لم تزل معارك التغيير في مصر مستمرة، ولم تزل كل الخيارات مطروحة وجميع البدائل ممكنة، رغم مرور أكثر من سنتين على خلع الرئيس مبارك، والمعارك الدائرة من التنوع والتعقيد بحيث تستحق بعض التأمل لفكّ تشابكاتها، وهو ما تهدف إليه هذه الورقة، التي تنظر إلى المعارك كتجليات لأزمة الشرعية التي تعانيها الدولة، بعدما أعادت الثورة الجماهير فاعلاً رئيسياً قادراً على مواجهتها، وإصابتها -ي بمؤسسات الهيمنة والقيادة١ فيها - بشروخ عميقة جعلت تحديها ممكناً، ويتجلى هذا التحدي في تآكل شرعية الأنماط المفروضة في إدارة المجتمع بأبعاده المختلفة.
وتذهب الورقة إلى أنّ الدولة المصرية الحديثة، منذ نشأتها إبان حكم محمد علي، قد سلكت مسارات التمصير والتحديث والدولنة، وأنّ هذه المسارات ظلت حاكمة حتى اندلاع الثورة، التي هددت أنماط الشرعية القائمة على نحو يتجلى في ثلاث قضايا رئيسية، هي علاقة الدولة بالمجتمع، وتعريفها للدين وتنظيمها لعلاقتها به، وتعريفها للاقتصاد وتنظيمها إياه، وأنّ المتغيرات في هذه القضايا هي المرايا الأكثر صدقاً في عكس مسارات التغيير في مصر.
فـ«الدولة المصرية»، التي بدأت في التشكل مع وصول محمد علي إلى الحكم في ١٨٠٥، كانت أسبق في الوجود من «الأمة المصرية»، كما هي الحال في العديد من دول العالم الثالث، بل كان لها الفضل في صناعة الهوية المصرية، وذلك بوسائل عدة، منها «الوظائف الاقتصادية الضريبية للدولة وتخصيصها للموارد وتوظيف الناس في صفوفها المتضخمة، ويستكمل ذلك بنظام تعليم قومي ينتج كفاءات للتوظيف، وحقل ثقافي من وسائل الإعلام يعمل بلغة قومية معيارية»٢، وكانت عملية إعادة صناعة الهوية والأمة سبباً في تهميش الوجود الذاتي لأشكال التنظيم الاجتماعي المتداخل السابق على الدولة، وصعود الانتماء إلى تلك الدولة - تدريجياً - كهوية مطلقة، وصناعة جماعة وطنية على هذا الأساس، نخبتها تتشكل من خليط من المنتمين إلى الجماعات الفرعية التقليدية المختلفة (الجغرافية والوظيفية والطبقية وغيرها)، بعد أن يعاد تصنيعهم في مؤسساتها.
وصناعة الدولة بهذه الطريقة قوبلت بمقاومة مجتمعية، تحاول الحفاظ على الهويات والأنماط الاجتماعية والثقافية المتوارثة (وإن كان وجود تمثيل متخيل للفئات المختلفة على رأس الدولة يخفف منها)، غير أنها استبطنت - عبر الزمن - أساليب الدولة ومنطقها، إذ «بمجرد أن تؤسس الدولة أشكالاً للحكم من خلال تكنولوجيات الكتابة، تكون قد أسست في الوقت نفسه إمكانية أشكال التزوير والتقليد والمحاكاة لأداء قوتها»٣، أي إنها تضع الأنماط والأسس الحاكمة لمعارضتها والخروج عليها، التي تأتي في طبقات متعددة، إذا نُزع أحدها وجد الذي يليه، وتصير جل أشكال المعارضة بذلك إشارة إلى الوقوع تحت سلطان الدولة، ومن ثم تساهم في إضفاء المزيد من الشرعية عليها. غير أن التآكل الكبير للدولة وقت الثورة فتح آفاقاً واسعة لإعادة تعريف الشرعية وفق معايير غير قانونية (مستمدة من تصورات لقيم دينية أو إنسانية متجاوزة)، فأسّس ذلك لشرعية الخروج على الشرعية، ويبقى الصراع محتدماً بين شرعية القانون والشرعية غير القانونية لحين الوصول إلى نقطة توازن.
من المجتمع إلى الدولة
كان تنظيم شؤون الأفراد قبل وصول محمد علي إلى الحكم يتم بالأساس من خلال المؤسسات الأهلية، أهمها الطرق الصوفية، وعلماء الأزهر، وشيوخ الحرفيين، والأوقاف، والكنيسة الأرثوذكسية، ونظم العمد والمشايخ، والمساجد، وكانت العلاقات بين هذه المؤسسات متشابكة؛ إذ كان الأزهر «مؤسسة صوفية» بسبب انتماء طلابه وشيوخه إلى الطرق، واستندت كلتا المؤسستين، الأزهرية والصوفية، إلى مؤسسة الوقف لتمويل أنشطتهما، وتعاظمت الروابط بين الطرق الصوفية والنقابات، فأنشئت - على سبيل المثال - طرق صوفية للجزارين والنحاسين، وتقاطعت هذه المؤسسات جميعاً في مواقعها الجغرافية بالمؤسسات المحلية، كالعمد والمساجد، فتداخلت بوظائفها المختلفة «لتحقيق غايات الجماعة في شؤونها المتعددة والمتنوعة والمتداخلة»، وكانت حركة المجتمع ناتجة من مجمل هذه التداخلات، بمعنى أنّ تأثير الدولة كان محدوداً، وكانت المؤسسات الأهلية هي الفاعل الرئيسي في حركة المجتمع.
وشُغل علي - إبان وصوله إلى السلطة - بتأمين حكمه من طريق إنشاء دولة قوية، فأمّم الأراضي الزراعية من المماليك، وأدخل العديد من الصناعات المملوكة للدولة، وأنشأ نظاماً للتعليم الحديث لتوفير الكوادر المطلوبة لإدارة البيروقراطية، وأنشأ جيشاً محترفاً، بلغ نصيبه ما يراوح بين ٪٣٣ و٪٦٠ من الإنفاق السنوي في الفترة بين ١٨٠٥ و٤١٨٤٧، وكانت بيروقراطية علي وجيشه نواة الدولة المصرية الحديثة، وفيهما تشكلت الهوية، ومن خلالهما أعيد تشكيل نمط العلاقات والإدارة كنتيجة للمسارات التي سلكها علي ومن جاء بعده.
سلك محمد علي وخلفاؤه ثلاثة مسارات متوازية، أولها مسار التمصير، الذي بدأ سنة ١٨٢٢ بانضمام أربعة آلاف من المصريين المسلمين إلى الجيش٥، قبل أن يجنّد خلفه سعيد الأقباط٦، ثم إلغاء الجزية واستبدال التجنيد الإجباري للمصريين - بقطع النظر عن الدين - بها سنة ١٨٥٥٧، و«تمصير القضاء الشرعي» بتعيين القضاة من قبل الوالي بدل الخليفة العثماني في نفس السنة٨، وتعريب رفاعة الطهطاوي صحيفة «الوقائع المصرية» عند توليه إدارتها، بعدما كانت التركية لغتها الرئيسية٩، وإنشاء أول مجلس نيابي مصري - وإن بغير سلطات تشريعية جادة - سنة ١٨٦٦، وتحول اللغة العربية للغة الرسمية للمخاطبات الحكومية سنة ١٨٦٩، وتعيين قضاة من الأقباط في المحاكم خلال حكم الخديوي إسماعيل، بالتزامن مع إنشاء المحاكم الحديثة، بحيث «صار قضاءً مصرياً يخضع له المصريون عامة على أساس الجامعة الوطنية»١٠، وإنشاء الحزب الوطني الأهلي في ١٨٧٩ على أرضية مصرية، داعياً «من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها (أن) ينضم لهذا الحزب فإنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات»١١، وتجلى ذلك بشكل أكثر وضوحاً في أعقاب ثورة ١٩١٩، بقانون منع تملك الأجانب للأراضي١٢، وكذا إنشاء بنك مصر سنة ١٩٢٠ (لتمويل الأنشطة الصناعة)، واتحاد الصناعات بالقطر المصري، الذي ضم ٩٠ عضواً برؤوس أموال بلغت ٤٠ مليون جنيه، يستخدمون ١٥٠ ألف عامل ٪٩٧ منهم مصريون١٣.
