يتحدد مسار الثورة المصرية وفق تفاعل/جدل الرغبة والقدرة لدى مختلف اللاعبين على الساحة الداخلية ومصالحهم السياسية المتمايزة، ومن هنا أهمية وضع تقدير موقف دقيق يحدد أولويات المعارك وجبهاتها، ويدرك موازين القوى بشكل علمي وموضوعي، وفي الوقت نفسه لا يخلط الواقع بالتمنيات، ولا «يتعالى أخلاقياً» على السياسة، ويكتفي بالحوقلة وإبداء الأسف على مآلات الثورة التي فرضت معارك لم نكن نتمناها، وائتلافات ظرفية لا يسعدنا نشوؤها. هذا هو مفتاح فهم الفرص والضرورات وإمكانات التغيير والتجاوز، وهو الشرط الأول لأي اجتهاد للسؤال الأهم للثورة: ما العمل الآن؟
المعارك والجبهات تفرض ترتيباً معيناً للأولويات، وتفرض أحياناً التباسات في التحالفات بشكل يعكس تعقد الوضع. وموازين القوى تحدد أفق ما يمكن تحصيله في المدى القريب، وترسم أولويات تحسين العمل لمعالجة الاختلالات، وتحسين الفرص في الجولات القادمة على المدى الأبعد. وبديهي أنه لم يكن منتظراً ولا متوقعاً ولا منطقياً أن تنجز الثورة المصرية تحولاً تاريخياً جذرياً يسقط نظاماً فقد بوصلته الأخلاقية والسياسية داخلياً وخارجياً، وتآكلت قاعدته الاجتماعية، وتستبدله بترتيبات أكثر عدالة وديموقراطية في المجال السياسي وأماكن العمل، بضربة واحدة نظيفة وبمعركة حاسمة يتحقق فيها انتصار ساحق وغير مكلف، ودون اضطرار للجوء إلى تحالفات ملتبسة محكومة بضرورات الكر والفر المتغيرة في كل لحظة.
من هنا، اتخذ مسار الثورة المصرية شكل موجات متتابعة رأينا منها ثلاثاً حتى هذه اللحظة. أنجزت الموجة الأولى إسقاط «مشروع التوريث»، والثانية ثبتت الطابع المدني للثورة بضرب السيطرة العسكرية/الأمنية المباشرة على الحكم وفرض إجراء انتخابات رئاسية بين مرشحين مدنيين. أما الموجة الثالثة، فكانت تحت شعار تعميق الطابع المدني والديموقراطي للثورة في مواجهة نظام فاشي بديباجة دينية.
وفي كل من الموجتين الأولى والثالثة بشكل خاص (موضع اهتمام هذه الورقة)، استلزم تحقيق الهدف المباشر (إسقاط حسني مبارك، وإسقاط محمد مرسي) نشوء ائتلاف عريض يجمع مروحة واسعة من القوى السياسية والاجتماعية ذات المصالح المتناقضة. وبمجرد إنجاز الهدف المباشر، يبدأ الصراع بين مكونات الائتلاف الفضفاض لحسم وجهة المسار ومدى التغيير والقطيعة مع الحكم الذي أسقطته كل موجة.
هكذا مثلاً نشأ تحالف الإخوان والبيروقراطية العسكرية من آذار / مارس ٢٠١١ (تاريخ الاستفتاء الشهير) وقَبِل الإخوان بوراثة بنى الاستبداد المباركي دون تغيير (لم تحصل مثلاً أي محاولة لإعادة هيكلة وزارة الداخلية، بل أُعطيت على لسان رئيس الجمهورية المعزول صك براءة دامغاً، وإعلان أنها كانت «شريكاً أساسياً في الثورة»!!)، وعززوها بممارسات مستحدثة (مثال: اغتيال المعارضين السياسيين كما حدث في واقعتي محمد جابر مسؤول إدارة «صفحة» مناهضة للإخوان على الفيس بوك، ومحمد الجندي الناشط في «التيار الشعبي») وبقانونين شهيرين (قانون لفضّ الاعتصامات، وقرار إداري من وزير الاستثمار الإخواني يتيح للحكومة إغلاق القنوات الفضائية دون حكم قضائي). وشاءت سخرية القدر أن يكون هذان القانونان بالتحديد هما الذريعة التي استندت إليها المواجهة الأمنية مع الإخوان ومع القنوات التلفزيونية القريبة منهم بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٣!
