مع أن المستأجرين القدامى ظاهرون بوضوح في مشهد بيروت الحضري، إلا أنهم مغيبون في تصوّر جديد يُرسم للمدينة. يتصور الطامحون للحداثة أبنية عالية وحياة عصرية خاصة بعيدة عن الشوارع والعامة من جهة، بينما يهتم مناشدو الحفاظ على الأبنية التراثية فقط بخصائص الأبنية العمرانية وليس بالحياة الاجتماعية التي تنتجها الأمكنة. لا تعتبر وجهتا النظر أن نسيج بيروت العمراني الذي تكوّن قبل ١٩٩٢ لا يزال يشكّل أمكنة لسكن المستأجرين القدامى وعملهم، فقد مكّن قانون الإيجار القديم عدداً كبيراً من سكان بيروت (٧٧٪ في عام ١٩٧٠، ٤٨٪ في عام ١٩٩٦، ٤٩٪ في عام ٢٠٠٤) من البقاء في المدينة في ظل ارتفاع خيالي في أسعار الأراضي والشقق، وتدنّي مستوى الأجور. كما أن عقد الإيجار القديم تجاوز خطوط تماس رسمت ولا تزال ترسم بين الأحياء، مؤمّناً اختلاطاً بين الفئات الاجتماعية المختلفة (انظر خريطة المستأجرين في المدينة).
كان انهيار مبنى سكني في منطقة فسوح يوم الأحد في الخامس عشر من كانون الثاني من العام ٢٠١٢ ومقتل ٢٧ شخصاً، منطلقاً لحملة واسعة تشكك في شرعية المستأجر القديم وتهدف إلى إقرار مشروع قانون جديد للإيجارات القديمة، ينهي حقبة ٧٤ سنة من نظام ضبط الإيجارات. بدأ «تجمع مالكي الأبنية المؤجرة في لبنان» إطلاق تصريحات شبه أسبوعية يحمّل فيها قانون الإيجارات القديم المسؤولية كاملة عن انهيار المبنى معتبراً أنه يسمح للمستأجرين بالإستيلاء على الملك مقابل مبالغ زهيدة، في حين يتوقع من المالك أن يقوم بأعمال الصيانة.
يعتمد التجمع، الذي عمل أخيراً على تأسيس «نقابة مالكي العقارات والأبنية المؤجّرة في لبنان» وفق قرار صادر عن وزير العمل في ٣٠ كانون الثاني ٢٠١٣، على حجتين أساسيتين في حملته ضد «قانون ضبط الإيجارات». الأولى حجة دستورية تتحجج بأنّ قانون ضبط الإيجارات «الاستثنائي» يقيّد الملكية الخاصة، والثانية تتعلق بالتعويض الذي يجب على المالك دفعه للمستأجر في حال أراد إخلاء المأجور. فقانون الإيجارات القديم في لبنان قائم على مبدأ ضبط الإيجارات، أي إن المالك مقيّد بقيمة بدل الإيجار الذي تحدده الدولة وأيضاً بشروط محددة في حال أراد إخلاء المأجور. يرفض التجمع مبدأ التعويض، وينعته بالـ«فدية»، كون قيمة الإيجار القديم أصبحت منذ انهيار العملة اللبنانية عام ١٩٨٤ لا تشكّل مدخولاً فعلياً للمالك. أمّا ما يعطي الحملة دافعها الأساسي في هذه المرحلة فهو الحالة الطارئة التي ينسجها التجمع عن انهيار المباني. في هذا السياق حذّر التجمع من انهيار أكثر من ٥٠٠ مبنى في بيروت، نقلاً عن رئيس بلدية بيروت، بلال حمد. اليوم تشكّل «الحالة الطارئة» فرصة لفسخ عقد اجتماعي أساسي بين الدولة والمواطن - حيث أنه الإجراء الرسمي الوحيد الفاعل في تأمين السكن في مدن رئيسية مثل بيروت وطرابلس - ولترسيخ مفاهيم توسّع نطاق الملكية الخاصة وتفوّقها على حقوق أخرى في استخدام الأمكنة. يواكب ذلك خلق صورة نمطية تشكك في أهلية من لا يبرز سند ملكية، وبذلك تهمش أكثر من نصف سكان المدينة وتستبعدهم من عمليه انتاج الفضاء المديني لصالح تجّار البناء وأصحاب المشاريع العقارية الكبرى.
رسم المدينة والإخلاء
علاقة السياسيين وتجار البناء وطيدة منذ تأسيس الجمهورية اللبنانية (فواز طرابلسي ٢٠٠٧)، مما ساهم لاحقاً في خلق أطر قانونية تسمح بالبناء علي أي قطعة أرض للاستفادة منها في السوق العقاري (شربل نحاس ٢٠١٠) على حساب القيمة الاجتماعية والتاريخية للأرض والمصلحة المشتركة في المدينة (منى فواز ٢٠١٠).
تطورت تلك العلاقة وتجلت بتعديل قانون البناء عام ١٩٧١، والذي كان السبب وراء زيادة ارتفاع المباني في لبنان. ما نشهده اليوم من نشاط هائل في تجارة البناء هو نتيجة أيضاً لقانون البناء الجديد الصادر عام ٢٠٠٤ والذي سمح للتجار بالبناء أعلى وأكثر١. كما أن عدة قوانين مستحدثة زادت من عامل الاستثمار ونسبة البناء رافعة الحد الادنى للمساحات العقارية اللازمة لإنشاء المباني، مما يصب في مصلحة أصحاب العقارات الكبيرة، ويؤدي الى تهميش أصحاب العقارات الصغيرة وإخراجهم من عملية التطوير العقاري ويشجع أصحاب رؤوس الأموال على شراء عدد أكبر من العقارات في منطقة واحدة من أجل ضمها والاستفادة من القانون إلى أقصى حدوده.