ثاني المسارات المُشكلة لمصر القرنين السابقين كان التحديث، أي الإدارة الحديثة للمجتمع والاقتصاد، والقائمة على أن تقتحم الدولة «المجتمع وتنظم العلاقات الاجتماعية وتستخرج الموارد وتستخدمها بطريقة محددة سلفاً»١٤، وقد ظهر ذلك في سيطرة الدولة على الموارد الاقتصادية، وتأميم الأراضي الزراعية (إلا ما كان مملوكاً لأسرة علي)، وإنشائها مشروعات للري ضاعفت مساحة الأراضي الزراعية، وفرضها محاصيل بعينها على المزارعين، اشترتها منهم بأسعار منخفضة، ثم أعادت بيعها في السوق المحلي أو الخارجي١٥، ثم اهتمامها بـ«تشجيع التصدير وبناء البنية التحتية اللازمة لتعظيم إنتاج القطن»١٦، واستقدام العبيد للمشاركة في الأنشطة الزراعية١٧، واستخدام عوائد التصدير في البنية التحتية، على نحو أدى إلى تزايد الوجود الأجنبي والربط بالاقتصاد العالمي؛ إذ نجحت بريطانيا في الحصول على مشروع السكة الحديد بين الإسكندرية والسويس بمباركة الوالي عباس حلمي١٨، ثم استخدم الخديوي إسماعيل عوائد التصدير في مشروع تحديث القاهرة على النمط الفرنسي، في إطار ما يذهب بعض الكتّاب إلى كونه محاولة أعمّ لتغيير «نمط حياة الإنسان المصري... غيّر التقويم من الهجري إلى الميلادي، وغيّر الساعة من العربي إلى الإفرنجي، وغيّر الأزياء، وغيّر نمط المعيشة»١٩، وقد تجلى التحديث كذلك في «قوانين الفلاح» التي صدرت وقت محمد علي، والتي أحالت الفلاحين إلى وسائل إنتاج، ومنعتهم من التصرف في إنتاج الأراضي الزراعي على النحو الذي يرغبون.
أما ثالث المسارات فكان الدولنة، أي سطو الدولة على المؤسسات الأهلية التي مكنت المجتمع من التنظيم الذاتي لشؤونه، إذ رأت فيها الدولة تهديداً لسيادتها، فأخذت في بسط نفوذها التدريجي عليها، حتى صارت تبعاً لها، كما حدث مع الأوقاف (بإنشاء ديوان عمومي للأوقاف سنة ١٨٣٥م، ثم منع إنشاء الأوقاف الجديدة سنة ١٨٤٦م، وإلغاء الديوان ثم إعادته سنة ١٨٥١، وتحويله الى نظارة سنة ١٨٧٨، وعودته ديواناً سنة ١٨٨٤، ثم وزارة سنة ١٩١٣، ثم تحول التدخل لـ«مصارف» الأوقاف، بقانون رقم ٤٨ لسنة ١٩٤٦ الذي سمح بإلغاء الأوقاف القائمة، ثم القانون ٥٤٧ لسنة ١٩٥٣ الذي قصر النظارة على الدولة وانتزعها من باقي النظار إلا لو كان الواقف هو نفس الناظر، ثم القانون ٣٠ لسنة ١٩٥٧)، والطرق الصوفية (بإصدار فرمانات اعتماد شيخ مشايخ الطرق، ثم تدخل الدولة لـ»تحديد مجالات السلطة لكل من شيخ السجادة البكرية وشيخ الأزهر»، ثم إصدار لائحة الطرق الصوفية في ١٨٩٥م، فلائحة ١٩٠٣م، وتعديلاتها ١٩٠٥م، وصولاً للقانون ١١٨ لسنة ١٩٧٦)٢٠، والأزهر الشريف (بتعيين شيخه بعد وفاة الشيخ إبراهيم الباجوري سنة ١٨٦٠م، فالتنظيم القانوني لطريقة الحصول على العالمية وموادها في ١٨٧٢، فالتحديد القانوني لمؤهلات المدرس الأزهري في ١٨٨٥، فتأليف مجلس عالٍ لإدارة الأزهر ١٩٠٨، فتحديد اختصاص شيخ الأزهر في ١٩١١، فتحديد نظم التعليم في الأزهر سنة ١٩٣٠، وإعطاء الملك حق تعيين وعزل القادة الدينيين في دستوري ١٩٢٣ و١٩٣٠، ووصولاً لقانون ١٠٣ لسنة ١٩٦١ الذي أحال الأزهر جامعة حكومية وشيخه موظفاً تابعاً للدولة)، ونقابات الحرفيين (احتكار الدولة للخامات والتسويق، ثم جمع الحرفيين للعمل بالجبر في المصانع الحربية، ثم إلغاء صلاحيات شيوخ الحرف في جمع الضرائب والقضاء والتأديب رسمياً في عهد سعيد)، ولم يكن الوضع مغايراً في ما يتعلق بنظام العمد وغيره من التنظيمات الاجتماعية، فكانت المحصلة النهائية أن قامت الدولة بتصفية «مؤسسات المجتمع التقليدية، ليس لإحلال المؤسسات الأهلية الشعبية الجديدة محلها، ولكن لإحلال السيطرة المركزية للدولة الحديثة محلها، وهي التي قضت تباعاً على التكوينات الأهلية التقليدية، لا لتفسح لتكوينات شعبية أهلية أحدث وأكفأ من حيث الإدارة اللامركزية واتخاذ القرارات الذاتية، ولكنها قضت على القديم لتنهي الوجود الذاتي لمؤسسات تعتمد على فكر وأعراف وصلات اجتماعية راسخة، ولتنشئ واجهات مؤسسات حديثة تنشأ وتعمل تحت الهيمنة السيادية لجهاز الدولة القابض»٢١.
كانت ثورة يوليو تجلياً لهذه المسارات الثلاثة؛ قادها أبناء الدولة من العسكريين، وتشابكت فيها مسارات التمصير والدولنة والتحديث في إجراءات مثل إلغاء المحاكم الشرعية ١٩٥٥، وإلغاء الأحزاب السياسية، ووضع الأوقاف الخيرية تحت سيطرة وزارة الأوقاف، وتوكيد إخضاع الأزهر لسلطان الدولة. أما أهم التجليات، فكانت في البنية الاقتصادية والاجتماعية، إذ فرضت الدولة قيوداً على تملك الأراضي الزراعية، وفرضت ضرائب على القطاع الزراعي بغرض استثمارها في أنشطة صناعية٢٢، وبدأت بإسهام متواضع للقطاع العام في الناتج القومي لم يتجاوز ٪٢٣١٣، قبل موجة التأميمات التي بدأت سنة ١٩٥٦ (مدفوعة بالصراع السياسي لتمويل بناء السد العالي، وشملت جل الأصول الفرنسية والبريطانية في أعقاب العدوان الثلاثي) وتنامت لتوجد قطاعاً عاما ضخماً في الستينيات٢٤، وحاولت الدولة تعميق الاستقلال الاقتصادي عن الخارج بالاستثمار في صناعات كالنسيج لتقليل الاستيراد وربط ذلك بزراعة القطن وتطوير صناعات الحديد٢٥، وأوجد ذلك حاجة لتضخم الجهاز الإداري المسؤول عن إدارة القطاع العام، فصارت أكثر من نصف القوى العاملة في غير الزراعة موظفة حكومياً٢٦، ولجأت مصر للاقتصاد المخطط مركزياً، وضعت أولى خططه سنة ١٩٥٧ ورفعت الاستثمار في ثلاث سنوات من مليونَي جنيه إلى ٤٩.٣ مليوناً سنة ١٩٦٠، وتضخمت في الفترة ذاتها القوى العاملة بنسبة ٪٨.٥ سنوياً، وتضاعف الاستثمار في الصناعة بنسبة ٪٨٢ خلال عشر سنوات، كان التركيز خلالها على الصناعات الثقيلة كالحديد والأسمنت والأسمدة٢٧.
كانت الثمرة الأهم للحقبة الناصرية الحراك الاجتماعي؛ إذ اتسع نطاق التعليم بزيادة عدد الطلبة المقيدين بالمدارس بمعدل ٪١٤ سنوياً بين ١٩٥٢ و٢٨١٩٧٦، وارتفعت نسبة القيد في الجامعات بمعدل ٪٣٢ سنوياً في الفترة ذاتها، وانخفضت نسبة فقراء الريف من ٪٣٥ في ١٩٥٨ إلى ٪٢٧ في ١٩٦٤، وانخفضت نسبة فقراء الحضر من ٪٣٠ إلى ٪٢٧.٨ في الفترة ذاتها، وزادت نسبة الأجور إلى إجمالي الدخل من ٪٣٨ في ١٩٥٠ إلى ٪٥٠ سنة ٢٩١٩٦٧.
