العدد السادس - صيف ٢٠١٣

بين فاشية مجهضَة وأخرى محتملة

النسخة الورقية

يدفع هذا المقال بأنّ ثمة شواهد عدة تشير إلى أنّ النظام السياسي الذي سعى الإخوان المسلمون إلى إنشائه في غضون السنة الماضية يحمل بالفعل بعض ملامح النظم الفاشية، وهو بالقطع نظام سلطوي، وأنّ الحراك الشعبي من جهة، وتحرك أجهزة الدولة، وخاصة أدوات القمع من شرطة وجيش في مواجهته من جهة أخرى، قد أجهض محاولة تثبيت دعائم هذا النظام الذي كان منتظراً أن يهيمن عليه الإخوان المسلمون. بيد أنّ هذا الحراك ليس بالضرورة ديمقراطياً أو معادياً للسلطوية بقدر ما أنه أتى ليعكس مخاوف قطاعات جماهيرية واسعة في المجتمع المصري، وأخرى داخل جهاز الدولة من إنشاء سلطوية جديدة (بملامح فاشية دينية) تحت سيطرة جماعة الإخوان، وهو ما يعني أنه قد تكون هناك قابلية لدى هذه القواعد ذاتها لتقبل نظام سلطوي أو ديمقراطي خاضع للوصاية العسكرية في المستقبل. وفي الوقت ذاته، يرى المقال أنّ امتداد الصراع الحالي بين قوى الثلاثين من يونيو وجماعة الإخوان واحتمالات تحوله إلى أشكال صدام أشد عنفاً يحمل في طياته مخاطر ظهور حركة ذات ملامح فاشية وطنية هذه المرة، والتأسيس لنظام سلطوي جديد بهذه الملامح بالفعل، ومن ثم بالإمكان توصيف المشهد المصري في جانب منه على الأقل بأنه فاشية مجهضة وفاشية محتملة.

ما جدوى استدعاء الفاشية للمشهد السياسي الحالي؟

إن الفاشية تجربة سياسية خاضها عدد من بلدان أوروبا في فترة ما بين الحربين العالميتين، ومن هنا فالفاشية هي أيديولوجية من ناحية، وتجربة تاريخية لحركة سياسية ونظم سياسية أسستها تلك الحركات. وكما قدّر خوان لينز، فإن إيطاليا والحركة الفاشية فيها، تمثل النموذج أو المثال الذي تقاس عليه التجارب اللاحقة عليه، لأنّ إيطاليا هي مهد الحركة الفاشية كحركة سياسية واعية بذاتها، وهي أول البلدان التي تأسس فيها نظام فاشي.

يرى لينز في دراسته للظاهرة الفاشية أنّ التجربة هذه تنتمي قلباً وقالباً إلى حقبتها السابقة على الحرب العالمية الثانية، التي شهدت الهزيمة المادية والأيديولوجية للفاشية، وأنّ الفاشية كنظام سياسي يقوم على العداء للديمقراطية والاشتراكية (والحركة العمالية خاصة) وعلى صياغات قومية أو دينية متشددة لا يمكن خلطه مع أشكال السلطويات المتعددة والمتنوعة، لأنّ الفاشية ظاهرة نادرة نسبياً، لأنها مرتبطة بالشمولية (التوتاليتارية). وهذه بدورها بنت حقبة تاريخية معينة نحن اليوم أبعد ما نكون عنها، سواء من حيث الهيمنة الأيديولوجية لمفردات الليبرالية من الديمقراطية التمثيلية وحقوق الإنسان، أو من السياق الاقتصادي والسياسي العالمي الذي لم يعد ممكناً فيه ظهور دولة شمولية (باستثناء تجارب متحفية ككوريا الشمالية). ورغم هذا، فالفاشية عند لينز ظاهرة مهمة على المستوى السياسي، وتستحق الدراسة حتى في سياق ما بعد الحرب العالمية الثانية وما بعد الحرب الباردة، والأمر هنا راجع إلى ما يسميه لينز ملامحَ الفاشية التي قد توجد في بعض النظم رغم عدم اكتمال باقي العناصر التي يمكن بها وصف نظام سياسي ما بالفاشية. ويقدم خوان لينز هنا تشبيها مثيراً، فيقول إن وجود تيجان الأعمدة الرومانية في الكنائس والمساجد لا يعني أنّ هناك معابد رومانية، بل يشير فحسب إلى وجود ملامح لمعابد رومانية في أبنية مختلفة عنها تمام الاختلاف، لذا فقد يوجد نظام سياسي يحمل ملامح الفاشية ولا يكون فاشياً بالكامل. ولعل هذه النقطة هي المدخل الذي يحملنا إلى استخدام المفهوم والمصطلح لتوصيف تجربة الإخوان المسلمين القصيرة في مصر. هل حمل نظامهم السياسي المزمع ملامح فاشية؟

للإجابة عن هذا السؤال ينبغي الوقوف أولاً على أهم مقومات الفاشية رجوعاً لتجاربها في فترة ما بين الحربين في أوروبا. يمكن القول إن الفاشية كانت حركة تلتمس أدوات التعبئة والحشد والتنظيم الاشتراكي لضرب الاشتراكية نفسها والقضاء على الحركة العمالية، لذا فليس من قبيل المبالغة القول بأن الفاشية هي ثورة ضد الثورة، هي ثورة محافظة إن جاز التعبير بالتماس المجموعات والطبقات المعادية للديمقراطية وللاشتراكية لأدوات الثورة لإجهاض ما تراه ثورة اجتماعية محتملة أو قيد التحقق. أما الهدف الثاني للحركة الفاشية، فكان تقويض أسس النظام السياسي البرلماني، والاستيلاء على أدوات الدولة القمعية من شرطة وجيش وقضاء، وعلى موارد الدولة للتأسيس لنظام سياسي يصادر السياسة ويشيع الإرهاب ويتم مهمة سحق الحركة الشعبية الديمقراطية. إن الخلاصة هي أنّ جوهر الفاشية هو حركة محافظة اختارت الثورية أداةً لتقضي على الثورة ذاتها.