يرافق عمليات التشريع التي تدفع نحو تغيير جذري في فضاء المدينة إنتاج صورة معقّمة لبيروت يغيب عنها سكانها. كبرت الحاجة الى ترويج بيروت كمدينة عالمية عصرية مع إعادة إعمار وسط بيروت التي كانت نتائجها طمساً لعلاقات وممارسات اجتماعية واقتصادية وإخلاء سكانه لصالح مشروع سوليدير العقاري٢. تتوسع رقعة هذه الصورة وتتناقل من حي الى آخر لتفرض مقاربة لنمط حياة محظور عن سكان تلك الأحياء. الواجهات الإعلانية لمواقع بناء الأبراج السكنية تتجاهل محيطها وتفرض مكاناً خيالياً يحتم قدرة شرائية عالية. تهدد هذه الصورة الأحياء التاريخية التي تحيط وسط البلد والتي لا يزال المستأجرون القدامى يشكلون نسيجها الاجتماعي. في تهميش الأبنية القديمة المتواضعة وحوالى نصف سكان المدينة القابعين تحت الإيجار القديم، تسيطر الصورة في إنتاج فضاء مديني خال منهم وتمهّد للإخلاء، موحّدة بذلك وضعهم الرسمي بوضع الأحياء «الغير رسمية» في الخطاب العام.
على الرغم من أن جزءاً كبيراً من أراضي بيروت محجوب اليوم عن سوق العقارات (كما في مدن أخرى مثل طرابلس) بفعل قانون الإيجارات (القديم) الذي لا يزال سارياً على الوحدات السكنية والمحال التجارية التي تم تأجيرها قبل عام ١٩٩٢، إلّا أن تركيبة السوق عرضت عدداً كبيراً من المستأجرين لعمليات إخلاء نفذت بفعل إجراءات قانونية وغير قانونية. فالإخلاء قد تم عند إنتاج الصورة، والترويج لصورة بيروت المستقبل هو ترويج للإخلاء، ممّا يخلق حالة عذاب بطيئة عند سكان البيوت المؤجرة بإنتظار الفاجعة (أو الخلاص) في تحقيق الإخلاء. فتصب ممارسات جزائية في خدمة الصورة ومسوغة لها: حفر يعرض بناء مجاور مسكون للإنهيار، هدم بناء يسبب التصدّع لبناء مجاور، تخريب بناء تراثي مصنّف عمداً إلخ. أما الإجراءات القانونية فتتحول الى نزاع في إظهار وثائق وتقارير فنية بين المستأجر والمالك. فالمالكون والمطوّرون العقاريين في تفاوض مستمر مع المستأجرين بالتزامن مع عمليات هدم لكتل مبان في أحيائهم. وقد تمكّن العديد من المطوّرين، الذين هم بدورهم مسؤولون سياسيون أم لهم إرتباطات وثيقة مع نافذين، في شراء منذ وقت طويل العديد من عقارات بيروت التي ما زال فيها أبنية يسكنها مستأجرون من مالكين صغار. فبفعل التسهيلات المقدمة للقطاع العقاري وانخفاض نسبة الضرائب على الأملاك العقارية، يستطيع أصحاب المشاريع الكبرى شراء عدد كبير من العقارات والإنتظار لحين يصبح السوق ملائماً لتنفيذ مشروعهم الجديد٣.
والجدير بالذكر أن التجمعات السكنية غير الرسمية ضمن بيروت الإدارية التي كانت تحميها الزعامات السياسية، بدأت تفقد الغطاء السياسي الذي أمنته هذه الزعامات لمصلحة شركات عقارية تملكها هي بدورها (صيادو الدالية، سكان وطى المصيطبة).
احتل التعويض مكانة أساسية في الدفاع عن الحق في السكن، خصوصاً انه ترسّخ كإجراء تقوم به الدولة اللبنانية ومستثمرو العقارات معاً لإخلاء مبانٍ تمهيداً لإقامة مشاريع عقارية كبرى. اشتهر وادي أبو جميل باسم وادي الذهب عندما تم إخلاء الحي من سكان لا يملكون عقوداً سكنية رسمية مقابل تعويضات باهظة. كما أُنشئ في عام ١٩٩٣ «الصندوق المركزي للمهجرين» لإخلاء النازحين نتيجة الحرب الأهلية. حينها بدأت دعاوى المالكين لإخلاء المستأجرين. في قانون الإيجارات القديم ينطوي التعويض عند الإخلاء على عملية حسابية من نسبة قيمة متر العقار الذي يحدده السوق. سجل ٨٦٦٨ دعوى إيجارات عالقة في آذار ١٩٩٥٤. فالمالك القديم أيضاً يرى في عقاره فرصة لتأمين مستقبله ورفع مستوى معيشته في ظل حركة تجارة عقارات متزايدة، وقوانين تشجع على الإستثمار بالبناء على حساب قطاعات منتجة أخرى. في السياق نفسه ومع انسحاب الدولة من مسؤولياتها في رسم خطة سكنية شاملة، إقرار سلسلة الرتب والرواتب، تأمين ضمان الشيخوخة، فرص العمل وحاجات اجتماعية أخرى، يشكّل مفهوم التعويض الوعد الناقص من قبل الدولة ومصدر أمان وحيد للمستأجرين.
يتم التعاطي مع الأرض بشكل متزايد على أنها سلعة في سوق العقارات. اعتبار الأرض سلعة يجردها من بعدها الإجتماعي وإمتدادها التاريخي، عندها تصبح قيمة تبادلها في السوق العقاري الذي تتحدد بحسب كبرها وموقعها، يفوق قيمتها وفقاً لإستخدامها (سكن، عمل، زراعة، حيّز عام) (لوففر، ١٩٩١). لترويج السلعة تسود مفاهيم جديدة تعتبر عامل استثمار الأرض جزءاً من حقوق الملكية الخاصة وأن وضع إطار تنظيمي يحافظ على المصالح المشتركة في المدينة وقوانين ضبط الاستثمار كما الإيجارات، يصب في منطق مصادرة الملكية.
تفريغ العقد القانوني
عملياً بدأ تهميش المستأجرين عام ١٩٩٢ حين صدر قانون جديد للإيجارات يطبّق عند إبرام العقود الجديدة، بينما حصرت الدولة تدخّلها في ضبط إيجارات العقود القديمة. من خلال فصله عن السبل المستحدثة للوصول الى السكن (قروض السكن للتملك، وعقد الاستثمار) تغيّر معنى عقد الإيجار القديم من عقد إجتماعي حدد علاقة الدولة بالمواطن الى وثيقة تفاوض عند الإخلاء.
