شهادة الطبيب قاسم الزين
ما حصل في القصير مأساة حقيقية يجب أن توثّق للتاريخ. في الأيام الأخيرة قبل الهجرة، كانت المدينة تحوي خمسة عشر ألف مواطن، بينهم ألف ومئتا جريح، وكان عدد المقاومين ثلاثمئة مسلّح، كلهم من أهل المدينة، نعرف أسماءهم وبيوتهم، وكل الشهداء موثّقون. كلهم من أهل المدينة. لم يكن هناك حتى أعضاء من الجيش الحرّ من خارج المدينة. حاول بعض المقاتلين من حلب أن يدخلوا إلى القصير، ولكنهم لم يستطيعوا. الظلم الذي عانيناه كنا نتمنى أن يأتينا من إسرائيل، لا من دولتنا بمعاونة حزب الله. مقابل ثلاثمئة مقاوم في المدينة، كان هناك آلاف المقاتلين من النظام ومن حزب الله. وقد اشترك الحزب بكل أنواع الأسلحة.
الهجوم الأخير
تعرضت المدينة لنحو ٢٥ طلعة طيران في الساعة. القذائف تنهال علينا بالثواني. معظم الشهداء من المدنيين. كثير منهم قضَوا تحت الأنقاض؛ لأنّنا لم نستطع أن نصل إليهم من شدة القصف، أو لأنه لم تكن هناك آليات لرفع الأنقاض.
آخر أيام الحصار... عندما لم يستطع النظام ومقاتلو حزب الله الدخول برّاً، بالرغم من تفوقهم في العدد والأسلحة، قرّروا تدمير المدينة. عندها، أصبح البقاء في القصير ضرباً من الانتحار، فقرر المقاومون مع أهل المدينة الانسحاب. حمل المقاومون بواريد، وتجمّع أهل المدينة للرحيل. كان يوماً مؤلماً جداً؛ لأنه لا أحد يترك بلده وأرضه طوعاً. الكثير من المقاومين وبعض من الأهالي قرروا البقاء، لكن كنّا نعلم أنّ من سيبقى سيُقتل، وكانت البياضة التي علمنا بأحداثها مثلاً أمامنا. ما حصل في البياضة كان أكثر من نكبة. لا يستطيع الإنسان تصوّر القتل بهذه الطريقة. في البداية، حاولنا إخراج المدنيين قبل الانسحاب، ولكنهم كانوا يعتقلونهم على الحواجز وتجري تصفية الرجال مباشرة، وهذا ما دفع الكثير من المدنيين إلى البقاء. استنجدنا بالمنظّمات الدولية ومنظّمات حقوق الإنسان، ولكن لا جدوى. كنّا نريد فقط إخراج الجرحى.
سقوط القصير هو عنوان لسقوط الإنسانية. لم نعد نؤمن بالمنظمات الدولية، ولا بهراء حقوق الإنسان. لم نرَ من هؤلاء إلا الصمت أمام كل ما حصل للمدينة.
التهجير بعد التدمير
عندما بدأ تدمير المدينة بالكامل، قرّرنا الهجرة. ولمّا كان التدمير من جهة الجنوب، قررنا الانسحاب من الشمال. اتصلتُ بطبيب أعرفه مقرب من «الحزب» لكي يؤمّن لنا طريقاً للانسحاب ويُعين الجرحى، وقلت له: «نحن جماعة الحسين والمظلومون، ويجب أن تتعاطف معنا». وذكرت أنه كان هناك ألف ومئتا جريح، ثلاثمئة منهم كانوا بحاجة للحَمل على الأكتاف. وعد الدكتور بأنّ المهاجرين لن يتعرضوا للقصف، فتمّ تبليغ «الحزب» والدولة السورية بطريق الهجرة، لكننا فوجئنا بهم يخلفون الاتفاق ويقصفون المهاجرين. بدأنا بالهجرة ليلة ٥/٦ حزيران/يونيو، وهي ليلة النكبة. في البداية انتقلنا إلى البويضة، لكننا لم نتحرك إلا مساءً بعد حلول الظلام. بالرغم من وعدنا بممرّ آمن، تعرضنا للقصف الجوي من الليلة الأولى؛ فقد قصف الجيش البويضة واستشهد اثنان من المهاجرين المدنيين، واحد من الجرحى والآخر كان بجانب المستشفى الميداني.