هل نظام الإخوان مشروع فاشي مجهض؟

لا شك في أن الإخوان المسلمين ــ وهم أكبر تنظيم سياسي مدني في مصر بعد ثورة يناير ٢٠١١ ــ لم يسعوا إلى تكوين تحالف ديمقراطي بعد إطاحة مبارك، يضم القوى المجتمعية والسياسية التي شاركت في الثورة، وهي قوى رغبت في مواصلة النضال لتفكيك الدولة الأمنية والبنية السلطوية الموروثة من دولة يوليو. بل يمكن القول إن استراتيجية الإخوان في التأسيس لنظام سياسي يهيمنون عليه على المدى البعيد كانت تقف على قدمين اثنتين:

الأولى هي إقامة نظام سياسي يقوم على آليات الديمقراطية الإجرائية من انتخابات واستفتاءات حرة، ولكن الاحتفاظ بالديمقراطية عند مستواها الإجرائي فحسب، بما يبرر إقامة نظام سلطوي منتخب أو ديمقراطية محافظة على حد توصيف عمرو عبد الرحمن. ويقصد بهذا أنّ الإخوان لم يكونوا متسامحين مع إدخال أية تعديلات جذرية على علاقة الدولة المصرية التي ورثوها على سلطويتها واستبداديتها بالمجتمع، فلم تكن ثمة نية كما ظهر من جميع آليات التشريع التي امتلكها الإخوان إبان تأسيس نظامهم من مجلس شعب ثم مجلس شورى باختصاصات التشريع بعد حل الأول وفي الدستور بالطبع، لم يكن ثمة توجه لضمان الحريات والحقوق الأساسية، لا النقابية منها ولا الخاصة، بحرية الإعلام والتعبير، ولا بالحق في الاحتجاج والتظاهر والإضراب، ولا ما يخص بالمجتمع المدني، فضلاً عن الموقف من الأقليات الدينية والنساء.

أما القدم الثانية التي قامت عليها استراتيجية الإخوان، فكانت إيجاد صيغ ما للتعايش وربما التحالف المتوتر مع الأجهزة الأمنية والاستخبارية، والجيش على رأسها، فما من شك في أنّ محاولات الإخوان لإرضاء أجهزة القمع الموروثة من دولة مبارك خلال المرحلة الانتقالية، ثم خلال رئاسة مرسي، تمثلت في تقديم كل الضمانات في دستور ٢٠١٢، وفي السكوت عن إعادة الهيكلة، فضلاً عن المساءلة أو المحاسبة على انتهاكات حدثت في عهد مبارك المديد وفي خلال المرحلة الانتقالية وفي خلال حكم مرسي.

يضاف إلى هذين الملمحين أن الإخوان المسلمين كنواة لنظام سياسي جديد ذي محتوى سلطوي مؤكد ـ وليس بالضرورة فاشياً ـ قد شرعوا في إقامة تحالف سياسي ـ بجانب تحالفهم المتوتر مع أجهزة الدولة القمعية ـ مع الكتلة الإسلامية التي تقع على يمينهم بشكل أساسي، وقد ظهرت هذه المساعي بجلاء بعد انتخابات مجلس الشعب في نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١١، التي شهدت قدراً محدوداً من انفتاح الإخوان على رموز ليبرالية وناصرية ومستقلة وضعتهم في المنتصف بين ما عرف بالقوى المدنية على يسارهم، والسلفيين على يمينهم. لكن مع اشتداد الخلاف حول الدستور مع غير الإسلاميين بالأساس، والذي ظهر مع التشكيل الأول للجمعية التاسيسية التي نالها حل القضاء الإداري، أصبح سعي الإخوان واضحاً في تكوين تحالفهم مع القوى الإسلامية. ومع انحسار شعبية الإخوان شيئاً فشيئاً في المراكز الحضرية، وفي شمال البلاد عامة، أصبحت الحاجة للعودة إلى ادعاء تمثيل الإسلام السياسي ضرورة للبقاء في مقاعد الأغلبية النسبية، وهو ما ظهر بوضوح في كتاب الدستور، الذي جاء في التحليل الأخير ليرضي القوى الإسلامية المحافظة من سلفيين وأزهر من ناحية، والجيش من ناحية أخرى على حساب القوى الليبرالية والناصرية واليسار والائتلافات الثورية وممثلي المجتمع المدني والحركة النقابية المستقلة والمثقفين وممثلي حقوق النساء والقضاء.

كل ما سبق يشي بنيات الإخوان السلطوية، وبتكوينهم الفعلي لتحالف سلطوي يجمع اليمين الديني والقلب الصلب، إذا جاز التعبير لدولة يوليو. فهل من ملامح فاشية في نظام الإخوان الموؤود؟

ملامح ثلاثة لفاشية النظام الإخواني المجهض

يمكن الحديث عن ثلاثة ملامح رئيسية لفاشية نظام الإخوان المتردي إلى جانب سلطويته المثبتة:

الملمح الأول هو الدور الوظيفي الذي أداه الإخوان والكتلة الإسلامية عامة في حصار الحركة الديمقراطية الثورية واستنزافها وإجهاضها بعد إطاحة مبارك لمصلحة القوى المحافظة؛ إذ خلافاً لما يروّج له البعض من أن الانقسام المبكر في صفوف القوى الوطنية على خلفية استفتاء مارس/آذار ٢٠١١ بين إسلاميين وغير إسلاميين هو المسؤول الأول عن تراجع أجندة الثورة في مواجهة المصالح المحافظة داخل دولة يوليو السلطوية، فإن دور الإخوان في إجهاض المحتوى الديمقراطي للتحول السياسي كان واعياً، وكان جزءاً أساسياً من استراتيجية الجماعة في مرحلة ما بعد مبارك؛ إذ لا يمكن تفسير مدلول جمعتي قندهار الأولى والثانية التي خرج فيها الإسلاميون بقضهم وقضيضهم لاحتلال ميدان التحرير، إلا في ضوء تأكيد تحالفهم مع الجيش (يا مشير أنت الأمير)، بل بالترويج لأنفسهم باعتبارهم الطرف السياسي الأكثر شعبية والأشد تنظيماً وحضوراً، وبالتالي الأقدر على الاتفاق مع العسكر. (حراس دولة يوليو أو ما بقي منها، وكذلك في ضوء العداء الأيديولوجي الواضح لأيّ أجندة حرياتية أو حقوقية تعيد رسم العلاقات بين الدولة والمجتمع في مصر بعد الثورة). وقد استمر دور الإخوان هذا - والإسلاميين عامة - في ظل رئاسة مرسي، وفي محتوى القوانين والقرارات التي صدرت عنهم، التي كانت دوماً تخطب ودّ أجهزة الدولة القمعية، وتكرس لسلطوية على حساب الحريات والحقوق المأمولة بعد إسقاط نظام مبارك. وهو ما يضع ملمحاً مبدئياً للفاشية في المعسكر الإسلامي بقيادة الإخوان، لكونه يعبّر عن حراك جماهيري ثوري الطابع ـ في شكله وأدواته ومفرداته ـ ولكن بمحتوى محافظ للغاية، ومع استدعاء كثيف للجماهير المحافظة هذه لإسباغ «الثورية» على مصادرة الحريات والحقوق والتكريس لسلطوية تحت قيادة جديدة، هي للإخوان.

أما الملمح الثاني للفاشية لدى نظام الإخوان الوئيد، فهو المحتوى الأيديولوجي الشمولي الذي احتفظ به الإخوان في خطابهم لقواعدهم وللمتعاطفين معهم جنباً إلى جنب مع التركيز على آليات الديمقراطية التي أوصلتهم إلى الحكم، وخاصة الاقتراع؛ إذ إن الإخوان كحركة تنتمي في المقام الأول إلى الفضاء الديني، ودورها السياسي يأتي أصلاً من خلال ادعائها تمثيل الإسلام السياسي في مجال السياسة، وبهدف الاستيلاء على دولة ما بعد الكولونيالية لأسلمة المجتمع، هذه الحركة لم تتبن الديمقراطية من خلال أية مراجعات فكرية أو من خلال تأصيل عقيدي أو فقهي، بل ترك الأمر للنفعية البحتة، وللديمقراطية كانتخابات وسيلةً للوصول إلى السلطة، وتماشت رغبة الإخوان في الحفاظ على هويتهم السياسية «الإسلامية» بعد سقوط مبارك ورؤيتهم الإجرائية والضحلة للديمقراطية باعتبارها لا تحمل أي مكون حقوقي أو حرياتي، بل تقتصر على آليات إنتاج سلطة - قد تكون هي ذاتها ديكتاتورية أو حتى شمولية - وهو التناقض القديم بين الديمقراطية والليبرالية الذي فصله كارل شميت في نقده للديمقراطية الليبرالية في ثلاثينيات القرن الماضي. والمتابع للتكتيكات التي اتبعها الإخوان منذ فبراير ٢٠١١، يجد أنّ ثمة استعمالاً انتهازياً للغاية لمفاهيم كالثورة والديمقراطية والدولة المدنية - بمعنى نقيض الحكم العسكري - مع تطبيق الشريعة والدولة الإسلامية والحاكم الشرعي وقاموس المصطلحات القديم للإسلام السياسي.

وفي تصوري، إنّ مفهوم «الشرعية» الذي ظهر أول ما ظهر في أزمة الإعلان الدستوري، يجسد المزج المدهش بين الديمقراطية الإجرائية ـ التمثيلية بالأساس ـ والأفكار الشمولية القديمة للإسلام السياسي الذي لا يزال يمثل الرصيد الوحيد للإخوان المسلمين بعد فشلهم في تكوين تحالف اجتماعي محافظ يضم اليمين عموماً، لا اليمين الديني فحسب؛ إذ إنّ الشرعية مفردة قريبة للغاية من الشريعة، وثمة جناس شبه تام بينهما، واستخدامهما يتم بشكل متبادل في خطابات الإخوان وحلفائهم لقواعدهم، التي لا تزال تحلم بدولة دينية، وفي الوقت نفسه الشرعية تشير إلى نتاج آليات الديمقراطية المجردة التي قد تنتج أية سلطة تمثل إرادة الشعب، بما في ذلك القوى غير الديمقراطية - الديمقراطية كمحتوى وليس فحسب كانتخابات. ولعل هذا يذكرنا بما نظر له كارل شميت في رسالته الشهيرة «في مفهوم السياسي» من أنّ الديمقراطية كنموذج هي تجسيد لإرادة الشعب العامة والمطلقة بلا قيد، ولذا فهي في صورتها الأثينية الأصيلة - نسبة إلى أثينا الإغريقية - لا تنتج سوى ديكتاتوريات تعبّر عن الشعب المطلق الإرادة، وأنّ الديمقراطية الليبرالية هي نتاج مشوه ومشوش للجمع بين الديمقراطية كتعبير عن إرادة الشعب المطلقة، والليبرالية التي هي نقد للسلطة ذاتها لمصلحة حريات وحقوق الأفراد في مواجهة الملك والمجموع. وكان تصور شميت أن هذا التناقض المميت يمكن أن ينتج ديكتاتوراً بين آن وآخر، بل إنّ الديكتاتور أصلاً كمصطلح أتى إلينا من الجمهورية الرومانية لقنصل مطلق السلطات ينتخبه مجلس الشيوخ، أي أنّ الديكتاتور بحكم التعريف منتخب بشكل ديمقراطي يعبر عن إرادة الشعب!