تدخّلت الدولة اللبنانية لتضبط بدل الإيجار الذي يحدده السوق ولتمدد العمل بالعقود المبرمة من خلال قوانين استثنائية للإيجارات منذ عام ١٩٤١، أي خلال الإنتداب الفرنسي. كان هذا الإجراء تابعاً لنهج الدول الأوروبية في التعامل مع أزمة السكن التي خلفتها الحرب العالمية الأولى. كما أنه استُخدم لإكساب الدولة شرعية في الحكم من خلال اعتماد الرعاية الاجتماعية. فكما الصحة، والتعليم وتوفير فرص العمل، فإنّ السكن هو مسألة أساسية في تأمين حياة لائقة لرعايا الدولة ولكسب تأييدهم.
في الدول التي ابتعدت عن مفهوم الدولة كمصدر للرعاية الاجتماعية لتفسح المجال لسياسات نيولبرالية تعيد هيكلة الإقتصاد (مثال أميركا وبريطانيا)، بدأ إعطاء الأولية للملكية الخاصة والترويج لتملّك المنازل كوسيلة مضمونة للاستثمار على حساب الاستخدام الفعلي (مكان سكن أو عمل). رافق تعزيز الملكية الخاصة إضعاف لتنظيم الإيجارات. ومع ذلك طرحت العديد من الدول سياسات إسكانية تشمل على سبيل المثال لا الحصر، بناء مساكن شعبية، تخصيص وحدات سكنية لذوي الدخل المحدود عند تشييد المباني الجديدة للحفاظ على تنوع الفئات الاجتماعية في تلك الأحياء، فرض ضرائب تصاعدية على الممتلكات الخاصة، تغريم مالكي الشقق الخالية، وفي بعضها قوننة احتلال المباني الخالية أو المهجورة. إضافة إلى ذلك، ما زال ضبط الإيجارات الحل الساري المفعول في العديد من المدن الأميركية والأوروبية. وبذلك تجنبت هذه الدول تكوين تجمعات غير رسمية خارجة عن سيطرتها.
بدأت أزمة سكن مزمنة في لبنان، وخصوصاً في مدينة بيروت وضواحيها، منذ خمسينيات القرن الماضي مع غياب سياسات إسكانية وازدياد مفاجئ للسكان في بيروت حيث وصل عددهم في منتصف السبعينيات الى نحو نصف سكان لبنان. حينها كان واضحاً عدم التطابق بين البيوت المتوفرة ودخل الأسرة، بينما توسعت رقعة التجمعات السكنية غير الرسمية. نشأت هذه الأحياء مع هجرة أهالي الريف الى المدينة، حيث كان البناء غير الرسمي وسيلتهم الوحيدة آنذاك للوصول الى السكن والعيش في المدينة، حيث فرص العمل. أما اليوم فإن البناء في أراضي المشاع أو بشكل غير رسمي لم يعد متاحاً كوسيلة للوصول الى السكن في المدينة.
كان تدخل الدولة لحل هذه الأزمات آنياً، وفي كل مرة تفشل في رسم خطة إسكانية شاملة، خدمت المؤسسات العامة والتشريعات بصورة متزايدة مصالح نخبة اقتصادية تكمن في استثمار العقارات. من جهة أخرى استمر العمل في قانون يضبط الإيجارات كوسيلة تتيح وتحافظ على السكن الشرعي. نُظمت عقود الإيجار من الأربعينيات حتى سنة ١٩٩٢ على مبدأ ضبط الإيجارات وفق ما يسمى الآن «قانون الإيجار القديم»، الذي هو نقيض التعاقد الحر المفعول به الآن للإيجارات الجديدة. أصدرت الدولة أكثر من ٤٠ مرسوماً تُوازن مصالح المستأجر والمالك، فيما خلقت استثناءات لقانون استثنائي لتشجّع على الاستثمار في البناء. أهم هذه الاستثناءات صدر عام ١٩٦٧ وطبق بين ١٩٦٩ و١٩٧٤ وحرر إيجارات «المباني الفخمة» الموجودة والتي ستُبنى. أدى ذلك إلى عملية بناء صنفت جميعها بالفخمة، لهشاشة المعايير المتعلقة بالمصطلح والتي ارتكزت على ميزات كانت قد أصبحت شائعة في السبعينيات (ماء ساخنة، مصعد، تدفئة مركزية، حارس، علبة بريد) (صادق ١٩٩٦). في عام ١٩٧٤، تم إدخال نظام «الإيجار العادل»، وإنهاء مرحلة تحرير عقود إيجار الشقق الفخمة وإخضاعها لضبط الإيجارات، حيث تم إعادة درس احتساب قيمة الإيجار. ظل هذا النظام قائماً حتى عام ١٩٧٧ مع بدء الحرب الأهلية. ففي السبعينيات كان لبيروت أقّل نسبة تملّك مقارنة بالعواصم الأخرى في المنطقة، حيث كان ٧٧٪ من السكان مستأجرين و١٧٪ مالكين.
شهدت فترة السبعينيات٥ نقاشاً عاماً عن دور الدولة في توفير الأمان الاقتصادي وفق حاجات المواطنين، بينما ارتفعت أسعار السلع وزادت مشاريع البنى التحتية الضخمة٦. حينها كان بدل الإيجار يمثّل قسماً كبيراً من مدخول الطبقة الوسطى. كانت الحاجة إلى السكن بأسعار معقولة في سوق الإيجار مناقشة عامة مفتوحة والعديد من الاقتراحات، التي كان من الممكن أن تؤدي الى سياسات إسكانية، كان يجري تدوالها في وسائل الإعلام. على سبيل المثال، كان عدد الشقق الشاغرة في عام ١٩٧١ نحو عشرين ألفاً. اقترحت النقابات فرض نظام ضرائب يتم تطبيقه على البيوت غير المؤجرة. كما إقترحت هيكلة بلدية بيروت لتحدد مواقع الشقق الفارغة وتضمن تأجيرها في غضون سنة من إخلائها.
في أوائل الثمانينيات انهارت العملة اللبنانية، بدأ نزوح السكان وهرب المستثمرين، وكان سائداً مبدأ الخلو للحصول على عقد إيجار، وهو بمثابة دفعة أولى لشراء بيت.