مساء ٦ حزيران/يونيو اجتمعنا في طريق واحد بين طريق حمص - القصير وقرية الصالحية، وأُعدّت خطة للمشي ليلاً بين الحواجز. في الساعة السابعة، بدأنا رحلة الهجرة، وكان الترتيب أن يُحمَل ثلاثمئة جريح على الأكتاف. لم نجلب معنا إلا بعض الأغراض الشخصية التي اضطررنا إلى أن نترك معظمها على الطريق. كان على بعضنا أن يُسند نفسَه بالعكازات، والبعض الآخر امتطى الموتوسيكلات وساعد في حمل الأغراض للمهاجرين. الذين تركوا المدينة كان عددهم خمسة عشر ألفاً. كل من بقي في المدينة بعد أن أخلاها المقاومون، جرت تصفيته أو اعتُقل؛ إذ اعتُبر كل من بقي في القصير عدواً. فمثلاً، بيت إدريس بقوا على أساس أنهم مع النظام وآمنون، ولكن تمّت تصفية بعضهم واعتُقل الآخرون.
كان المشي ليلاً، وعند بزوغ النهار نرتاح في البساتين بين الأشجار لكي لا يرانا جيش النظام. بعد مشي ثلاثين كيلومتراً ليل السادس من حزيران، وصلنا إلى «الحمرا» عند الرابعة صباحاً. كنا نحاول الوصول إلى طريق دمشق لنقل الجرحى قبل أن يطلع الضوء. فقبل الهجرة الأخيرة، كنا نحاول إخراج الجرحى لتلقّي العلاج، ولكنهم كانوا يتعرضون للقتل. في نهاية شهر أيّار جرت محاولة إنقاذ خمسين شهيداً تعرضوا للقصف على طريق دمشق، عاد منهم ثلاثة عشر شهيداً، ومن حينها، رفض الجرحى الخروج على أساس تفضيل الموت في الدار على الموت على الحواجز.
نحو السادسة مساءً وصلنا إلى قرب «الحسينية» من جهة الغرب، ولكنّ الجيش بدأ القصف علينا. استشهد عشرة منا. بدأنا نهرب عائدين إلى البساتين. رجعنا نحو أربعة كيلومترات إلى الوراء. بالإضافة إلى أهالي القصير، انضم إلى الهجرة أهالي البياضة، ومن كان قد هرب من حمص إلى البياضة أيضاً، فأصبح عددنا هائلاً وكنا مكشوفين على الطيران. عند نحو الساعة السابعة والنصف وقع الهجوم علينا بالدبابات بينما كنا نختبئ في البساتين. حاول المقاومون الصدّ بالبواريد وسقط سبعة عشر شهيداً بالقصف المدفعي. لم يكن لدينا ماء ولا دواء، والكثير ممن استشهدوا كان من الممكن إنقاذهم، ولكن لم تكن لدينا الإسعافات الكافية. من الجرحى الذين كان يمكن إنقاذهم أسامة جبنة، ابن الخمسة عشر ربيعاً الذي أصيب في صدره وفي بطنه. بقيتُ إلى جانبه نحو أربع ساعات أراه ينزف حتى استشهد، وكنت عاجزاً عن فعل أي شيء له. قبل أن يموت قال لي: «أنا أعرف أنني مرحوم، ولكن أرجوك أعطني نقطة ماء». للأسف لم يكن لدينا ماء لنعطيه. لم يكن لدينا أيضاً أدوات لدفن الموتى. بعض الأهالي حفروا بأيديهم وبالحجارة فقط لمجرد أن يغطوا الجثث، والبعض وضعوا حفنة من التراب على الموتى.
