بعد عامين من اندلاع ثورة يناير، وبينما تتزايد اعداد المنتمين إلى الاحزاب السياسية والنقابات العمالية الجديدة في مصر، قد تجد من يميل على اذنك هامساً «بصراحة لا يمكن ان يستمر الحال هكذا، فالاقتصاد لن يتحسن في ظل الديمقراطية». لا تندهش؛ فهذا صوت احد خبراء الاقتصاد الذين يمثلون النخبة المهيمنة على عقل السلطة في مصر منذ عقود طويلة.
هذا الإيمان الراسخ بضرورة الاستبداد السياسي لتحقيق التنمية الاقتصادية كان سبباً رئيسياً في تعطيل الحياة الديمقراطية والاقتصادية على مدار العقود الماضية، لذا فالعودة الى التاريخ ومقارنته بالأطروحات الاقتصادية في مرحلة التحول الحالية أمر ضروري لرسم صورة أوضح لسيناريوهات المستقبل.
الباحث عن جذور فكرة «التنمية بالاستبداد»، يجد بعض لحظاتها الأبرز في التاريخ السياسي لاسماعيل صدقي، الرجل الذي شكل حكومة مصر ثلاث مرات قبل ثورة يوليو، في حقبة لم تكن فيها السياسة منفصلة عن الاقتصاد. وهو ما قد يفسر لنا لماذا جمع الرجل، لأكثر من مرة، بين تولي وزارتي الداخلية والمالية.
كان اسم صدقي يحظى بثقة كبيرة في الاوساط السياسية لعدة اسباب، من ضمنها خبرته الاقتصادية، وكان يأخذ على حزب الوفد، الحزب الاكثر جماهيرية آنذاك، عدم تمتعه ببرنامج اقتصادي يشتمل على رؤية واضحة. وفي أولى تجاربه كرئيس وزراء، خاض صدقي تجربة صعبة مع اقتصاد اوشك على الانهيار بسبب تأثيرات ازمة الكساد الكبير العالمية آنذاك على مزارعي القطن المصري وباقي القطاعات التجارية والصناعية. وأثبت صدقي كفاءته بتطبيق حزمة من سياسات التشغيل من خلال المشروعات العامة، كإنشاء كورنيش الاسكندرية، والسيطرة على ارتفاع الاسعار في الاسواق التجارية وأسعار ايجارات المحالّ والمساكن. كما اكمل المشروع الذي بدأه سلفه، محمد محمود، بإنشاء بنك الائتمان الزراعي الذي وفر تمويلاً للمزارعين الذين عانوا من ضغوط كبيرة في هذا الوقت.
إلا أنّه في المقابل، كان صدقي يؤمن بضرورة وضع كوابح للعملية الديمقراطية في مصر. وفي مجال الحديث عن علاقة صدقي بالديمقراطية، يذكر المؤرخون قصة تجربته السياسية بعد ثورة ١٩١٩، عندما ترشح للبرلمان في الدائرة التي نشأ فيها، وله علاقة حميمة بأهلها، وفوجئ بفوز المرشح الوفدي فيها، الامر الذي عزاه الى شعبية سعد زغلول. وقد افقده ذلك الثقة في الجماهير وقدرتها على اختيار قادتها من وجهة نظره.
وسعى صدقي اثناء توليه رئاسة الوزراء إلى وضع قيود على حرية الناخبين في اختيار نواب البرلمان، وتقنينها من خلال تغيير قانون الانتخابات ووضع دستور جديد سنة ١٩٣٣. ودأب أيضاً على وضع كوابح للحركة الاجتماعية من خلال التعامل مع الاحتجاجات العمالية بعقلية أمنية. واتسمت «سنوات صدقي بالقمع وانخفاض مستويات النشاط العمالي»، وفق المؤرخين جويل بنين وزاكاري لوكمان، في كتاب «عمال على ضفاف النيل». ويقول الكتاب إن مصالح اتحاد الصناعات، الذي كان صدقي أحد قادته «كانت دائماً قريبة من قلبه».
إلا أنّ كوابح صدقي خلقت حالة من الغليان بين قطاعات من المتظاهرين السياسيين، وشارك العمال في الاحتجاج على منظومة صدقي الاستبدادية. «كان لدى الفقراء والعمال سبب وجيه لمعارضة تلك الاجراءات؛ فقانون الانتخابات ألغى الانتخاب المباشر ورفع سنّ الانتخاب ووضع مواصفات (للناخبين) تتعلق بمستوى التعليم والملكية»، كما يوضح بنين ولوكمان. ولم يسفر تحدي صدقي للجماهير المتطلعة للديمقراطية، بوضع دستور جديد يقلل من السلطات الشعبية، عن استقرار الاوضاع السياسية التي ارادها، اذ تبعتها اضطرابات دفعت السلطة في النهاية الى التراجع عن الدستور وسقوط هذا النموذج السلطوي، وان كان الرجل قد عاد الى السلطة بعد إلغاء دستوره في سياقات سياسية مختلفة.