حاولت الدولة إصدار قانون طوارئ سنة ١٩٨٣ لمعالجة تداعيات انهيار العملة على قيمة بدل الإيجار، لكنها جوبهت بردة فعل قوية من قبل النقابات والأحزاب ومجموعات نيابية والهيئات الشعبية في ظل غلاء المعيشة والوضع الاقتصادي الصعب. في عام ١٩٩٢، حاولت الدولة استبدال قانون الإيجارات بقانون جديد، الا أن إضرابات عمّت المدن رفضاً لذلك. لكن هذه المرة استطاعت الدولة أن تحصر سياسة ضبط الإيجارات وأن تضمن أن عدد الوحدات «الإشكالية» لن يزيد، وأن تعتمد على الوقت كحل لا مفر منه. بذلك أخرجت الدولة اللبنانية المستأجرين القدامى من عملية تطوّر المدينة وأفرغت العقد القانوني من معناه السياسي. فأصبح المستأجرون في وضع يدافعون فيه عن حقوق خاصة مميّزة في حين أن أزمة الوصول الى السكن الملائم تشكّل حالة عامة لطالما كان المستأجرون المحرك الأساسي في فتح مناقشتها.
منذ سنة ٩٤، تضع «لجنة الإدارة والعدل» كل أربع سنوات مشروع قانون لتحرير الإيجارات. وعادة ما تجري «دراسة» هذه القوانين بعدم شفافية ووضوح، كما تتغيّر معاييرها وفق حركة تجارة العقارات. الفرق الجوهري بين المشاريع المقدمة يرتكز على إلزام الطرفين بمعادلة ٤٠٪ من قيمة متر المساحة المبنية يدفعها المالك إن أراد إخلاء المأجور و٦٠٪ منها يدفعها المستأجر للمالك إن أراد شراء المأجور. طبّقت هذه المعادلة بالتراضي في القليل من الحالات، إلا أن الدولة لم تدعم هذا الاقتراح من خلال دراسات لمعرفة الوضع الاقتصادي للمستأجرين والمالكين وكيفية دعم الطرفين لتحقيق ذلك.
على عكس ذلك، فإن القانون الذي صدر أخيراً (والذي أدّى الى نزاع حاد بين نقابة المالكين ولجان الدفاع عن المستأجرين لتثبيته من الأول وإبطاله من الثاني) هو كناية عن برمجة إخلاء المأجور عبر زيادة قيمة الإيجار تدريجياً وفق جدول زمني. كما تخلّص القانون من منطق التعويض إلا في حالة الإخلاء الفوري، ولكن بنسبة أقل ممّا يلزم به القانون الحالي. إصدار هذا القانون هو استكمال لحقبة من الزمن حيث أعيد تعريف مفاهيم عديدة، منها مفهوم الدولة. فالدولة النيولبرالية ليست المسؤولة الوحيدة عن تأمين حياة لائقة للمواطن وخطاب «واجبات المواطن» في صميمها كشرط اجتماعي لتحقيق عفوية نظام السوق» (هيلغرز ٢٠١٢). من هذا المنطلق «تفرض الدولة نفسها مصدراً تقنياً في الحكم يملك الحلول الأكثر كفاءة وعقلانية وواقعية للمشاكل» (هيلغرز ٢٠١٢)، مما يجمّد أي نقاش فعلي لتغيير سياسات تنجم عنها معاناة يومية، ويُخرج حق السكن من المجادلة السياسية.
الحياة اليومية
روى مالك مبنى فسوح قصة انهيار المبنى خلال مؤتمر صحافي نظمه «التجمع» في ١٨ كانون الثاني ٢٠١٤ استضاف فيه خبراء ليشهدوا على مخاطر الإيجار القديم على الاقتصاد، البيئة، الاجتماع، التراث، والسلامة العامة. قال الرجل إن أخاه الذي يسكن في المبنى المنهار قد ذهب يوم الأحد صدفة إلى عمله في محل الخياطة الكائن في المبنى نفسه. لاحظ أن غبائر تتساقط من المبنى، فخرج منه وبدأ ينادي القاطنين للخروج. لم يصدّقه أحد. حتى أن أحد القاطنين صعد الى السطح ليتحقق من الأمر بدل الخروج من المبنى. يستنتج المالك، كما كل الحاضرين والخبراء، أن المستأجرين «مستغنين عن حالهم» وهذا هو الجشع بعينه، إذ إن مخاوفهم من عدم الحصول على تعويض إن تركوا بيوتهم يفوق ثمن أرواحهم. لا تجيب هذه الاستنتاجات - التي تحمّل الضحية المسؤولية - فعلياَ عن سبب عدم خروج المستأجرين من المبنى المصدّع بعد انذارهم. تذكّر هذه التراجيدية برواية غسان كنفاني، «رجال في الشمس» التي تنتهي تاركة السؤال: «لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟» لينقذوا أرواحهم بدل الموت خنقاً، عندما تأخر سائق الشاحنة في نقطة الحدود الذي يهرّب الرجال الفلسطينيين الثلاثة الى الكويت. أهو الأمل بأن يعبروا هذه النقطة الحدودية وأن يصلوا الى الكويت، حيث الثروة والنفط، أم هو اليأس؟». هل لم يستطع قاطنو مبنى فسوح التخيّل أن المبنى سيقع فعلاً، أم أن لا مكان آخر لديهم للجوء إليه؟
بالإضافة الى تجريم المستأجر، يخلق التجمع صورة نمطية له ويبلورها من خلال إطلاق افتراضات وادعاءات عامة: «محتل غير شرعي»، «عنده بيت بالمدينة وبيت آخر بالضيعة»، «أغنى من المالك وساكن بالمجّان»، «أولادهم يتعلمون بأحسن جامعات وأولادنا يصبحون في الغربة»، «شيوعيون، يصادرون الملك الخاص». يذكّر خطاب مماثل بالتصنيف السائد للأحياء الشعبية التي تعتبر غير رسمية في بيروت وضواحيها. من شأن هذا التصنيف أن يصرف الانتباه عن أماكن يعيش فيها الناس وفهم صراعاتهم اليومية للبقاء جزءاً من المدينة. أخذ هذه الصراعات بعين الاعتبار يشكّل شرطاً أساسياً في رسم سياسات وتخطيطات مدينية مجدية لأهلها.