لا شك أنّ حضور هذا المكون الشمولي ـ ولو على استحياء وبشكل انتهازي للغاية ـ يشي بوجود عناصر للفاشية في نظام الإخوان المجهض، وخاصة أن خوان لينز يرى أن الفاشية ليست فحسب ثورة مضادة أو تحالفاً محافظاً ورجعياً، بل هي عادة ذات مكون شمولي يماهي بين الشعب والدولة، ويصادر التعددية باسم تمثيل الجوهر الحق للشعب. ويثبت هذا العنصر الشمولي في خطاب الإخوان وفي تكتيكاتهم في رفضهم الإقرار لحق المعارضة في الوجود، ورد الاحتجاج السياسي والمعارضة باستمرار لخلافات هوياتية ووجودية بالقول إن معارضي الإخوان من فلول النظام السابق أو من البلطجية أو من العلمانيين والملحدين أو من الأقباط على نحو يماهي فعلياً بين الدولة التي يحكمها الإخوان، والتي يفترض أنها في طريقها للأسلمة بفضلهم، وبين شعب مصر المسلم الذي لا يأتي في عداده بالطبع غير المسلمين ديناً كالمسيحيين، أو أيديولوجياً باعتبار أنّ الإسلام السياسي هو الإسلام، وأنّ الإسلاميين هم المسلمون.

ومن المعروف أن الديمقراطية الإجرائية كانت مدخلاً للعديد من السلطويات، وللفاشيات كذلك، ولعل الحالة المدرسية بالطبع هي حالة هتلر وألمانيا النازية، وكذا فوز الحزب الفاشي الإيطالي بالأغلبية البرلمانية في انتخابات ١٩٢٤ المقيدة بعد الانقلاب الناجح الذي قاده موسوليني. فقد كانت الديمقراطية الإجرائية عند الإسلاميين هي عنوان حكمهم السرمدي في ضوء تفوقهم التنظيمي من ناحية، وفي ضوء رأسمالهم الثقافي الكبير الذي كونوه من خلال أربعة عقود من أسلمة المجال العام في ظل رئاسة السادات ومبارك من ناحية أخرى. ولكن ليس ثمة ضمانات لتمسك الإخوان بآليات الديمقراطية الإجرائية أو بعقد انتخابات حرة في حال ما إذا كانت ستهدد حكمهم. ورغم أن هذا الحكم افتراضي، إلا أنه يستند إلى واقعتين في ظل حكم مرسي: الأولى هي استخدام أدوات الدولة لتمرير التصويت على دستور ٢٠١٢، وما أُثير حول دعاوى التزوير في ظل غياب الإشراف القضائي. والثانية هي قانون مباشرة الحقوق السياسية وانتخابات مجلس الشعب الذي أعده مجلس الشورى الإخواني الأغلبية، والذي أصرّ على توزيع غير متوازن للدوائر بما يزيد من حصة الصعيد والمحافظات الطرفية بنحو سبعين مقعداً على حساب المدن الكبرى، التي وضح أنها معاقل مناهضة للإخوان، وهي وقائع تدلّ على أن التزام الإخوان الديمقراطية حتى كإجراءات كان متروكاً لنفعها بالنسبة إليهم في تأمين وصولهم المتكرر للسلطة.

أما الملمح الثالث والأخير لمحتوى فاشي ما للنظام الإخواني الساقط، فهو استدعاء أدوات القمع غير النظامية للسيطرة على المجال العام ضد الخصوم، وقد ظهر هذا بجلاء في استدعاء الجماهير «الإخوانية» أو «الإسلامية» المتكررة لدعم قرارات الرئيس المنتخب، رغم ما يعنيه هذا من إضعاف البنى المؤسسية التي أقامها الإخوان أنفسهم من خلال آليات الاقتراع. وظهر كذلك في تقريب العناصر الإرهابية المتقاعدة كالجماعة الإسلامية وبقايا الجهاد الإسلامي، والعلاقات غير الواضحة المعالم حتى اليوم، بين الإخوان والعناصر الجهادية في سيناء، كأدوات قمع بديلة من الشرطة والجيش، في ضوء عدم رغبتهما في أداء الدور القمعي مباشرة لمصلحة نظام الإخوان. على الرغم من أن حضور واستحضار هذه المجموعات شبه العسكرية في المشهد كداعم للسلطة الإخوانية في مواجهة الخصوم قد أتى نتيجة عدم تشديد قبضة الإخوان على الأجهزة الأمنية والعسكرية، إلا أن هذه المجموعات ليست غير نظامية فحسب، مثل بلطجية الحزب الوطني، بل هي عناصر تمثل حركة جماهيرية ذات مرجعية أيديولوجية تدافع عن الدولة، وكلها ملامح فاشية بامتياز.

