تشغل الساحة المصرية حالياً ثلاثة أسئلة: هل انتهى الإسلام السياسي؟ هل تعود فلول الحزب الوطني إلى الحياة السياسية مرة أخرى؟ هل تنجح منظومة السلطة القديمة ودولة مبارك في إعادة إنتاج نفسها والسيطرة مجدداً؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، أو على الأقل محاولة ذلك، ينبغي الكشف عن علاقات السلطة المكوِّنة لتلك المنظومات وخطاباتها وممارستها. وربما كان ينبغي الرجوع إلى ما قبل الثورة لنتبين أين كنا نقف وإلى أين صرنا. فهناك ثورة قامت حتى الآن بأربع موجات ثورية عميقة ومركبة ومتناقضة كثيراً في بنية فاعليها وفي ظاهرها. فمثلاً، الموجة الثورية الأولى رفعت شعار «الجيش والشعب إيد واحدة». على النقيض، فالموجة الثورية الثانية المتمثلة في معركة محمد محمود نادت بإسقاط العسكر. وجاءت الثالثة لتتمرد على استمرار النهج الأمني في ذكرى الثورة ٢٠١٢، ثم احتكار الإخوان للمجال العام والسياسي والاستبداد بالسلطة عبر محاولة مرسي الاستئثار بالسلطة من خلال الإعلان الدستوري. في المقابل، جاءت الموجة الرابعة (٣٠ يونيو) لتعيد طرح شعار الموجة الأولى. وبالطبع، إنّ التناقضات أوسع وأعمق من ذلك. على كلّ، فالتناقض هو السمة الرئيسية لأي ثورة، وبالأخص الثورات الكبرى والممتدّة. بل كما يشير آلتوسير، دوماً ما يكون نجاح الثورات مرتبطاً بدخول عناصر من بنية النظام القديم على نفس خطوط الثورة، وبهذا تتوافر إمكانات أوسع لإحداث قطيعة مع الماضي. بهذه الطريقة، ترى أطراف من النظام القديم استحالة إمكانية الدفاع عن نظامها المخلوع حتى النهاية، وتصبح مناصرته تهديداً وجودياً لها. وهذا هو الحال مع أجهزة الدولة المختلفة وفلول نظام مبارك التي ناصرت الموجة الرابعة. ولعلّ أبرز هذه العناصر هو الجيش المصري، وتطرح سرعة تدخّله سؤال الانقلاب والمؤامرة.
ثمّة شيء لم يتغير كثيراً بين الموجة الأولى في ٢٥ يناير ٢٠١١ والموجة الأخيرة. منذ البداية، كانت هناك ثلاثة خطوط للفعل شكّلت عملية ثورية بداخلها توجّه إصلاحي محافظ (أي متردّد جداً في مدّ الثورة على استقامتها حتى تتمكن من هدم كلي في بنية النظام والمجتمع القديم)، يحيط به انقلاب عسكري.
ولعلّ أبرز ما طرحته الثورة المصرية هو مشكلة ما يصطلح على تسميته الخيال السياسي. ويرى البعض أنّ «الخيال السياسي هو إعمال العقل والمخيلة معاً لصياغة رؤى متكاملة لحل مشكلات الحاضر». إلا أنّ الأمر يبدو أكثر تعقيداً من إيجاد حلول ابتكارية لواقع مأزوم. فعمليات التخيل تمر بمراحل مختلفة ومركَّب بعضها مع بعض من فهم الواقع إلى إمكانية تفكيكه وإعادة تركيبه إلى القدرة على تخيّل واقع مفارق بالكلية لما سبقه. وهنا يأتي الخيال إما لإعادة ترسيخ الواقع نفسه، ولكن بتحسين ظروفه نسبياً، أو لفتح سبل وإمكانات أوسع للانعتاق والقطيعة مع ما سبقه. ويبدو أن ثمة انسداداً كبيراً في عمليات القدرة على التخيل السياسي بعيداً عمّا تم رسمه سلفاً أو ما يفرضه علينا ما ترسّخ في أبنيتنا العقلية. ولقد أكد ماركوزا، أحد أبرز فلاسفة مدرسة فرانك فورت، أنّ تغير الواقع وحده لا يكفي إذا لم نقم بتغيير الحلم الاجتماعي والسياسي. ولهذا جاء اهتمام الورقة بكلّ من الخيال السياسي عند الفاعلين الرئيسيين في موجة ٣٠ يونيو، والتفتيش عن الحلم الاجتماعي عبر الشرائح الاجتماعية المختلفة.
يجب علينا ربط الخيال السياسي مع أحد تعريفات الثورة التي تراها كحدث يفتح المجال لإعادة تخيل مساحات الممكن والمتاح، بحيث هي مساحات لم تكن غير موجودة من قبل فحسب، بل لم تكن متخيلة أساساً؛ فالجانب الثوري المتمثل في قطاعات واسعة من المجتمع، كان ولا يزال يعني شعار إسقاط النظام بالكلية، ويهدف إلى إحداث تغيير جذري في منظومة السلطة بشكل موسّع على جميع المستويات. هو جانب ثوري يطمح إلى تغيير نمط السلطة وتركيبتها في هياكلها العليا مثل الدولة، وتفكيك السلطة الذكورية والأبوية في المجتمع. وتحاول الثورة تغيير العلاقة بين المؤسسات المختلفة في المجتمع والدولة والأفراد وإعادة هيكلة البنى المختلفة المتحكمة في العملية السياسية والثقافية والاجتماعية. وهي تسعى أيضاً إلى تغيير ممارسات السلطة التي اتسمت بقدر كبير من الإخضاع والسيطرة من خلال العنف والقمع. وهذه القطاعات الثائرة لا تعترف بآليات الإصلاح القائمة على التدرّج. والثورة تعني لها عملية ممتدة وضخمة من التحول لا تنحصر فى ١٨ يوماً وإطاحة جسد الرئيس. ويمكن القول إن هناك خمسة خطوط تتحرك فيها الثورة لإحداث قطيعة مع الماضي، ويمكن قراءة نموذج كامن داخل حركتها والأهداف التي تتحرك عليها: هناك خط المواجهة مع المنظومة الأمنية، وخط العدالة الاجتماعية الذي يعبّر من قبل الثورة عن نفسه في الإضرابات العمالية والمهنية الواسعة، ثم خط المرأة وحريتها في المجال العام والتعبير. ويأتي التنوع والتعدّد الذي حرصت عليه الثورة وعلى ترسيخه وعدم استئثار طيف بالمجالين العام والسياسي كخط رابع، فضلاً عن خط خامس هو المجال العام كمساحة جغرافية ومساحة حوار وتأثير في صنع القرار. ويتّضح للمدقق في هذه الخطوط أنها المقابل لطبيعة النظام القديم، بما فيه أحلام مجتمعه وخياله أيضاً كما سيتضح.