انخرط المستأجرون في معركة إعلامية وقانونية للطعن في القانون الجديد. ظهر جيل السبعينيات والستينيات في شوارع أحياء مختلفة من بيروت (فرن الشباك، وطى المصيطبة، ساسين، مار الياس، الحمرا) ليرفضوا تهميشهم والظلم الذي يهددهم كما ليعيدوا رسم الصورة التي تتناقل عنهم. عمد المستأجرون إلى إظهار أعمارهم، علاقتهم الوطيدة مع أحيائهم وتنوعهم الطائفي والمناطقي.
مع أن المستأجرين يرمزون الى ثقافة دولة القانون بحكم عقد الإيجار الذي حتّم بناء علاقة سياسية بين المواطن والدولة خارج سيطرة السوق، إلّا أن شرعية هذا العقد مهددة اليوم عبر إخضاعه لمصالح خاصة غايتها إخلاء المباني والاستثمار العقاري.
من خلال ثلاث قصص إخلاء، الأولى لمبنى سكني قديم في منطقة عين المريسة، الثانية لمحل تجاري في منطقة الحمرا، والثالثة لتجمع سكني غير رسمي في وطى المصيطبة، تظهر هشاشة القانون كمصدر لتحقيق العدالة الاجتماعية، وعقم عقد الإيجار القانوني وانتقائية الدولة في فرض سلطتها.
فسكان بيروت من ذوي الدخل المحدود لا يواجهون خطر الإخلاء بسبب وضعهم القانوني، إنما جرّاء سياسات تعتبر وجودهم عقبة في وجه التطوير العمراني. يؤدي ذلك الى ممارسات مجحفة ومهينة بحق السكان تمكّنها سياسات تسخّر الشرعية والقانون لمصالح خاصة وتُدخل السكان في محنة إثبات «شرعيتهم» للبقاء في المدينة.
القصة ١: الإخلاء وخدعة السلامة العامة
في منطقة عين المريسة، حيث سعر متر الأرض يصل الى ١٢ ألف دولار، يقع مبنى الديك مطلاً على المتوسط ومقابلاً لجامع عين المريسة «الأثري». يتألف مبنى الديك من ثلاث طبقات كان قد سكنه: في الطابق الأرضي جانيت التي ولدت هناك في الأربعينيات، عناية في الطابق الثاني، وهي المالكة الوحيدة لشقتها، اما الطابق الثالث فسكنته جورجيت منذ طفولتها وبعد ذلك مع زوجها أحمد.
ذات يوم بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز ٢٠٠٦، قرر الديك، مستغلاً الفراغ الإداري حينها، أن يهدم بناءً ملاصقاً للبناء الذي نحن في صدد الحديث عنه، ومن دون أن يحصل على رخصة هدم من بلدية بيروت، قام بذلك.
رفعت عناية دعوى ضد الديك متهمة إياه بالتسبب في تصدعات أصابت البناء الذي تسكنه، لكن سرعان ما اُسْقطت الدعوى بعدما اشترى الديك حصّتها.. وتخلص من الحق العام أيضاً بدفع مبلغ زهيد من المال تعويضاً عن جرمه.
لم ينجُ الديك من تهمة الهدم غير القانوني فحسب، وإنما استخدم حجة تصدّع البناء ليبدأ عملية إخلاء البناء. فأتى في ٢٠١٠ بتقرير من مهندس مدني ينسب التصدعات الى قدم عهد البناء ويستنتج أن وضعه الحالي يشكل خطراً على السلامة العامة «فانهيار أجزاء من واجهاته نتيجة التصدع أمر ممكن والانهيار الجزئي أو الكلي للمبنى كذلك ممكن، خصوصاً في حال حدوث هزات أو في حال حفر عقارات مجاورة بشكل عشوائي، دون اتباع القواعد الهندسية التي تفرضها نوعية الأرض ووضع الأبنية المجاورة..».
لا تصدّق جورجيت «بدعة» انهيار المبنى. تقول: «أكيد ما بيوقع، معمّر على صخر». فهي تعرف عين المريسة عندما كان البحر يصل الى الجامع وقبل تشييد آخر جزء من الكورنيش في ١٩٧٣.
بدأت التهديدات للقاطنين بوجوب الإخلاء، ورافقها مجموعة إجراءات متمثلة بقطع الماء والكهرباء عن البناء «حفاظاً عليكم وعلى السلامة العامة».
وكانت حادثة وقوع مبنى فسوح في منطقة الجعيتاوي، منطلقاً لحالة استعراضيّة خلقها الديك حول المبنى، محولاً جدرانه البيضاء الأنيقة ذات الشرفات مع القناطر – والذي صُنّف في «مشروع حماية المباني التراثية في محيط وسط بيروت» عام ١٩٩٦ كمبنى تراثي – الى لوح اعلانات يمرر من خلاله خطته لزرع الشك في متانة المبنى وأمانه. فطبع بالأزرق وبأحرف كبيرة على الجهتين الأماميتين للمبنى «خطر وقوف السيارات / خطر الوقوف في هذا المكان».
بدأ الإخلاء مع جانيت الممرضة التي تسكن الطابق الارضي والتي تعرف الديك حق المعرفة، فقد كبرا معاً في ذلك الحي. لم تتزوج جانيت فأصبح البيت بيتها بعدما سكنته مع أهلها وتشاطرته مع زوجة أخيها التي كانت في رعايتها.
ضغط الديك مراراً وتكراراً على جانيت لإخلاء المنزل والقبول بالتعويض الذي حدده هو من دون الرجوع الى القضاء، مبرزاً لها مستندات موقّعة من كاتب العدل كإثباتات لا جدل فيها بأن وضعها لا يوجب التعويض وبأن عرضه المادي المشترط بالإخلاء الفوري للمنزل هو أفضل ما قد تحصل عليه.
بعد رفضها المتكرر للاخلاء، تجاوز الديك جانيت وأكمل مفاوضاته مع أخيها الذي قبل العرض ليتمكن من إكمال علاج زوجته، فتم التوقيع بموافقة جانيت المرغمة وقُسّم مبلغ التعويض بينها وبين زوجة أخيها.