بالإضافة إلى السبعة عشر شهيداً جراء القصف المدفعي، قضى سبعة من جرحانا أيضاً بسبب الجفاف والقصور الكلوي، وكان قسمٌ من الجرحى قد استُشهد خلال رحلة الليل. للأسف، كان الشباب الذين يحملون الجرحى على الأكتاف يشعرون بالفرح؛ لأنّهم لن يضطرّوا لحملهم. رُميَت الجثث على أطراف الطرق وفي البساتين. بعد تعرّضنا للقصف في اللّيلة الأولى لم يبق لدينا أمل بالحياة ولا أيّ أمل بشيء. بقينا حيث نحن حتّى حلّ الظلام. قرر كثير من الأهالي تسليم أنفسهم لحاجز الحسينيّة على أساس «أنّهم ميتون ميتون»؛ فالأفضل أن نموت وندفن، على أن نموت وُنترك في العراء. بعضهم أيضاً اعتقد أنّ الجيش سيعتقلهم فيبقى على قيد الحياة. ولكن كل من سلّم نفسه للحاجز في ذلك اليوم، جرت تصفيته. فقدت أربعة من أقربائي قتلاً على الحاجز.
«مدينة الأحلام» مهجورة
ليلة ٦/٧ أو ليلة ٧/٨ تجمّعنا، وكان علينا محاولة تخطّي حاجزَي شمسين والديبة، وبين والواحد والآخر كيلومتران اثنان. بدأنا نمشي على غير هدى. وصلنا قريباً من الحاجز، فبدأ القصف علينا. عُدنا أدراجنا واختبأنا حتى حلول الظلام. الساعة التاسعة مساءً عدنا إلى البساتين. بعضنا سلّم نفسه للحاجز، وبعضٌ آخر قرر مواصلة السير، وشنّ المقاومون هجوماً على الحاجز وأطلقوا النار حتى يمرّ الأهالي. كنا نمشي تحت القصف وكل واحد يفكر في نفسه، ومن يُصَب لا يجد أحداً ينظر إليه. أم عمّار، ممرّضة في المشفى الميداني، قُصفت هي وابنتها وصهرها. تركناها على الطريق ولم نستطع حتى دفنها. ممرضٌ آخر اسمه فارس الدايخ كان مصاباً في عينيه واستُشهد على «الفتحة».
مقابل «الفتحة» مجموعة عقارية تدعى «مدينة الأحلام». المدينة مهجورة، وحُلمنا الوصول إليها، ومن المفترض أنّ هناك سيّارات تنتظرنا لتقلّنا مسافة ثلاثين كيلومتراً إلى قرية «الديبة»، ومنها إلى «حسيا». عند «مدينة الأحلام» لم يكن هناك الكثير من السيّارات. المحظوظ يلاقي سيّارة تقلّنا بعضاً فوق بعض. الباص الذي يقل ثلاثين يستقبل مئة راكب. ومن لم يكن محظوظاً بسيارة أو باص، تابع سيراً على الأقدام. بعض الأهالي وصل إلى قرية «الديبة» وبقي فيها، وبعض آخر تابع إلى «حسيا» وبقي فيها.
تابعنا السير رغم القصف. لم يكن لدينا حلّ آخر. كانت رحلة ألم. تسقط القذائف، يسقط رفاق أو أقارب لك إلى جانبك، لكنك تتابع السير. لا تنظر إلى الوراء. لا تتوقف تريد أن تصل إلى برّ الأمان. وصلنا إلى «مدينة الأحلام»، وكان الهدف العبور إلى شرق الطريق؛ لأنّ الجهة الشرقية ليست تحت سيطرة الجيش، ويعرف المقاومون الالتفاف حول الحواجز هناك. منذ بداية الثورة وهم ينقلون الجرحى إلى يبرود، ومنها إلى عرسال، لذلك أصبحوا يعرفون الطريق.