أحلام «السيّد» وهيبة الدولة
إن ذلك الانسداد في الخيال السياسي هو ما يقوم باستدعاء لحظة تاريخية ما في محاولة فرضها على واقع وسياق مغايرين لها. بل إنّ تلك اللحظة التي يتم استدعاؤها دائماً، كثيراً ما تتسم بالجمود والغموض وتخيلها بشكل تمجيدي للتطبيق أو الحطّ من شأنها بدوافع الشيطنة والتهميش. وهو الأمر الذي يبدو واضحاً على الساحة المصرية في الجدل الدائم في كل من عبد الناصر من جهة، والأندلس كأبهى محطات الخلافة الإسلامية من جهة ثانية. المثير في الأمر أنّ عمليات الاستدعاء هذه تحصل بعد ثورة يعدّها بعض الباحثين ثورة على نمط الثورات. والغرض من هذا القول ليس تمجيد الثورة المصرية، بل الإشارة إلى اختلافها بنيوياً وتنظيمياً وحركياً عمّا سبق عليها. وبالتالي، هناك مفارقة واضحة بين طبيعة الفعل الثوري وعملياته المباشرة من ناحية، وبين الخيال السياسي لكثير من الأطراف السياسية المؤطّرة والمتماسكة تنظيمياً من ناحية أخرى. ولا شك أنّ فهم الواقع الحالي، وبالأخص مع صعود الإسلاميين متمثلين في «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في علاقة جدلية بين ما يجتازه الواقع بالفعل السياسي والمجتمعي، وبين الخيال السياسي للتيارات الإسلامية وغيرها بالطبع. إلا أنّ وجود الإسلاميين في الحكم يجعلهم مصبّ الاهتمام الأول بالبحث والفهم.
ويمكن رصد ثلاث فئات كان ولا يزال لديها طموح واسع للبحث عن السيد واستعادة هيبة الدولة. فالفلول و«الإخوان» وبعض القوميين في محاولة حثيثة لخلق سيّد. وما أقصده بالسيد هنا هو أقرب لمفهوم كارل شميت. هو هذا الشخص القادر على فرض الاستثناء، القادر على صنع قطيعة وعمل حدث متجاوز للتاريخ، القادر على الحسم في ما يتعلق بالموت والحياة. وساعدت حالة الفوضى والذعر الأمني في انضمام قطاعات جماهيرية إلى هذا الحلم. فهناك حاجة لفرض إرادة على الحدث التاريخي نفسه، وفرض سيادة عامة على الجميع. فالفلول، على الرغم من أنّ مصالحهم الاقتصادية لم تضرب في العمق، إلا أن هناك احتياجاً حقيقياً لديهم لوقف الحدث الثوري واستعادة المكانة السياسية والسيادية لهم. وكذلك الداخلية المصرية التي تلقت هزيمة واسعة النطاق، وخصوصاً على المستوى النفسي حيث انكسرت هيمنتهم وجبروتهم على المجتمع. بالتالي، فكلاهما في بحث عن مخلّص يوقف التاريخ ويرجع به إلى ما قبل ٢٥ يناير ٢٠١١. وبالنسبة إلى الداخلية، فقد كانت سلطتها قائمة على نمط السيد التحتي للمجتمع، حتى في الرتب الأدنى منها، وبالأخص في سنواتها الأخيرة، ولذلك انتشرت حالات القتل الخارج عن القانون؛ لأنّ السيد أعلى من القانون، هو ذلك الشخص الذي يفرضه ولا يفرض عليه. ومن هنا كان حرص هذه الجهة الدائم على استمرار حالة الاستثناء العامة لأنها بمثابة فرض لقانونهم على الجميع، وترسيخ شرعنته السياسية والمجتمعية.
واستدعاء القوميين وآخرين لعبد الناصر له دلالات عدة لا تنحصر فقط في إفلاس الخيال السياسي. فمنذ الثمانينيات، هناك شعور عميق بفقدان الأب والسيد الذي يجسد كلاً من الأمان والعزة المسلوبة. وقد عبّرت عن هذا الشعور بدقة شديدة، الكثير من الأعمال الأدبية، لعل أبرز أبطالها أسامة أنور عكاشة. وهو ما يصفه الباحث الأنثروبولوجي فؤاد الحلبوني بـ«نوستالجيا وسرديات الحنين إلى الأب بعد فرط عقد العائلة وانحلالها». ويجب ربط فقدان السيد في الداخل، بفقدان السيادة في الخارج. فمنذ «كامب ديفيد» ومصر منحسرة تماماً، سواء على مستوى المنظومة الإقليمية العربية أو الدور العالمي. ويرتبط هنا أيضاً بحلم عودة السيد لتقديم الأمان الاجتماعي والاقتصادي بعدما انهارت قطاعات واسعة في براثن النيوليبرالية والفشل المتلاحق للدولة.
لا شك في أنّ مصر في الآونة الأخيرة شهدت نزوعاً نحو الفاشية، سواء في مواجهة «الإخوان» أخيراً، أو سابقاً من خلال محاولات «الإخوان» الفاشلة لتكوين سلطوية إسلامية. وتشير كتابات أرندت إلى أنّ صلب الفاشية هو الإرهاب. لكنْ هناك جوهر آخر، هو العزة أو أوهام العزة والإحساس بالقدرة، سواء متمثلة ومجسدة في السيد، أو أهمية الخنوع والتماهي للتابعين لشيوع السيادة لفكرة أكثر تجرداً ومتجاوزة عنهم. ويعبّر هذا النزوع أخيراً في جسد السيسي. فهناك مجموعة من الهوس تكون حول الرجل، من الهوس الجنسي إلى أحلام السيادة والاستقلال؛ لأنه يواجه الولايات المتحدة.