وضّبت جانيت أغراضها، أغراض لا تعرف مكاناً آخر تكون فيه، جمعت الكتب، أشعلت فيها النار وتركت الأثاث ليأخذه من يريد. وصلت صديقة جانيت في الوقت المناسب لتجدها مرتدية ثوبها الأبيض ممددة على سريرها، بعدما حقنت نفسها بالـ«سبيرتو»، محاولة إنهاء حياتها قبل رحيلها عن ذلك المنزل.
بقي الطابق الثالث حيث محمد وجورجيت اللذان لم يصدّقا أن الديك يستطيع إرغامهم على الإخلاء. تابع الزوجان قضية بيتهما عبر القضاء آملين أن تطول الدعوى الى أن يصدر حكم التعويض وفق قيمة العقار الحقيقيّة وطول المدة التي سكنا فيها البيت، إذا ما لزم الإخلاء في النهاية. إلا أن الديك أبرز ورقته الأخيرة فجأة، وكان ذلك إنذاراً من قائد شرطة بيروت يقضي بإخلاء البناء من كافة الشاغلين بغية ترميمه، مع أن قضية الإخلاء الفوري مفصولة عن أهلية عقد الإيجار وإمكانية الرجوع الى البناء بعد الترميم الواجب إتمامه كما تفضي التقارير التي حصل عليها المالك، إلا أن محمد وجورجيت قبلا بالتعويض مقابل الإخلاء. لم يكن الزوجان ليخضعا ويقبلا التعويض الذي حدده الديك مقابل فسخ عقد الإيجار لو وجدا نفسيهما في بلد يحفظ الحق في السكن ويحاسب على الإنتهاكات. فقد كان من الممكن أن يعودا الى المنزل بعد الترميم، لكن كيف يدفعان إيجار سنة وقيمة الإيجارات الجديدة تتخطى الإمكانات؟ وما الذي يضمن أن عاصفة ما لن تلام على «سقوط» البيت؟
استند الديك في إخلاء القاطنين إلى ضرورة ترميم المبنى، بينما تجري العادة على أن يتم إخلاء المستأجرين القدامى في حالة الهدم. لكن الحصول على رخصة هدم لهذا المبنى بالتحديد أمر صعب لكونه بناءً مصنّفاً كقيمة تراثية، أضف الى ذلك أن الإخلاء في هذه الحالة سيأخذ وقتاً أطول إذا ما تم عبر القضاء، معطياً المستأجر قدرة على التفاوض على تعويض أكبر.
يستعرض الديك المستندات الملصقه على الجدران كما يستعرض السقالة التي ركّبها على المبنى ليعلن أنه بدأ مرحلة الترميم وليبدد الشكوك التي راجت بأنه خدع المستأجرين بقصة الترميم. يقوم بأعمال الترميم المزعومة شابان يحيطان المبنى بقضبان معدنية ويمررانها من داخل غرف المبنى بينما ينزعان ملابن الشبابيك والأبواب ويهدمان الشرفات ويزيلان درابزين الدرج ويقتلعان البلاط المزخرف من جميع الغرف. وإذا ما سئل الديك عن أسباب كل تلك الأعمال التخريبية للبناء، أجاب أنها بداعي الترميم.
اليوم شكل البناء من الخارج يثير الارتياب، فمن الداخل ورشة واضحة تسبق الهدم أو بالأحرى في مرحلة الهدم حيث جميع الغرف أرضها عارية من البلاط ومغطاة بالرمل وفي بعضها أحجار كبيرة منزوعة من جدران المبنى.
في هذه الأثناء وقعت أجزاء من بيت مهجور مجاور لمبنى الديك على يمين ميناء عين المريسة بعد ليلة عاصفة ليتبين بعد ذلك أن المالك قد أمر بهدمه.
القصة ٢: التاجر، المالك، القاضي ولاريس
تقع «عنتوري ماركت» في شارع المقدسي، في الحمرا، بجانب «محمصة اديسون». زوج لاريس هو من بدأ مشروع السوبرماركت منذ ٤٥ سنة، وكان اخوه حينها ايضاً يملك محل حلويات مشهوراً بجانب محله. كما أنه استأجر لاحقاً شقة في المبنى ذاته لتصبح بيته الزوجي بعد زواجه من لاريس. في العام ١٩٧٨ اختطف زوج لاريس على خط تماس عين الرمانة / الشياح، وأصبحت لاريس وحدها تعيل ولديها سمير ونبيل من أرباح مبيعات المحل.
السوبر ماركت مقصود من قبل سكان المقدسي والحمرا، لكونه محلاً كبيراً ويبيع منتوجات قد لا تتوفر في المحال الأخرى المجاورة. كما أن للعائلة قصة قديمة مع الحي، وبنَتْ لاريس على طول تلك السنين علاقة طيبة مع محيطها وجيرانها.
اليوم تواجه لاريس قراراً من المحكمة بالإخلاء، وتبدو عازمة على مجابهة ذلك القرار، مدعومة من المارة والجيران، ومستمدة قوتها وثقتها بما تفعله من كلماتهم المتفهمة، فهي ترى نفسها في النهاية صاحبة حق، تدافع عنه.
فقدت لاريس صمام الأمان عندما حكمت المحكمة بتعويض إخلاء بما لا يناسب غلاء المعيشة. رفع المالك دعوى لطرد لاريس من البيت والمحل كما باقي المستأجرين لأول مرة سنة ١٩٩٥، تزامناً مع إخلاء المهجرين من المبنى ذاته. استطاع المالك منذ ما يقارب الخمس سنوات الحصول على أحكام تناسبه من جهة التعويض، إنما لاريس تعتبرها غير عادلة للمستأجرين. لكن ظروف المستأجرين الخاصة وخطة المالك في التعاطي مع ساكني كل شقة على إنفراد حالت دون نشوء تضامن بينهم بما يصب في مصلحة قضيتهم.
ومنذ ذلك الحين، وفي كل مره يتم إخلاء شقة، يقوم المالك بتخريب أجزاء إنشائية في البيت ليظهر المبنى وكأنه غير مؤهل للسكن.