من حكم الدولة الى لتحكم السوق
وصلت الدولة المصرية الى أوج سلطانها في الحقبة الناصرية، ثم بدأت في التراجع، لا لمصلحة المجتمع الذي سطت عليه، بل لصالح السوق الذي فككت المؤسسات المقاومة له (سواء التنظيمات النقابية أو المؤسسات الأهلية الحادة من أثره المجتمعي)، فلم يحتج الرئيس السادات بعد وصوله إلى الحكم إلا لأشهر ليعيد توجيه الاقتصاد بعيداً عن سياسات الاكتفاء الذاتي، محاولاً إعادة ربط مصر بالنظام العالمي من خلال سياسات الانفتاح، فحفز الاستثمار الأجنبي وعظم من شأن القطاع الخاص في إدارة المشروعات التنموية، وأمنه ضد التأميم، وأعفاه من قوانين العمل الناصة على وجوب تثبيت العمال وتمثيلهم في الإدارة ومشاركتهم الأرباح٣٠، واتجه الاقتصاد في مجمله للنشاط الريعي لا الإنتاجي، معتمداً على الطفرة في أسعار البترول التي أدت إلى زيادة العوائد (من ١٨٧ مليون دولار سنة ١٩٧٤ إلى ٣٣٢٩ مليوناً في ١٩٨١)، وتحويلات العاملين بالخارج (من ١٨٩ مليون دولار في ١٩٧٤ إلى ٢٨٥٥ في ١٩٨٠)، وعلى انتهاء أجواء الحرب، التي أدت إلى زيادة عوائد قناة السويس (من ٨٥ مليون دولار سنة ١٩٧٥ إلى ٩٠٩ ملايين سنة ١٩٨١) والسياحة (من ٢٦٥ مليون دولار سنة ١٩٧٥ إلى ٦١١ مليوناً سنة ١٩٨١)، وقد ترجمت هذه الزيادات في الدخل لمؤشرات إيجابية في النمو السنوي للاقتصاد (راوحت بين ٪٨ و٪٢١.٥ بين سنتي ١٩٧٥ و١٩٨١)٣١. إلا أن تحكم السوق أدى إلى أدواء اقتصادية واجتماعية جسيمة، فتركزت استثمارات القطاع الخاص في الأنشطة غير الإنتاجية، كالإسكان المتميز، والمضاربة في الأراضي، واستيراد سلع الرفاهية على نحو غير مسبوق٣٢، وأدى إغفال الأنشطة التشغيلية لزيادة معدلات هدم فرص العمل عن معدلات صناعتها٣٣، ومن ثم زيادة معدلات البطالة من ٪٤.٣ في ١٩٧٦ إلى ٪١١ في ٣٤١٩٨٦، وتراجع متوسط الأجر الأسبوعي الحقيقي للعامل من ٧٠ دولاراً سنة ١٩٨٠ إلى ١١ دولاراً سنة ٣٥١٩٩١.
سلمت الدولة المجتمع للسوق، فبدأت في التخلي عن مسؤولياتها الاجتماعية (أولاً برفع الدعم، من طريق الصدمة التي ولدت أحداث يناير ١٩٧٧، ثم من طريق استراتيجية بديلة تقوم على الانسحاب التدريجي)، مع استمرار فرض قيود على التنظيمات العمالية (كالنقابات) واستعمال القانون لإيجاد الظرف الممكن لرأس المال، وتمت «معاملة العمالة والبيئة (التشريعية والاقتصادية) كمحض سلع»٣٦ يتم توظيفها لمصلحة تلك المنظومة، وانسحبت الدولة من قطاعات الصحة، والتعليم، والخدمات الاجتماعية، وكان من آثار ذلك على سبيل المثال بقاء ٪٤٤ من المصريين أميين٣٧، رغم مرور أكثر من ٦٠ سنة على سياسات عبد الناصر الرامية إلى دمقرطة التعليم، وبقي ٪١٣ من المصريين محرومين مياه الشرب الصحية في ١٩٩٨، و٪١٢ منهم محرومين خدمات الصرف الصحي٣٨، وكذا كان الحال في ما يتعلق بالغذاء (الذي انخفض دعمه خلال سنوات حكم مبارك بنسبة ٪٥٠)٣٩ والإسكان وغيرها من الوظائف الاجتماعية للدولة، أي إن المواطن لم يعد هدف عملية التنمية، بل وقودها إنتاجاً واستهلاكاً، وكان الإنجاز في ما يتعلق بالتنمية الإنسانية «فقيراً»؛ إذ تراجع إجمالي الاستثمار في التنمية الإنسانية (خلافاً لباقي المنطقة) ليصل إلى ٪٤.١ من إجمالي الميزانية في ١٩٩١/٤٠١٩٩٢.
بدا تمكين السوق الخيار الأوحد المقبول من السلطة في سنوات مبارك، فكانت الاستجابة للأزمة الاقتصادية الطاحنة مطلع التسعينيات تسليم السوق زمام الأمور بالكلية، وفق برنامج دولي يقوم على «زيادة استقلال شركات القطاع العام، وإغلاق بعض الشركات الخاسرة منها، وخصخصة الشركات الأخرى» مع رأس المال وزيادة الاستثمار في القطاع الخاص٤١، وتوازى ذلك مع تقييد قدرة البيروقراطية على المقاومة بحزمة من القوانين مكنت من تطويع البيروقراطية، كالقانون ٢٠٣ لسنة ١٩٩١ الذي حول «المؤسسات المشرفة على (شركات القطاع العام) الإنتاجية إلى شركات قابضة، ومنحها شكل الشركة، ثم جمع كل هذه الشركات من جميع أنواعها وتخصصاتها... تحت إمرة وزير واحد»، والقوانين ٢٣ لسنة ١٩٩٤ و٢٠ لسنة ١٩٩٨ التي انتقصت من مهنية جهاز الشرطة وجعلت استمرار الشرطي في وظيفته معتمداً على رضا القيادة السياسية عنه، والقانون ١٤٢ لسنة ١٩٩٤ الذي «جعل اختيار العمداء بالتعيين لا الانتخاب»، فرسخ تبعية الجهاز الإداري في الجامعات للسلطة السياسية، وغيرها من القوانين التي زادت من أهمية الولاء السياسي في الجهاز البيروقراطي٤٢، فانتقصت من قدر المهنية فيه، ومن قدرة صغار موظفيه على الاحتكام للوائح والقوانين مقابل انصياعهم لتعليمات كبار الموظفين، وتم استثناء الأنشطة الاقتصادية التابعة للمؤسسة العسكرية من الخصخصة، التي اقتصرت على مجموعة من المحاسيب، بنيت بينهم وبين رجال الحكم والعسكر شبكة من المصالح استمرت حتى السنوات الأخيرة من حكم مبارك.
ومع صعود نجم جمال مبارك في العقد الأخير من حكم مبارك، حل منطق الشركة بشكل (شبه) كامل محل الدولة، على نحو تجلى في صعود وزارة رجال الأعمال في ٢٠٠٤، وتوليها عمليات خصخصة على نطاق أوسع، شملت بيع ٨٠ شركة قطاع عام في سنتين، بإجمالي ١٩.٩٤٨ مليار جنيه، مع اتخاذ تدابير خفض العمالة لتشجيع الخصخصة أسهمت في تعميق مشكلة البطالة٤٣، التي وصلت في ٢٠٠٤ إلى ٪٤٤٢٤. كذلك تراجع الدور الاجتماعي للدولة، فرُفع الدعم جزئياً على نحو أدى - سنة ٢٠٠٦ - إلى زيادة ملحوظة في أسعار المواصلات والكهرباء والاتصال٤٥، وصلت في الغذاء إلى نحو ٪٢٤، وزادت بالتالي في الفترة من ٢٠٠٥ إلى ٢٠٠٨ نسبة الأطفال دون الخمس سنوات الذين يعانون من مشكلات التعذية، من ٪٥ إلى ٪٧، وصارت قرابة ٪٧٥ من الأسر المصرية تنفق أكثر من نصف دخلها على الطعام٤٦، «وزادت نسبة من يعيشون تحت خط الفقر إلى ما يقرب من ٪٤٠، كما شهدت الفترة ذاتها الزيادة المطردة في معدل التضخم، ليعود إلى الرقم ٪٢٠ في منتصف عام ٢٠٠٨»٤٧، ففرض على أغلبية المصريين الدخول في معارك يومية من أجل الاستمرار في الحياة.
عانت الفئات الأفقر في المجتمع من تمكين السوق أكثر من غيرها، فانخفض دخل الخمس الأفقر من المجتمع بنسبة ٪١٦.٤ ليصل إلى متوسط ١٠٢ جنيه شهرياً٤٨، فيما كانت الفئات الأوفر دخلاً في مأمن من آثار تلك السياسات، بل إنها استفادت من السياسات الاقتصادية التي «بدأت مشروعات إسكانية وتجارية تتوجه إلى الشريحة الثرية من المجتمع، ولاقت رواجاً، ما يدل على اتساع الفجوة الطبقية»٤٩، وعلى أنّ الأزمة لم تكن في قلة الموارد فحسب، بل في سوء توزيعها، ونالت حكومات نظيف مع ذلك امتداح المؤسسات الاقتصادية الدولية، فامتدح صندوق النقد جهود الحكومة التي «تتحرك بشكل عنيف في الإصلاحات الهيكلية الرئيسة في التجارة والضرائب والدعم... ووضعت خططاً لخصخصة جل القطاع العام»٥٠ في ٢٠٠٥، وكرم وزير المالية يوسف بطرس غالي في ٢٠٠٨، وسمى مصر ضمن أفضل عشرة اقتصادات تُصحّح خمس سنوات متتالية٥١، آخرها كان في ٢٠١٠، أي قبل أيام قليلة من قيام الثورة، التي فتحت أبواباً واسعة لتحدي سلطان السوق، وشرعية الدولة الداعمة له.