لقد حاول «الإخوان» بناء السيد من خلال مرسي وسمو التنظيم حتى على الدولة. وتصاحب هذا مع خطاب مماثل للفلول والداخلية والجيش حول هيبة الدولة. وذلك التمجيد وإعادة بناء هيبة الدولة وتقديسها مرة أخرى كان نابعاً من حلم وراثة الدولة؛ لأنّ هذا السيد الجديد لا بد له من جهاز عملاق ليعبّر عنه وليدير المجتمع من خلاله. وعلى الضفّة الإسلامية، كانت هناك تنظيمات شبكية عدة تحاول بناء سيد جديد وخلق حالة مفارقة من رحم الحدث الثوري لبناء سيادة إسلامية عامة. فتلك التنظيمات تقوم أولاً على أساس بسيط هو حلول الفكرة والقيمة في الأنسجة المجتمعية من خلال خلايا رخوة. وهي بذلك تستبدل التنظيم بالقيمة، وتُحدث عملية تسييل لها، بحيث يكون انتقالها أسهل، ويكون الانتساب إلى الفكرة من خلال إعلان الولاء لها ومن خلال اعتماد التنسيق. وعوضاً عن البنية الثقيلة، والتنظيم، وتحديد أدوار وتكليفات بشكل هرمي أو «شجري»، يكون التكليف هنا بشكل تنسيقي وتشاركي. وهذه النوعية من التنظيمات الإسلامية هى الأخطر، وهي كثيرة ومتعددة. فداخل الطيف الواسع لتيار السلفية الجهادية حركات تولد وتموت، مثل «حركة حازمون» و«الجبهة السلفية»... أما خارج مصر، فكل تنويعات تنظيم القاعدة ليست خاضعة بالضرورة للتنظيم الرئيسي في أفغانستان، بل قد لا تكون لها أي علاقة تنظيمية به غير الانتماء إلى منظومة القيم نفسها، والنهج التنفيذي، والتعضيد المتبادل للتحركات المشتركة. وتلك الحركات في مصر هي الأقرب إلى طبيعة الثورة المصرية، وقمعها أو محاولة قمعها يؤدي إلى انفجارات وإعادة تشكل لخلاياها بشكل متواصل. ولهذه التشكيلات طبيعة ثورية وراديكالية. فقيمها مستمدة دوماً من وضع فيه قهر خارجي، تحاربه وتستبسل في مقاومته. ووعد هذا الخطاب يتمحور دائماً وأبداً حول الكرامة والعزة، وهي أمور إيجابية. واحترام هذه القيم وتوفيرها لهذه التنظيمات الإسلامية ينزع من أيديها فرص تمدّد التطرف وتوسع تلك التنظيمات التي سرعان ما تتشنج وتجنح إلى استخدام عنف واسع حينما تُهدَّد أو تستشعر بأنه وقت الجهاد. ويعمل خطاب هذه الخلايا والتشكيلات بطريقة عكسية لمظلومية التنظيمات الكبرى مثل «الإخوان». وهي تستدعي لحظة تاريخية تحقق من خلالها إنتاج العزة في نفوس أتباعها أو من تحاول استقطابهم، وبالتالي فهي تنطلق من المجد لا من الظلم. وتنتج خطاباً للمظلومية ولكن في حيز آخر هو الحيز العالمي، مبرزة أن هناك اضطهاداً للفكرة والقيمة الإسلامية على مستوى عالمي لا داخلي ولا محلي فحسب. وبذلك، تعطي هذه التنظيمات بعداً أكبر وأعظم لقضيتها. ورأسمالها الرمزي قائم على استدعاء صور أشخاص قاموا بالفعل بإرباك المنظومة العالمية، وبعضهم كانوا مقاتلين أشاوس مثل «خطّاب» (سامر بن صالح بن عبد الله السويلم) في الشيشان. وقد بدأ ينمو اتجاه واضح في مصر يتباهى بصور الزرقاوي وأسامة بن لادن، سواء على صفحاتهم الخاصة في «الفايسبوك» أو حتى بشكل ميداني في التظاهرات التي يحشد لها هذا التيار. وتثير هذه التشكيلات في النفس أمراً في غاية الخطورة، هو إمكانية التحرر والانعتاق. ولقد عبّرت عن هذا التجريد والقيمة العامة حملة «لازم حازم» التي كانت تدعم المرشح السابق حازم صلاح أبو إسماعيل في سباق الرئاسة. فشعار الحملة «سنحيا كِراماً»، كان الأكثر اتساقاً مع مبادئ الثورة وشعاراتها، وحاكى وداعب حلماً شعبياً دُفن لعقود طويلة، وجاءت الثورة لتعبّر عنه.
الجيش وسؤال الحلم بين الممكن والمتاح
لماذا ناصر الجيش الموجة الرابعة؟ اتّسمت تحليلات السياسيين والأكاديميين في مصر للجيش منذ الثورة بالعمل من خلال مستويين: تحليل قيم الجيش ودفاعه عن الوطن، وهو خطاب الوطنية الممجّد للجيش. وكثيراً ما يتسم هذا الخطاب برطانة وكليشيهات متمثلة في مقولات مثل «جيشنا العظيم، أعظم الجيوش، حامي المصريين» وما إلى ذلك من مقولات وأغانٍ. والثاني هو التعامل مع الجيش كحفنة من المرتزقة لا يسعون إلا وراء الأموال. والحقيقة أنّ كلا المستويين يبدوان لي اختزاليين ومعبّأين بالايديولوجيا أكثر من التحليل والتفسير.
لقد أراد العسكر قطع رأس الملك فحسب - أو الإيهام بذلك - لتهدئة غضب الثورة أو إخمادها بما يسمح بالحفاظ على النظام العام وتركيبة السلطة ونمطها، ما يتيح لهم السيطرة على مقاليد الحكم، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر وإعادة إنتاج النظام القديم للحفاظ على مكتسباتهم الاقتصادية والاجتماعية. وربما ساندوا الثورة فى بدايتها لإعاقة مشروع التوريث والحفاظ على الجمهورية. إلا أنّ علينا أن نتساءل: ماذا تعني الجمهورية للعسكر؟
الإجابة ببساطة هي: ديكتاتورية عسكرية. إنّ هذه الإجابة السريعة والبسيطة مستمدة من عمق التجربة التاريخية المصرية الحديثة. فبداية نشوب تلك الفكرة كانت مع أحمد عرابي. والقراءات الجديدة للتاريخ توضح أن العسكريين المحيطين بعرابي، وعرابي شخصياً، كانوا يطمحون إلى إنشاء تلك الديكتاتورية، بل وأحياناً كان يصل الأمر إلى احتقار المدنيين. وهذا الشكل أو التصوّر للنظام كان هو الوحيد القادر على إعطاء غطاء شرعي لوجودهم كأشخاص يمكن أن يستمروا في الحديث باسم الجماهير. ويوضع الجيش فوق كل الكيانات السياسية والاجتماعية الأخرى التي من الممكن أن تعبّر عن الدولة والمجتمع. وكان ذلك السبب الرئيسي في تراجع الكثير من النخب المدنية والدينية عن عرابي الذي لم يتورع من إشهار سيفه في حالات اختلاف وجهات النظر.