عشر سنين ولاريس تنتظر إصدار الحكم. أصابها الإحباط وهي على يقين أنها ستخلي البيت والمحل عاجلاً أم آجلاً. أصبح أملها الوحيد التعويض العادل. منذ سنة ونصف سنة، صدر الحكم وتحددت قيمة التعويض على أساس أن قيمة متر الأرض في الحمرا تساوي ٢،٢٠٠$ وهو ما ينقضه كل من يسكن في بيروت. بالمقابل تم تخمين متر الأرض من قبل الخبير المسجل في النقابة التي استعانت به لاريس بـ ١٢،١٥٠$. وفق ذلك وبعد بحث مكثف ومرهق قامت به لاريس وولداها على طول شارع المقدسي بتجميع مستندات تظهر تخمينات عقارات أخرى وأحكام تعويضات بمبالغ أعلى وعقود إيجارات جديدة بأسعار مرتفعة٧ – قدّمت لاريس كل ذلك كإثباتات ــــ ورفعت دعوى تمييز لنقض الحكم.
بدّل المالك محاميه عدة مرات الى أن رسا على محامية، زوجها قاضي شورى الدولة، حصلت منذ سنة ونصف سنة على حكم لصالحه في قضية لاريس. قررت لاريس عندها رفع القضية أمام محكمة التمييز، اي طلب إعادة النظر في الدعوى بناء على خطأ جسيم تم ارتكابه. الفارق الشاسع بين ما طلبته لاريس وما حكمت به المحكمة - الفرق بين ٩٠ ألف دولار و٩٠٠ ألف دولار - هذا هو الخطأ التي ترتكز عليه لاريس مرفقاً بالمستندات الثبوتية.
هي دقيقة في موقفها، فهي تعترض خصوصاً على تعويض المحل الذي يقسم المبلغ الى ٦٦ ألف دولار تعويض محل و٢٥ ألف دولار تعويض سنوات العمل. مبيعات هذا المحل تشكل مدخولاً شهرياً لخمس عائلات: لها، لولديها وعائلتهما (حيث تسكن إحداها معها في البيت فوق المحل) ولعائلات عاملين في المحل.
أسقطت الدعوى وغرّمت لاريس ٥ آلاف دولار جراء هذه الخطوة وتحملت الأتعاب. من الـ٩٠ ألفاً، تكون لاريس قد أنفقت أكثر من نصفها مصاريف دعاوى وأتعاب ومعاملات. «أنا ماني حدا وما بعرف حدا» تقول لاريس «ولكن أن أكون مدعوسة من الدولة اللبنانية ففشر فيهم».
جاءها الدرك ليغلقوا المحل بالشمع الأحمر ولينفّذوا الإخلاء. كانت قد أرسلت كتاب استرحام لتأجيل الإخلاء لكون الأولاد (أحفادها) «بعدهم بالمدارس». بدأت لاريس بإخلاء المحل خوفاً من تنفيذ إخلاء بالقوة يتلف بضاعتها. ولكنها في غضون ذلك نقلت بعض أغراضه الى الشارع وسجّلت احتجاجاً علنياً. وفي ضوء ذلك نُفّذ اعتصام يوم الثلاثاء ١ حزيران ٢٠١٤، حشد لها متضامنين مع قضيتها.
وبالرغم من أن كثيرين نصحوها بألا تقدم على هذا النوع من الخطوات الاحتجاجية إن لم تكن مدعومة سياسياً، إلا أن لاريس اعتبرت تعاطي الدولة اللبنانية معها أمراً شخصياً، فهي طالما كانت المواطنة المثالية الشرعية، وساهمت في تاريخ مجتمعها المحلي، وكانت جزءاً من مآسيه. وفي النهاية تقول لاريس «ما معنا مطرح نشتغل، ولا ليرة بجيبتنا، وما في محل نروح». استمرت لاريس في اعتصامها حوالى العشرة أيام، فعّلت خلالها اتصالاتها لرفع قضيتها من مسألة خاصة الى مسألة عامة مطالبةً بمحاكمة جديدة عادلة. بعد فترة أتت القوى الأمنية باكراً وتم الإخلاء.
القصة ٣: الإحصاءات وخدعة المساكن الشعبية
أثناء اجتماع «لجنة الدفاع عن حقوق المستأجرين» في مقر «الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان» في منطقة وطى المصيطبة، تظاهر سكان الحي المجاور، إثر استدعائهم على خلفية دعوى قضائية من شركة «الوطى العقارية» ضدهم (٥١ اسماً وكل من يظهره التحقيق مقيماً في وطى المصيطبة في العقار ٢٢٠٧) وصفت جرمهم على أنه «احتلال ومصادرة واغتصاب عقار واستغلاله مادياً» في سبيل «… إلزامهم بإخلاء العقار … وإزالة جميع التعديات المذكورة على نفقتهم الخاصة، كما إلزامهم بدفع العطل والضرر وبدلات الإشغال عن الفترة التي شغلوا فيها العقار…».
منطقة وطى المصيطبة الشعبية هي أقدم تجمع غير رسمي في العاصمة وأكبرها ضمن بيروت الإدارية. تبلغ مساحتها ١٧،٠٠٠ متر مربع. تشير الصحيفة العقارية إلى أن شركة الوطى أصبحت تملك منذ عام ٢٠٠٩ العقار رقم ٢٢٠٧ والذي تبلغ مساحته ١٣،٠٨١ متر٢، اي أكثر من ٧٥٪ من مساحة الحي. يحتوي هذا العقار على أحياء سكنية تسمى «الحي الشرقي» (أو حي التنك) و«حي الأكراد». كما يحتوي على العديد من المحال التجارية (انظر الخريطة).
تعتبر المنطقة مدخلاً لبيروت من جهة الجنوب، وموقعاً مناسباً للاستثمار العقاري. لكن الوضع القانوني للقسم الشعبي منها معقّد. فأصحابها خليط من أشخاص يملكون إثباتات رسمية وغير رسمية للملكية وللإيجار، وهي عبارة عن بناء غير شرعي وغير موصول بخدمات البنى التحتية التي تؤمنها الدولة، تتخلله أبنية وشوارع شرعية.