صراع الدولة والمجتمع
كانت الدولة - كما سبق - هي المُشَكِّل الرئيسي لهوية الأمة المصرية، ولم يكن غريباً بالتالي أن تكون مؤسساتها مفرخة إنتاج النخب السياسية وقيادات «الحركة الوطنية» (من عرابي لمبارك مروراً بزغلول وناصر والسادات، وكل روساء الوزارات)، وأن يكون المعيار الأهم لكفاءة الساسة هو انتماؤهم إليها، ومع تزايد «دولنة» مؤسسات المجتمع، ومن ثم غياب المؤسسات القادرة على إفراز القيادات، تحولت هيمنة الدولة - بحلول نظام ناصر - إلى الاحتكار، إذ تزايد الاعتماد على رجال الجيش والبيروقراطية في سائر المناصب السياسية كالوزارات والمحافظات، بل ودعمت الدولة ترشح الكثير منهم للبرلمان بغرفتيه، وصارت الدولة هي المُعرِّفة لمصلحة الأمة، ولماهية الأمن القومي، ولحقيقة الهوية المصرية بتجلياتها الدينية والثقافية والاجتماعية، وظهرت قيادة الدولة - في العهد الناصري- في أكثر صورها صرامة وجموداً، بسبب تزايد ميل الكفة لمصلحة العسكريين بدلاً من البيروقراطيين في الإدارة، وخاصة في المناصب العليا.
أدى صعود السوق في عصر السادات وما بعده إلى تنامي الأنشطة الاقتصادية غير العسكرية للجيش، كإنشاء جهاز مشروعات الخدمة الوطنية الذي أقام مشروعات غير عسكرية، ومروراً بممارسة النشاط الاقتصادي في مجالات كثيرة، فدخول المؤسسة في «شراكات استراتيجية» مع رجال الأعمال خلال سنوات حكم مبارك٥٢، وتنامي المصالح المشتركة بين كبار البيروقراطيين ورجال الأعمال بفعل برامج إعادة هيكلة الاقتصاد، وصولاً إلى عودة جمال مبارك وإنشاء لجنة السياسات في الحزب الوطني، وكان من ثمار هذه التغييرات أن انضم طرف ثالث إلى معادلة الحكم في مصر، مشاركاً البيروقراطية والجيش، وهو رجال الأعمال؛ إذ كانت من الثمار الطبيعية للمسار النيوليبرالي «التحول من الحكومة (سلطة الدولة وحدها) إلى الحوكمة (تحالف أوسع من الدولة والعناصر الأهم في المجتمع؛ تحديداً رجال الأعمال)»٥٣ وأخذ صعود رجال الأعمال شكلاً تدريجياً، بدأ باقترابهم من رجال الحكم في غياب أوعية رسمية تضمهم، ثم ظهر هذا الوعاء في ٢٠٠٣ في مؤتمر الحزب الوطني، ثم شارك رجل الأعمال محمد رشيد في حكومة أحمد نظيف في ٢٠٠٤ في «خطوة جديدة لم تشهد مثلها منذ ثورة ١٩٥٢»٥٤، تبعها تعيين ستة رجال أعمال في الحكومة التالية، وتراجع دور العسكريين مقابل رجال الأعمال في العديد من مناصب البيروقراطية، وقد انعكس هذا الأمر كذلك على القوى المعارضة، التي شهدت صعوداً كبيراً لرجال الأعمال، لا في الأحزاب الـ«ليبرالية» التي يمكن توقع ذلك فيها فحسب (تولي محمود أباظة ثم السيد البدوي رئاسة حزب الوفد)، بل لدى الأطراف الإسلامية كذلك (بالصعود الكبير لتيار رجال الأعمال في تنظيم الإخوان على سبيل المثال)، فكانت النخبة - عشية الثورة - مكونة من رجال الدولة و«المحاسيب» من رجال الأعمال.
في المقابل، لم يكن المجتمع قادراً على إفراز نخب تمثل - سياسياً - تياراته المختلفة؛ إذ كان الضمور والشلل الذي أصاب مؤسساته التقليدية (الأزهر، الطرق الصوفية، نقابات الحرفيين، نظام العمد، إلخ) مع عدم إيجاد كيانات بديلة (بانسداد الحياة الحزبية، وسيطرة الدولة على النقابات والاتحادات الطلابية، والتضييق على المجتمع المدني عموماً)، مانعاً من إيجاد بيئات صحية للتنشئة السياسية خارج حضانات الدولة، واتسع بسبب ذلك البون بين ساسة الدولة وساسة المجتمع، بحيث صار الأولون وحدهم مطلعين على دولاب العمل في الدولة، عارفين بكيفية تسيير أمورها، ملمّين بالقوانين والثُّغَر وكيفية استغلالها وتجنبها، وقادرين على معرفة المعلومات وتحديد سبل إدارة هذا الجهاز العملاق، وكانت عقليتهم (الأمنية بالتحديد) هي الحاكمة في التعامل مع الأمور، بسبب الرغبة في إبقاء الأمور في نطاق السيطرة، والحفاظ على الدور الرئيسي (وربما الأوحد) في تنظيم المجتمع، فكانت المؤسسة الأمنية (مع القوانين) أهم وسائل الدولة في تفكيك التنظيم الأهلي للمجتمع السابق لوجودها، وفي الحفاظ على بنية النظام متماسكة، ما يسبب من مشكلات اقتصادية واجتماعية، وهي مؤسسة مثلت ركناً رئيسياً لدولة علي منذ وجدت، بدءاً من إنشاء ديوان الوالي سن ١٨٠٥، ومروراً برفع مستوى ثلاثة دواوين (ضمنهم الجهادية والداخلية) إلى مستوى النظارة في عهد سعيد، وتحول النظارة لوزارة مع إعلان الحماية البريطانية٥٥، ووصولاً إلى ما سبق الحديث عنه من «عسكرة» و«أمننة» مؤسسات الدولة في العقود السابقة للثورة. فلما قامت الثورة، كان أول إنجازاتها إعادة المجتمع إلى واجهة المشهد (وإن بشكل غير منظم)، ودفع الدولة للخلفية بكسر تلك العصا الأمنية.
وبغياب العصا الأمنية القادرة على تنفيذ ما تمليه إرادة الدولة انفتحت جبهة صراع لم ينته بين الدولة والمجتمع؛ فرجال الدولة ببيروقراطيتها وعسكريتها يرون أنفسهم أوصياء على المجتمع، ويلخصون أزمة الثورة في تحكم السوق بالصعود الكبير لرجال الأعمال (الأمر الذي حاولت القوات المسلحة عكسه بالمسارعة إلى استرداد المواقع وإزاحة بعض رجال الأعمال غير المرتبطين بمصالح معها وحبسهم في أعقاب الثورة)، ورجال الأعمال قبلوا بالتراجع للصفوف الخلفية في الحكم مع حفظ مصالحهم وضمان بقاء تأثيرهم على سير الأمور (كما ظهر بشكل متكرر في تصريحات رجال الأعمال المصاحبين للرئيس في جولاته الخارجية)، وأما المجتمع الذي أعادته الثورة لقلب المشهد فلم يعد استبعاده خياراً مقبولاً، ولم يعد فرض الإبعاد عليه متاحاً مع تآكل عصا الدولة، وبالتالي ظلت السلطة «ملقاة في الشوارع، ومن يحاول التقاطها تحرق يده»٥٦؛ لأنه لم يتقدم إليها بعد من يحظى بالشرعية اللازمة لذلك؛ فالإدارة بالسوق ضررها المباشر يدفع فئات واسعة لمقاومتها، والدولة شرعيتها تحت القصف بسبب منطقها الفوقي، والمجتمع عاجز عن إفراز القيادات القادرة على الإدارة، وعاجز- قبل ذلك - عن تقديم قيادات تحظى بقدر مقبول من المشروعية المجتمعية (ظهر هذا مبكراً جداً، بالجدل هو الجهة التي يمكنها تسلم السلطة من مبارك، وكانت جل الخيارات المطروحة تتجه للدولة لعدم وجود البديل في المجتمع، فاقتُرح رئيس المحكمة الدستورية، والقوات المسلحة، وأما الاختيار من خارج الدولة فلم تنجح أي أسماء مطروحة في بناء توافق حولها، ولم يحظ أيٌّ منها - فرداً أو جماعة - بالقدر الكافي من الشرعية الذي يجعله بديلاً جاداً، واستمر هذا الأمر في استطلاعات الرأي التي تظهر تراجعاً في شعبية الرئيس لا يقابله تقدم في شرعية خصومه).
