العدد السادس - صيف ٢٠١٣

لا وقت للحق

عن صنع الإجماع بعد «30 يونيو»

النسخة الورقية

اشتهر في أوائل الستينيات فيلم مصري اسمه «لا وقت للحب»، يتحدث عن فدائيي مدن القناة أثناء العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦، وكيف أنّ معركة الوطن لا تسمح لأحد باختبار الحب قبل أن يتحرر الوطن أولاً. يستلهم هذا المقال عنوانه من الفيلم لمناقشة كيفية تحوّل الحشد الجماهيري الأكبر في تاريخ مصر والمنطقة، في أواخر يونيو/حزيران ٢٠١٣ إلى سياق إقصائي وقومي النزعة، على شاكلة لحظات تعبئة التحرر الوطني، وما اتسمت به من تغليب لمصلحة الوطن على حساب صوت المواطن أو رؤى الأفراد وخصومة لفكرة التعددية. الإحالة للفيلم لا تتوقف عند عنوانه الجاذب فقط، بل تستدعي سياق عقد الخمسينيات الذي أرسى في المخيلة الجماعية المصرية مبدأ أولوية تحرر الوطن على حرية المواطن، وكيف أصبح هذا المبدأ إحدى مناطق استراحة للعقل الجماعي في مواجهة الأزمات، مهما اختلفت أو تنوعت. الاستشهاد بالفيلم يحاول أيضاً أن يذكّر القارئ بأهمية رموز حروب التحرر التي خاضها جمال عبد الناصر كعصر ذهبي يجري الركون إليه وفق المنطق نفسه الذي يستدعي به الإسلاميون السيرة النبوية أو عدالة الخلفاء الراشدين. في هذا الإطار، يحاول المقال عبر التركيز على آلية تعامل المجال السياسي مع فصيل محدد من النشطاء، الحقوقيين المصريين، إظهار كيف جرت محاولة إسكات هذه الحركة الاحتجاجية التي هي قيد التشكل، عبر عملية ممتدة من صنع الإجماع وإذكاء الإحساس بتهديد الأمن القومي لإخماد المدّ الديمقراطي الذي تبلور أساساً حول هؤلاء النشطاء الحقوقيين المطالبين بفضح الانتهاكات والتجاوزات المختلفة التي قام بها كل من المجلس الأعلى للقوات المسلحة والنظام الإخواني بهدف تحرير المجال العام من الممارسات القمعية والسلطوية.

في الواقع، لم تشهد أي من الفصائل الثورية ما تعرضت له مجموعات الحقوقيين من حملات اغتيال معنوي وتشهير إعلامي على مدار العقدين الأخيرين، ولم يمرّ الحقوقيون أنفسهم بحملات وصم وسخرية في المجال العام، كتلك التي تعرضوا لها أخيراً منذ اندلاع الموجة الثورية الثانية في ٣٠ من حزيران / يونيو؛ إذ على مدار العقدين الماضيين اقتصر الاتهام الموجه إلى هذا الفصيل من منظمات المجتمع المدني على تهمتين محددتين: الإصلاحية وقبول مبدأ التمويل الأجنبي. وكان المقصود بإصلاحية نهج الحقوقيين محاولتهم الدؤوبة لإصلاح ممارسات النظام السلطوي بدلاً من الانخراط في صفوف حركات الاحتجاج التي اتخذت من الإضراب والتظاهر أداتين رئيسيتين لها. كذلك شكلت تهمة قبول مبدأ التمويل من المنظمات الغربية كعب أخيل لكسر صدقية نشاط هذه المنظمات الحقوقية، سواء من قبل نظام مبارك أو من فصائل اليسار القومي، ووصمهم بأنهم ينتجون خطاباً حقوقياً يخاطب الخارج أكثر من محاولته تجذير مبادئه في المجال العام.