وبالمنطق نفسه، قامت الموجة الثالثة للثورة على أساس «تحالف الرافضين للممارسات الاستئثارية للإخوان»، الذي ضم مروحة واسعة ــ ومتناقضة ــ من القوى الاجتماعية جمعتها فقط الرغبة في إسقاط الإخوان. تبدأ هذه المروحة من القوى الثورية (الغاضبة من تجاهل «تفاهمات فندق الفيرمونت» الشهيرة التي على أساسها حصل محمد مرسي على ٨ ملايين صوت انتخابي إضافي مكنته من الفوز بصعوبة في الجولة الثانية من الرئاسة) وقطاع واسع من بيروقراطية الدولة (ليس فقط بشقها العسكري والأمني، بل أيضاً بقطاع واسع من موظفي الدولة الذين وجدوا في حكم مرسي تهديداً حقيقياً لوجودهم الوظيفي من خلال ظاهرة «أخونة المؤسسات») وقطاع كبير من المواطنين غير المسيسين، أي ما يعرف مصرياً بـ«حزب الكنبة» استنفره سوء الأداء الإخواني في الحكم، والأزمات الاقتصادية والمعيشية المتتالية (نقص الوقود، انقطاع الكهرباء، أزمات الخبز... إلخ).
المعركة المزدوجة مع الخصوم والحلفاء
لا مفرّ من الاعتراف بأنّ ما حصل بفعل الزحف الجماهيري غير المسبوق في ٣٠ حزيران / يونيو ٢٠١٣ كان نصراً ناقصاً. فالإخوان وحلفاؤهم بما امتلكوه من حداثة في الحكم، وحيوية سياسياً وقاعدة تأييد افتقدهما الحزب الوطني المهترئ, ما زالوا يقاتلون في معركة «استرداد الكرسي الرئاسي». من ناحية ثانية، إن مساحة التناقضات في «ائتلاف المناهضين للإخوان» شديدة الاتساع؛ إذ يضم هذا التحالف قوى ثورية جذرية، بالإضافة إلى قوى راسخة من قلب النظام المباركي. وقد فرضت هذه التناقضات خلافات من اللحظة الأولى على مسار المرحلة الانتقالية، وهيكل قيادتها (مثال: المعركة مثلاً على وضع محمد البرادعي والفيتو على قيامه بتشكيل الحكومة) وجدول أعمالها.
فرض ذلك معركتين متزامنتين على كل أطراف المرحلة الانتقالية. فكل موقف يتخذ تجاه كل قضية من قضايا المرحلة الانتقالية (بدءاً بتشكيل الحكومة، ومروراً بخريطة الطريق، ووصولاً إلى الموقف من «فضّ اعتصامي الإخوان») هو دالة في معركتين، ويجب حسابه ليس فقط من زاوية تأثيره على استكمال الصراع مع الإخوان وحسم معركة «استرداد الكرسي» التي يخوضونها بشراسة، بل أيضاً من زاوية تأثيره على توازن القوى داخل ائتلاف حكم المرحلة الانتقالية.
هذه «المعركة المزدوجة» تمثل مفتاحاً أساسياً لفهم التطورات السياسية التي شهدناها منذ ٣٠ يونيو/حزيران، التي جاءت جميعها لتعكس تسويات هشّة فرضتها توازنات المرحلة الانتقالية المحكومة بصراعين متزامنين (صراع «الحلفاء» في حكم المرحلة الانتقالية، ومعركة فرض الهزيمة السياسية على «الخصم الإخواني»). فالصراع على تشكيل الحكومة مثلاً (بما هو انعكاس لميزان القوى داخل ائتلاف المنتصرين)، عكس قدرة اليمين (الديني ممثلاً في حزب النور، والبيروقراطي الممثل في المؤسسة الأمنية الرافضة لتوجهات محمد البرادعي الليبرالية والحقوقية) على وضع فيتو حاسم على تولي البرادعي قيادة المرحلة الانتقالية رسمياً عبر رئاسة الحكومة. لكن ظروف الصراع المستمر مع الإخوان وما تفرضه من حاجة للحفاظ على تماسك القوى المتناقضة المشاركة في حكم المرحلة الانتقالية أدت إلى تسوية هشّة مفادها استحداث منصب غير مسبوق في تاريخ الدولة المصرية الحديثة لمحمد البرادعي، هو «نائب رئيس الجمهورية للعلاقات الدولية»، مع إبعاده عن تشكيل الحكومة والإدارة اليومية للمرحلة الانتقالية.