وتكرر نفس الطموح والتصوّر عند الضباط الأحرار الذين كان معظمهم ينتمون إلى تنظيمات فاشية وسلطوية أو كانوا متأثرين بها. ومنذ الأيام الأولى للحركة المباركة ــ انقلاب ١٩٥٢ الذي تحول لاحقاً إلى ثورة ــ دار نقاش طويل بين الضباط الأحرار حول اتجاهين: الأول تحقيق ديكتاتورية عسكرية، والثاني إنشاء ديمقراطية. إلا أنّ الجمهورية كانت تعني لهم الخيار الأول. ومن هنا نستطيع فهم هذا القدر من عدم التجانس واختلاف الرؤى بين المجلس العسكري والحركة الثورية في الشارع المصري. فالثورة كانت تريد استعادة الجمهورية على حدّ وصف د. هبة رؤوف. وتهدف الثورة إلى بناء جمهورية جديدة على قواعد وأسس تواكب طموح الثورة وشبابها، وليس استعادة الجمهورية فحسب. ويدور الصراع الحقيقي حول نمط السلطة وتجلياتها في شكل الممارسات المختلفة. فالثوار مجمعون على رفض شديد للدولة البوليسية. وهم لم يقوموا بالثورة لإحلال تسلط الداخلية بتسلط العسكر. بل هناك عداء شديد لنمط السلطة المعسكرة في العموم. فالثورة قامت ضد بنى القمع والقهر المختلفة من السلطة الأبوية إلى هيمنة الأمن على السياسة والنواحي الاجتماعية المختلفة. وهما خاصيتان أصيلتان في تركيبة السلطة المعسكرة. والمشروع الثوري يتجه نحو تفكيك تلك السلطة ــ في المساحات المدنية ــ بخطوات متسارعة أحياناً ومرتبكة ومتعثرة أحياناً أخرى. والعسكر يعتقدون أنهم من خلال ذلك الانقلاب المتداخل مع الثورة، يمكنهم إخضاع الجماهير مرة أخرى، وبهذا يتفوق الانقلاب على الحالة الثورية.
ويجب الأخذ في الاعتبار أنّ الانقلاب هنا لا يعني بالضرورة استمرارية العسكر في الحكم المباشر على رأس الدولة. فهناك تغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية على المستوى المصري والعالمي يجعل هذا الهدف أمراً عسيراً للغاية. فتطور نظم الحكم وأنماط الاقتصاد والإنتاج جعلت السلطة لا ترتكز على جهاز الدولة فحسب، ولكن داخل شبكات مصالح على مستوى داخلي وعالمي متجاوز للدول أحياناً. وارتبطت الانقلابات العسكرية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي باحتلال نخبة عسكرية ما للدولة والالتصاق بها وبناء ما سمي رأسمالية الدولة. أما الآن، فالأمر أكثر تعقيداً. فجهاز الدولة لا يزال مهماً وفعالاً لأقصى درجة، إلا أنه أصبح عقدة في شبكة معقدة ولم يصبح كل في ذاته ولذاته. وبهذا نستطيع فهم حرص المجلس العسكري على حكومة مثل الجنزوري التي ترسخ الدولة القديمة العميقة وتحافظ على نفس نخب النظام السابق وقياداته، وبالأخص في الصفين الثاني والثالث. وفي الوقت نفسه، نستطيع فهم عدم قفز المجلس العسكري كلياً على السلطة في شكل انقلاب خمسيني أو ستيني. فمصالح المجلس العسكري مرتبطة بالدولة ومتجاوزة لها في الوقت نفسه، ولا يوجد لدى المجلس مشروع سياسي يتطلب ترؤّسه للدولة مباشرة، ولكن توجد مصالح اقتصادية واجتماعية تتطلب توغله في الدولة ووجوده فوقها وخارجها لا على رأسها. فمثلما تطورت النظم وأنماط الحكم وحتى أنماط الثورات، يجب أن نأخذ في الاعتبار تطور الانقلابات.
الجيش بين لحظات الاستثناء والاستقرار
ولكي نفهم التدخل الأخير للجيش، علينا النظر إليه من خلال مصالحه الاقتصادية والاجتماعية في حالات الاستقرار، ومن خلال الدولة في حالات الاستثناء مثل الثورة. فالمدخل الاقتصادي وحده عاجز عن تفسير تدخله الأخير، ببساطة لأن «الإخوان» قاموا بتنفيذ كل تطلعات الجيش الاجتماعية والاقتصادية وثبّتوها في الدستور السابق رغم أنف الثوار. ولم يتورع مرسي عن التهديد بالمحاكمات العسكرية، وغازل الجيش في كل محفل. بل إنّ الجماعة كمؤسسة كانت تتعمد تشويه الثورة وتصوير أبنائها على أنهم معادون للجيش المصري «العظيم»، ويهددون سيادة الوطن ويسعون إلى إيقاع الفتنة بين الشعب والجيش. والحقيقة أنه لم يكن هناك توجه ثوري معادٍ للجيش في ذاته أو لسيادته ودوره العام، بل كان ولا يزال هناك تمرّد حقيقي على عسكرة المجتمع والدولة والسلطة.
ويعمل الجيش في لحظات الاستثناء من خلال منطق الدولة والحفاظ عليها، حتى لو كان ذلك عكس مصالحه الاقتصادية والاجتماعية. ومما سرّع تدخل الجيش هو تهديد الإسلام السياسي بسيناريوات الحرب، وتحديداً الحرب الأهلية، مثل الجزائر والصومال وسورية. وقد أعرب السيسي عن قيم الوصاية والحماية في خطاباته المختلفة، بحيث جاءت بصيغة «إحنا ميبقاش لينا لازمه لو سبنا حدّ يهدّد الشعب المصري»، وأيضاً معبّراً عن الخوف من تفكك الدولة المصرية «العظيمة». ومما زاد من تماسك الجيش في الأحداث الأخيرة، المحاولات المستمرة من قبل الإسلاميين للترويج لفكرة أن الجيش قد انقسم على نفسه، وأن أسلحة كثيرة تدعم مرسي والشرعية المزعومة.
ولكي يؤدي الجيش دور السيد، عليه تقديم ضريبة العزة قبل القمع. هو أمر تكلفته مرتفعة وخارجة عن تطلعات الجيش وارتباطاته العالمية وتبعيته، فالأمر يحتاج إلى أكثر من حماية الجموع من عدو داخلي.
