات ذات نفوذ اجتماعي وسياسي، وبخاصةٍ العائلات الإقطاعية والطبقة البرجوازية المدينية (غندور ٢٠٠١). طغت هذه المباني الحديثة و«أساليب الحياة»٣ التي روّجت لها على البطاقات البريدية لبيروت الستينيات. المطاعم المزدهرة والفنادق الفاخرة والمسابح الخاصة والمباني العالية والسيارات الجديدة، مع خلفية صخرة الروشة، كانت الوحيدة الحاضرة في البطاقات البريدية لبيروت، لا سيما في العام ١٩٦٧، السنة السياحية العالمية لبيروت. جميعها مثلت انعكاساً لاقتصاد وطني قائم على التجارة والخدمات على حساب قطاعات إنتاجية كالزراعة أو الصناعة.
الروشة هي أيضاً الموقع الذي انتقل إليه تجار أسواق وسط بيروت العتيقة مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام ١٩٧٥. قصدت قلة من هؤلاء التجار الروشة عام ١٩٧٦، وتبعها تدريجياً الأصدقاء، وأفراد العائلة والتجار الآخرون جميعاً الذين حوّلوا رصيف الكورنيش الى سوق شعبي يستبدل أسواقهم في وسط بيروت. في العام ١٩٨٢، باشر رئيس بلدية بيروت آنذاك شفيق السردوك بتدمير عدد من أكشاك السوق بشكلٍ منتظم لمدة ١٢ يوماً، مستفيداً من عدم الاستقرار السياسي في البلاد بسبب الاجتياح الاسرائيلي. وبحسب السردوك، كانت الصورة السياحية للعاصمة هاجسه الأساسي وقد صرّح بأنّه «ضاق ذرعاً بحجبهم مشهد الكورنيش لسنوات كثيرة وأراد أن «يفتح قلب بيروت» من خلال إجلائهم»٤.
أما اليوم فالروشة، كما يُقال، هي أحد أكثر الأحياء كلفة في السوق العقاري في بيروت. أفقها مرصّع بالأبراج السكنية والفندقية الفاخرة (مثال «بحري غاردنز -Bahri Gardens وكارلتون ريزيدنسز -Carlton Residences وغيرها) إلى جانب لافتات العديد من المطاعم «العالمية» والمقاهي الراقية (مثال «كاي اف سي» KFC، و«بورغر كينغ» Burger King، و«غران كافيه» Grand Café، و«بوتي كافيه» Petit Café).
ضمن هذا السياق التاريخي، في البطاقات البريدية المعاصرة وفي مواقع الإنترنت لمدينة بيروت، تُصوّر صخرة الروشة وحدها، منتصبة بشموخ وسط مشهدٍ افتراضي محايد، وخالي من الناس.
هنا تحديداً أقدّم لكم «الدالية»، منطقة في الروشة قد لا تجدون صوراً لها إلا في الألبومات العائلية. الدالية هي إحدى المساحات العامة الأبرز في بيروت، حيث تظهر أشكالٌ بديلة للسياحة. تتباهى الدالية بأكشاك غير رسميّة عديدة تتوزع على شاطئها ويؤمها الكثير من الزوّار للتمتّع بالبحر، والتنزّه، والسباحة، والمشي. إنّها مقصدٌ بارز للسباحين والغطاسين الذين يأتون من مختلف أنحاء بيروت لممارسة ش غفهم بالقفز عن المنحدرات العالية في مياه البحر المتوسط. كذلك، تشمل هذه المنطقة ميناءين محليين لصيد الأسماك، يشتهر أحدهما بتنظيم رحلات سياحية بالقارب على طول ساحل بيروت. ينزل المشاة الى هناك من خلال فجوة أحدثوها في درابزين الكورنيش، فيما تسلك السيارات طريقاً غير معبّدة بالقرب من مدخل فندق «الموفنبيك».
