قد يكون تكتل «سيريزا» اليساري اليوناني المجموعة السياسية الأبرز اليوم على الساحة، في هذا البلد المثقل بالديون والمشاكل. رأى «سيريزا» الضوء في ٢٠٠٤، كجبهة للأحزاب والمنظمات اليسارية، وبحلول انتخابات ٢٠١٢ التشريعية كان قد أصبح يضم ١٢ منظمة. هو يضم في صفوفه ناشطين لم يعودوا يتماهون مع اليسار التقليدي. و«سيريزا» هو اختصار لـ«تعاون اليسار الراديكالي». مرّ الائتلاف بأزمات عدّة بعد الانتخابات التشريعية في ٢٠٠٤، وعانى بضعة انشقاقات. لم يكن أحد يتوقع بعد ذلك أن يكون مفاجأة انتخابات ٢٠٠٧ حين نال ٥.٠٤ في المئة من الأصوات. وفي أول انتخابات داخل الائتلاف بعد ذلك، انتخب اليكسيس تسيبراس الذي كان مستشاراً في بلدية أثينا، رئيساً. ربما كان ذلك نقطة التغيير الكبيرة؛ إذ استطاع تسيبراس أن يبني شعبية كبيرة له بين الناخبين؛ لأنه لم يكن نائباً حتى في ذلك الوقت، ما جعله نظيفاً بنظر الناس، في زمن الفضائح المالية المتكررة. هكذا استطاع أن يصل بسهولة إلى البرلمان في انتخابات ٢٠٠٩ المبكرة، رغم تراجع حصة الائتلاف إلى ٤.٧ في المئة من الأصوات على المستوى الوطني. «سيريزا» أصبح اليوم حزباً، أكثر من كونه ائتلاف أحزاب يضم ١٣ فصيلاً شيوعياً مختلفاً، وتقدم إلى انتخابات أيار وحزيران ٢٠١٢ وفق هذا التوصيف (على أمل الحصول على «منحة» الخمسين نائباً إضافياً التي يمنحها القانون للرابح الأول في الانتخابات إن حصل على ثلث الأصوات). وهو يعبّر عن هذه الأحزاب التي يتألف منها، وتشمل أطياف اليسار كلها: من الخضر وأنصار البيئة، إلى الماويين، والتروتسكيين، واليسار الأوروبي، واليسار الراديكالي، ويتكلم باسم أطياف اليسار كلها. وتشير الأرقام بوضوح إلى التقدم الكبير الذي حققه «سيريزا» بين ١٦.٧٨ في المئة في انتخابات أيار ٢٠١٢، و ٢٦.٨٩ في المئة في حزيران ٢٠١٢، محققاً المركز الثاني في المرتين، ومتفوقاً على الاشتراكيين، والحزب الشيوعي الرسمي الذي يتخذ موقفاً عدائياً من تسيبراس وحزبه؛ إذ رفضت الأمينة العامة للحزب اليكا باباريغا حتى اللقاء بتسيبراس حين كلفه الرئيس اليوناني كارولوس بابولياس بمحاولة تشكيل الحكومة في ايار ٢٠١٢، وفكر بجمع اليسار كله في حكومة تناهض المساعدات الأوروبية.
إزاحة الحزب الشيوعي عن عرشه
استطاع «سيريزا» أن يتفوّق على الحزب الشيوعي اليوناني في معركة الحصول على أصوات اليسار (وغير اليسار، وخصوصاً بين الشباب والمترددين والمتضررين من الأزمة ومن حزم الإنقاذ والتقشف) بسبب قيادته الشابة وعدم انحصار نظرته بالداخل اليوناني فقط، وذلك رغم أنّ الاثنين يعارضان حزمة التقشف والسياسات المفروضة أوروبياً. وفيما يحافظ الحزب الشيوعي على قاعدته الانتخابية نسبياً، يخترق «سيريزا» صفوف مجموعات سكانية وشعبية جديدة في كل استحقاق انتخابي. وناخبو «سيريزا» هم من الشباب بأغلبهم، وهذا كان واضحاً في انتخابات ١٧ حزيران ٢٠١٢؛ إذ أظهرت الأرقام أنّ نسبة المقترعين للأحزاب التي تؤيد خطة الإنقاذ الأوروبية كانت مؤلفة بشكل ساحق من الكبار في السنّ، والمتقاعدين، وأصحاب الأعمال، الذين يأملون أن تأتي حكومة تنفّذ الإملاءات الأوروبية وتنقذهم، فيما صوّتت أغلبية شبابية لـ«سيريزا».