مساء ٩/٦ كان بين «مدينة الأحلام» و«الديبة» خط متواصل من البشر على امتداد نحو ثلاثة كيلومترات. من «الديبة» إلى «حسيا» مسافة ١٢ كيلومتراً. صباح ٩/٦ وصلنا إلى «حسيا». آخرون وصلوا في الثالثة صباحاً، وهؤلاء كانوا محظوظين؛ لأنهم تابعوا السير ليلاً حتى وصلوا إلى «قارة». في ليلة ١٠/٦ في حسيا تمّ تأمين سيارات لنقل المهاجرين حتّى «قارة»، فبقي قسمٌ في قارة، وأكمل قسمٌ ثانٍ إلى «الديبة». ومن «قارة» توزَّعَ المهاجرون، فانتقل قسم إلى يبرود، وقسمٌ أكمل إلى عرسال في لبنان. كان الهدف الأساسي إيصال الناس إلى «قارة»، وبعدها يقرر كل واحد ما يريد أن يفعل.
«تغريبة القصير» ومزاعم «المنار»
كانت «قارة» آمنة وليست تحت سيطرة الجيش السوري. ولم يفكّر أحد في ما قد يفعله بعد الوصول إلى برِّ الأمان خلال الرحلة. الهدف الوحيد كان الوصول. لم يكن لدينا أمل في أن نحيا. في «قارة» مجموعة من أصدقائنا الأطبّاء زملاء الدراسة. والصليب الأحمر نصحني بضرورة ترك البلد؛ لأنّني كنت أتحدّث مع الإعلام. ونُصِحتُ بالذهاب إلى عرسال؛ لأنّ أحداً لن يحميني في سورية.
في هذه الأثناء، كان ثلاثمئة مهاجر واثنان وثلاثون جريحاً يفشلون في اجتياز «الفتحة»، فعادوا أدراجهم إلى البويضة حيث تعرّضوا للقصف. وهؤلاء هم من نقل مقاتلو «حزب الله» صورهم على أنّهم أسعفوهم مع الصليب الأحمر وهم اثنان وثلاثون جريحاً، وذلك كدليل على أنّهم إنسانيون ولم يقتلوا الأبرياء. غضبنا كثيراً لرؤية البثّ التلفزيوني، لهذه البطولة والشهامة من «حزب الله».
الحقيقة أنّ خمسة أطبّاء عادوا أدراجهم إلى البيّاضة وتواصلنا معهم وطلبتُ من الطبيب علي زعيتر أن يتواصل مع «الحزب» لنقل الجرحى، فما كان من «الحزب» إلّا أن استغلّ ذلك إعلاميّاً لمصلحته، في حين أنّهم منعونا من النّوم طوال ثلاثة أيّام، حيث لم يكن لدينا ماء ولا طعام. أذكر في اليوم الأول حين وصلنا إلى بستان اللّوز، أننا بدأنا نبحث عن أي مصدر للمياه، ولكننا لم نجد أيّ شيء. وجدنا بعض اللّوز لا يزال على الشجر، فبدأ الأهالي يقطفونه ليحصلوا على الماء، وكانت الأفضليّة للجرحى. في الليلة التالية وجدنا كرم عنب، فأكلنا أوراق العنب لأّنّها تحتوي على المياه. وكذلك فعلنا بالبطاطا النيئة التي اقتلعها الأهالي وقشّروها وأعطوها للمرضى من أجل الحصول على بعض الماء. ولم نحصل على الماء حتّى وصلنا إلى «مدينة الأحلام». كنّا نعتقد أننا سنروي عطشنا. للأسف كان هنالك بعض الماء في بعض الحمّامات.