كان المسار السياسي الذي سلكه الإخوان بالتأسيس لنظام يخضع لهيمنتهم على المدى البعيد بقواعد تأتي على حساب العديد من القوى السياسية والمجتمعية يفضي قطعاً إلى اللجوء للمزيد من القمع، وكان عقب أخيل في هذه التجربة المبكرة هو تعقد صيغ التعايش مع أجهزة القمع الموروثة من عصر مبارك، التي لم تنهر نتيجة لثورة يناير، بل احتفظت بنفسها، وأعادت بناء قدراتها كما هو بادٍ اليوم. وبالتالي لم يكن بمقدور الإخوان أن يستولوا على هذه الأجهزة بشكل فوري حتى تؤدي خدمات القمع لهم للتأسيس لسلطتهم، بل إن هذه الأجهزة كانت هي ذاتها مصدر تهديد - كما ثبت في ما بعد - لاستمرار حكم الإخوان نفسه، ومن هنا كان اللجوء إلى فكرة تجييش القواعد المنتمية إلى المشروع الإسلامي والطائفة الإخوانية، وخاصة أنّ التنظيم ذاته مؤسسة شبه عسكرية بحكم جذورها الفاشية القديمة في الثلاثينيات من القرن الماضي. ولا شك أنّ مصير أجهزة الأمن والجيش نفسه على المدى البعيد، باعتبارها قوى غير موالية للإخوان أو على الأقل محايدة، مصدر قلق واسع؛ لأنّ كل الطرق كانت تؤدي إلى إخضاع هذه الأجهزة لحكم الطائفة، إن آجلاً أو عاجلاً، وحين توفر القدرة على ذلك. وهو ما قد يفسر ـ ولو جزئياً ـ سرّ تحرك الأجنحة العسكرية والأمنية والاستخبارية ضد الإخوان في حزيران / يونيو ٢٠١٣، رغم أنها قد أمنت كافة مكتسباتها المباشرة، ولكن الصراع كان مؤجلاً، ويبدو أن الجميع كان مدركاً لهذا.

الفاشية المحتملة

أتت تظاهرات ٣٠ يونيو/حزيران وما تلاها من احتجاجات ضد الإخوان لتظهر الحضور القوى للعنصر الجماهيري، الذي لولاه لما كان ممكناً اتخاذ الجيش لقرار إقصاء مرسي عن السلطة. وخلافاً لتظاهرات يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط ٢٠١١ حينما كان التركز في المدن الكبرى في شمال مصر، فإنّ ٣٠ يونيو/حزيران شهد خروجاً للريف، وتظاهرات في المراكز والمدن الصغيرة بالدلتا بجانب حراك مشهود في مدن الصعيد ضد حكم الإخوان. وقد كان هذا الخروج الجماهيري مصحوباً بالكثير من معالم العنف الذي يمكن وصفه بأنه ثوري - ما لم يثبت العكس بالطبع في ما بعد - لأنه كان تلقائياً من جهة، ومستهدفاً لرموز السلطة من جهة أخرى. ونجد أنّ الجمهور المحتج على حكم مرسي قد صبّ جام غضبه على مقارّ الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة والأحزاب الصغيرة التابعة للإخوان كالوسط، وهو سلوك شبيه باستهداف مقارّ الحزب الوطني وأقسام الشرطة، ثم مقارّ أمن الدولة في يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط ٢٠١١، باعتبارها رموز السلطة. وبما أنّ تملك الإخوان لأجهزة الدولة لم يكن متحققاً بالكامل، فإنّ رموز السلطة كانت في مقارّ الجماعة، تعبيراً كذلك عن قناعة الجمهور المناهض للإخوان بتركز السلطة خارج الدولة، وكون السلطة الحقيقية في مكتب الإرشاد.

وما لم يثبت في ما بعد أنّ استهداف المقارّ الإخوانية كان منظماً من قبل أمن الدولة أو أجهزة الاستخبارات كما يقول الإخوان، فإنّ هذا العنف يكون تلقائياً وجماهيرياً، ويكون شبيهاً بالعنف الثوري الذي تحدث عنه سوريل طويلاً، باعتباره الأفعال الخارقة للقانون التي تستهدف تحطيم رموز السلطة، بغضّ النظر بالطبع عن كون هذه السلطة منتخبة من عدمه. وأما إن كان صحيحاً أنّ جزءاً من هذا العنف موجه بالفعل من مجموعات تتبع الأمن، كالبلطجية المأجورين على سبيل المثال، أو عناصر أمنية متخفية، فيكون الأمر ساعتها بالفعل أقرب إلى تكتيكات الحركة الفاشية، على مستوى التكتيك على الأقل، حيث تقوم أجهزة الدولة بدعم تشكيلات أهلية أو بتوجيه الحركة الجماهيرية ضد خصومها لمحو تمثيلهم في المجال العام.

إلا أنّ التشابه الشكلي بين ميليشيات أو مجموعات أهلية مدعومة من الدولة والتشكيلات الفاشية لا يعني بالضرورة أنّ مصر بصدد سيناريو فاشي، لأنّ مجموعات البلطجية المأجورين من الشرطة (السياسية أو السرية) لا ترقى إلى مستوى التصنيف كحركة سياسية - فضلاً عن كونها جماهيرية - في المقام الأول، بل هي أقرب إلى توظيف الدولة لظواهر إجرامية لعدم قدرتها على توظيف أجهزة القمع الرسمية لديها لإتمام مهام قمع الخصوم. وقد كان هذا هو الوضع مع الحزب الوطني، وبلطجية الأقسام المحسوبين عليه، الذين كانوا يُستخدمون لتزوير الانتخابات، ثم جرى جمعهم في موقعة الجمل كأقصى ما يمكن تحصيله من استخدام المجرمين الجنائيين لتحقيق مهمات سياسية على الأرض. بيد أنه شتان ما بين مجرمين مأجورين يُستخدمون لأغراض سياسية، وتنظيمات عسكرية أو شبه عسكرية مكونة من مدنيين منتمين إلى أيديولوجيا أو فكر سياسي أو اجتماعي معين كحال التنظيمات الفاشية في النصف الأول من القرن العشرين، حتى ولو كان الاثنان مدعومين من الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر. وهنا مربط الفرس، فليس في مصر حركة فاشية مناهضة للحركة الإسلامية، ولا يمكن اختزال الحراك الجماهيري الشديد الضخامة الذي وقع في الثلاثين من يونيو/حزيران، ولو كان ضمن مطالبه القيام بانقلاب عسكري ضد رئيس منتخب، لا يمكن اختزاله في صورة حركة فاشية؛ لأنّ غالب الحراك كان سلمياً، والعنف كان هامشياً. بل إن وصف الحركة الفاشية بمعنى تنظيم شبه عسكري يضم منتمين على أساس أيديولوجي داعم للسلطة ضد المعارضين ينطبق أكثر ما ينطبق على الإخوان المسلمين والإسلاميين عموماً في السنة الوحيدة التي حكم خلالها محمد مرسي وإخوانه، وهي المسألة التي سبقت مناقشتها.