منطق «المعركة المزدوجة» نفسه نراه في النقاش حول «فضّ اعتصامي رابعة العدوية والجيزة». فهناك تناقض واضح في الرؤى بين البرادعي الراغب في تجنب الفضّ وترك الاعتصام يذبل ميدانياً مع الوقت (بفعل التراجع المطّرد في أعداد المشاركين) مع التفاوض على حلّ سياسي مع الإخوان سيأخذ وقتاً ريثما يدرك الإخوان أنهم خسروا المعركة شعبياً، والبيروقراطية الأمنية تصرّ على حسم ميداني فوري يخدم مصالحها من زاويتين: الأولى هي استعادة أجواء «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة مع الإرهاب» التي سادت في مصر في العقدين الأخيرين من القرن العشرين وأتاحت تمدداً واسعاً بشكل غير مسبوق في تعداد وعتاد وموازنة ونفوذ الأجهزة الأمنية، والثانية هي تثبيت شهادة براءة شعبية لأساليب أجهزة الأمن القمعية التقليدية (التي ستعمد بنار المعركة مع الإخوان) ومن ثم تسقط معها كل مطالبة بالعدالة الانتقالية والقصاص من قيادات الداخلية (وخاصة إن أخذنا في الاعتبار التوجه المتنامي ــ كجزء من تكتيكات الأجهزة الأمنية ــ نحو ما يمكن تسميته «أخونة الجرائم» واعتبار الإخوان مسؤولين عن كل الجرائم، بما فيها جرائم قتل الثوار قبل ٢٥ يناير وأثناءه وبعده).
منطق صراع القوى داخل الائتلاف رجح قرار الحسم الميداني (وهو ما انعكس في قرار الحكومة الانتقالية باعتبار الاعتصامين «بؤراً تهدد الأمن القومي» وتكليف وزارة الداخلية فضّهما)، أما منطق الحاجة للحفاظ على حضور ليبرالي مدني داخل ائتلاف الحكم، فقد أدى إلى مهلة «للحل السياسي» امتدت خلال الأيام العشرة الأخيرة من شهر رمضان وخلال عيد الفطر، وبعدها بدأ الحسم (الذي تحرص عليه البيروقراطية الأمنية) فاستقال محمد البرادعي، وبدأت بشائر إعادة الهيكلة للائتلاف الحاكم وبلورة ميزان القوى داخله تتضح.
الاستثناء الظاهري من منطق المعركة المزدوجة كان «خريطة الطريق» التي بدا أنّ الجميع متوافق عليها. من وجهة نظر الموجة الثالثة من الثورة التي كان شعارها الوحيد هو إسقاط محمد مرسي (وما يعنيه ذلك من انتخابات رئاسية مبكرة)، إنّ خريطة الطريق التي جرى التوافق عليها، والتي تجعل الانتخابات الرئاسية هي آخر المحطات، وتفرض مساراً فوقياً لإعادة كتابة الدستور (بلجنة معينة لا منتخبة)، تعكس تجاهلاً صريحاً لأولويات الحراك الشعبي غير المسبوق في ٣٠ يونيو/حزيران. فلماذا وافق عليها الجناح المحسوب على الثورة داخل المرحلة الانتقالية؟ المسألة ببساطة أنّ جدول الأعمال الفوقي مثل نقطة تقاطع بين رؤى البيروقراطية (الراغبة في تأجيل الانتخابات الرئاسية لأبعد نقطة، لعل مرور الوقت يتيح لها تقديم مرشح عسكري للرئاسة مجدداً، على وقع استنفار «ناصري الهوى» للوطنية المصرية)، مع رؤى الجناح الليبرالي من الثورة (ممثلاً في البرادعي بشكل خاص) المتمسك بمسار «قانونوي legalistic» يبدأ بكتابة الدستور أولاً، وينظر لكتابة الدستور ــ بواسطة «خبراء» قانونيين يلتزمون «الأعراف والمعايير العالمية» ــ بصفتها ضمانة ضد استبداد أي رئيس (وكأن تجربة محمد مرسي، الذي كان أول قرار له بعد الرئاسة استبدال الإطار الدستوري الذي جاء على أساسه بإعلان دستوري أكثر ملاءمة له، لا تعني شيئاً!).