نحن إذاً بصدد حركة اعتادت النقد والاتهام والترويع، لكن من المهم الإشارة إلى أنّ هذا التوجس كان قد خفت، بل انقلب إلى إعجاب وتأييد عام منذ ظهور الحركات الاحتجاجية الشبابية المهتمة بفضح ممارسات وزارة الداخلية من تعذيب واعتقالات في ٢٠١٠ (وتحديداً حركة «كلنا خالد سعيد»). ويعود ذلك إلى الدور المهم الذي أداه الحقوقيون وقتئذ في نشر آليات التوثيق وتوفير المساعدة القانونية والتأهيل الصحي والنفسي لضحايا التعذيب، وترسيخ مبادئ التقاضي الاستراتيجي في مجال الحريات، سواء السياسية والمدنية (حق التظاهر وحرية العقيدة) أو الاجتماعية والاقتصادية (وتحديداً في مجالي الحد الأدنى للأجور وحق التنظيم النقابي المستقل للعمال). ومن الجدير بالذكر أيضاً أن الحقوقيين شكلوا عن حق بؤرة مركزية لسائر القوى الاحتجاجية منذ يناير/كانون الثاني ٢٠١١، سواء من حيث توفير موارد تقنية ومعرفية للتوثيق أو المساعدة القانونية أو لفضح ممارسات النظام السابق على المستويين السياسي والاقتصادي. وتجدر الإشارة أيضاً أخيراً إلى أن العديد من المبادرات الشبابية التي تلت ثورة يناير قد اتخذت من الحقوقية مرجعية لها كمجموعات «لا للمحاكمات العسكرية» أو «يلا نكتب دستورنا» أو «إحياء بالاسم فقط».

وقد تجلت الموجة الجديدة من وصم الحقوقيين واستهدافهم ــ بعد الثلاثين من يونيو/حزيران ــ في ظهور التعبيرين الساخرين اللذين اجتاحا بشكل متواتر كلاً من وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي لوصف الحقوقيين بـ»الحكوكيين» والنشطاء السياسيين بـ«النوشتاء» السياسيين، تعبيراً عن ميوعتهم وتغربهم ــ نسبة إلى الغرب الداعم لمبادئهم السياسية ــ وشجباً لمرجعيات نشاطهم التي اعتبرها الكثيرون غير ملائمة في لحظة حشد جماهيري ينادي بالتخلص من الإخوان، ليس فقط كنظام حاكم، بل من الإسلاميين كلهم كخطر إرهابي محدق. وتجلى إقصاؤهم كذلك عبر امتناع معظم أجهزة الإعلام عن استضافتهم أو التحدث معهم والتعتيم على نشاطهم حفاظاً على روح الحشد. وتجلى الإحساس بالحذر والاستهداف أخيراً في لجوء أكثر من ١٨ مجموعة من المجموعات الحقوقية إلى العمل الجماعي، وهي ممارسات ارتبطت في التاريخ القصير للحركة الحقوقية بلحظات الخوف من الاستهداف إعلامياً أو أمنياً ومحاولة التكاتف لتعزيز الصوت الحقوقي.

وتبدو المفارقة في نبذ الحقوقيين كمجموعات سياسية ذات مرجعية قانونية، حين نتذكر اللجوء المحوري للتفويض كآلية لإسقاط النظام الإخواني، سواء من طريق مجموعة تمرد الشبابية منذ مارس/آذار ٢٠١٣، أو عبر طلب وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي في السادس والعشرين من يوليو/تموز تفويضاً من الشعب للتعامل «مع الفوضى» التي سببتها اعتصامات الإخوان في القاهرة والمدن الكبرى؛ إذ يُعَدّ التفويض في كلتا الحالتين إجراءً قانونياً يسمح لإرادة مجتمعية مفتتة بالتبلور عبر منح التفويض لشخص أو مجموعة أو مؤسسة، لتشكيل قوة ضاغطة في إطار يحتكم إلى مبادئ الشرعية والقانون أكثر من استلهامه ديناميات ثورية أو انقلابية. لماذا تم إذاً نقد الحقوقيين بهذه القسوة، ولماذا تم تصعيد وصمهم كأطراف ذات منطق دخيل منذ خروج الحشد الجماهيري في الثلاثين من يونيو/حزيران؟ هذا ما ستحاول هذه الأسطر الإجابة عنه اعتماداً على تحليل طبيعة السياق الذي ساد منذ خروج الجماهير لخلع الرئيس محمد مرسي من جانب، وعلى رصد بعض الأمثلة لتحركات وممارسات الحقوقيين كحركة احتجاجية تسعى إلى تحكيم القانون في سياق غير مسبوق من الاستقطاب والاختصام.