«أهل بيروت ضدنا ما بحبوا وجود هالأحياء الشعبية» يقول أحد السكان والفاعلين في «الحزب التقدمي الاشتراكي» وهو يشرح خلفية الاستدعاء القضائي. كان حديثه يتأرجح بين لوم زعيم الطائفة الدرزية وليد جنبلاط وبين توضيح متانة انتمائه للحزب والطائفة وثقافتهما. فلا يخفى على أحد أن صاحب «شركة الوطى العقارية» هو وليد جنبلاط، وأن عدم إخلاء هذا الحي سابقاً له دلائل تاريخية وسياسية. إذ إنّ السكان «غير الرسميين» لم يحتلوا الأرض إنما اكتسبوا الوصول اليها في مراحل زمنية عدة من خلال اتفاقات رعتها مصادر رسمية مقابل المال أو العمل. يعود تاريخ نشأة هذا الحي الى ما قبل العام ١٩٢٠ حين اتجه نحوه المهاجرون الدروز من أرياف حوران، جبل لبنان والبقاع الغربي، هرباً من المستعمرين الفرنسيين وبحثاً عن فرص عمل. توجهوا نحو وطى المصيطبة بما أن سكانه أصلاً ينتمون الى الطائفة الدرزية وتتم حمايتهم من الاضطهاد من قبل الإنكليز الذين بنوا ثكنات في المنطقة، ولفرص العمل التي يخلقها مصنع السكر الذي كان قائماً على العقار ٢٧٦٠٨. شهد الحي أول تصادم مع الدولة في منتصف الخمسينيات، حيث عملت الحكومة على إخلائه لتنفيذ أوتوستراد. دعم حينها كمال جنبلاط التظاهرات التي نظمها السكان وأدّت الى مقتل ٤ أشخاص (لبنانيان وسوريان من السويداء). ربط حينها كمال جنبلاط مصير الحي بمصير أحياء أخرى «غير شرعية» مثل الأوزاعي، الرمل العالي والنبعة. كما ساعد السكان على تعيين محامين لفرز الأراضي، وهنا يقول السكان إنهم اشتروا بعضها. ارتفعت نسبة البناء خلال الحرب (١٩٧٥- ١٩٩٠) من خلال شراء رخص بناء من أشخاص فاعلين في المنطقة، كما زادت كثافة السكان. تغيرت التركيبة السكانية في بعض الأحياء حيث أجّرت عائلات عديدة انتقلت للسكن في مناطق أخرى بيوتها.
منذ العام ١٩٩٦ تحاول الدولة أن تضع دراسة تنظيمية للمنطقة. بدأت تلك الخطوة على أساس ضم المنطقة الى «مشروع إليسار» لبناء المساكن الشعبية. لكن لم تُذكر هذه الغاية في قرارات لاحقة من «المجلس الأعلى للتنظيم المدني» لاستكمال الدراسة. وفي النهاية لم تصدر أي دراسة فعلية من جهات رسمية بينما قام وكلاء من شركة الوطى العقارية بمسح المنطقة لاحقاً. استطاع هؤلاء جمع معلومات مهمة من السكان وإقناع بعضهم ببيع أراض وبيوت، اي التخلي عن أوراق ثبوتية مهمة كانت بحوزتهم، وإن كانت تلك الأوراق غير رسمية، مقابل مبالغ زهيدة. حصل ذلك على أساس أن مشروع مساكن شعبية يجرى تخطيطه للمنطقة، وأن السكان سيحصلون على شقق مقابل أسعار مخفوضة.
يعتبر سكان الوطى أنهم تعرضوا للخداع، وقد جعل ذلك ممكناً هوية الإشخاص الذين أجروا المسوحات، إذ كان في طليعة المروّجين للمشروع الإسكاني المزعوم مسؤولون وقياديون في الحزب التقدمي الاشتراكي . شكّل هذا المسح أساس الدعوى القضائية التي رفعتها الشركة عام ٢٠١١ لإخلاء السكان. الإطار القانوني الحالي الذي يشجع على الاستثمار العقاري خلق تناقض بين مصالح أبناء الطائفة ومصالح المطورين/السياسيين الخاصة. نجم عن ذلك تغيّر مفاجئ في التعامل مع الأحياء الشعبية من قبل زعماء سياسيين يرافقه تغيّر في الخطاب عن أهلية وجود ذوي الدخل المحدود داخل المدينة.
- ١. محمد فواز، «لهذه الأسباب أصبحت المدينة متوحشة وبهذه الشروط نوقف التوحش»، النهار، ١٠ أيار ٢٠١٤
- ٢. E. Verdeil «Reconstructions manquées à Beyrouth : la poursuite de la guerre par le projet urbain» Les Annales de la Recherche Urbaine No.91 (January 91): pp.65-73
- ٣. Social and Economic Development Group Middle East and North Africa Region, «Real Estate Market Activity and Exposure of the Financial Sector in Lebanon» Document of the World Bank (15 June, 2010)
- ٤. المصدر: المركز العربي للمعلومات ١٨ نيسان ١٩٩٥
- ٥. في العام ١٩٧١، كان عدد السكان في المنازل المستأجرة في المدن الرئيسية حوالي ١٢٥٠٠٠ عائلة، مما يعني حوالي ٦٢٥٠٠٠ شخص، أي ما يمثل ٨٥ في المئة من سكان المدن. كان يقدر حينها أنّ ١٠ في المئة فقط من أصحاب الأملاك يعيشون في أملاكهم. خلال هذه الفترة، استخدم مصطلح «المستأجرين القدامى» للإشارة إلى العقود التي أبرمت قبل الاستقلال في ١٩٤٣، وقدر عدد هذه العقود بحوالي ٣٣ في المئة من مجموع المستأجرين. البقية، أي ٦٦ في المئة اعتبروا «مستأجرين جدد» مما يعطي فكرة عن الشريحة العمرية في مجموع «المستأجرين القدامى» اليوم.
- ٦. المطار، تطوير الطرقات، أجزاء من مرفأ بيروت.
- ٧. السفير، «عائلة عنتوري «ضحية» تلاعب قضائي بالسكن والعيش»، زينب ياغي - ٣١ أيار ٢٠١٤
- ٨. M. Khalek «Consolidation and Meanings of Housing A Case Study of The Wata Al-Mussaytbeh Informal Settlement» Thesis Master Urban Planning at AUB (2005)
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.