الصراع على الشرعية بين الدولة والمجتمع (مع التراجع الجزئي، والمرحلي على الأقل لفكرة سيادة السوق) يتجلى، على سبيل المثال في الجدل المحتدم حول مشروعات القوانين المنظمة للمجتمع المدني، ولحرية تداول المعلومات؛ فمنطق الدولة فيها إحكام السيطرة والرقابة في ما يتصل بالمجتمع المدني لضمان تبعيته، والتوسع في الحظر في تداول ونشر والمعلومات حفاظاً على «الأمن القومي»، والمجتمع يرى أنه - في الحالتين - صاحب السيادة، وأنه ليس ثمة ما يستدعي المبالغة في إخضاع إرادة مؤسساته للدولة. ويتجلى الصراع كذلك في الأزمات المتكررة في سيناء التي تنظر الدولة المركزية للمواطنين فيها بريبة، لأنهم لا «يشبهون» المركز بالدرجة الكافية، أي إنّ هوياتهم لا تتماشى مع تلك التي تصنعها الدولة وتقوم على حمايتها، ومن ثم فاللجوء للحلول الأمنية معهم متكرر، كما يظهر في اضطرار الرئيس إلى اللجوء لبعض رجال الدولة السابقة، لعجز القادمين من المجتمع عن إدارة الجهاز البيروقراطي العملاق، ويظهر - أخيراً - في المطالبات المتزايدة باللجوء للجيش (قلب الدولة) باعتباره الأقدر على إدارة المجتمع مع تنامي الأزمات الاجتماعية والاقتصادية وزيادة الاحتقان والعنف السياسي.
وهذا الصراع بين الدولة والمجتمع مرشح للاستمرار ردحاً من الزمن؛ إذ العودة للإقصاء الكامل للمجتمع تبدو بعيدة في ظل تغير الأوضاع بعد الثورة، وبسبب غياب احتكار الدولة للعنف الشرعي، وضعف آلتها القمعية مقارنة باتساع دوائر الاحتجاج السياسي والاجتماعي، والمجتمع - في الجهة الأخرى - لم يزل تحركه غير منضبط بمؤسسات تعبر عنه، ولم يستعمل بعد المنصات الصالحة لإفراز القيادات والتعبير عن المجتمع بتنوعاته، ومنها المحليات والنقابات، أو ما يقوم مقامها في الإدارة المباشرة لأمور المجتمع من خارج الدولة، والتماس معها وتمثيلهم لديها، بحيث يكون التعامل مع جهاز الدولة وفهمه من خارجه.
الصراع على الإسلام
الصراع على الإسلام - من حيث تعريفه، وتحديد شكل علاقته بالحكم - لا تخطئه عين باحث في مصر الثورة، وهو صراع يمكن قراءته في إطار الانتقال من إدارة المجتمع للسوق عبر الدولة، ويحسن تقسيمه إلى سؤالين فرعيين: أولهما يتعلق بتعريف الإسلام، وثانيهما يتعلق بالعلاقة بين المؤسسات الشرعية والسياسية ومؤسسات الحكم في مصر.
أما من حيث التعريف، فقد كان مدلول لفظة «الشريعة» حتى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر ينصرف إلى الاعتقاد الأشعري، والفقه المذهبي (أي اتباع المذاهب السنية الأربعة المشهورة)، والسلوك الصوفي الطرقي، وكان التجلي الرئيسي لها يتمثل على المستوى العلمي في مؤسسة الأزهر، وعلى المستوى الاجتماعي في الطرق الصوفية التي انتظم فيها جل المصريين، وفي التعليم الذي كان في مجمله خاضعاً للأزهر، وكانت تلك المنظومة - في شقها العلمي - مستقلة إلى حد بعيد عن الدولة، وحملت من التنوع - في بعديها الفقهي والصوفي، وفي ما يتصل بهما كنقابات الحرفيين - قدراً لا بأس به، وإن ظل مقيداً.
واستبدل دين الدولة بدين المجتمع من خلال دولنة المؤسسة الدينية ووظائفها، وهو ما بدأ بإنشاء التعليم الحديث الذي كسر هيمنة الأزهر على المجال العام، ثم كسر احتكار الأزهر للمجال العلمي الشرعي بإنشاء مدرسة دار العلوم سنة ١٨٧٢، ودار الإفتاء سنة ١٨٩٥، ومدرسة القضاء الشرعي في ١٩٠٧، بالتوازي مع زيادة تدخل الدولة في تنظيم الأزهر (من خلال القوانين المشار إليها أعلاه)، وبالتزامن مع مسارين مهمين، أولهما نزع الأزهر من بيئته التي ضمنت استقلاله، وذلك بالسيطرة على الأوقاف والطرق، وثانيهما الاستناد إلى القوانين الجديدة في تمكين أبناء الأزهر من المطالبين بتغيير ملامح منهجه العلمي، مثل محمد عبده ومصطفى المراغي ومصطفى عبد الرازق ومحمود شلتوت، وكانت محصلة تلك التطورات أن مفهوم لفظة «الشريعة» لم يعد بالوضوح الذي كان عليه من قبل؛ إذ صارت هناك صور شديدة التباين لتعريفها، وغاب تدريجياً المعيار المستند إليه مجتمعياً مع تحول الأزهر من مدرسة ذات منهاج واضح إلى «ملتقى» لأصحاب المدارس المختلفة، كالأشاعرة بمذاهبهم الفقهية الأربعة، والوهابية بفقههم الذي غلبت عليه الظاهرية، وأصحاب الميل الاعتزالي بفقه محمد عبده، ومدرسة أكثر حداثية بفقه المراغي، وهي مدارس اتسعت وانضم إليها غيرها عند تحول تعريف الدين من المجتمع إلى السوق، وما صاحبه من نمو التيار الوهابي، ثم تيار الدعاة الجدد، أو الإسلام النيوليبرالي. ولا يزال الصراع بين تلك المدارس جميعاً محتدماً في مصر الثورة، على نحو يتجلى - على سبيل المثال - في الصراعات الدائرة داخل وزارة الأوقاف وحولها، والمتعلقة بتعيين الأئمة بها، وتعيين المفتي، وفي الأحزاب السياسية التي قام بتأسيسها بعض الدعاة، والصراع حول تعريف ماهية منهج الأزهر، وخاصة بعد اعتماده كمرجعية شرعية في الدستور الجديد.
أما تصور علاقة المؤسسات الدينية بالدولة، فتنبني تبايناته على تباينات الأفهام في ما يتصل بدور الدولة بسبب ما أحدثه مسار التحديث من تغييرات؛ فالدولة الحديثة هي - بالتعريف - محتكرة الاستخدام الشرعي للقوة، المنحصر في نطاق جغرافي محدد، وثمة تعارض بين احتكار الدولة للعنف والوضع السائد قبلها (بوجود الفتوات التابعين للطرق الصوفية من جهة، والاحتساب من جهة أخرى)، وبين الحصر النهائي في نطاق جغرافي ومفهوم الأمة المتجاوز، وهذه التغييرات أدت إلى إعادة صياغة المجتمع «باعتباره سوقاً ومصنعاً، وإعادة صياغة الإنسان باعتباره منتجاً ومستهلكاً»٥٧، وأدّت إلى التآكل التدريجي للمؤسسات الوسيطة، بحيث صارت الدولة «مدبرة منزل» تهتم بتوزيع الأدوار فيه على المستوى الوطني٥٨، وصارت «تمسك أزِمة الحياة كلها في أيديها، من التعليم، إلى القضاء، إلى الثقافة، إلى الإعلام، إلى المساجد، إلى الاقتصاد والاجتماع»، بحيث لم يعد «يمكن لمصلح أن يتجاوزها»٥٩، فيما كانت تلك الدولة محدودة القوة والنفوذ قبل ذلك.