تجييش الميادين: من الاحتجاج إلى صنع الإجماع

لم يتوقع أحد أن يسفر الحشد الذي دعت إليه مجموعة من الشباب غير المعروفين، تحت اسم «حملة تمرد» احتجاجاً على حكم الإخوان الإقصائي، لجمع توقيعات من أجل خلع الرئيس محمد مرسي وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، لم يتوقع أحد أن يسفر عن حراك بهذا الزخم، ولا أن يؤدي إلى أزمة شرعية بهذا الحجم، ولا إلى انقسام المجتمع المصري بالطريقة غير المسبوقة التي نشهدها اليوم. على العكس، بدت هذه الحملة منذ إطلاقها في مارس/آذار ٢٠١٣ وحتى أوائل شهر يونيو/ حزيران المنصرم، أقل راديكالية وأكثر تمسكاً بالمسلك القانوني في الاحتجاج والمطالبة بإسقاط الرئيس عمّا سبقها من دعوات للعصيان المدني أو للإضراب العام. ولوسطيتها تلك، استطاعت الحملة جمع توقيعات من كل محافظات مصر، راوحت في تقدير عددها بين ١٥ و ٢٢ مليون توقيع. ونظراً إلى تشبهها بسابقة تاريخية شهيرة ارتبطت بتفويض الشعب المصري لسعد زغلول ورفاقه لبدء المفاوضات مع الاحتلال البريطاني، حصدت هذه الحملة إجماعاً لم تستطع حملات ذات طابع أكثر ثورية تحقيقه. والمقصود هنا حملات جمع توقيعات دعم ترشح محمد البرادعي للرئاسة في ٢٠١٠ أو حملات التوعية التي قامت بها مجموعات ثورية كـ«عسكر كاذبون» أو «مُصرّين» أو «يلا نكتب دستورنا» التي حاولت تجذير حركاتها لفترات أطول بكثير من تلك التي احتاجت إليها مجموعة تمرد لخلق حالة احتجاجية عامة أدت إلى نزول أكبر عدد من المتظاهرين الرافضين لحكم الإخوان إلى الشارع. بالطبع شجع الأداء الكارثي للرئاسة والحكومة في تصعيد الحشد المعارض، وبالطبع صعدت نبرة الوعيد والتهديد التي استخدمهما الرئيس في أسابيع حكمه الاخيرة من تزايد الرفض الشعبي له ولكامل النظام السياسي الذي مثلته الأغلبية الإخوانية. لذا اتخذت حشود ٣٠ حزيران (يونيو) منذ البداية طابعاً جماهيرياً، بمعنى سوسيولوجيا الحشود بالتي يدرسها غابرييل تارد وغوستاف لوبون، وذلك من حيث تعدد وغموض دوافعها وانفعاليتها وتركيزها على الخصومة والانتقام أكثر من البعد المطالبي المحدد، مقارنة بحشد يناير الذي استهدف وزارة الداخلية والشرطة المصرية بالأساس. من الجدير الإشارة إلى أنّ سمة الحشد «الجماهيري» كان قد غذاها استدعاء لقوى اجتماعية لم يستطع أحد حشدها كفاعل نشط في المشهد الاحتجاجي من قبل، ولذا سميت «الأكثرية الصامتة» أو «حزب الاستقرار» أو «حزب الكنبة». ذلك بالإضافة إلى الدعم القوي الذي وفره جناح ثالث، جمع بين العديد من التيارات الأخرى التي اهتمت بإسقاط الإخوان كهدف وحيد ــ أو على الأقل أكثر إلحاحاً ــ من استرداد المسار الثوري وإعادة بناء خطة انتقالية أقل إقصاءً مما قام به الإخوان وحلفاؤهم من الأحزاب والقوى الدينية على مدار عام كامل.