ولا تستطيع فكرة الوطن بشكل مجرّد تأدية هذا الدور القمعي والفاشي إلا بوجود حرب خارجية، بل وتحقيق قدر من الانتصار فيها. فما أسّس لاستبداد عبد الناصر وديكتاتوريته العسكرية لم يكن البطش بالإخوان في ٥٤، ولكن الحرب والنصر السياسي في ١٩٥٦، أمام ثلاث دول مع تكاتف شعبي ومقاومة مسلحة وباسلة غير مسبوقة في مصر. أضف إلى هذا إعادة توزيع الثروة وتحقيق شرائح اجتماعية واسعة مكتسبات اجتماعية واقتصادية جديدة. هذا مع الأخذ في الاعتبار أنّ خطاب عبد الناصر كان قادراً على دغدغة حلم اجتماعي واسع متمثل في التحرر الوطني والتخلّص من الاستعمار. كل ذلك وسط غياب أي وسائل للتمثيل الشعبي إلا عبر أحزاب كان قد تم القضاء عليها، وعبر الدولة ذاتها وكانت قد تمت السيطرة عليها. أما الآن، فنحن في عصر أتاح أدوات جديدة للتمثيل والتعبير السياسي خارجة عن المؤسسات وعن الدولة في الوقت نفسه. فعلى مدار ثلاث سنوات، لم يخفت صوت الثورة وممارستها ووجودها، على الرغم من أن الدولة لم تُمسّ، وليس ثمة تنظيم أو حزب جامع لها.
أحلام قديمة
يمكن بحث العملية الانتخابية من خلال منهجية مركّبة حيث لا تنظر للفاعلين السياسيين وقدراتهم على الحشد والتعبئة فحسب، بل تحاول أيضاً التعمّق في درجات الوعي لدى الناخب وما يقدم له من وعود سياسية ومدى تلاقيها مع الحلم الاجتماعي لدى قطاعات واسعة من الجماهير؛ لأنّ النظر في درجات الحلم الاجتماعي والتخيّل السياسي قد يعطي صورة أعمق عن إمكانية التغيير الجذري في المجتمع. حيث يؤكد ماركوزة، أحد رواد مدرسة فرانكفورت، أنّ تغيّر الواقع فقط لا يكفي؛ حيث إنه ما لم تتغير الأحلام في مخيّلاتنا، سرعان ما تحدث ردة ليست فقط للواقع الجديد، ولكن للواقع الذي قد تم تغيره أيضاً.
الوعي الجماهيري والعملية الانتخابية
أثارت مسألة الوعي الجماهيري ودورها في العملية الانتخابية، جدلاً كبيراً لدى الباحثين والسياسيين، الأمر الذي دعا البعض إلى تسفيه الجماهير صراحة واتهامها بالجهل. ذلك لأن العمليات الانتخابية السابقة المتمثلة في انتخابات ٢٠٠٥ و٢٠١٠، كانت كارثية بكل المقاييس؛ إذ اتّسمت بشراء الأصوات والنزاعات التي وصلت إلى حدّ سفك الدماء ووصول سفهاء ــ على حد قول كثيرين ــ إلى أهم مؤسسة تشريعية في مصر.
إلا أن التعجل في مثل هذه الاتهامات يحمل الكثير من المغالطة والتعجرف على وعي قطاعات كثيرة من الناس. من هنا سأحاول تحليل بعض النقاط في العمليتين الانتخابيتين السابقتين اللتين قمت بتغطيتهما ومراقبتهما.
وسؤال البحث المحوري هنا: ما هو الحلم الاجتماعي والوعد السياسي في العمليتين السابقتين؟
من متابعة كل منهما، يمكن القول إن الحلم الاجتماعي تمحور بشكل رئيسي حول نقطتين: الأولى هي تأمين وظيفة عمل، والثانية هي الخدمات العامة للمنطقة، التي من المفترض أن تقوم بها الدولة وليس مجلس الشعب.
إنّ غياب دور الدولة في التوظيف والمحور الاقتصادي عموماً، وتوحّش سياسات الخصخصة خصوصاً، قاما بتحويل جذري في العملية الانتخابية، حيث تمحور حلم قطاعات واسعة من المجتمع من الطبقات المعدمة وغير المعدمة حول تأمين وظيفة عمل. فالأهالي – من مختلف الطبقات - الذين تحمّلوا معاناة كبيرة في تعليم أبنائهم، أصبحوا أمام عبء آخر أكثر ثقلاً من العملية التعليمية ذاتها، وهو توظيف هذه الأعداد الهائلة من المتخرجين. ولقد تخلّت الدولة عن هذا الدور بشكل كامل تقريباً مع اكتمال مشروع الخصخصة وتبنّي السياسات النيوليبرالية مع حلول الألفية. وصارت عملية التوظيف في أيدي رجال الأعمال إما بشكل مباشر من طريق التعيين في ما يملكون من مؤسسات وشركات اقتصادية، أو من خلال الوساطة في شركات أجنبية ومؤسسات دولية تربطهم بها شبكة علاقات واسعة من المصالح الاقتصادية والاجتماعية. ولقد ضم الحزب الوطني أغلب رجال الأعمال في مصر. أضف إلى هذا هيمنته الكاملة على النظام العام، حيث كان يمثل النظام السياسي والاقتصادي والدولة معاً.
من هنا، نستطيع فهم أمرين: أولاً، حرص مرشحي «الوطني» من رجال الأعمال على الوصول إلى البرلمان لضمان استمرار مصالحهم الاقتصادية من خلال احتلال البنية التشريعية في الدولة. ثانياً، نجاح أغلب هؤلاء المرشحين ودعمهم من قطاعات جماهيرية واسعة. فلقد تم اختزال الجانب الاقتصادي في رجال الأعمال، وتم اختزال الدولة في الحزب الوطني. فهذا التماهي بين النظام السياسي والدولة والحزب الوطني جعلنا أمام الدولة متجسدة في كيان واحد يحظى مَن في داخلها ببعض ما يمكن أن تقدمه له الدولة من خدمات، بينما الذي يبقى خارجها، يظلّ خارج العملية بالكامل، وعليه البحث في منافذ أخرى لا علاقة لها بالدولة. ومن هنا حدث تزاوج بين الحلم الاجتماعي والوعد السياسي. والحقيقة أنّ الوعود المقدمة من مرشحي الحزب الوطني المنحل لم تكن تمثل وعود مرشحين سياسيين على الإطلاق، بل كانت وعود دولة. ومن هنا نستطيع أيضاً فهم صعوبة منافسة أحزاب أخرى للحزب الوطني باستثناء «الإخوان المسلمين»، لأسباب عدّة:
- أولاً: تغلغلهم داخل البنية الاجتماعية وحضورهم الدائم مع الجماهير من خلال مؤسساتهم الممتدة من التعليم إلى الصحة وبساطة الأفكار وقدرتهم على فهم الواقع اليومي المعيش للجماهير.