هذه النتائج والإحصاءات الانتخابية قد تكون مؤشراً على دور كبير قد يؤديه الحزب، بوصفه ممثلاً للشيوعيين واليسار الراديكالي في مستقبل اليونان، وخصوصاً أنّ تسيبراس وحزبه أصبحا اليوم يتزعمان المعارضة رسمياً؛ فالأزمات المالية المتلاحقة والسياسات النيوليبرالية التي تريد الترويكا الأوروبية فرضها على أثينا وإجبارها على تطبيقها، قد تدفع المزيد من الناخبين إلى حضن «سيريزا»
ومنذ بداياته، بدا أنّ التكتل يعبّر عن رغبة جزء كبير من المجتمع اليوناني في نضال مشترك لليسار. وفيما يميل الجزء الأكبر من منظمات التكتل إلى الشيوعية الأوروبية، تميل بعض أحزابه إلى الشيوعية اليونانية وتيار المقاومة الوطنية. وتميّز التكتل منذ بداياته بتركيزه على قضايا الديمقراطية، والحقوق المدنية، وكان القوة السياسية الوحيدة التي ساندت التحركات الاجتماعية، لدرجة اتهامه بالترويج للفوضى. كان ذلك في السنوات الثلاث الأخيرة، وكذلك في انتفاضة الشباب في ٢٠٠٨.
بعد مؤتمر ٢٠١٣، أصبح «سيريزا» حزباً موحداً، وهو في طور بناء بنية موحدة. ذلك أن الهدف الأبرز الذي وضعه «سيريزا» نصب عينيه هو «قلب ميزان القوى النيوليبرالية وتشكيل حكومة تعاون يساري وتحالف اجتماعي واسع، وعودة الديمقراطية، ومساعدة الناس الذين تأثروا بالأزمة والإجراءات القاسية، ووضع خطة إعادة بناء». وإعادة البناء هي لما أطاحته الإجراءات التي فرضها صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي بمساعدة الحكومات اليونانية. وقد أدت هذه الإجراءات إلى تدمير الاقتصاد والناس، وهي تضمنت إغلاق المستشفيات العامة والمدارس، وفرض ضرائب جديدة، وخفض المعاشات التقاعدية، وصرف موظفين من القطاع العام وبيع مؤسسات الدولة. في الوقت نفسه، تم تحقيق ذلك بطرق غير ديمقراطية، ليس من خلال قمع الناس فقط، ولكن أيضاً من خلال تخطي البرلمان في تنفيذ هذه الإجراءات.
القاعدة الاجتماعية لسيريزا
استطاع التكتل اليساري في انتخابات ٢٠١٢ أن ينال أعلى نسبة أصوات في منطقة كوكينيا الفقيرة التي كانت لعقود معقل الحزب الشيوعي اليوناني. لقد أدى إغلاق مصانع بناء السفن في هذه المنطقة إلى على نسبة بطالة. وخلال خطاب ألقاه قائد التكتل الكسيس تسيبراس في المنطقة في حزيران ٢٠١٣، كان الحشد هائلاً. لكن القسم الأكبر من القاعدة الشعبية للتكتل هو الشباب المتعلم (وفي بعض المدن تصل نسبة التأييد بين الفئة العمرية ١٨ – ٤٠ إلى ٩٥ في المئة)، وهي الطبقة الوسطى الشابة التي لا ترى أي مستقبل لها في ظل الأوضاع السائدة. لكن رغم هذا التأييد، فإن هاتين الطبقتين، أي الفقراء والطبقة الوسطى الشابة، تترددان في الانخراط في صفوف التكتل والعمل في لجانه المحلية. الفاعلون داخل التكتل كان أغلبهم ناشطين سابقين في أحزاب أخرى وفي الفئة العمرية بين أربعين وستين عاماً. الشباب الذين انتفضوا وأصبح لديهم وعي سياسي متقدم، يرون أن سيريزا هو الأمل، لكنهم لا ينتسبون إليه. يشكل ذلك تحدياً لمقاربة سيريزا الذي لا يزال دون التوقعات. ولا يمكن القدرة الخطابية الهائلة التي يتمتع بها قائد التكتل وفاعليته أن تغطي على هذا النقص. كذلك إن الابتعاد عن الاتحادات العمالية لا يساعد، حتى لو كانت الثقة ببعض هذه الاتحادات منعدمة داخل الأحزاب، ومن ضمنها سيريزا.