تعبئة وتأطير

وبعيداً عن أسئلة المؤامرة التي ترى في حشود٣٠ حزيران وما تلاها من خروج جماهيري، علامات لتعبئة مدعومة من الأجهزة ورموز النظام القديم وما تملكه من سطوة ونفوذ وموارد مالية وإعلامية ورمزية، تهتم هذة الورقة بالأساس برصد وتفسير آليات التحول من حشد جماهيري إلى عمل تعبوي بامتياز يمهّد لتأسيس نظام سلطوي جديد يبني شرعيته على حماية الوطن من الاستهداف ويستدعي خبرة دولة الاستقلال لإجهاض المسار المنادي بالمشاركة والمساءلة كأساسين جديدين لأي نظام سياسي ناشئ. الآن بعد خروج الموجة الثورية الثانية لإسقاط حكم الإخوان، وفضّ اعتصامي رابعة العدوية والنهضة وتصويرهما على أنهما تهديد إرهابي يستقوي بالخارج، تبدو الأسابيع الأخيرة تمهيداً متصاعد الوتيرة لعمل تعبوي. عمل استدعى جهاز الدولة والمؤسسة العسكرية لإسقاط النظام السياسي الإخواني ــ وذلك على الرغم من سقوطه الفعلي على يد أكبر خروج للجماهير في تاريخ المنطقة. عمل تعبوي سارع إثر تبلور الحشد الاعتصامي الإخواني في كل من رابعة العدوية وميدان النهضة إلى صنع إجماع وطني وطرحه كشعار للمرحلة الجديدة واستخدام الإعلام بشدة لإنجاز هذا التحول. عمل تعبوي قرر استخدام لجوء العناصر الإخوانية لحمل السلاح وترويع المواطنين من أجل تصويرهم كمرادف محلي لتنظيم القاعدة. ويستند المقال هنا إلى أدبيات دراسة الحركات الاجتماعية وبالتحديد إلى مفاهيم عمليات إنتاج المعنى الرمزي لرصد هذا التحول الذي تسميه الأدبيات مهمات «التأطير» framing، والمقصود بها جملة الممارسات التي تُنتَج في إطار حشد جماعي لإنتاج هوية لمطالب ما ومعنى للزخم الجماهيري ورؤية تحدد أهدافه وأعداءه والمساندين له.