دولة يوليو: مع العمال وضدهم
تعد ثورة يوليو إنتصاراً على النخبة الرافضة للإصلاح الاجتماعي، إذ اتت قياداتها بتوجهات واضحة لإعادة توزيع الثروة وإطلاق عملية التنمية التي لم تنجح في تحقيقها الاحزاب المتصارعة قبل عام ١٩٥٢ على النحو المرجو. وفي هذا السياق، استُدعي رجل آخر الى المشهد الاقتصادي يحمل للمصادفة الاسم نفسه، أي صدقي، أقصد هنا عزيز صدقي، وهو اول وزير صناعة في العهد الناصري. لكن رجل الدولة الاقتصادي هذه المرة لم يأت من قلب السياسة، اذ دُعي الى العمل مع النظام بسبب رسالة دكتوراه عن حتمية التصنيع، ففي دولة يوليو بدأ الفصل بين السياسة والاقتصاد.
وبينما كان عزيز صدقي يطبق احدث سياسات التنمية من خلال التصنيع في تلك الحقبة، كان وزير الصناعة الشاب جزءاً من مشروع سياسي استبدادي ايضاً. فقد أسس للحركة العمالية قطاعاً عاماً قوياً، ولكنه وضع حركتها النقابية تحت سلطة اتحاد غير ديمقراطي، تأسس عام ١٩٥٧ ولا يزال قائماً، وهو ما افقد العمال الكثير من قدراتهم التنظيمية. وكان تأميم الحركة العمالية جزءاً من عملية تجميد كامل للحياة الديمقراطية، وهو الوضع الذي لم يدم، إذ تفاقمت الازمة الاقتصادية لأسباب عدة كان من ابرزها غياب الديمقراطية الذي أدى إلى سوء الادارة وتفشي الفساد. وفيما اتجه النظام الى سحب امتيازاته الاجتماعية من خلال سياسات الانفتاح، شكلت كل من الحركة الطلابية الديمقراطية وعمال القطاع العام طليعة الاحتجاجات في انتفاضة ١٩٧٧، وموجة التظاهرات التي تلتها خلال حقبة الثماننيات.
الاقتصاديون الجدد
في عام ٢٠٠٧، اعتبر يوسف بطرس غالي، احد ابرز اقتصاديي دولة مبارك، في حوار مع صحيفة «الدايلي نيوز» أن «الوزير الذي يقوم بواجبه لا يحظى بالشعبية». كان ذلك في احد اعوام النمو الاقتصادي القوي لآخر حكومات مبارك التي لم تمنع السخط الشعبي بسبب غياب العدالة في توزيع ثمار هذا النمو والامتيازات القوية التي منحت للمستثمرين كقانون الضرائب على الدخل الذي وضعه غالي عام ٢٠٠٥ وخفض شرائح ضرائب تصاعدية الى ٢٠٪.
وواجه غالي، الذي خدم اطول مدة كوزير مالية في عهد الرئيس المخلوع، اضراباً قوياً من موظفي مصلحة الضرائب العقارية انتهى بنجاح العمال في تأسيس نقابة مستقلة عن الاتحاد «الكوربوراتي» الناصري. وشكل ذلك البداية لحركة استقلال نقابي انتشرت كالعدوى في القطاعين العام والخاص. ولكن غالي والحكومة النيوليبرالية بقوا بمعزل عن هذا الحراك الشعبي. وسعى وزير الداخلية القوي في الحكومة، حبيب العادلي، الى محاصرة تظاهرات الشباب المطالبة بالتغيير السياسي. هذا الجو المتوتر جعل جهود غالي في «القيام بواجبه» لتمهيد بيئة الاستثمار لجذب رؤوس الاموال غير كافية، إذ كان العديد من المستثمرين الأجانب يعبّرون عن مخاوفهم من المخاطر السياسية في حال نقل السلطة من مبارك الأب الى نجله جمال.
خلال الاشتباكات في القاهرة بين المحتجين المعارضين للحكومة والشرطة في ٢٨ كانون الثاني ٢٠١١.