إذن، إنّ توصيف الحركة المناهضة للإخوان ولحكمهم، سواء من جانب الدولة أو من جانب الجمهور على أنها ضرب من الفاشية، هو أمر بعيد كل البعد عن الدقة لاستخدام وتوظيف مصطلح كالفاشية بما تحمله من إشارة لفترة زمنية ولتجارب في تاريخ ما بين الحربين العالميتين. قد يصدق وصف الانقلاب العسكري على إزاحة مرسي، ويصبح الحراك الجماهيري مجرد سياق سياسي للانقلاب باعتباره عنواناً للانقسام الشعبي، أو لسقوط شرعية مرسي بشكل مبكر، أو لفشل النظام الديمقراطي إجرائياً في استيعاب الصراع الاجتماعي والسياسي. وقد يثبت في ما بعد أنّ الأجهزة الاستخباراتية والجيش قد استثمروا استثماراً في تعثر حكم الإخوان، وفي تصاعد المعارضة ضدهم، وفي فقدانهم للشعبية، وفاقموا من مشكلات الحكم لدى الإخوان بعدم تعاون جهاز الدولة معهم على المستويات المركزية والمحلية. ولكن هذا كله لا يجعل الحراك الجماهيري تجسيداً لحركة فاشية بأي حال من الأحوال، ولو كان المطلب هو عودة الجيش للحكم، ولو كان المطلب هو إزالة الديمقراطية الإجرائية، وإقامة سلطوية عسكرية بشكل مباشر أو غير مباشر، فهذا كله يندرج تحت بند السلطوية لا الفاشية.

تشكُّل مزاج مناهض للإخوان

في تصاعد الأحداث إلى ٣٠ يونيو/حزيران، شهدت قرى ومدن الدلتا خاصة اشتباكات عنيفة بين المنتمين إلى جماعة الإخوان وأهالٍ حانقين على حكم الإخوان لأسباب شتى، وقد استمرت هذه الاشتباكات التي قد ترقى إلى مستوى الاقتتال الأهلي حتى بعد إزاحة مرسي عن الحكم، في إشارة إلى الانقسام الشعبي الحادّ حول رئاسة مرسي والانقلاب عليه سواء بسواء. وتظهر كذلك درجة انعزال الإخوان والتيار الإسلامي عامة عن قواعد عريضة من المصريين الذين لا يزالون يبحثون عن هوية سياسية تعرفهم في مواجهة الإسلاميين أصحاب الهوية السياسية الواضحة. وقد يكون الإخوان بالفعل هم «الآخر» الذي تتشكل هوية جماعية مصرية في مواجهته، وخاصة أنّ المجتمع المصري الضعيف الذي خلفته ستة عقود من استبداد دولة يوليو، ومصادرتها للحريات العامة، لم يجد بعد يناير/كانون الثاني ٢٠١١ سوى تنظيم الإخوان المسلمين كتيار سياسي ذي هوية جماعية محددة وواضحة المعالم، بل وجسم تنظيمي أشبه بالطائفة الدينية داخل الأغلبية المسلمة، على حدّ تعبير وتوصيف الراحل حسام تمام. وهو ما يجعل التفاعلات السياسية منذ إطاحة مبارك وحتى اللحظة تشكل هويات جماعية في مواجهة الهوية الجماعية الوحيدة المعرفة: الإخوان. وهي لحظة عايشناها مرات عدّة لعل أبرزها كان التصويت لحمدين صباحي وأبو الفتوح في المرحلة الأولى للانتخابات، ثم التصويت لشفيق في المرحلة الثانية، ثم الاصطفاف وراء جبهة الإنقاذ إبان أزمة الإعلان الدستوري في نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول ٢٠١٢، وكلها تجليات لكتلة لا يعرفها سوى مناهضتها للإخوان، والخوف من سيطرتهم على الدولة وتثبيت دعائم حكمهم، وقد يصبح عبد الفتاح السيسي حال ترشحه للرئاسة عنواناً لهذه الكتلة في المستقبل.