تضم الدالية فئات إجتماعية متنوعة، فيقصدها يومياً الصيادون البيروتيون، وزوّار كورنيش الروشة، وسكان الضاحية، واللاجئون العراقيين، والعمال واللاجئون السوريون، والمهاجرون والعشاق. كما يقول أبو العبد (وهو صيادٌ منذ زمنٍ طويل في الدالية): «أينما جلت بنظرك رأيت عشّاقاً؛ يجلسون على الصخور ويحدقون في البحر وفي بعضهم البعض. ليس لديهم مكانٌ آخر يقصدونه لذا يأتون إلى هنا». هذا فضلاً عن أنّها تستضيف احتفالات عيد النوروز الذي يحتفل به المجتمع الكردي المقيم في بيروت. ففي ٢١ آذار/ مارس من كل عام، تتحول الدالية إلى مساحة حيث يجتمع الآلاف، ويقيمون أكشاك طعام، ومنصة للموسيقى ويرقصون طوال اليوم حاملين أعلامهم الوطنية.
تعبّر الصور العائلية للدالية عن القصص التي لا تعد ولا تحصى والتي تروي أنّه منذ أربعينيات القرن الماضي كانت الدالية وجهة معروفة للتنزه والتفسُّح بالنسبة إلى العائلات من مختلف أنحاء بيروت الذين قصدوها للتجمع في الأعياد، وأيام الجمعة، وإحضار الطعام والشراب والنرجيلة، كما اصطحاب فردٍ من العائلة يعزف على العود، أو البزق، أو الطبلة. كانت تعرف هذه النشاطات باسم «السّيران»٥. الممارسات الاجتماعية والحياة اليومية التي تظهر من خلال صور مماثلة للدالية قد غُيِّبَت من مخطوطات القرن العشرين ومن صور السياحة في بيروت الستينيات. على الرغم من ارتباطها القوي بالصخرة، اخترنا ان نتجاهل الدالية من الرؤى المستقبلية لمدينتنا٦. ففي حين حافظ صيادو الدالية وروادها على حكاياهم وارتباطهم التاريخي بالمكان، ظلت أحلام الحداثة ورمز الصخرة يهيمنان على الروشة، حتى إنهما جعلا إسم «الدالية» غائب بالنسبة إلى معظم سكان المدينة.
هذا التغييب للمساحات الشعبية المفتوحة ومستخدميها ترافق مع – كما أنه أنتج - تحوّلات في الملكية والتشريعات الراعية لشاطىء الروشة والتي سمحت بفرض واقع يتمثل بمنتجعات شاطئيّة، وفنادق مسيّجة بجدران وبوابات، على حساب المساحات الإجتماعية وحق الوصول إلى البحر.
تشريع المساحة، إنتاج الموفنبيك
في صبيحة اليوم الذي تلا زفافهما عام ١٩٥٥، اصطحب مروان زوجته إلى «مقهى الغلاييني»، وهو عبارة عن كشكٍ خشبي صغير يطل على البحر حيث يجتمع الناس. سار الزوجان نزولاً على الدرج الخشبي الطويل الذي أقيم فوق المنحدر الصخري، وصولاً إلى ما يسمى «بركة الوحش». كان مروان وكثيرون آخرون زواراً دائمين لهذا الخليج وحوضه الطبيعي. كانوا يستمتعون بالسباحة فيه، وبالصيد في الخليج المجاور الذي يسمى «الراس» حيث تشتهر المياه بزرقتها، وشفافيتها، ونظافتها. هو الخليج ذاته الذي يشرف عليه فندق الكارلتون، والذي يظهر في بطاقاتٍ بريدية وصورٍ عدّة التقطت من غرف الفندق. يشكل هذا الخليج امتداداً للساحل الصخري الممتد من الدالية إلى بداية شاطئ الرملة البيضاء. ضمن هذا الامتداد الصخري هناك العديد من الموارد الطبيعية مثال مغارة الفقم، ومغارة الحمام، ومغارة الوطاويط، وميناء الدالية، ونهر أبو شاهين، والمجرى، وعين التينة.
بالنظر الى تاريخ ملكية وتشريع هذه المساحات الطبيعية، نرى أنه منذ الأربعينيات، تم تسجيل الأراضي المتاخمة لشاطئ البحر في الروشة باعتبارها أراضي غير مبنية تعود ملكيتها إلى عائلات عدّة. فكان قد بدأ العمل رسمياً على مسح وتسجيل الأراضي عام ١٩٢٦ من قبل سلطات الانتداب الفرنسي. أدىت عملية تسجيل الأراضي إلى تغيير الممارسات المرتبطة بملكية الأرض وبالتالي خضع ساحل بيروت، كسائر أنحاء لبنان، إلى تصنيفات ملكية حديثة. فتحولت الأراضي التي عند واجهة بيروت البحرية إلى قطع أرضٍ محددة وحصص فردية مخصصة لمالكين منفردين أو متعددين.