في أيام الإفقار السريع لليونانيين، يؤدي أعضاء سيريزا دوراً مهماً في شبكات التعاضد والحفاظ على استقلالية هذه الشبكات في الوقت نفسه. وهذه الشبكات هي بنى تشاركية تساعد بشكل أساسي في توفير الطعام والدواء لعدد متزايد من المحرومين. وإلى جانب هذه الشبكات، هناك العديد من المبادرات مثل «من دون وسطاء» التي تربط بين منتجي السلع الزراعية والمستهلكين، وتدعم بالتالي الطرفين. وثمة حركات أخرى تعيد وصل الكهرباء بعد أن تقطعها الشركة لعدم دفع العائلات الفقيرة الفاتورة. هنا يجب التشديد على الموقف من حزب «الفجر الذهبي» الذي يعبّر عن أيديولوجية النازية الجديدة. ففيما يحاول سيريزا الإشارة إلى دور الحزب النازي في مساندة النظام القائم وإعادة إنتاجه، إلا أنه لا يحاول تركيز جهوده على معاداته، لكنه يشدد على أنه لا يمكن هزيمة الحزب إلا من خلال الخروج من الأزمة.
العامل الجيوسياسي، إضعاف اليونان، دقة التطورات في المنطقة، كلها عوامل لا يجري التطرق إليها كثيراً في التكتل. لكن ربما في موقف مهمّ، استضاف التكتل زعيم «الجبهة الشعبية لتحقيق أهداف الثورة في تونس» حمّة الهمامي في تموز الماضي، في مهرجان المقاومة في أثينا الذي تحدث خلاله تسيبراس عن الحاجة لقيام جبهة لشعوب المتوسط، وهي فكرة تبدو يوماً بعد يوم ضرورية وممكنة التحقيق.
هاجم تسيبراس الطبقة اليونانية الحاكمة، والترويكا الأوروبية التي تتحكم بمصير اليونان. في خطاب ألقاه في مؤتمر الحزب في ربيع ٢٠١٣، وقال إنّ الحكومة الجديدة التي تم تشكيلها بداية العام أتت لتكمل الكارثة على الشعب. كيف لا وهي تنفّذ أوامر من تدين لهم اليونان بالمال وانجيلا ميركل، على حد تعبيره. لكنه أضاف أنّ الوقت ليس مناسباً للبكاء على الأطلال، بل للتحرك والمقاومة قبل أن تدمّر البلاد بأكملها. واستغل المناسبة لتوجيه نداء للأمة جمعاء باسم سيريزا، قال فيه إنّ الوقت حان لتحقيق الديمقراطية للتخلص «ممن يدّعون حمايتنا» والتأسيس لرؤية توحّد أغلبية الشعب كي تصبح اليونان حرة وديمقراطية وتحافظ على أولادها. وأضاف: «نحن في كفاح لا هوادة فيه ضد الاستبداد، والقمع، والانتهاكات الدستورية، ونريد تحقيق الخلاص وإعادة بناء اليونان من دون مصالح النيوليبرالية وخططها وفسادها وزبائنيتها ووحشيتها».
يبقى «سيريزا» ظاهرة متناقضة، ليس بسبب التيارات المختلفة التي يضمها تحت عباءته، بل بسبب مواقفه وإصراره على تحقيق التغيير الاجتماعي، وهي مواقف متداخلة مع الخوف من القدرة على إدارة الديمقراطية الاشتراكية، والدعوات إلى الاشتراكية.
ملصق لحزب سيريزا للانتخابات العامة في ٢٠١٢: «رسائل النصر من كل مكان! سيريزا».
«ديمقراطية - اشتراكية - حرية».
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.