نحن إذن بصدد مزاج عام مناهض للإخوان، كان هذا المزاج العام مداداً لحركة احتجاجية تريد إنهاء حكم مرسي باستدعاء القوات المسلحة للمشهد، وهو ما جرى، ولكن استمرار مقاومة الإخوان، واحتلال الطائفة الإخوانية وأنصارها لحيز مادي من المجال العام في رابعة العدوية وفي ميدان النهضة، وفي المسيرات التي تخرج بين آن وآخر لتعطيل المسار السياسي البديل، الذي يقوم عليه الجيش، يرشح استمرار أداء الإخوان لدور الآخر في صراع ليس فحسب هوياتياً، بل وجودي كذلك. ويتماشى هذا مع دور الإعلام الخاص والعام في رسم ثنائية الإخوان في مواجهة الشعب المصري ودولته، وهو الخطاب الذي أتى مع تصاعد العمليات العسكرية في سيناء، واستدعاء مفردات الخطاب الساداتي للقومية المصرية المبغضة للفلسطينيين، والمنكبة على الذات. وأتى ذلك أيضاً مع تصريحات مسؤولي الإخوان المتكررة عن انشقاقات في الجيش، واستدعاء الأطراف الأميركية والأوروبية لإعادة مرسي إلى سدة الحكم، وهو ما دفع باتجاه التأليف بين رافدين متنافرين عادة من الخطاب القومي المصري: الرافد الساداتي التالي على كامب ديفيد الكاره للعرب، والرافد الناصري المعادي للاستعمار والمتحدث باسم العزة والكرامة. وليس من قبيل الصدفة أن تخرج الجماهير في ٣٠ يونيو/حزيران وفي ٢٦ يوليو/تموز حاملة لصور السادات وعبد الناصر بجانب عبد الفتاح السيسي.

وقد سعى الجيش في إزاحته لمرسي في ٣ يوليو/تموز إلى استدعاء ممثلين لكافة مكونات المجتمع المصري في مشهد الإعلان عن إنهاء حكم مرسي والإخوان، وبجانبهم ممثلون عن الدولة المصرية، فرأينا شيخ الأزهر وبطريرك الكنيسة القبطية، وممثلاً عن حزب النور أكبر الأحزاب السلفية، مضافاً إليهم محمد البرادعي عن جبهة الإنقاذ، وبالتالي التيار المدني بمكوناته الليبرالية والناصرية واليسارية، وكذلك ائتلافات الثورة، وممثلون عن الشرطة والجيش والقضاء أي الجميع عدا الإخوان. كان هذا هو مبدأ المسار السياسي البديل لفكرة أن مصر ضد الإخوان، ولكن نظراً إلى هشاشة الوضع، واحتمالات اندلاع حروب أهلية مصغرة، فإن الهدف المبدئي كان إجبار الإخوان على إقرار الهزيمة، ودمجهم في المسار السياسي الجديد، وهو ما فشل فيه الجميع حتى الآن باستمرار الاعتصام، والاتجاه نحو التصعيد من الجانبين حتى تاريخ كتابة هذه السطور. ومع تصاعد العنف بين الإخوان وغير الإخوان، وبين الإخوان والشرطة والجيش في أحداث الحرس الجمهوري ثم المنصة بطريق النصر، تتزايد حاجة التحالف المناهض للإخوان لاستدعاء مفردات القومية المصرية بروافدها المتعددة الساداتية والناصرية ضد الإخوان، في خطاب وطني شوفيني (معادٍ في جوهره للفلسطينيين والسوريين)، والتركيز على الدور التآمري للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، ودعم الولايات المتحدة والغرب لهم بغية تقسيم الوطن، وانشقاق الجيش المصري، وتكرار سيناريو سورية.

والحق أنّ هذا الخطاب الذي يعمل الإعلام الخاص والعام على إنتاجه هو تجلٍّ مدهش، وغير واعٍ من أطراف الصراع، لتصورات كارل شميت عن عدو الدولة، وهو بناء هوية قومية جامعة في مواجهة أقلية ما، تصبح هي عنوان التهديد والخطر، وترتبط بعدو خارجي، وهو ما كان متحققاً مع اليهود في ألمانيا النازية قبيل صعود هتلر للسلطة وبعده بالطبع؛ فقد كان ينظر لليهود باعتبارهم - على ضآلة أعدادهم - العدو الداخلي الذي يواجه الدولة الألمانية، وبالتالي الشعب. وفي الوقت نفسه كان هؤلاء اليهود مرتبطين بالخطر الأكبر الخارجي، ألا وهو الاتحاد السوفياتي والشيوعية. ويبدو أن هذا هو التكتيك المستخدم مرحلياً على الأقل لعزل الإخوان عن أية قواعد شعبية خارج التنظيم، وربما خارج التيار الإسلامي (وخاصة مع خذلان الدعوة السلفية لهم في صراعهم المرير)، وهو ما يضمن التماهي بين الدولة والشعب (فكرة التفويض في تظاهرات ٢٦ يونيو/حزيران والنفي المتكرر لأن يكون ما جرى انقلاباً عسكرياً) في مواجهة الخطر الماثل والجاثم على صدر الأمة في رابعة العدوية وفي ميدان النهضة (الاعتصامان مسلحان ويهددان الأمن القومي).

يبدو أنّ هذا الخطاب التصعيدي والإقصائي بالطبع يجري إنتاجه في خضم أزمة وجودية تتهدد عناصر التحالف المناهض للإخوان مع استمرار تعطيل الإخوان للمسار التالي على خلع مرسي، وقد يكون الغرض منه - إن كان هناك غرض عقلاني في خضم الأزمة الجارية - هو كسر إرادة الإخوان نهائياً، وإعادة دمجهم في مسار سياسي ليس من صنعهم هذه المرة بعد انهيار مسارهم التعيس الذي بلغ تمامه في دستور ٢٠١٢.