لكن بغض النظر عن وضع الملكية فيها، تم تصنيف منطقة الواجهة البحرية تحت الكورنيش من صخرة الروشة إلى الرملة البيضاء من خلال المخطط التوجيهي لبيروت لعام ١٩٥٤ باعتبارها منطقة يحظر فيها البناء من أي نوعٍ كان. وبذلك، حافظت التشريعات المدينية الأولى على هذه المنطقة بصفتها مساحة عامة مفتوحة حيث الوصول إلى البحر مؤمّن٧. غير أنّه في العام ١٩٦٦، أجري تعديل على قانون تقسيم الأراضي، مما سمح بالبناء في ما يسمى «المنطقة العاشرة من المخطط التوجيهي»، مع حد أدنى من عوامل الاستثمار٨، وذلك لأغراض بحرية وسياحية وحسب، شرط أن يقدّم مالك العقار ٢٥% من عقاره إلى البلدية إذا بنى على الأرض. وبالتوازي، صدر مرسومٌ آخر عام ١٩٦٦، تماشياً مع قطاع السياحة المزدهر في الستينيات، وذلك لتسهيل البناء بمحاذاة الساحل اللبناني. سمح هذا المرسوم، رقمه ٤٨١٠، لمالكي العقارات المجاورة للبحر بإشغال الاملاك العامة البحرية، أي الأراضي الواقعة بين عقاراتهم الخاصة والبحر. لكن عندما صدر هذا المرسوم عام ١٩٦٦، استثنى المنطقة العاشرة من بيروت، للحفاظ عليها كمتنفس لسكان بيروت.
أما التحوّل الأكبر في ملكية هذا الخليج البحري والقوانين التي ترعاه فقد جرى في أواخر الثمانينات. في العام ١٩٨٦، اشترى رجل أعمال من عائلة الضاهر، تحت اسم «شركة ميريلاند»، جميع الأسهم من المالكين المتعددين الذين امتلكوا تاريخياً هذه الأراضي التي كان يطل عليها فندق «كارلتون»، حيث يقع مقهى الغلاييني. وقد كانت عائلة الضاهر، وهي جزءٌ من النخبة المالية في ذلك الوقت، على علاقة وثيقة بالسياسيين وبميليشيات زمن الحرب. وتباعاً لعملية شراء الأراضي، تمت صياغة المرسوم رقم ١٦٩ وإصداره عام ١٩٨٩ للسماح لـ«شركة ميريلاند» ببناء مشروع فندقٍ ضخم في الخليج، بما يتعارض مع التشريع القائم. هذا المرسوم ألغى من قانون العام ١٩٦٦ البند الذي يفرض منح ٢٥% من الأرض إلى العامة، والأهم من ذلك أنه أتاح بإشغال الأملاك العامة البحرية في المنطقة العاشرة من بيروت، فيما كانت مستثناة في السابق من المرسوم ٤٨١٠/ ١٩٦٦ ٩. تأتي هذه التغييرات كمثالاً وقحاً عن كيفية مشاركة الجهات الخاصة في تنظيم المدينة عن طريق إصدار قوانين ومراسيم تخدم مصالحهم الخاصة وفي سبيل إعادة انتاج الحيّز المديني. في النتيجة، واستناداً إلى علاقة وثيقة تاريخياً بين القطاع العقاري والطبقة الحاكمة (طرابلسي ٢٠٠٧)، تمكّن الضاهر/ «شركة ميريلاند» من تأمين رخصة بناء لتشييد فندق «موفنبيك»، منتهكاً قوانين البناء وتقسيم الأراضي، ومدمراً ما كان خليجاً طبيعياً ذا استخدامات عامة متعددة.
ما زالت مفاعيل المرسوم ١٦٩/١٩٨٩ سارية إلى يومنا هذا لتسمح للمنشآت الخاصّة الاستيلاء على ما تبقى من مساحات عامّة في الروشة وبيروت، ليطال التهديد منطقة «الدالية».