- ثانياً: خطابهم الممزوج بين الديني والخدماتي.
- ثالثاً: شبكة المصالح الاقتصادية القادرة على منح خدمات للمواطن بشكل يومي.
- رابعاً: قدرتهم على الوفاء بالوعد السياسي إلى الجماهير قبل الوصول إلى سدة الحكم، ثم الفشل الذريع في الوفاء بتلك الوعود.
- خامساً: ثقة قطاعات واسعة من الجماهير في هذه الخدمات؛ حيث لا تنقطع بعد الانتخابات ولا ترتبط بالمكسب أو الخسارة السياسية. فمثلاً، المؤسسات الطبية المختلفة التابعة للإخوان المسلمين الموجودة في الإسكندرية، لا تتوقف عن تقديم خدماتها، بل تتّسم في كثير من الأحيان بالجودة.
- سادساً: تشابه بنية تنظيم الجماعة ومحاكاته لفكرة الدولة وتنظيمها، وامتلاكهم بنية تحتية موازية. بهذا، تستطيع الجماعة مناورة الحزب الوطني حيث لا يتفاعل كلاهما كأحزاب أو حركات، ولكن كدول مع فارق الإمكانات والقدرات وتفوّق كل منهم على الآخر في مواقع مختلفة.
وبهذا يتضح أن وعي الناخب أكثر عمقاً وتركيباً من وعي السياسيين والكثير من الباحثين. فهو يعلم علم اليقين أنّ الانتخابات لا علاقة لها بالتشريع، وأنّ الحزب الوطني يكسبها إما من طريق تمثيل دور الدولة أو من خلال التزوير. وبالتالي كان الناخب يحاول الخروج بأكبر المكاسب الممكنة. ولذلك كان نجاح كثير من أعضاء الحزب الوطني في الإسكندرية مثل طارق طلعت مصطفى صاحب شركات المقاولات ورجل الأعمال الشهير ومحمد مصليحي، مسألة شبه مضمونة على الرغم من الشوائب والفساد الذي يمكن أن يتهمهما به الكثيرون. أضف إلى حرص الاثنين تحديداً على تقديم خدمات عامة في كثير من الأوقات وتوظيف الكثيرين في شركاتهم الخاصة. فمثلاً، لدى مصليحي أكثر من توكيل ملاحي، وهو متوغّل داخل عمليات الاستيراد والتصدير، وهما مصدر رزق لكثيرين في مدينة ساحلية فيها أكبر ميناء مصري. أضف إلى سيطرته على نادي الاتحاد السكندري، وهو النادي الرئيسي في المحافظة وذو جماهيرية واسعة. وفي حقيقة الأمر أنه قدّم الكثير من الخدمات وقام بتطوير نسبي في فترته للنادي. أمر ما كان يدفع الكثير من مشجعي النادي إلى دعمه مع الأخذ في الاعتبار أنّ النادي يقع جغرافياً في دائرته الانتخابية. وكذلك بالنسبة إلى طارق طلعت مصطفى، حيث تمتدّ مشاريع عائلته وشركاتهم بطول كورنيش الإسكندرية وعرضه. وبالتالي انحسرت العملية الانتخابية في هذا النطاق الممتد بين الحلم الاجتماعي والوعد السياسي.
ماذا عن الحلم الاجتماعي والوعد السياسي بعد الثورة؟
يصعب القياس في ظل التمخّض الدائم للوضع العام في مصر، والذي لم يسفر عن شيء حقيقي حتى الآن، حيث لا تزال العملية الثورية في تفاعل مستمر. إلا أنه يمكن تلمّس بضعة أمور حول موضوع البحث وتفاعله مع درجات وعي الجماهير.
تعكس انتخابات ٢٠١٢، التي وصفها الكثيرون بـ «برلمان الثورة»، تغيّرات مهمة، ولكنها ليست جذرية. ليست جذرية لأنها لم تعكس أي تغير حقيقي في أنماط التفاعل السياسي ولا في الوعود السياسية ولا حتى في الحلم الاجتماعي العام كما سأوضح في هذا الجزء من البحث. وبالتالي نعت هذا البرلمان بـ«برلمان الثورة» يعتبر مقولة معلّبة وكليشيه كبيراً وغير دقيق من الناحية الأكاديمية. في المقابل، تعتبر هذه الانتخابات استكمالاً لفراغ الحزب الوطني وتواصلاً مع البنية القديمة.
فالملاحظات العامة التي أوردها الكثير من المتابعين والمراسلين – وكما رأينا على الهواء مباشرة - والتي تفيد بأنّ العملية تمت من دون نزاعات دموية وبلا تزوير ولا انتهاكات من النوع الذي يلزم ببطلان العملية الانتخابية. لا شك أنّ هذا كله يعتبر أمراً إيجابياً للغاية على الرغم من وجود بعض الانتهاكات التي تتمثل معظمها في الدعاية الانتخابية يوم الاقتراع من قبل مرشحي التيار الاسلامي وأنصاره عموماً، وبعض المناوشات والمشادات بينهم وبين بعض الناشطين السياسيين. واللافت للانتباه هو غياب أيّ عملية من عمليات البلطجة التي اتّسمت بهما انتخابات ٢٠٠٥ و٢٠١٠. وهو ما ينمّ عن أنّ هذه العمليات ممنهجة وليست عشوائية، وأنها أيضاً مرتبطة بشكل وثيق برغبة السلطة الحاكمة، لا بقدرتها. ما يعني وجود تنسيق بينها وبين بعض المؤسسات الأمنية مثل الشرطة وجهاز أمن الدولة المنحل التي أوردت كثير من التقارير علاقتهم بالبلطجية وتجنيدهم إياهم. أي أن الأمر يتعلق ببساطة برغبة السلطة المتحكمة في مثل هذه المؤسسات.
وعلّق الكثيرون بفرحة عارمة إزاء نسبة المشاركة في الانتخابات، ما دفعهم إلى تحليل هذا الأمر على اعتبار أنّ الجماهير صارت أكثر إيجابية وفاعلية، وأنها بدأت تمسك بزمام الأمور، وأنها تتطلع لبناء مستقبل مصر بعد الثورة. إلا أنّ هذا الأمر قد لا يكون بمثل هذه الدقة؛ إذ انخفضت نسبة المشاركة في جولة الإعادة بشكل كبير، بالأخص بعد تصريحات بعض المسؤولين عن عدم تحقيق الغرامة الانتخابية التي كانت ٥٠٠ جنيه مصري مقابل امتناع الفرد عن الإدلاء بصوته.