وكانت أولى تجليات هذا التغير إعادة النظر في معنى وجود الشريعة في المجتمع وسبل تطبيقها، ونشأة فكرة «التقنين»، أي صوغ أحكام الشريعة «في نصوص مرتبة، ووضع هذه النصوص في مجموعة مبوبة أو مرقمة على غرار القوانين الحديثة من مدنية وجنائية وإدارية»٦٠ وربط المخالفات بالعقوبات، وهي الفكرة التي مثلت تجسيداً لفكرتي التمصير والدولنة كذلك، فجاءت أولى محاولات التقنين كرد فعل «مصري» لمجلة «الأحكام العدلية» الصادرة من الباب العالي سنة ٦١١٨٧٦، وتمثلت في لجان ترأسها محمد قدري باشا - وزير الحقانية - انتهت إلى إصدار مجموعة من القوانين سنة ١٨٨٣، «نصت في مادتها الأولى أنها لا تنفي أي حق مقرر في الشريعة الإسلامية»٦٢، وعبرت عن قبول بالإدارة من خلال الدولة المركزية، القائمة على أسس شرعية قانونية مكتوبة، والتي رأت ضرورة التقنين باعتبار القانون أساس الحكم فيها، ولأن «تعدد الآراء الفقهية وكثرة الاختلافات في المسألة الواحدة؛ ليس فقط بين فقهاء المذاهب المختلفة، وإنما أيضاً بين فقهاء المذهب الواحد... جعل من العسير على قضاة المحاكم الاهتداء إلى الحكم الواجب التطبيق في الحالات المتماثلة، وهو ما يعني بدوره إهداراً لمبدأ المساواة أمام القانون (وفق منطق الدولة القومية الحديثة، الحريص على التنميط، والممهد لحكم السوق)»٦٣، وصار تقنين الشريعة هدفاً رئيسياً للإسلاميين الذين ازداد انشغالهم بالسياسي على حساب الاجتماعي، مع انتقال الإدارة من المجتمع للدولة، وتراجع التصور الاجتماعي للشريعة المتجسد بالأساس في الطرق الصوفية، وقد صاحب انتقال الإدارة من الدولة للسوق - المحمي بها - اتساع «سوق» المؤسسات الدينية، فاستعمل المال في إنشاء مساجد ومعاهد مستقلة عن الدولة، كان لرأس المال دور رئيسي في تحديد توجهاتها، وظهرت بعد ذلك الفضائيات الإسلامية (مصحوبة بدعاية واسعة للمنتجات «الإسلامية» في الطب والمفروشات والملابس على سبيل المثال)، ثم حاول الأزهر ملاحقتها بقناة فضائية منتسبة إليه، معلناً الانتصار الكامل للسوق.
وقد صاحبت هذه تغييرات أخرى في طبيعة العلاقة بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة؛ فالانتقال إلى حكم الدولة المصحوب بعمليات الدولنة الواسعة أدى إلى تبعية الأولى للثانية، على نحو تبدى - على سبيل المثال - في تغير موقف الأزهر من إسرائيل مع تغير موقف الدولة؛ ففي سنة ١٩٧٣ أكد شيخ الأزهر محمد الفحام «حتمية الجهاد ضد إسرائيل لإنقاذ الأراضي الإسلامية من سيطرة الأعداء عليها»٦٤، ثم أعلن خلفه الشيخ عبد الحليم محمود «تأييده زيارة الرئيس السادات للقدس»٦٥، قبل أن يفسر الأزهر تغيير موقفه بالقول إن «معارضته للسلام مع إسرائيل (وقت عبد الناصر) كانت بسبب الاقتناع بإمكانية إلحاق الهزيمة بها»٦٦، ومع صعود السوق صارت «سوق الفتاوى» مفتوحة للجميع، مع بقاء الاختيار للمستهلك، واستبدل القبول المجتمعي بالتأهيل الشرعي العلمي كمعيار لصحة الفتوى، ومن ثم علت قيمة «الاعتدال» و«التسامح» (وحلتا محل الوسطية لفظاً ومعنىً) وصارت التيارات تحاول إثبات أهليتها بالوسم بهما، وفي المعارك الدائرة بعد الثورة يقدم الأزهر نفسه في «سوق» الدين مركزاً على اعتداله لا أصالته، وتسوق التيارات الإسلامية لنفسها بالاستناد إلى معايير مغايرة لتلك التي حكمت الساحة الدينية وقت حكم المجتمع.
وفي المجمل، يبدو الصراع محتدماً في ما يتصل بتحكيم الشريعة بين التيارات الإسلامية (المنحازة إلى حكم الدولة، على الأقل بسبب «الفرصة»)، والتي ينصب خطابها على التقنين على أساس التخير بين المذاهب الأربعة، والتيارات الحداثية القائلة بالالتجاء للمقاصد (مدرسة المراغي وعبده)، وتيارات الإسلام النيوليبرالي المنحازة إلى إسلام السوق (البعيد تماماً عن الحكم إلا بمعنى تحفيز حركة التنمية الرأسمالية)، والتيارات الصوفية المبتعدة عن الصراع السياسي، والمنشغلة بالعمل المجتمعي، وهو الصراع الذي ظهر في تردد الأزهر (بميوله الصوفية) من قضايا تقنين الشريعة، مع حرصه في تعريفها على ضبط ذلك بالمذاهب الأربعة، وفي تأخر التيارات الإسلامية المختلفة عن تقديم تصورات لكيفية تطبيق الشريعة.
صراعات الملكية والإنتاج والتوزيع
يمثل الصراع الطبقي جزءاً رئيسياً من معارك الثورة، التي قامت - في أحد أبعادها - على نظام نيوليبرالي يتآكل فيه الدور الاجتماعي للدولة لمصلحة رجال الأعمال والسوق، فيما تبقى وظيفتها القمعية ذات أهمية مركزية في تأمين هذا السوق وضمان إيجاد الأوضاع الملائمة لرأس المال، سواء بالأساليب العنيفة كالشرطة، أو الأساليب الأقل عنفاً كالقوانين المقيدة للحركة العمالية، والتوسع في إشراك رجال الأعمال في صناعة القرار، وتمكينهم من المؤسسات الإعلامية، وغير ذلك.
كانت مصر قد مرت منذ نشأة الدولة الحديثة بعدة تحولات اقتصادية (أجملتها الفقرات السابقة من الورقة)، انتهت إلى تزايد تآكل دور الدولة في الاقتصاد ومسؤوليتها الاجتماعية - بدءاً من سياسات الانفتاح التي أسس لها الرئيس السادات، ووصولاً للسياسات النيوليبرالية التي قاد الدعوة إليها وتشجيعها جمال مبارك، وقد أدى سوء التوزيع والشعور بالظلم الاجتماعي في العقد الأخير من حكم مبارك إلى «غضب على السياسات النيوليبرالية، وخاصة بين أوساط الطبقات العاملة وشباب الطبقات الوسطى»٦٧، الأمر الذي دفع أعداداً متزايدة من المواطنين للاحتجاج، فنمت حركة الاحتجاج الاجتماعي، وخاصة مع نمو حركتين موازيتين للاحتجاج، أولاهما تتعلق بقضايا الاستقلال والأمة (انطلقت مع الانتفاضة الفلسطينية في ٢٠٠٠)، وثانيتهما تتعلق بالقضايا السياسية المحلية (بدأت في الاتساع مع نشأة حركة كفاية في ٢٠٠٤)، الأمر الذي فتح آفاقاً للعمل الاحتجاجي، بدأت في القطاع الصناعي ثم امتدت لباقي القطاعات واتسعت خلال السنوات، فكان «عدد الاحتجاجات المسجلة عام ٢٠٠٥ نحو ٢٠٢ احتجاج، وارتفع عام ٢٠٠٦ ليصبح ٢٦٦، أما عام ٢٠٠٧ فقد قفز هذا الرقم ليتجاوز ٦١٤ احتجاجاً» كانت في مجملها «ذات أبعاد اقتصادية اجتماعية في المقام الأول، وذات ارتباط مباشر بالحياة اليومية للمواطن العادي»٦٨، كان بعضها يتمحور حول قضايا معينة (كنقص المياه أو الخبز، أو حوادث الطرق) والبعض الآخر كان فئوياً، يتعلق بالعاملين في جهة محددة بسبب مطالبات تتصل بالأجور وظروف العمل، وظهرت تنظيمات شعبية موازية للنقابات الرسمية (المفرغة من مضامينها بالتجميد أو الدولنة) كـ«أطباء بلا حقوق»، و«معلمون بلا نقابة»، و«أخوات كفاية» من المنظمات المختلفة التي ذيلت أسماءها بكلمة «من أجل التغيير»، وسرعان ما امتدت حركة الاحتجاج لتشمل موظفي الدولة - التي لم تعد مرتباتها مجزية لغير كبار الموظفين - فبلغت الاحتجاجات في الهيئات الحكومية ٢٦٧ احتجاجاً، وفي قطاع الأعمال العام (أو ما بقي منه) ١٠٧، مقابل ٢٣٥ احتجاجاً في القطاع الخاص في ٦٩٢٠٠٨، وفي الجملة شهدت الفترة من ٢٠٠٤ إلى ٢٠١٠ أكثر من ٣٠٠٠ احتجاج عمالي٧٠، تباينت طبيعتها (بين التجمهر والاعتصام والإضراب، والإضراب عن الطعام في قليل من الأحيان) ودرجة نجاحها (كان من أكثرها نجاحاً القطاع الصحي بإضراب الصيادلة ٢٠٠٨ - ٢٠٠٩ الذي أوصلت بعض التقديرات نسبة المشاركة فيه إلى ٪٩٠، وإغلاق العيادات الطبية احتجاجاً على تدني أجور الأطباء في أبريل ٢٠٠٩)٧١.