وقد تبدت مهمات التأطير منذ الرابع من يوليو/تموز ــ لحظة إصدار الإعلان الدستوري المنفذ للإرادة الشعبية في خلع محمد مرسي والمحدد لخريطة طريق انتقالية ثانية، ليس فقط عبر حملة منظمة شنتها أجهزة الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، بل بشكل أكثر عمومية، عبر سلسلة من انتشار رموز «موحدة» للحشد باعتباره حشداً «قومياً» أكثر منه جماهيرياً. بدأ التأطير بإيجاد رمز قائد للحشود، هو الفريق السيسي ممثلاً لجيش مصر كبديل أكثر ائتماناً على مقدرات الوطن من الإخوان، وكمنقذ ومنفذ للإرادة الشعبية. هنا ظهرت صور الفريق السيسي وبدأ بيعها في الميادين، مع صورة عبد الناصر أو من دونها. كذلك بدأ إنتاج أغانٍ وشعارات تمجّد المؤسسة العسكرية حامياً للوطن. واستُدعي المطربون الشعبيون لجذب الجماهير. تبارت حتى الإعلانات التلفزيونية المدفوعة لشجب حكم الإخوان وغبائهم، وأُطلقت مئات الصفحات في المجال الافتراضي ــ على فايس بوك وتويتر ــ تدعو إلى دعم الجيش أو الفريق السيسي شخصياً في مهمة «استرداد الوطن» من مخطط الإرهاب الإخواني، أو لنشر أخبار ــ صحيحة أو وهمية ــ عن تفاصيل المؤامرة الدولية الإخوانية لتحويل مصر إلى قاعدة للعنف (المسمى إرهاباً) بمباركة أميركية وأوروبية تريد إزاحة العناصر الإرهابية من أراضيها وترحيلها إلى مصر. هنا أيضاً استبسل الإعلام في تصوير دور الجيش على أنه يتحدى الإرادة الدولية التي تستهدف إضعاف مصر وخلخلة محوريتها الإقليمية ويقف لها بالمرصاد. وقد غذى من انتشار وتغلغل هذة الرموز عمليات إنتاج معنى تكميلية، تطلق عليها الأدبيات مصطلح «نشر أطر المعنى» framing amplification. هكذا، تضافرت إجراءات متنوعة لإضفاء نكهة قومية بامتياز على عملية إسقاط الحكم الإخواني: فمن تحليق الطائرات فوق الميادين وهي ترسم الأعلام والألوان كعلامة للنصر، إلى رمي صور شهداء يناير في قلب ميدان التحرير لربط حركة الجيش بالثأر لهم، مروراً بطلب نزول فرق الشرطة الموسيقية إلى ميدان التحرير لمساندة الجموع في جمع «المساندة»، وخاصة تلك التي تلت طلب الفريق السيسي تفويضاً من الشعب المصري للجيش والشرطة ليتصديا لخطر الإرهاب. هكذا أُعيد صنع مزاج «ناصري» يؤكد اللحمة الوطنية في مواجهة أعداء الوطن.

ترتب على تعبئة الرموز تلك انتقال محور الفعل من الحشود في الميادين والشوارع إلى الجيش والشرطة، وانتقل كذلك مضمون الحشد من الاحتجاج على عدم كفاءة وانعدام ديمقراطية الإخوان إلى المساندة غير المشروطة للنظام الناشئ كمنفذ مؤسساتي موثوق منه للإرادة الوطنية. وقد كانت النتيجة المنطقية لهذا التحول بدء إطلاق حملات تخوين وشجب لكل من رفض الانضمام إلى الحركة الشعبية الهادرة. ولم تقتصر عمليات الوصم على أجهزة الإعلام، بل تجاوزتها إلى صفوف اليسار القومي والديمقراطي وقطاعات حزبية عريضة، تبارت في «فضح» ما أطلقت عليه اسم «الخلايا الإخوانية النائمة»، «الطابور الخامس»، «الإنسانيين» أو المثاليين أو اللاسياسيين، كشكل من أشكال السخرية من القلة القليلة من النشطاء والحقوقيين الذين عبّروا علانية عن توجسهم من هذا التحول في معاني الحشود ورفضهم لمطالب الإقصاء والتعقب والتنكيل وإلغاء الأحزاب الدينية أو لتصاعد نغمة «الحرب على الإرهاب» في نسختها المصرية، ولتصميمهم على تفنيد نغمة الخطر الخارجي والمؤامرة الدولية، ولو على استحياء.

