تحجّرت الدموع، حين تلقّيت مكالمة صباح يوم الأحد في 3 آب/أغسطس 2014 بأنّ عائلتي في مدينة رفح استهدفها صاروخان من طائرة الـ«إف 16». إنّه نصيب عائلتنا من الحرب التي لم تنته بعد، فلكلّ عائلة في قطاع غزّة نصيبها من الحزن والألم.
شقيق والدي، عمّي إسماعيل الغول لم يكن حماس، زوجته خضرة الغول لم تكن حماس، إبناهما وائل ومحمّد لم يكونا حماس، إبنتاهما هنادي وأسماء لم تكونا حماس، أطفال إبن عمّي وائل وهم مصطفى وملك وإسماعيل لم يكونوا حماس، كما لم يكن أيّ منهم من الجهاد أو الجبهة الشعبيّة أو فتح. كلّهم ماتوا بقصف إسرائيليّ استهدف منزلهم، عند الساعة السادسة والثلث صباح يوم الأحد.
يقع منزلهم في حيّ يبنا في مخيّم رفح. إنّه منزل أرضيّ سطحه مصنوع من الإسبست الرقيق، لم يكن يحتاج إلى صاروخي «إف 16» لتدميره. هل يقول أحدكم لإسرائيل أنّ منازل المخيّمات كان يكفيها قنبلة صغيرة لتدميرها وقتل أصحابها، وأنّها لا تحتاج أن تصرف المليارات لنسفها على ساكنيها؟
إذا كنتم تكرهون حماس، فمن تقتلوهم ليسوا حماس. إنّهم نساء وأطفال ورجال وكبار في السنّ كان همّهم أن تنتهي الحرب، ويتابعون حياتهم وتفاصيلها العاديّة. لكن أطمئنكم، أنتم تخلقون آلاف الحماس بل ملايين الحماس. كلّنا نصبح حماس إذا كان الأطفال والنساء والعائلات هم حماس، إذا كانت حماس عندكم هي المدنيّين والعائلات العاديّة، فأنا حماس وهم حماس وكلّنا حماس.
طوال الحرب، نقول أنّ هذا هو الأسوأ، وأنّها اللحظة الحاسمة، وما هو قادم أفضل. لن يقوموا بأكثر من هذا، فهذه لحظة الألم الحقيقيّة، لحظة الرعب القصوى، لكن يأتي دائماً ما هو أسوأ منها.
الآن عرفت لماذا صور الشهداء والجثامين مهمّة. ليست للرأي العام العالميّ، بل لنا نحن العائلات التي تبحث عن اللحظات الأخيرة لأحبّائها الذين ماتوا غدراً. ماذا كانوا يفعلون في تلك اللحظات؟! كيف يبدون؟!
رأيت صورهم على مواقع التواصل الاجتماعيّ. كان أطفال إبن عمّي في ثلاّجة مخصّصة للمثلّجات «الأيس كريم». فقد تمّ إغلاق مستشفى «أبو يوسف النجّار» الرئيسيّ في رفح بعد قصفه بقذائف الدبّابات، وأصبح المستشفى الكويتيّ الخاصّ الذي زرناه السبت في 2 آب/أغسطس2014، مقرّاً بديلاً، ولا توجد فيه سوى هذه ثلاجة.
يقول مدير مستشفى «أبو يوسف النجار» عبدالله شحادة: «بعد إطلاق القذائف على البوّابة الرئيسيّة، قرّرنا نقل المرضى، ومنهم من خرج يركض على قدميه على الرغم من خطورة الوضع الأمنيّ بسبب الخوف. والآن، نعمل من هذه المستشفى غير المجهّزة».
تحوّل المستشفى الإماراتيّ المخصّص للولادة غرب مدينة رفح إلى حاوية كبيرة للجثث، فثلاّجة الخضار والفواكه هناك أصبح فيها العشرات.
على أرض المستشفى الإماراتيّ، رأيت جثثاً ملقاة، بعضها يحمل إسماً مكتوباً على صدره والبعض الآخر لا يحمل، كما من غير الممكن احتمال الرائحة من دون أن تسدّ أنفك، والذباب في كلّ مكان.
خرج إبراهيم حماد (27عاماً) حاملاً جثّة إبنه أنس المكفنة (5 أعوام) من ثلاّجة الخضار، ويقول لـ«المونيتور»، وهو يغالب دموعه: «مات بسبب قصف صاروخ طائرة استطلاع. وقد كان جثمانه هنا منذ الأمس، وبسبب خطورة الوضع، جئت اليوم لأخذه».