لكن في الوقت نفسه، إنّ هذا الخطاب الذي يشرف في واقع الأمر على إنتاج هوية جماعية مصرية في مواجهة الإخوان، قد يصبح مع استطالة الأزمة أمراً لازماً لظهور واستمرار المسار السياسي لما بعد خلع الإخوان، وذلك بالتكريس لاستبعادهم، لا دمجهم، ويكون هذا بالمطالبة بالمزيد من الحراك الجماهيري الداعم للجيش والشرطة لاستخدام العنف ضد اعتصامات الإخوان وتظاهراتهم، وبتأجيج فرص الاقتتال الأهلي بين الإخوان وغير الإخوان، وتتمة هذا المسار هي الدفع بالاستفتاء على تعديلات الدستور، وإقرارها ومن ثم إسباغ شرعية إجرائية ديمقراطية على المسار الجديد تمحو الانقلاب، ثم إجراء انتخابات رئاسية يفوز فيها مرشح للجيش يصبح تجسيداً للتحالف المناهض للإخوان من ناحية، وللتماهي بين إرادة الشعب وإرادة الدولة في مواجهة عدو الدولة/الشعب.

إن سيناريو كهذا سيؤسس لنظام سياسي عنوانه أصلاً مواجهة الإخوان لا دمجهم، وهو أمر بالطبع يتماشى مع رغبات النخب الأمنية في عودة سيطرة الأمن على المجال العام من أجل إدارته، ووصاية الجيش والقضاء على المجال السياسي الجديد من أجل «ترشيده»، وخاصة أنّ الانهيار المبكر للتجربة الديمقراطية يثبت أن النخب السياسية قاطبة غير أهل لإدارة البلاد. ويصبح نتاج المسار هذا شبيهاً بمسار الإخوان من حيث فشله في وضع قواعد لعبة مقبولة من جميع الأطراف، بل يكون فحسب شرعنة قواعد لعبة لطرف على حساب طرف، تماماً كما فعل الإخوان في ديسمبر/كانون الأول ٢٠١٢ بتمرير الاستفتاء على دستورهم، وهو أمر بالطبع لم يجد مع نظامهم السياسي الذي سرعان ما تهاوى في مواجهة معارضيه الذين كان النظام مصنوعاً لإقصائهم. وقد يردّ البعض بالطبع بأنّ الفارق سيكون تعاون الدولة مع الحكام الجدد خلافاً لحال الإخوان إبان حكمهم، وهو ما يغري بشرعنة القمع حتى النهاية بحيث تصبح مهمة النظام السياسي الجديد هي إقصاء الإخوان وأنصارهم، والعمل على ردّ ضرباتهم التي تستهدف استقرار النظام الجديد وفاعليته في إدارة الشأن العام. وهذا أمر بالطبع يعني إدامة الأزمة الجارية، وزيادة فرص العنف المدعوم من الدولة في مواجهة الإخوان، فضلاً بالطبع عن أنه سيؤسس لنظام سياسي/أمني لا يحمل من الديمقراطية إلا إجراءاتها وشكلياتها على أقصى تقدير، ولكنه سيكون في جوهره نظاماً سلطوياً منتخباً، تماماً كالنظام الذي كان يريد الإخوان تثبيت أركانه.

المشكلة مع هذا التصور أنه لا يقوم إلا على استئصال الإخوان من المجال العام، بمعنى أن يكون للدولة ظهير شعبي منظم يعبّر عن إقصاء الإخوان، وتدمير مقاومتهم بشكل مادي، وهو أمر غير ممكن باستبعاد الإخوان من المجال السياسي فحسب (بحظر الأحزاب الدينية على سبيل المثال أو حل جماعة الإخوان)، بل يكون بمحو الإخوان كتنظيم من المجال العام. ويكون هذا بتكثيف الشعور الشعبي المعادي للإخوان/الداعم للجيش باعتباره مؤيداً للدولة، وتشكيل ميليشيات منظمة عسكرية أو شبه عسكرية تتولى تصفية وجود الإخوان ككيان اجتماعي، وهذا هو سيناريو الفاشية المحتملة في مصر حال امتداد الأزمة واشتدادها في الشهور والسنوات القادمة.

وذلك لأنّ مثل هذا السيناريو لتثبيت دعائم النظام الجديد التالي على خلع الإخوان سيكون لإنهاء ما يبدو أنه انقسام شعبي، إن لم يرق لحرب أهلية منخفضة التكاليف حتى الحين، وهو وضع شبيه بإيطاليا بعد الحرب العالمية الأولى، ومع صعود الحركة الفاشية (١٩١٩-١٩٢٢) سيكون لحركة جماهيرية منظمة ولاؤها للدولة وللنظام القائم في مواجهة حركة أخرى، هذه المرة ستكون الحركة الإسلامية أو تنظيم الإخوان، مع الفارق العظيم بالطبع بينها وبين الحركة العمالية في إيطاليا في تلك الفترة، التي كانت تعبّر عن مطالب التحول السياسي لنظام أكثر ديمقراطية وعدالة اجتماعية، في حين أن الحركة الإسلامية والإخوان خاصة طوائف محافظة للغاية، فشل مسعاها إلى الحكم نتيجة لفشلها في الاتفاق مع مؤسسات وأجهزة الدولة القمعية لا أكثر ولا أقل. ولكن التشابه هنا يكون على مستوى التكتيكات، وهو عنف أهلي مدعوم من الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر، ضد جماعات سياسية لها أرضية اجتماعية كبيرة - رغم ما نالها من انخفاض شديد في الشعبية إبان حكم الإخوان القصير. ويكون الهدف هو إلغاء هذه الحركة من المجال العام، فلا يكون لها تظاهرات، ولا إضرابات، ولا مقارّ ولا اجتماعات، إلخ... ويكون إسناد أفعال العنف هذه لغير أجهزة الدولة، ولكن هذه المرة لمجموعات تحمل عداءً أيديولوجياً للإخوان، فربما يكون هذا هو المدخل لنوع ما من الفاشية التي تظل محتملة، ولكن مرجحة في ضوء تعثر المسار السياسي الحالي، واستمرار تصعيد الإخوان ورفضهم الاعتراف بانهيار مسارهم السياسي.

العدد السادس - صيف ٢٠١٣

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.