هل تغيّر الخطاب بعد الثورة؟
مع قيام الثورة، اعتبر العديد من رجال الاعمال والاقتصاديين، أن للثورة وجهاً ايجابياً يتمثل في انهاء مشكلة التوريث بشكل سلمي، ما يقلل من مخاوف المستثمرين، وتركز خطابهم على ضرورة وقف الاشكال الاحتجاجية فوراً لتمهيد بيئة الاستثمار لجذب الاموال. وانتشر تعبير «الاضرابات الفئوية» ليصور احتجاجات العمال على انها اعمال انانية منفصلة عن الثورة. والواقع ان هذا الخطاب لم يركز، كالمعتاد، على التأثير السلبي للاستبداد السياسي في فشل الاقتصاد، إذ إن تقارير التصنيف الائتماني للوكالات الدولية منذ عام ٢٠١١، كانت ترصد كيف أثرت أعمال العنف ضد التظاهرات الديمقراطية سلباً على رؤية تلك المؤسسات للوضع المصري، فتراجع التصنيف الائتماني لمصر مرات عدّة بسبب احداث كموقعة الجمل ومذبحة ماسبيرو، وضبابية الرؤية بشأن خطة المجلس العسكري لنقل السلطة وعجز محمد مرسي، اول رئيس منتخب، عن خلق بيئة من التوافق السياسي.
كذلك عانى العمال من تأخر السلطة في اصدار قانون ينظم الحريات العمالية، ومن اشكال مختلفة للقمع، من الهجوم على اعتصاماتهم بالبلطجية واشكال العنف المختلفة واستهداف مؤسسي النقابات الديمقراطية بالفصل التعسفي وعدم تعديل قانون العمل الذي صدر في عهد مبارك (٢٠٠٣)، والذي يسهل على صاحب العمل فصل العامل؛ اذ قد تصل مدة التقاضي في هذه القضايا لعدة سنوات، واذا صدر الحكم لمصلحة العامل فلا يوجد ما يلزم صاحب العمل بإعادته الى شركته، ويستطيع الاكتفاء بتعويضه. وبالرغم من كل ادوات الاستبداد التي ظلت متاحة في يد الرأسمالية، تمكنت الحركة العمالية من تأسيس أكثر من الف نقابة مستقلة.
والى جانب ملف العمال، سببت حرية التعبير والتظاهر فضح اوجه الفساد، فحذر البعض من أن محاسبة نخب الاعمال القديمة نوع من تخويف الاستثمار؛ إذ تلقى الكثير من الاقتصاديين بامتعاض الأحكام القضائية الصادرة ببطلان صفقات الخصخصة الفاسدة في عهد مبارك، بالرغم من حديثهم الدائم عن انه لا اقتصاد صحياً دون سيادة للقانون.
باختصار، لا تزال الديمقراطية لا تلقى الحماسة الكافية بين العديد من الاقتصاديين بالرغم من كل التطورات التي حدثت منذ يناير ٢٠١١، ولا يزال نموذج «المستبد المستنير» يغازل مشاعرهم، بالرغم من ان الدرس التاريخي من كل سنوات الفشل الاقتصادي الماضي هو ان الاستبداد لا يحقق الاستقرار. إذ سرعان ما سيثور عليه الشعب، ويسبب بيئة متوترة لا تجذب الاستثمارات طويلة الاجل؛ إذ إنّ حريات العمال في التنظيم والاحتجاج هي افضل السبل لتحقيق توزيع عادل للمداخيل في المنشآت الاقتصادية ومن ثم للثروة داخل المجتمع بأكمله، بما ينشط الاستهلاك المحلي ويدفع النمو الاقتصادي. كذلك إنّ الدرس الاكبر هو ان فشل الديمقراطية يؤدي الى فساد المؤسسات القائمة على التنمية.
لقطات من مذكرات إسماعيل صدقي:
- ولكن موسوليني... لم يكن قد قدّر استعداد أهل بلاده للرقي الاخلاقي... وهذا هو سر الانقلاب وسر الفشل الذريع في مشاريعه السياسية والحزبية.
- ان الصحافة قوة تستطيع أن تبني، وتستطيع أن تهدم، واستطاعتها في الهدم أشد منها في البناء.
- لا أراني مسرفاً اذا قلت ان فريق الديمقراطية كان قد جرّب عدة مرات في الحكم فأبدى عجزاً، وأوشك ان يلحق في كل مرة بالبلاد وسمعتها ضرراً بليغاً... ذلك أنه لم يسلك في الحكم السبيل المستقيم، فقد شغل باستدامة اسباب النفوذ والسلطان لنفسه، وبتوفيره وجوه المنافع لأنصاره والثأر من خصومه، عمّا يقتضيه الحكم من توافر على النظر في حاجات البلاد وضروب الإصلاح، وتضحية في سبيل إسعاد البلاد ورقيّها.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.