الصدام الميداني وتأثيره
على المسار السياسي للموجة الثالثة للثورة
قرار الحسم الميداني لاعتصامي الإخوان في ١٤ أغسطس/آب ٢٠١٣، يمثل محطة مفصلية في مسار الموجة الثالثة من الثورة. القرار أولاً نقل الصراع بين السلطة الانتقالية والإخوان وحلفائهم إلى مرحلة الإلغاء الأمني، وهو ما يعني توسيع نطاق المواجهات التي خرجت من بؤرتي الاعتصام إلى مختلف شوارع العاصمة وعدة مناطق في المحافظات. ثم إن هذا القرار نقل الصراع إلى معادلة إلغائية على الأرض وعطل أي صيغ للحلول السياسية لفترة من الوقت قد تمتد لعدة أسابيع تراق فيها كمية من الدماء تجعل الحل السياسي بعدها أكثر كلفة وصعوبة. وأخيراً، إن القرار، برغم حصوله على غطاء سياسي من الحكومة التي يتمثل فيها مختلف مكونات ائتلاف المرحلة الانتقالية، ينقل مركز الثقل بشكل حاسم للجناح المحافظ (المطالب بالحسم الأمني، والمتصدر للصورة بمجرد بدء هذا الحسم).
بدأت المسألة بطلب غير مألوف من وزير الدفاع «بتفويض شعبي» لمكافحة الإرهاب. برغم غرابة هذا الطلب، وكونه أمراً خلافياً داخل معسكر الثورة، فإن حجم الحشود التي نزلت مؤيدة لوزير الدفاع يوم ٢٦ يوليو/تموز ٢٠١٣، كان كافياً لمنحه التفويض المطلوب. أصبح السؤال عندئذ: كيف يترجم هذا التفويض لأمر عمليات؟
نظرياً، كان هناك ميدانان محتملان للعمليات: إما معركة عسكرية مع الجهاديين المتمترسين في سيناء، الذين ينفذون عمليات شبه يومية ضد الجيش وقوات الشرطة هناك، وإما معركة أمنية مع الإخوان وحلفائهم في العاصمة عبر إخلاء اعتصامي رابعة العدوية والجيزة. الميدان الأول «سيناء»، ميزته أنه كان يحظى بإجماع شعبي عابر للانقسامات السياسية، ويتبنى فصلاً بين المكونات الجهادية وسائر فصائل الإسلام السياسي، بما يتيح الإبقاء على قنوات الحل السياسي. مشكلته بالمقابل هي الصعوبات الطوبوغرافية والسياسية (المتصلة باتفاقيات كامب ديفيد وتأثيرها على حجم الحضور العسكري المصري ونوعيته في منطقة «جبل الحلال» التي يتركز فيها الجهاديون في سيناء، والتي تتكون من سلسلة جبال وعرة طولها يقترب من ٤٠ كيلومتراً). أما الخيار الثاني، «خيار رابعة العدوية أولاً»، فميزته من وجهة نظر الجناح الأمني أنه أسهل في التنفيذ، وأنه يوفر فرصة للقوى الأمنية للحصول على صك براءة «لأساليبها وتقنياتها» (التي ستعتبر هنا ضرورة لمواجهة الإرهاب) بما يمهد ليس فقط لإعفائها من المساءلة عن تلك الممارسات نفسها قبل ٢٥ يناير وأثناءه وبعده (قضية العدالة الانتقالية)، بل أيضاً يمهد لعودتها إلى تصدّر المشهد السياسي في مصر.