تجسيد الملكية، خصخصة الدالية
رداً على «الحملة الأهلية للحفاظ على دالية الروشة» كمساحة عامة في وجه منتجعٍ حصري شبيه بالموفنبيك، صرّح رئيس بلدية بيروت بلال حمد في مقابلة معه بما يلي: «عليكم أن تعرفوا أن تلك المنطقة هي بمعظمها أملاك خاصة، ويمكن للمالكين أن يمنعوا الناس من الدخول الى أملاكهم الخاصة وأن يشيدوا ما شاؤوا من أبنية ومشاريع هناك»١٠.
طغى النقاش حول الملكية على الكثير من الحوارات المرتبطة بالدالية باعتبارها مساحة عامة، خصوصاً في تصاريح المسؤولين الرسميين. ويستدعي هذا الجدال فهماً لتاريخ ملكية الدالية، وإعادة طرحٍ للمفاهيم السائدة في ما يتعلق بالملكية الخاصة.
خلال الحقبة العثمانية، كانت الدالية خارج أسوار المدينة. وكانت معظم الأراضي الواقعة خارج أسوار بيروت القديمة أراضي «أميرية»، أي ضمن نطاق السلطان. بعد إصدار قانون تسجيل الأراضي العثماني عام ١٨٦١، منح السلطان بعض الأراضي الأميرية إلى أعيان البلاد أو أصحاب النفوذ. فلنأخذ على سبيل المثال قطعة الأرض رقم ١١١٣ (العقار الأكبر في الدالية). يشير أرشيف المساحة إلى أنّ هذا العقار كان ملكاً للأمير سعيد إرسلان. فعائلة إرسلان كانت تتمتع بالنفوذ وقد حصلت بالتالي على امتيازات من السلطان. وعام ١٨٧٦، باع الأمير إرسلان هذه القطعة إلى علي شاتيلا. وبحسب سند ملكية «طابو» يعود تاريخه إلى عام ١٩١٦، أصبحت هذه الأرض ملكاً لعبد المجيد وعثمان شاتيلا اللذين ورثاها من والدهما علي شاتيلا. وأثناء تسجيل الأراضي الفرنسية، تم بالتالي تسجيل العقار رقم ١١١٣ ملكاً لعبد المجيد وعثمان شاتيلا. بحلول الخمسينيات، بات لقطعة الأرض أكثر من عشرة مالكين قد ورثوها. وعلى مر السنين، اشترت عائلات أخرى أسهماً في قطعة الأرض هذه، مثال عيتاني، وعرب، وحداد، ومطر، وعفيف، ومعوّض، إلى جانب الورثة، مما أدى إلى تقاسم الأرض بين مالكين عدّة. ولكن على الرغم من سندات الملكية هذه، ظلت أراضي الواجهة البحرية للدالية تعتبر أماكن عامة أساسية في المدينة وتستعمل على أنّها كذلك.
يستند الاستخدام الحالي للدالية كمساحة عامة الى السياق التاريخي لاستخدام المساحات المدينية في بيروت، حيث ينظر الى أراضي الواجهة البحرية كمساحات عامة رئيسية في المدينة تستخدم انطلاقاً من هذا المفهوم. لقد تمشّى سكان بيروت، وتنزهوا، وسبحوا، في كل بقعة على طول الخط الساحلي لبيروت، معتبرين أنّ الوصول إلى البحر، والاستعمال العام لأراضي الواجهة البحرية هو بمثابة حق أساسي لهم١١. غير أن دراسات عدّة أجريت حول ساحل بيروت تناقش مفهوم ممارسات الملكية وتفرّق بين ملكية الأراضي من جهة واستخدامها من جهة اخرى١٢.
لذا، يدفعنا استخدام الداليّة كمساحة مشتركة إلى طرح السؤال وحتّى التخلّي عن المفهوم الحديث للمكان العام المتمثّل بالملكية المقيدة، ويضع أمامنا احتمالات لفهم المساحة العامّة في بيروت كونها مساحات صاغتها ممارسات المستخدمين المتنوعّة. لدى النظر إلى الإطار التاريخي للمساحة المفتوحة في بيروت، نرى ان أماكن التنزه في الخمسينيات تضمنت أمكنة مثال حرج الاوزاعي، وحرج ساقية الجنزير، وكرم الأشرفية، ومزرعة العرب، وكرم شاتيلا في الروشة، ومينة زريقة في المنارة – جميعها مساحات مفتوحة، غير مقيدة، لا ترعاها الدولة الحديثة وغير محصورة بما نسميه «الحدائق العامة». بل على العكس تماماً، كانت نشاطات «التنزه» و«السيران» تُنظّم في مواقع تتميّز بالانفتاح وغياب الحدود.