جاءت نتائج الانتخابات في الإسكندرية بتفوق حزب العدالة والحرية الممثل لجماعة الإخوان المسلمين، يتبعه حزب النور الممثل للدعوة السلفية، ثم نسب ضئيلة من «الكتلة المصرية» و«قائمة الثورة مستمرة» التي سمحت بها العملية الانتخابية من خلال القوائم النسبية. ويلاحظ التفوّق الملحوظ للحرية والعدالة في منافسات المستقلين. وقد تفوّقت قوائم «الحرية والعدالة» على الجميع، وخصوصاً مرشحي حزب النور باستثناء دائرة العجمي والعامرية البعيدة عن مركز المدينة. وهذا يعكس تفوّق «الإخوان» في مراكز المدينة في مقابل هوامشها. ويرجع هذا إلى الفارق في البنية التنظيمية لكل منهما. فجماعة الإخوان إذا حضرت في مكان ما، فهي تحضر بشكل الجماعة والتنظيم المحكم. أما الدعوة السلفية، فبإمكانها الحضور من خلال أفراد وأفكار وتشكيلات خفيفة لا تستتبع وجود تنظيم محكم في منطقة جغرافية معينة. من هذا المنطلق، يملك بعض شيوخ السلفية حضوراً ومكانة اجتماعية فريدة من نوعها في تلك المنطقة. هذا بالإضافة إلى بعض التفاصيل الاستراتيجية في هذه الدائرة بالتحديد، حيث كان نهج السلفيين أكثر استيعاباً للقبلية الموجودة في تلك المنطقة، وتواصلهم مع كبرى القبائل وإرضاؤهم يحصل من خلال الإقناع والتواصل السياسي بدلاً من المنافسة وفرض أمر المرشحين عليهم. ومن الملاحظ أيضاً خسارة الشباب في مواقع كثيرة في منافسات المستقلين. وكان من المبهر هزيمة جميع فلول الحزب الوطني؛ إذ لم يتمكن أيّ منهم، لا من خلال القوائم أو منافسات المستقلين، من الوصول إلى البرلمان.وسأقوم بتحليل هذه النتائج وتقديم تفسير لها من خلال المنهجية التي طرحتها في أول البحث.
هل نحن امام انقلاب جذري؟
لا تعتبر خسارة الفلول بهذا الشكل العنيف، وتفوق التيار الإسلامي، انقلاباً جذرياً في جوهر العملية الانتخابية، وإنما ملئاً لفراغ البنية القديمة بثنائيتها نفسها: إما الفلول وإما الإسلاميون.
- أولاً: لم يترشح أيٌّ من المرشحين الأقوياء لدى الحزب الوطني باستثناء طارق طلعت مصطفى الذي خاض معركة شرسة مع الخضيري، مرشح الإخوان المسلمين. وقد تفوّق الخضيري في الإعادة بفارق بسيط (تسعة الآف صوت فقط)، بعدما كانت النتائج والاستطلاعات الأولية تشير إلى تفوق نسبي لطارق طلعت مصطفى. وهذا ينمّ عن أنّ قطاعات كبيرة لم تتغير لديها التوجهات الرئيسية الحاكمة للعملية الانتخابية. أضف إلى ذلك أنّ النهج المتأسلم الذي يتبعه طارق طلعت مصطفى جعله لا يختلف كثيراً من الناحية العاطفية ولا التشريعية عند الكثيرين؛ فالجانب التشريعي في هذه العملية الانتخابية تمثّل لدى قطاعات كبيرة في الحفاظ على المادة الثانية من الدستور. وعلى الرغم من أنّ الجدل حول هذه المادة يبدو مصطنعاً ــ حيث إنّ الجميع بمن فيهم مرشحو الكتلة المصرية أكّدوا عدم المساس بها ــ إلا أنه كان مؤثراً إلى درجة كبيرة في حشد كتل جماهيرية كبيرة وتعبئتها للتصويت للإسلاميين.
- ثانياً: لقد شنّت القوى الثورية والإسلامية عموماً هجوماً شرساً على بقايا الحزب الوطني في الإسكندرية، وصل إلى حدّ حملات تمزيق للوح وملصقات طارق طلعت مصطفى من قبل بعض الحركات الثورية.
- ثالثاً: النقطة الأهم هي غياب دور الدولة في مساندة فصيل على الآخر وتفكك الحزب الوطني. فالدولة غائبة حتى الآن، ثم إنّ الحزب هو أيضاً غير موجود، والفلول يتعرّضون لحرب ضروس، ولا يوجد مرشحون أقوياء من الحزب، ومن هنا أدرك الناخب عناصر عدّة. أولاً: القوى الإسلامية ستحافظ على هوية الدولة من خلال التشريعات القانونية والدستورية – الهاجس الأكبر منذ خلع مبارك. ثانياً: قدمت هذه القوى الإسلامية خطاباً ثلاثي الأبعاد قادراً على مخاطبة الحلم الاجتماعي لدى الناخبين المتمثل في: ١- الخدمات ٢- الوعد بتوفير وظائف ٣- الأمن الذي أصبح حاجة ملحة أخيراَ بالأخص مع التضخيم الإعلامي لتلك الأزمة. ولقد اختُبرت هذه القوى في تلبية حلمين على الأقل من الثلاثة. ففي أثناء أيام الموجة الأولى من الثورة، قام السلفيون والإخوان المسلمون بدور بارز في تأمين الأحياء المتجذّرين فيها وبعض المنشآت. وقاموا أيضاً بتوفير السلع وضبط أسعار اللحوم والخضروات في المدينة من طريق شبكة علاقاتهم الممتدة بالريف والمناطق الزراعية القريبة من الإسكندرية. وواجهوا محاولات بعض التجار في استغلال الموقف، بشكل دعّم ورسّخ من وجودهم الاجتماعي.