كانت المشكلة في هذا الخيار هي أنه يفتح المعركة على كل فصائل الإسلام السياسي في الوقت نفسه بما يعقد فرص التسوية السياسية مع بعض هذه الفصائل، ويحمّل كلفة بشرية وسياسية باهظة (سقوط قتلى مدنيين... إلخ). وقد بدا واضحاً أنه من وجهة نظر الجناح الأمني، فإن هذه الصعوبات لا تفوق «المزايا» التي يتيحها خيار «رابعة أولاً»، وهكذا بدأ تنفيذ هذا الخيار يوم ١٤ أغسطس/آب ٢٠١٣، بعد مناورة قصيرة مع الوساطات الدولية وجهود محمد البرادعي، استهلكت شهر رمضان وعطلة عيد الفطر، بما يفترض أن يخفف من الوطأة النفسية لسيناريو الاقتحام والفضّ. السؤال هو: كيف يغير قرار الفضّ هذا من المعادلة السياسية والأمنية في مصر؟
على صعيد المواجهة مع الإخوان وحلفائهم، تتشكل حالياً معادلة جديدة. يصرّ «الجناح الأمني القائد» في السلطة الانتقالية على حسم أمني يكسر تنظيم الإخوان المسلمين، ويسيطر على محافظات القاهرة الكبرى الأربع أولاً (القاهرة ــ الجيزة ــ حلوان ــ القليوبية)، ثم يخوض حرب ترويض وتمشيط في سائر محافظات مصر لاحقاً مهما كلفته من استنزاف. بالمقابل، تقوم استراتيجية قيادة الإخوان على تصدير مشهد «اقتتال أهلي» في مصر، واستدراج أكبر قدر من الدم، بما يتيح ضغوطاً دولية تفرض تفاوضاً يحقق أولويات القيادة بعد سقوط محمد مرسي. ما هي هذه الأولويات؟ هي ببساطة الحفاظ على التنظيم، وهو ما يتطلب أمرين:
- أولاً: الإفراج عن قيادات التنظيم، وإسقاط أي اتهامات موجهة إليها على قاعدة أنها اتهامات سياسية كيدية.
- ثانياً: فكّ جميع القيود عن الإمبراطورية المالية للتنظيم (التي تتضمن، من بين أشياء عديدة، احتكاراً شبه كامل لتجارة التجزئة في مصر، وحضوراً قوياً في قطاعات التشييد والحديد والصلب وصناعة الألبان... إلخ).
في هذا السياق، يمكن توقع فترة صعبة قد تمتد حتى منتصف سبتمبر/أيلول (موعد انتهاء سريان حالة الطوارئ التي فرضتها الحكومة المصرية مع بدء خيار رابعة أولاً، واتخاذ قرار بإعلان انتهاء الطوارئ أو تجديدها لشهر آخر)، سيتركز خلال هذه الفترة جهد طرفي القتال على الجانب الميداني، وبناءً على ميزان القوى الذي سيتبلور في نهايته يمكن أن تتأسس التسويات.
غير أن معادلة الصراع في مصر مزدوجة كما سبق أن أوضحنا. وبالتالي إن فترة من الصراع الأمني الصرف لا تؤثر فقط على المعادلة بين السلطة الانتقالية والإخوان، ولكنها تؤثر بالضرورة على تزايد وزن ونفوذ الجناح الأمني ورديفه المدني (الشرائح الاجتماعية المحافظة التي تدعم الخيار الأمني). فهي ستحسم من حساب الأجنحة المحسوبة على الثورة، وتزيد من احتمال تغوّل هذا الجناح الأمني ومحاولته استعادة موقعه المركزي في صناعة القرار المصري، على نحو ما كان الوضع عليه قبل ثورة ٢٥ يناير، والاكتفاء بحضور شكلي ورمزي لأشخاص محسوبين على الثورة في مراكز للسلطة ليست بالضرورة هي مراكز القرار.
تكفي أي مراجعة سريعة للخطاب الإعلامي السائد في وسائل الإعلام الحكومية والخاصة في مصر، التي تتصدرها «وجوه مباركية» بدأت تنتقل للحديث عن ثورة وحيدة في مصر، هي ثورة «٣٠ يونيو»، التي صححت «الخطأ التاريخي» الذي حدث في ٢٥ يناير، وتلحّ في دعم الخيار الأمني لدرجة تعطيل كل برامج البث يوم ٢٦ يوليو/تموز ٢٠١٣ ــ في سابقة لم تحدث في تاريخ الإعلام المصري ــ لتتفرغ جميعها لدعوة المواطنين لتلبية دعوة وزير الدفاع وتفويضه في مواجهة الإرهاب، أقول إنّ مراجعة سريعة لهذا الخطاب الإعلامي تكفي لتوضيح مدى جدية احتمال عودة الجناح الأمني لتصدّر المشهد السياسي، واستغلال الأزمة الحالية لفرض جدول أعمال ينهي عملياً مفاعيل ثورة ٢٥ يناير. السؤال إذن هو، ما المطلوب عمله من وجهة نظر ثورية وديمقراطية؟ ماذا يفعل من يرفض الاختيار والمفاضلة بين فاشية متغطية بالدين، وعودة النظام الأمني للدولة المباركية؟
الأفق السياسي للثورة على المدى المباشر
ما بين تعقيدات الحصاد المختلط الذي أفرزته الموجة الثالثة للثورة حتى الآن، والمخاطر الأمنية والسياسية التي يحملها سيناريو «رابعة العدوية أولاً»، لا إمكانية لانتصار سريع للثورة في المدى المباشر (المتمثل بالحد الأدنى، في الشهر الممتد حتى منتصف سبتمبر/أيلول ٢٠١٣). في مثل هذه الظروف، يمكن تحديد الأهداف التكتيكية للمرحلة في ثلاثة عناوين أساسية، هي:
- أولاً: تثبيت مكاسب الجولات السابقة للثورة، وعلى رأسها مبدأ الدولة المدنية (بمعناها المخالف للعسكرة والثيوقراطية على حد سواء)، واستمرار محاكمات مبارك وحاشيته.