الحقوقيون والنشطاء كدخلاء على المشهد الوطني

يخبرنا هوارد بيكر في رائعته «الدخلاء» (outsiders)أنه لا يمكن إنتاج وحدة مجتمعية ــ مؤقتة أو دائمة ــ من دون إقصاء نحو الهامش للمختلفين مع المعتقدات المركزية للجماعة (والمقصود هنا أي جماعة تشترك في مجال جغرافي واجتماعي وتخضع للإطار القانوني الحاكم نفسه). كذلك يوضح كيف أنّ تلك العمليات تختلف في العادة عن إنتاج معاني الخصومة والعداء القوميين، وتنصب بالأساس على وصم من يقفون في مكان ما بين مركز المجتمع المعياري وخصومه المعلنين. هنا يأتي تعبير الدخلاء outsiders ليحدد هذه الفئة التي تشكل الخطر لاقترابها واختلاطها بالمجتمع رغم إعلانها الانتماء إلى أشكال ثقافية أو ممارسات رمزية، تستنفر المتوجسين الغيورين على تجانس الجماعة الأخلاقي والمعياري. يضيف بيكر هنا مفهوماً أكثر إبداعاً، هو «المنحرفون» deviants، ويشرح كيف تُستَنفَر قوى اجتماعية لتعقب المنحرفين وشجبهم ووصمهم و«تعريف المجتمع بممارساتهم المريضة وتحديد آليات للتعرف إليهم تفادياً لانتشار خطرهم». وقد طبق هوارد بيكر فكرته تلك عبر دراسة ميدانية لكل من خطابات الإقصاء التي ركزت على موسيقيي الجاز في مطلع الستينيات للقرن العشرين، كفئة اجتماعية منحرفة - تدمن المخدرات وتمارس الجنس الحر - وكذلك ردود فعل الموسيقيين على الاتهامات وتبنيهم طواعية لما سماه «مهناً منحرفة»

devi-ant careers لتوضيح أنماط مقاومتهم للوصم، عبر الابتعاد عن قلب المجتمع والانكفاء في دوائر اجتماعية مهمشة بدلاً من الاشتباك مع المدافعين عن قيم ومعايير الجماعة الأخلاقية الذين أُطلق عليهم هوارد بيكر المصطلح الساخر: مقاولي الأخلاق.

تفيدنا الإحالة السابقة في فهم كيف قام الإعلام وأجهزة الدولة المختلفة بتنويعاتها والنخبة السياسية المعترف بها ببناء سردية جديدة مفادها أن ثورة ــ وليس الموجة الثورية فحسب ــ الثلاثين من يونيو/حزيران تتميز عن ثورة يناير في أنّها محلية ولم تستند إلى دعم قوى خارجية، وهي مدعومة من كل فئات الشعب وليس من النشطاء المتغربين فقط، وتفضح مطامع الغرب، ودول الخليج (المقصود هنا قطر) في التدخل في الشأن المصري عبر الإخوان أو عبر من يتصدى للدفاع عن كونهم قوى سياسية لا يمكن تجريمها أو شيطنتها عن بكرة أبيها. من المفيد أيضاً الإشارة إلى أنّ مفردات هذا الخطاب قد تبلورت بوضوح إثر حدثين: الأول والأهم كان صدور تقرير حقوقي موثق بالصور والفيديو، بعد الثامن من يوليو/تموز، تناول قتل عدد من ضحايا الإخوان عند مبنى الحرس الجمهوري، ذاكراً الأعداد والأسلحة المستخدمة في قتلهم في رواية مختلفة جداً عمّا أصدرته السلطات من تصريحات، وتوقيع التقرير من عدة منظمات لحقوق الإنسان. وكان ثانيهما صدور بيان لألف وثمانمئة مثقف وناشط يدعون فيه إلى عدم شيطنة الإخوان كفصيل، والاحتكام السريع لانتخابات رئاسية وبرلمانية لبناء شرعية جديدة قبل تبني خريطة طريق تُقَرّ بشكل فوقي وارتجالي. والجدير بالإشارة هو تسابق قوى سياسية عديدة لا يجمعها إلا النزر القليل عادة، إلى شجب المبادرتين واعتبارهما كسراً للحراك والزخم الجماهيري الذي استند إلى المؤسسة العسكرية في إقصاء الإخوان، وتفتيتاً للتوحد حول خريطة الطريق كحل «لاسترداد الوطن». هنا ظهر بوضوح أول أمثلة التضحية بحقوق الإخوان كخصوم سياسيين، باعتبارها قضايا مؤجلة ــ على أحسن تقدير ــ أو مسماراً في دولاب الحراك الثوري ضدهم. كذلك، بدأت النخب السياسية والثقافية والإعلامية بالمناداة صراحةً بمنع كل الأحزاب الدينية باعتبارها خطراً على الوطن، وذلك قبل أن تعلن صراحة تبنيها لتوصيف المنظمات الإرهابية في ما يتعلق بجماعة الإخوان المسلمين ودعوتها لقرار سيادي للتعامل معهم على هذا الأساس.