ولم تزل الصراعات الاقتصادية بعيدة عن الحسم أو الاستقرار المرحلي لمصلحة أي طرف، ويمكن تلخيصها في ثلاث معارك رئيسية، أولاها تتعلق بتعريف حدود الملكية؛ إذ تمثل الثورة رفضاً لتسييد السوق وتوسيع نطاقه ليشمل التسليع العام (الشامل للعمال، ولكافة البضائع والخدمات والأراضي)، غير أنها ليست بالضرورة شيوعية تلغي الملكية الخاصة لأدوات الإنتاج بالجملة، والمساحة بين هذين الخيارين واسعة، لم تقدم الأطراف المختلفة إلى الآن رؤاها حيالها، فلم تقدم تعريفاً لحدود السوق، وعلاقته بالمجتمع، وهو قصور يكتسب أهمية خاصة لسبب ماضٍ وآخر مستقبل. أما الماضي فهو الآثار الاجتماعية المترتبة على توسيع رقعة السوق في السنوات الأخيرة من حكم مبارك، والمتمثلة - على سبيل المثال - في خصخصة المجال العام والمنافع العامة، كخصخصة الشواطئ في الساحل الشمالي (على نحو صار يمنع السكان الأصليين لمدينتي العلمين والحمام على سبيل المثال من رؤية الشاطئ، فضلاً عن التنزه)، وتآكل المتنزهات العامة في المدن، وخصخصة خدمات جمع القمامة، وخطوط الهواتف. وأما المستقبل فيتعلق بالمطروح كحل للأزمة الاقتصادية من بيع وتأجير للأصول العامة في صورة أسهم وصكوك، وصعود نغمة «تشجيع الاستثمار» كحل أوحد لـ«إنقاذ» الاقتصاد، على نحو يؤدي، في حقيقة الأمر، إلى إعادة تمكين رجال الأعمال، وإن غابوا عن صدارة المشهد السياسي جزئياً، والآثار الاجتماعية المباشرة وشبه الفورية لبعض هذه السياسات (الناتجة في بعض الأحيان من غياب السياسة والرؤية، ومن ثم تحكم السوق، وفي بعضها من شبكات المصالح التي تشكلت سريعاً حول السلطة الجديدة، بمؤسسات رجال الأعمال الجامعة بين رجال أعمال الإخوان والحزب الوطني، والمتصلة - بغير استحياء، وبشكل حصري - بالرئيس) تؤدي إلى مزيد من الاحتقان الاجتماعي الذي يصير التحكم فيه صعباً في غياب العصا الأمنية، على نحو قد يدفع إلى إعادة التوازن في قضية الملكية وتسييد السوق.
يتصل بهذا الصراع، صراع ثانٍ متعلق بالأنشطة الرئيسية التي يقوم عليها الاقتصاد؛ إذ كانت أحدَ أسباب الأزمة الاقتصادية قبل الثورة، والدافعة إلى التعجيل بالخصخصة، قلةُ الموارد، الناتجة - كما سبق - من تراجع القطاعات الإنتاجية في الاقتصاد وتزايد الاعتماد على الريع والخدمات، وهو وضع يتشابه إلى حد ما مع ما كانت عليه مصر عند وصول محمد علي للحكم، والجدل حول البدائل في ما يتعلق بـ«قاطرات التنمية» والأنشطة الرئيسية التي يمكن أن يقوم عليها الاقتصاد، وعلاقة ذلك بالأوضاع الاجتماعية والتوزيع الجغرافي للسكان، وبالعوامل الحاكمة لصراعات المستقبل كمصادر الطاقة والمياه، لم يزل غائباً عن المشهد، غير أن غيابه يسمح بتسييد السوق، استناداً إلى منطق اليد الخفية لآدم سميث، وهو ما سيضع الدولة - الراغبة في دعم الاستثمار، بأي ثمن - في مواجهة مباشرة مع التكوينات الاجتماعية والأهالي الذين تتعرض حياتهم لاقتحام من قبل السوق يهدد وجودهم، وهو ما قد ينتج صراعات واسعة - على سبيل المثال - في مدن القناة، التي تواجه بمحاولة تسييد واسع للسوق، قد تنتج - في حالة استمرارها - ردّ فعل شعبياً يعيد الأمور إلى المربع الأول.
أما ثالث الصراعات، فيتعلق بتعريف الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الأساسية للمواطنين وحدود مسؤولية الدولة في توفيرها؛ إذ بينما تبدو جل الأطراف السياسية متفقة في كون التعليم والصحة والمسكن والغذاء حقوقاً أساسية ينبغي توفيرها لكل المواطنين - بقطع النظر عن إمكاناتهم المالية أو مواقعهم الجغرافية - يظهر الخلاف في خمس قضايا، أولاها تعريف الحقوق وأولوياتها (هل تقتصر على التعليم والصحة فقط؟ أم تمتد للأربع المذكورة؟ أم تضيف عليها)، وثانيتها القدر الذي ينبغي توفيره للكافة من تلك الحقوق (هل تتوقف مسؤولية الدولة في التعليم مثلاً عند التعليم الإلزامي، أم عموم التعليم المدرسي، أم الجامعي؟)، وثالثتها الجهة المسؤولة عن توفيره (هل تقوم الدولة بذلك؟ أم يقوم القطاع الأهلي من خلال المؤسسات الخيرية؟ أم تقوم به المؤسسة الوقفية؟ أم يقوم على أسس غير ذلك؟)، ورابعتها تعريف ماهية العدالة في مسؤولية الدولة في هذه القضايا (هل تكون الرعاية الصحية مجانية للجميع؟ أم لغير القادرين؟ وما الآثار الاجتماعية والاقتصادية الناتجة من كلا الخيارين؟ وما الإمكانات التي يحتاجها كل منهما؟)، وخامستها شروط البدائل وحدود المنافسة (هل يسمح بالمدارس الخاصة لمنافسة الحكومية؟ وما هي القيود على ذلك؟ وكيف نضمن استمرار كفاءة الحكومي؟)، والخلافات هنا تحسمها الصراعات على الأرض، التي تؤثر بدورها في (وتتأثر) بالصراعات المشار إليها سابقاً.
خاتمة
الصراع الجاري على أنقاض دولة محمد علي لن يحسم بسرعة، لأنه يطرح سيلاً من الأسئلة على مجتمع تعرض «للدولنة» بكثافة ثم غابت الدولة عن الوجود الحسي ولم يبقَ لها إلا ذكريات الهيبة والقمع، فيما تفككت مؤسساته التقليدية ولم يوجد البديل. هكذا لم يعد قادراً على إيجاد آليات التفاوض التي تدير شؤون المجتمع بتقاطعاته الاجتماعية والوظيفية والجغرافية المختلفة. والانتقال للإجابة عن تلك الأسئلة يحتاج إلى تجاوز صراع الشعارات الذي يحتل الصدارة منذ الثورة، والبدء في تمكين المجتمع - الذي كانت عودته للمشهد ودائرة صنع القرار الإنجاز الرئيسي للثورة - بحيث يصير حاكماً لأمره، ويمنع عودة الدولة التسلطية بتسلمه زمام أموره. والباب الرئيسي لتمكين المجتمع يكون بإعادة بناء مؤسسات وسيطة تعبّر عنه، سواء كان ذلك بإحياء المؤسسات السابقة (كالطرق، والأوقاف، ونقابات الحرفيين، ونظام العمد)، أو إيجاد مؤسسات بديلة تقوم بالوظائف ذاتها أو وظائف مشابهة (كالمحليات، والنقابات، ومؤسسات المجتمع المدني، مع تغيير الأطر القانونية الحاكمة لها في مصر، التي فرغتها من مضامينها)، أو خليط منهما. وهذه المؤسسات هي التي ستقود عملية التغيير المبنية على تمكين المجتمع، والمنتجة لإرادته الحقيقية المتجنبة لكل عيوب الديمقراطيات التمثيلية التقليدية التي يظهر فيها الشعب في المشهد مرة كل بضع سنين، ثم يعاود الانسحاب، فتكون قدرته على فرض إرادته ضئيلة، وتأسره الهياكل الفارضة لنظم اقتصادية واجتماعية بعينها.
- ١. المقصود بالهيمنة هنا ما عبّر عنه أنطونيو غرامشي بـ domination، وبالقيادة ما عبر عنه بـ hegemony.