أحمد الله أنّ أقاربي تمّ دفنهم سريعاً، ولم يبقى أطفال إبن عمي مصطفى وملك وإسماعيل طويلاً داخل ثلاّجة. كنت أخشى عليهم من التجمّد، ولكن أيّ تجمّد إذا كانت أرواحهم ترقد بسلام، ولم يبق لنا سوى صمت الموت وأجساد توقّفت عند لحظتها الأخيرة؟
لحظات الحياة والموت
في اليوم الخامس للحرب، حين ذهبت لأكتب تقريري في رفح عن قصف عائلة غنّام، مررت لزيارة بيت عمّي. رأيتهم والتقطنا الصور، وكانت أمل زوجة وائل إبن عمّي قد ولدت توأماً في الحرب هما مصطفى وإبراهيم. كانا ضئيلي الحجم، لكنّهما مثل ملاكين، شعرت أنّهما فسحة الأمل والنور.
لم أكن أعرف أنّه اللقاء الأخير. تمنّيت لو أنّني جلست أكثر وتحدّثت معهم أكثر. ضحكنا هنادي وأسماء وعمّي وزوجته وأنا. كانوا يتندّرون عن الصدفة التي جعلتنا نلتقي وسط الحرب، ولم يكن الاحتلال الإسرائيليّ وقتها قد بدأ جرائم حربه في رفح بهذه الكثافة.
غريبة هي النهايات، وغريبة كيف تتحوّل اللحظات الحيّة إلى ماضٍ. فلن نراهم بعد الآن، أصبحت هذه الصور التي التقطتها للتوأم غالية، فقد استشهد شقّ من التوأم وهو مصطفى وبقي إبراهيم.
أتساءل كيف عرفوا من هو مصطفى ومن هو إبراهيم؟ إنّهما متشابهان إلى درجة كبيرة. فمن تعرّف عليهما بعدما استشهد والدهما، وأصيبت والدتهما التي ترقد في العناية المركّزة؟ من هو مصطفى؟ ومن هو إبراهيم؟ ربما تبادلا الحياة والموت...
في صور موتهم الأخيرة، كانت عيونهم مغمّضة، كانوا نائمين ومسالمين. لم يشوّهوا، لم يحرقوا، كما فعلت هذه الأسلحة الأميركيّة مع مئات من جثث الأطفال والمدنيّين قبلهم.
كنّا نفكّر، هل شعروا بالألم؟ كيف كان وقع صاروخ الـ«إف 16» الذي يحمل أطنان المتفجّرات، حين وقع على المنزل البسيط ومزّق ضغط الهواء أعضاءهم الداخليّة؟ ربما كونهم نائمين خفّف من الألم.
حين ذهبت إلى رفح يوم السبت، لم أر أحداً منهم. كتبت عن مقتل عائلة عياد أبو طه بقصف الطائرات، ورأيت جثّة الطفل رزق أبو طه البالغ من العمر عاماً واحداً والتي جاءت للتوّ إلى المستشفى الكويتيّ.
نظرت إليه مطوّلاً، يبدو كأنّه حيّ. تستطيع أن ترى أنّه كان يلعب قبل لحظات، متأنّقاً بسرواله الزهريّ. كيف من الممكن أن يهدأ إلى هذا الحدّ؟ إنّ جثامين ضحايا الحرب تختلف عن التلفاز. إنّها حقيقيّة جدّاً، وحاسمة جدّاً. تراها من دون مقدّمة إخباريّة، ومن دون موسيقى ومن دون شعارات...
الجثث ممدّدة في كلّ مكان، كأنّ كلّ شيء في الحياة كان ينتظر هذه اللحظة. فجأة، تصبح الحياة الشخصيّة خلف الموتى: الهاتف النقّال، والمنزل، والملابس، وعطرك وحمّامك اليوميّ. والأهمّ، يصبح الخوف من الحرب ماضياً.
تباعدت المسافات بين أنحاء قطاع غزّة الصغير، أصبح الخوف والموت يضاعفان من طولها، كما يضاعفان من طول الوقت، ولكنّهما يقلّلان من أعمار ساكنيها. لذلك، لم نستطع مشاركة بقيّة أفراد العائلة الجنازة. يقول لي خالي أحمد الغول عبر الهاتف: «الجميع ودّعهم لثوانٍ بسبب الخطر المحيط، رأيت عيون الطفلة ملك مفتوحة وكأنّها تسألني ما ذنبي أنا؟»
في ذلك البيت في مخيّم رفح، ولدت عام 1982 حيث كان بيت العائلة الكبير. كبرت هناك وكبر معنا كلّ شيء، الانتفاضة الأولى، والمقاومة، ومدرستي القريبة التي كنت أذهب إليها مشيًاً على الأقدام... هناك، رأيت المكتبة الأولى للكتب، وكنت أرى جدّي ينام على صوت أخبار الـBBC. هناك، وعيت على الجندي الإسرائيليّ الأوّل، وكان يضرب جدّي ليجبره على محو الشعارات الوطنيّة عن جدار المنزل في المخيّم.
والآن، نهاية المكان والذكرى حين يلقى بالأطفال إلى القبور باكراً، وتقصف المنازل ومعها الذكريات، ليرجع المواطنون إلى عهدهم الأوّل من التشرّد والضياع، وكذلك المخيّم. لا تسألوني بعد اليوم عن السلام.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.