من هنا فإنّ المساحة العامة في بيروت هي تجسيدٌ «لجماهير» متنوعة وأكثر دينامية بكثير من المفهوم التقليدي للمساحة العامة المرتبط بالملكية. وتمثّل حالة الدالية حقاً جماعياً بالمساحة حيث يُمكن النظر الى مفهوم الملكية بتنوع أكبر وبطريقة اجتماعية أكثر (بلوملي ٢٠٠٤). بالتالي فإنّ مطالبات الناس المختلفة بهذا المكان هي بالفعل رافضة للغة الملكية المؤكدة ضمن حدود مكانية والتي تستثني «العام» من المساحات التي حوّلها روّادها الى فسحات إجتماعية.
بيد أنّ هذه المساحات الاجتماعية مهددة باستمرار. ابتداءً من العام ١٩٩٥، وفي عملية شبيهة بالتمهيد لإقامة فندق موفنبيك، اشترت ثلاث شركات عقارية (يملكها جميعها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري) في يومٍ واحد الغالبية العظمى من الأسهم من مالكي عقارات الدالية. بالتوازي مع عمليات شراء الأراضي، تم اصدار القانون رقم ١٩٩٥/٤٠٢ الذي سمح لأصحاب الأراضي ذات مساحة تتعدى ٢٠ ألف متر مربّع بمضاعفة عامل الاستثمار للمشاريع الفندقية. في العام ذاته، تم إصدار مرسوم آخر يسمح بإشغال الأملاك العامة البحرية في هذه المنطقة في حين كان محظراً من قبل. فكما شهدنا في مثال الموفنبيك سابقاً، تم تركيب هذه التشريعات للانسجام مع المصالح الخاصة المباشرة ولتسهيل إمكانية بناء مشروع مربح في الدالية. والجدير بالذكر أنّ هذين القانونين لا يسمحان البناء وحسب، إنما والأهم من ذلك، أنّهما يضاعفان أسعار الأراضي التي تطبق عليها هذه القوانين؛ وهو شكلٌ من أشكال الاستثمار الذي تقوم به النخبة التجارية والمالية المتجذرة في المضاربات العقارية.
في العام ٢٠٠٤، بدأ ممثلون عن مالكي الشركات الثلاث بالتفاوض مع الصيادين حول التعويض الذي سيحصلون عليه مقابل إخلاء الموقع. منذ تسعة أشهر، أمرت هذه الشركات عينها بإجلاء الصيادين الذين يعيشون في الدالية وذلك استناداً إلى قرارات قضائية. خلال الأشهر القليلة الماضية، نجحت الشركات في التفاوض مع الصيادين، مانحة إياهم تعويضات تتراوح ما بين ٨٠ ألف ونصف مليون دولار أميركي، جارفة منازلهم ومخلية إياها. وأخيراً، سيّجت هذه الشركات الدالية بأسلاك شائكة، ربما تحضيراً لإغلاق الموقع أمام العامة. ومنذ حوالي الشهر، وضعت البلدية كشك لحراسة السياج بالإضافة الى حاجز على المدخل الأساسي للدالية.
حالياً، يسعى ممثلو الشركات جاهدين إلى بناء مشروعٍ سياحي فخم في الدالية وذلك من خلال توظيف شركة هندسة معمارية قدّمت المشروع الجديد إلى بلدية بيروت. ويبدو أنّ المشروع الذي يجري التخطيط له سيتألف من منتجعٍ فندقي وشقق فخمة ومركز تسوّق مع مرسى لليخوت. ما زالت تفاصيل المشروع الجديد طي الكتمان بالنظر إلى السرية التامة المحاط بها. لكن بغض النظر عن التفاصيل، سيلغي هذا المشروع الوظيفة الاجتماعية لمنطقة الدالية، ويحوّل استخدامها العام إلى خاص.
انطلاقاً من الفكرة التي تفيد بأنّ الملكية من دون تجسيد هي مجرد شكل فارغ من المعنى (ديلاني ٢٠٠١)، نستطيع الاستخلاص أنّ التجليات المكانية للملكية – من خلال إخلاء الصيادين والسياج والأسلاك الشائكة وغيرها – ضرورية لإعادة إنتاج الملكية، جاعلاً إياها واضحة وقابلة للتطبيق. من هذا المنطلق، بإمكاننا القول أن الدالية لم تتم خصخصتها خلال سنوات العشرينيات حين تم تسجيلها على أنها ملكية خاصة، بل في ٢٠١٤ عندما باشر مالكو العقارات بعملية الحد من استعمالها العام.