- ٢. سامي زبيدة، الشظايا تتخيل أمة: حالة العراق، في كيف نقرأ العالم العربي اليوم؟ رؤى بديلة في العلوم الاجتماعية، تحرير إيمان حمدي، حنان سبع، ريم سعد، ملك رشدي، ترجمة شريف يونس، دار العين للنشر-القاهرة، ٢٠١٣، ص ٣٠٦.
- ٣. فينا داس، «توقيع الدولة، مفارقة الغموض، في كيف نقرأ العالم العربي اليوم؟» رؤى بديلة في العلوم الاجتماعية، ص ٣٢٥.
- ٤. Egypt’s Nineteenth-Century Armaments Industry. Dunn, John. 2, s.l. : Society for Military History, 1997, Vol. 61, p. 233.
- ٥. المستشار طارق البشري، المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية، دار الشروق، القاهرة- مصر ٢٠٠٤، ص ١٦-١٧.
- ٦. Afifi, Muhammad. «The State and the Church in Nineteenth Century Egypt». 3 November 1999, Die Welt des Islams, Vol. 39, pp. 273-288, p. 282.
- ٧. Farah, Egypt’s Political Economy, p. 100.
- ٨. المستشار طارق البشري، المسلمون والأقباط، ص ٣٦.
- ٩. المستشار طارق البشري، المسلمون والأقباط، ص ٣٥.
- ١٠. المستشار طارق البشري، المسلمون والأقباط، ص ٣٧.
- ١١. المستشار طارق البشري، شخصيات تأريخية، الشروق- القاهرة، ٢٠١٠، ص ١٢.
- ١٢. Farah, Egypt’s Political Economy, p. 29.
- ١٣. محمد حسني، الحركة العمالية المصرية.
- ١٤. Owen, Roger. «Egyptian Political Economy», MERIP www.merip.org/mer/mer169/egyptian-political-economy.
- ١٥. Farah, Egypt’s Political Economy, p. 26.
- ١٦. Farah, Egypt’s Political Economy, p. 27.
- ١٧. Cuno, Kenneth M. «African Slaves in 19th-Century Rural Egypt», International Journal of Middle East Studies, v 41, 2009, pp. 186-188.
- ١٨. الدكتورة لطيفة محمد سالم، القوى الاجتماعية في الثورة العرابية، ص ١٣.
- ١٩. الدكتور علي جمعة، التجربة المصرية، نهضة مصر- القاهرة، ٢٠٠٨، ص ١٩.
- ٢٠. الدكتور عمار علي حسن، التنشئة السياسية للطرق الصوفية.
- ٢١. المستشار طارق البشري، تقديم كتاب الأوقاف والسياسة في مصر، إبراهيم البيومي غانم، ص ٩.
- ٢٢. Richards and Waterbury. A Political Economy, p. 18.
- ٢٣. «From national bourgeois development to Infitah: Egypt 1952-1992». Aoude, Ibrahim G. 1, s.l. Arab Studies Quarterly, 1994, Vol. 16.
- ٢٤. Farah, Egypt’s Political Economy, p. 33.
- ٢٥. Richards and Waterbury, A Political Economy, p. 24.
- ٢٦. Richards and Waterbury, A Political Economy, p. 179.
- ٢٧. Farah, Egypt’s Political Economy, p. 34.
- ٢٨. Richards and Waterbury, A Political Economy, p. 120.
- ٢٩. Farah, Nadia Ramsis, «Political Regimes and Social Performance: The Case of Egypt», in Ibrahim, Keyder and Oncu eds Developmentalism and Beyond, p. 144.
- ٣٠. Farah, Nadia. Egypt’s Political Economy, p. 38.
- ٣١. Farah, Nadia. Egypt’s Political Economy, p. 39-40.
- ٣٢. Farah, Nadia. Egypt’s Political Economy, p. 39.
- ٣٣. Elehway, Naglaa and Nassar, Heba. «Poverty, Employment and Policy Making in Egypt: A country profile». Cairo, ILO, Area Office, 2001.
- ٣٤. Farah, Nadia. Egypt’s Political Economy, p. 41.
- ٣٥. Farah, Nadia. Egypt’s Political Economy, p. 41.
- ٣٦. Harvey, David. A Brief History of Neoliberalism, p. 70.
- ٣٧. Richards and Waterbury, A Political Economy of the Middle East, p. 120.
- ٣٨. UNDP Arab Human Development Report, 2002.
- ٣٩. Maher, Stephen. The Political Economy of the Egyptian Uprising.
- ٤٠. Lofgren, Hans «Egypt’s Program for Stabilization and Structural Adjustment: An Assessment». Cairo Papers In Social Science. Cairo: The American University in Cairo Press, Fall 1993, Volume 16, Monograph 3, p. 33.
- ٤١. Lofgren, Hans Egypt’s Program for Stabilization and Structural Adjustment, p. 9.
- ٤٢. المستشار طارق البشري، مصر بين العصيان والتفكك، ص ٦٨-٧٤.
- ٤٣. Farah, Nadia. Egypt’s Political Economy, p. 45.
- ٤٤. أحمد السيد النجار، تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام-القاهرة، ٢٠٠٤.
- ٤٥. Farah, Nadia. Egypt’s Political Economy, p. 51.
- ٤٦. Maher, Stephen. The Political Economy of Egypt’s Uprising.
- ٤٧. محمد العجاتي، الحركة الاحتجاجية في مصر، ص ٢٣٢.
- ٤٨. المصدر نفسه، الصفحة ذاتها.
- ٤٩. المصدر نفسه، ص ٢١٨.
- ٥٠. المصدر نفسه، ص ٢١٨.
- ٥١. Mishrif, Ashraf «The Political Economy of Egypt in Post-Arab Spring», paper presented at BRISMES Annual Conference 2012: Revolution and Revolt: Understanding the Causes of Change. 26-28 March 2012, London School of Economics and Political Science
- ٥٢. Henry and Springborg, Globalization and the Politics of Development, p. 192-193.
- ٥٣. Harvey, A Brief History of Neoliberalism, New York: Oxford University Press, 2005, p. 77.
- ٥٤. Farah, Egypt’s Political Economy, p. 49.
- ٥٥. بسمة عبد العزيز، إغراء السلطة المطلقة: مسار العنف في علاقة الشرطة بالمواطن عبر التاريخ، صفصافة-القاهرة، ٢٠١١، ص ١٨.
- ٥٦. بلال علاء، السلطة لا تزال ملقاة في الشوارع ظلت السلطة «ملقاة في الشوارع، ومن يحاول التقاطها تحرق يده،» لأنه لم يتقدم إليها بعد من يحظى بالشرعية اللازمة لذلك.
- ٥٧. الدكتور عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، المجلد الثاني: التطبيق، الشروق - القاهرة، ٢٠٠٥، ص ١٨- ٢٠.
- ٥٨. انظر على سبيل المثال Arendt, Hannah. The Human Condition, Chicago University Press, 1998, pp. 7-58.
- ٥٩. الدكتور يوسف القرضاوي، الدين والسياسة: تأصيل ورد شبهات، الشروق- القاهرة، ٢٠٠٧، ص ٧٥- ٧٦.
- ٦٠. الدكتور إبراهيم البيومي غانم، تقنين الشريعة بين المجتمع والدولة، ص ٢٦.
- ٦١. إبراهيم البيومي غانم، تقنين الشريعة بين المجتمع والدولة، الشروق الدولية - القاهرة، ٢٠١١، ص ٤٦.
- ٦٢. الدكتور علي جمعة، التجربة المصرية، ص ٣٤- ٣٥.
- ٦٣. الدكتور إبراهيم البيومي غانم، تقنين الشريعة بين المجتمع والدولة، ص ٣٣.
- ٦٤. الدكتور وليد محمود عبد الناصر، التيارات الإسلامية في مصر ومواقفها تجاه الخارج: من النكسة إلى المنصّة، الشروق - القاهرة، ٢٠٠١، ص ٧٠.
- ٦٥. الدكتور وليد محمود عبد الناصر، التيارات الإسلامية، ص ٧١.
- ٦٦. الدكتور وليد محمود عبد الناصر، التيارات الإسلامية، ص ٧٢.
- ٦٧. Mishrif, Ashraf The Political Economy of Egypt.
- ٦٨. محمد العجاتي، الحركة الاحتجاجية في مصر، ص ٢٢٤ – ٢٢٥.
- ٦٩. محمد العجاتي، الحركة الاحتجاجية في مصر، ص ٢٢٦.
- ٧٠. Maher, Stephen The Political Economy of the Egyptian Uprising.
- ٧١. محمد العجاتي، الحركة الاحتجاجية في مصر، ص ٢٢٨ – ٢٣٠.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.