- ثانياً: تحقيق ضربة سياسية حاسمة (وليس أمنية) للفاشية الملتحفة بالدين، وفرض مواجهتها باستحقاق انتخابي في أقرب وقت ممكن، يعيد رسم الأحجام والأوزان السياسية لتيارات الإسلام السياسي بما يعكس تراجع شعبيتها.
- ثالثاً: الانتقال من وضعية مراقبة «صراع الأفيال» و«إبداء الأسف» لكلفتها البشرية الباهظة، إلى استعادة زمام التحرك والمبادرة لانتزاع أفق أوسع للعمل السياسي، يحسن شروط المعارك القادمة، وذلك من خلال اتخاذ مواقف ثورية من الاستحقاقات السياسية القادمة.
في جميع الأحوال، سيفرض منطق «المعركة المزدوجة» نفسه على جميع التحركات. فكل موقف يتخذ سيتأثر في الوقت نفسه بالصراع الصاخب مع الإخوان وحلفائهم، وبالصراع الصامت حول موازين القوى داخل الائتلاف الحاكم للمرحلة الانتقالية. وفي المرحلة الحالية، ستكون الأولوية دائماً لنتائج الصدام الأمني الدائر بين «اليمين الأمني» و«اليمين الديني». وهناك سيناريوهان:
.السيناريو الأول: استمرار التأزم، ونجاح الإخوان وحلفائهم، برغم أي هزائم أمنية يتلقونها، في إبقاء قدر كاف من التوتر لمنع «تطبيع الوضع الأمني» (عبر القيام بتظاهرات صغيرة الحجم نسبياً ولكنها مستمرة بشكل يومي، واشتباكات يومية محدودة، ولكنها تكفي لإرسال رسالة بأنّ الوضع غير مستقر، وأنه لم يتم إخضاع الإخوان أمنياً). وفي هذه الحالة، إن الحائط المسدود الذي سيصطدم به الخيار الأمني (مع تذمر القطاعات المحافظة التي فوضت الجيش والشرطة بأمل الحسم السريع، واعتراضات الأجنحة الأكثر راديكالية على سيادة المنطق الأمني وتبعاته، وتأزم الوضع الدولي) سيفرض العودة إلى صيغة سياسية ما لحل الأزمة بسبب عقم الحل الأمني.
هنا سيكون التحدي أمام القوى الثورية، أن يكون هذا الحل السياسي ديمقراطياً وثورياً، عبر إعادة النظر في ترتيب الأولويات الحالي في خريطة الطريق، والتبكير باستحقاق انتخابي ذي طبيعة سياسية شاملة (الانتخابات الرئاسية و/أو البرلمانية) كمخرج يكرس الشارع والمواطنين كفيصل بين المختلفين، بدلاً من حل «تفاوضي» برعاية «دولية» لن يزيد على تسوية بين «قادة القتال» على الجانبين، سيكون أول أثمانها «عفو قانوني» عن الجرائم يهدر إلى الأبد فكرة ومبدأ «العدالة الانتقالية» (أحد أهم أهداف الثورة)، ويكرس فكرة احتكار الأمنيين للعمل السياسي صراعاً وتسوية.
.السيناريو الثاني: وهو انتصار الحل الأمني (على الأقل في محافظات القاهرة الكبرى الأربع)، بما يفرض نوعاً من الاستقرار الأمني. حتى لو تحقق هذا الحل ــ برغم صعوبة تحقيقه وارتفاع كلفته ــ فإن الجناح الأمني سيخرج منه منهكاً وبحاجة لغطاء سياسي ما (على الأقل لتخفيف حدة الضغط الدولي الذي سيتزايد بشكل كبير، مع ارتفاع وتيرة المصادمات الأمنية المطلوبة لتحقيق هذا الحسم).