خلق المساحة العامة
يمثّل الحق الذي اكتسبه سكان المدينة في الدالية الأساس الذي تستند إليه نشاطات «الحملة الأهلية للحفاظ على دالية الروشة». إنّه حقٌ مكتسب – أي أنّه حقٌ يصبح قائماً قانوناً أو مقبولاً بفعل الاستخدام الطويل أو مرور الوقت. ومن خلال الاعتراف بهذا الحق المكتسب، تكافح هذه الحملة بشكلٍ أساسي في سبيل تحويل مفهوم «الملكية لإستثناء العامة» إلى «ملكية لعدم استثنائها».
فضلاً عن ذلك، تركّز الحملة على أهمية إنتاج المعرفة في تشكيل رأي عام قادرٍ على الدفاع عن الدالية باعتبارها فسحة عامة. بالتالي، تعمل الحملة عبر وسائل إعلام مختلفة (مثال الانتاج المرئي، والبيانات الصحافية، والرسومات المعلوماتية، والفيديو، إلخ) في سبيل فتح نقاشٍ حول مفاهيم الملكية، والإطار القانوني، وأهمية البيئة الطبيعية، فضلاً عن التدخلات المباشرة الهادفة إلى منازعة مفهوم التطور العقاري١٣.
لكن في صميم النضال للحفاظ على الدالية كمساحة عامة يكمن نزاعٌ مرتبط بالمعاني وبصورة مدينتنا. فيما اخترنا طوال السنوات الماضية أن نصوّر صخرة الروشة وحدها، كانت الدالية حاضرة في حياة الكثيرين، مساحة عبّرت من خلالها فئات عديدة عن وجودها وشرعيتها كجزء لا يتجزأ من المجتمع. فيما اخترنا أن نخفيها من رواية مدينتنا ورؤيتنا المستقبلية لها، كانت الدالية هي المساحة التي حضنت وجمعت وأظهرت صيادي بيروت وسباحيها وعشاقها وفقرائها ومهمشيها. وأن نخسرها اليوم يعني أن يخسر روادها الحاليون شرعية وحق وجودهم في المدينة.
من هذا المنطلق، الدالية هي مساحة عامة بامتياز، وهي ما زالت - حتى الآن - مساحة مفتوحة، وغير مقيدة، وهذا بحد ذاته ملهمٌ. فعلينا الدفاع عنها، كمكانٌ طلقٌ وغير مقيّد! كمساحة خلّاقة فيها نمارس مقاومتنا للدفاع عن مدينتنا كما نريدها؛ فالدالية باتت لنا اليوم رمزاً مدينياً ومشروع نضال سياسي.
معمارية وباحثة مدينية من :
«أشغال عامة»
١ لا يفهم «أسلوب الحياة» باعتباره ظاهرة ثقافية وحسب، بل أيضاً «أسلوب استدامة (اجتماعية واقتصادية) يضم المجتمع والمشهد الطبيعي في علاقة إنتاج جدلية» (غندور ٢٠٠٤)
٢ بحسب رالف بودنستاين في كتاب التاريخ، والمكان، والنزاع الاجتماعي في بيروت -
History, Space and Social Conflict in Beirut،
بدأت زراعة أشجار التوت لإنتاج الحرير في القرن السابع عشر في المناطق المحيطة ببيروت القديمة وتكثّفت خلال القرن التاسع عشر.
٣ وذلك نتيجة لترسيخ قوانين تشجع التطوير العقاري. على سبيل المثال، قانون المباني للعام ١٩٥٤ الذي يسمح ببناء مباني أعلى.
٤ اقتباس من أطروحة ياسمين المشنوق بعنوان «المركز التجاري الجديد في الروشة: استنفاد القانون - New Raouche Shopping Center: Consuming
the Code»،
المقدمة في إطار إجازة في الهندسة، من الجامعة الأميركية في بيروت عام ٢٠٠٣.
٥ أرشيف الموقع الالكتروني «يا بيروت Ya Bayrouth.
٦
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.