لقد كانت هناك أسباب عدة أخرى أدت إلى تفوق التيار الإسلامي الإصلاحي على بعض القوى الثورية المتمثلة في قائمة «الثورة مستمرة» وبعض المستقلين. إنّ تردّد القوى الثورية في خوض الانتخابات من عدمه، هو أول العوامل وأهمها. لقد دار نقاش موسع بين كثير من القوى الشبابية تحديداً حول جدوى خوض الانتخابات، ورأى البعض أنّ هذه المعركة ليست معركتهم الآن، وأنّ الانخراط في العمل السياسي سيؤثر كثيراً على دورهم الثوري، وأنّ المعركة الثورية لم تستكمل بعد، وأنّ الانتخابات بمثابة استنزاف لقواهم الثورية، بالإضافة إلى عدم استعدادهم من الناحية الاستراتيجية لخوض هذه المعركة وما تتطلبه من أدوات ورأس مال ضخم لا تملكه معظم القوى الثورية. ورأى البعض الآخر أهمية وجود القوى الثورية في البرلمان لتمثيل تطلعات الثورة، وأنه على الرغم من غياب رأس المال، فالشارع سيدعم الشباب والثورة في مواجهة القوى القديمة. إلا أنّ بعض الذين أعلنوا نيتهم للترشح مثل حسن مصطفى ومحمد صفوان (وهما من أبرز الناشطين السياسيين في الإسكندرية) لم يقوموا بالإعداد اللازم لهذه المعركة. ولقد انغمست أغلب القوى الثورية في فعاليات وتحركات جماهيرية وميدانية ثورية استنزفت كل قواها السياسية اللازمة لخوض المعركة الانتخابية، وخصوصاً في أحداث محمد محمود في التحرير، ومديرية الأمن في الإسكندرية. ولم يقم المرشحون الثوريون بالتخطيط الاستراتيجي المطلوب من دعاية وتواصل جماهيري والانخراط الضروري في دوائرهم بوضع برامج وأفكار واضحة. حتى إنه يمكننا القول إنّ الوعد والحلم السياسي لدى هذه القوى الثورية لم يكن بالوضوح الكافي الذي يدفع الناخب إلى ترك مرشح «الحرية والعدالة» أو «النور» اللذين تم اختبارهما في متطلبات الحياة اليومية العادية لحلم يدعو لآفاق التغيير الثوري الراديكالي في المستقبل.
من هنا فشل الثوار في تصوير حلمهم الثوري للناخب، ونجح الإسلاميون في تصوير حلمهم الإصلاحي من خلال التواصل وتأكيد قدراتهم في تنفيذه. حتى ملصقات «النور» و«العدالة والحرية» تمكنت من إيصال الوعد. في المقابل، لم يكن هناك ملصق ثوري معبّر عن حلم ما. وإذا قمنا بتحليل الصورتين الأبرز، وهما صورة حزب الحرية والعدالة المتمثلة في طفل نظيف يبدو عليه الرخاء والإشراق وهو جالس داخل مدرسة حديثة على طاولة مجهزة وفي فصل فسيح من جهة، وصورة «قائمة الثورة مستمرة» التي اتسمت بلون غامق وفي الخلفية جماهير ثائرة من جهة ثانية، سنجد أن الثوار لم يستوعبوا الفارق بين الثورة والسياسة. فالثورة تعنى بمفردات المعركة والنضال والتضحية والاشتباك. أما السياسة، فهي تعنى بالوعود التي تفرضها معطيات القوة والقدرة على التنفيذ المباشر وتتزامن مع الاحتياجات العامة للمواطن. أضف أنّ مفردات الخطاب بين الفريق الثوري والإسلامي كانت عاملاً مهماً في الوصول إلى مداعبة الحلم الاجتماعي. ففي الوقت الذي أصيب فيه الكثيرون بهوس الأمن والاستقرار، تخاطبهم القوى الثورية في معركتها الانتخابية عن ضرورة استكمال الكفاح الثوري. ومن هنا، لعب كل من الخطاب والصورة على أوتار مختلفة لدى الناخب جعل كثيرين أقرب إلى القوى المختبرة سابقاً في مفردات السياسة، وجعل دعمهم للشباب في ميدان المعركة الثورية الذين تم اختبارهم فيه ونجحوا. وأتذكر تعليق أحد الناخبين لي على الأحداث قائلاً إنّ الثوار أثبتوا أنهم الأجدر في ميدان المعركة الثورية لا المعركة السياسية. ويجب التأكيد أنّ أحد أهم الفوارق بين حزبي النور والحرية والعدالة والقوى الثورية في المعركة الانتخابية في الإسكندرية، هو غياب العمل الممنهج والدؤوب والمعد استراتيجياً بشكل جيد عند الأخير في العملية الانتخابية.
في الأخير، يتّضح أن العملية الانتخابية لم تتغير بشكل جذري. وقد أوضح المقال أعلاه عدم تغير الحلم الاجتماعي ولا حتى تغير الوعد السياسي المقدم للجماهير. ولم يقم أحد من خلال العملية الانتخابية بمحاولة تغيير للحلم الاجتماعي. ولم تتغير قنوات وأنماط التفاعل السياسي بين الناخبين والمرشحين. ولقد استمرّت استراتيجيات وأدوات الحشد والتعبئة نفسها، باستثناء شراء الأصوات – إلا في ما ندر - هي المهيمنة على العملية الانتخابية.
من هنا، فإنّ الإشكالية الرئيسية التي يتمحور حولها فشل الثوريين في الوصول إلى البرلمان في الإسكندرية، هي قدرتهم على التعاطي وتغيير الحلم السياسي والتقصير في التخطيط والإعداد. وهو أيضاً ما يعكس عجز الثورة عموماً عن التجذّر العميق في المجتمع من خلال أنماط وممارسات أخرى غير العمل الثوري المباشر الذي يتعارض أحياناً كثيرة مع إيقاع الحياة اليومية للمواطن.
على كل حال، يفصح ٣٠ يونيو عن صراع الأحلام السياسية المتناحرة في مصر. ولكي ينجح حلم منهم في تسيّد المشهد، عليه خلق بنية تحتية تسمح له ذلك، بل عليه توفير واستغلال شروط موضوعية وذاتية للتحقق. إلا أنّ الثورة غيّرت وخلقت مجتمعاً جديداً بأحلام مختلفة ويطمح إلى وعود سياسية جديدة وخيال سياسي مفارق للماضي، وهو ما ينذر بأنّ الانتخابات ليست مقياساً صالحاً للقياس على الحالة العامة في مصر. إذا ما تحدّثنا على مستوى السياسة والسلطة بشكل أوسع وأعمّ، فلن تنجح الوعود السياسية القديمة في الاستمرار والسيطرة؛ لأنّ خيالها السياسي لم يعد قادراً على التفاعل مع الواقع وإرضاء قطاعات واسعة. ولا أظن أنه سيكون من السهل أن يستبدل الحزب الوطني مرة أخرى موقعه الذي فقده الإخوان بعد سقوطهم الأخير.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.