لذلك، فإنه من الناحية السياسية، سيؤدي انتصار الحل الأمني إلى فرض «خريطة الطريق» المعلنة للمرحلة الانتقالية دون أي تعديل في مواعيدها. عندئذ سيكون التحدي أمام الأجنحة الثورية هو بلورة مواقف واضحة من الاستحقاقات المختلفة (إنتاج دستور ديمقراطي لا تكون نصوصه هي وسيلة اليمين الأمني لاسترضاء اليمين الديني بعد هزيمته سياسياً، وقانون انتخابي لا يتمركز حول دوائر فردية صغيرة الحجم تكرس نفوذ المال السياسي بطبعتيه الدينية والفلولية، واستدعاء وتكرار تصريحات الفريق السيسي حول عدم ترشحه للرئاسة وتصريح رئيس الحكومة الانتقالية حازم الببلاوي حول التزام حكومته دولة مدنية لا دينية ولا عسكرية، بغرض تحويل هذه التصريحات إلى التزامات سياسية تنعكس في رئاسة مدنية تأتي عبر انتخابات ديمقراطية مراقبة دولياً كما تعهد الفريق السيسي).
حتى يحين موعد الموجة الرابعة
فرض تعقد الوضع السياسي والأمني في مصر أن تتخذ الثورة المصرية مساراً متعرجاً تتواكب فيه الإنجازات والعثرات، من خلال موجات ثورية متتابعة (رأينا منها ثلاثاً حتى الآن) يحقق كل منها إنجازاً جزئياً ثم يصطدم بتحالفات الأجنحة المحافظة (الأمنية و/أو الدينية) المصرة على تحجيم عمق التغيير السياسي المطلوب ونوعيته.
ما يجعل الأمل غالباً على الألم، رغم كل العثرات، هو أن مسار الثورة المتعرج لم يتوقف بعد كل انتكاسة، بل استجمع أنفاسه وجدد نفسه في موجة تالية تعكس بالحد الأدنى حجم التصميم الموجود لدى الحراك الشعبي على إنفاذ استحقاقات الثورة.
المسار المتعرج نفسه، فرض أحياناً الدخول في ائتلافات ظرفية غير مواتية، وفرض أحياناً أخرى خوض معارك متزامنة مع «الخصم» و«الحليف» في نفس الوقت. كل ذلك يستوجب تكتيكات ثورية مرنة تتيح تثبيت ما يتحقق من إنجازات، وتحسن شروط المعارك القادمة.
.الموجة الثالثة للثورة أكثر تعقيداً من سوابقها، وهي تتطلب مناورات تكتيكية مركبة لتثبيت الإنجازات وتحسين شروط المستقبل. المواجهة الأمنية بين الإخوان والبيروقراطية الأمنية، التي تمثل الإطار الأساسي لحركة الجميع الآن مهما كان الرأي فيها أخلاقياً ومبدئياً، مفتوحة على سيناريو استمرار التأزم (الذي يثير تحدي إعادة ترتيب خريطة الطريق وجعلها أكثر ديمقراطية وأقل نخبوية) أو سيناريو الحسم الأمني في العاصمة ومحيطها (الذي يثير تحدي «دمقرطة» خريطة الطريق الرسمية، وتجنب السقوط في هوية المحاصصة البرلمانية بين اليمين الفلولي والديني، وحصول البيروقراطية الأمنية على رئاسة الدولة).
لا يوجد أفق مباشر لانتصار كامل يتيح تحقيق العدالة بشقيها (الانتقالي والاجتماعي) الذي قامت من أجله الثورة، والذي تجسد في شعارها الشهير «العيش، والحرية، والعدالة الاجتماعية». ولكن هناك بالتأكيد ما يمكن عمله في كلا السيناريوهين المحتملين للموجة الثورية الثالثة.
ربحنا جولات، وقابلتنا عثرات وانتكاسات، وبقيت معارك كبيرة كتب علينا خوضها، حتى تتحقق البشارة الشهيرة التي اختتم بها نجيب محفوظ روايته «أولاد حارتنا»، ونرى في حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب.
على احد الجدران في الزمالك.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.