وقد تجلى ثاني أمثلة صنع الإجماع عبر الإقصاء والوصم، في ما تعرضت له المبادرة الشبابية التي سمّت نفسها «الميدان الثالث» من اغتيال معنوي وتشهير وتخوين لمجرد أنها قررت التجمع في وقفة رمزية يوم السادس والعشرين من يوليو/ تموز، رفضت فيها الاختيار ما بين نظام الإخوان ورجوع المؤسسة العسكرية للصدارة، عبر رفعها لملصقات شجبت فيها مرسي والسيسي معاً، وبالدرجة نفسها. ورغم قلة المشاركين في هذه الوقفة، أفردت عدة برامج حوارية وأعمدة صحافية مساحات للتنديد بموقف تلك المجموعات «العميلة» التي «ساوت بين الإرهابيين وبين جيش مصر العظيم»، وفقاً لتصريح الإعلامي الشهير عمرو أديب. حدث ذلك بالتوازي في ثلاث محطات فضائية مختلفة وفي أكثر من أربع صحف قومية ومستقلة، واستُدعيت الرموز المركزية للإعلام لاغتيال هذة المبادرة الشبابية في المهد.

أما المثال الثالث على ديناميات التشويه، فقد ظهر عند قيام عدد من منظمات حقوق الإنسان بتنسيق وفد ميداني لزيارة اعتصام رابعة العدوية بغرض التفاوض على الفضّ السلمي. هنا ظهرت أولاً اتهامات بالتدخل السياسي لمصلحة رؤى النظم الغربية، ثم حلت الشائعات محل الشجب الصريح وظلت القنوات التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي تتحدث عن ضرب وسحل الحقوقيين لتأكيد الطابع الإرهابي للمعتصمين وعدم جدوى أي تفاوض سياسي معهم.

هكذا تكرست بالتدريج ثنائية الشعب وأعداء الشعب، كإطار مؤسس للسردية المهيمنة، بين لحظة خروج الجماهير احتجاجاً على حكم مرسي ولحظة فضّ الاعتصامات الإخوانية بالقوة بمباركة شعبية طاحنة. سادت من جديد حالة التوجس من أي طرح قانوني أو حقوقي كسيناريو محتمل لإنهاء الأزمة سياسياً لمصلحة تبني الطرح الأمني. ولم يقتصر هذا التوجس على الحقوقيين والنشطاء، بل امتدّ ليشمل رموزاً في قمة النظام السياسي مثل محمد البرادعي، لمجرد مطالبته بعدم إقصاء الإخوان من أية عملية سياسية في المستقبل. كذلك طاول كل التصريحات الدولية والإعلامية لممثلي الحكومات والبرلمانات الغربية وحتى الخليجية، التي كان اهتمامها منصباً على المساهمة في التفاوض بين القوى المتصارعة. هكذا توجت الموجة الثورية الثانية بأداء شبه بونابرتي عبر صنع الإجماع على ما سمي «الرأي العام الدولي» الذي صُوِّر كظهير مساند للإخوان رغم تذبذبه المستمر. صنع الإجماع باسم ضرورة استرداد الدولة والسيادة المهدورتين على يد الإخوان، وجرى تأميم ما اكتسبته المجموعات السياسية الوليدة من هامش للحركة باسم الحقوق والحريات باعتبارها فذلكة أو تعالياً على إرادة الجماهير. وهكذا هُمِّش مبدأ الحق أياً كان، سواء حق المشاركة أو حق المساءلة أو حق الاعتصام الاحتجاجي، ففقدت الموجة الثورية الثانية طابعها الحقوقي، الذي أطلقته الجموع الشبابية في يناير كمطلب محوري، لمصلحة بعدها الدولتي، ولو إلى حين.

العدد السادس - صيف ٢٠١٣
عن صنع الإجماع بعد «30 يونيو»

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.