«إنّها فعلاً كـ«التغريبة الفلسطينيّة»، وعندما نتحدّث عن «تغريبة القصير»، «التغريبة الفلسطينيّة» ما بتيجي شي حدها». أنا درستُ الطب في روسيا، وقرأتُ الكثير عن الحرب العالميّة الثانية، وحتّى أنّني زرتُ لينينغراد وتكلّمتُ مع أهلها وكنتُ أسألهم كيف عايشوا الحرب. كانوا يقولون إن القصف العنيف من الطيران كان يتوقّف عند سقوط عدد كثير من الجرحى. فكانوا يضعون موسيقى في الكنائس ليتوقّف القصف، فيذهب الأهالي ليشتروا ما يحتاجون إليه من مياه وطعام وعلاج للجرحى. هؤلاء الألمان النازيّون في «القصير» عندما كانوا يسمعون المناداة في الجامع كانوا يقصفون الجامع. لا يوجد مثيل لما حصل في «القصير». الحروب هي بين جيوش، ونحن قرأنا عن حرب تشرين وحروب إسرائيل، ولكنّنا لم نقرأ عن إجرام بهذه الطريقة.
خلال شهر ونصف من الحصار لم نستطع أن نُدخِل طحيناً ولا أي مواد غذائية أخرى. إدخال الدواء كان جريمة كبرى. كان الحصول على الدواء جريمة يعاقَب عليها بالتصفية الجسدية. في المشفى الميداني كان «الجيش الحر ـ الكتيبة ٢٠» ينقل بعض الدواء، ولكنّهم قتلوا جميعاً. أتاك تلفزيون «المنار» بعد «تحرير القصير» ليبثّ صوراً من المشفى الميداني، ويدّعي أنه كانت لدينا معدّات حديثة، وأننا كنّا نستعدّ للحرب كذلك، وأنّ «الإرهابيين» هم من أتوا بالمعدّات إلينا. حصلنا على بعض المعدّات من نداءات كنت أقوم بها؛ فالمشفى الحكومي بالقصير أقفل في شهر ١١/٢٠١١ وحوّلوه إلى مركز تعذيب وقتل.
فتحنا المشفى الميداني، وكنّا نعالج جرحى التظاهرات في البداية. كل الأطبّاء كانوا من القصير، لم يكن معنا أيّ طبيب «إرهابي». كنّا ثمانين طبيباً وممرّضة، كلّنا من أهالي القصير. بقينا إلى آخر لحظة في المدينة، وهاجرنا مع أهلها. لم نستطع ترك الأهالي، وكنّا المشفى الوحيد الموجود. كنتُ أعمل في النهار وأستجدي أصدقائي في أنحاء العالم كي يرسلوا لنا مساعداتٍ طبّية. اضطررنا إلى نقل المشفى إلى عدّة أحياء بسبب تعرّضه المستمر للقصف. المكان الأخير كان في الرابطة الفلّاحيّة، وقد قُصف، ومن ثم انتقلنا إلى مبنى آخر إلى حين «الهجرة».
شهادة خلود عبدالله خلف
أنا كنت أسكن مع زوجي، أو بالأحرى عريسي مهنّد محمّد مهدي حمرك، وقد تزوّجنا أخيراً في الجادّة القبليّة من القصير. أتى مهنّد خلال النهار الذي آتّخذنا فيه قرار الرحيل، وطلب منّي أن أحضر بعض الملابس لي وله. كنّا نعتقد أننا سنذهب بالسيّارات. لم نكن نعلم مكان التجمّع، فبدأنا نركض من ناحية لناحية. في البداية، ذهبنا إلى «الصالحيّة،» لكنّهم قالوا إنّ التجمّع عند المشفى الميداني، فذهبنا إلى هناك. لم نكن نعلم أنّ الرحلة ستكون على الأقدام. حين بدأنا المسير تركتُ الحقيبة وأخذت فقط قطعة غيار لي وقطعة غيار أخرى لمهنّد. لم نأتِ بأي طعام أو ماء.
الماء من حبات اللوز
الفوضى عند التجمّع كبيرة، والناس ضيّعوا بعضهم. مشيت أنا مع أمي، وكانت ممرّضة في المشفى، بالإضافة إلى زوجي مهنّد وأبناء عمي وأهل زوجي. لكننا بعد عدّة ساعات أضعنا بعضنا. عندما وصلنا إلى بستان اللوز، بدأنا نبحث عن أهلنا. وجدت أهلي، ولكننا لم نجد أهل زوجي. البستان مليء بالبشر، وأنا كنت أبحث عن بيت عمي حين بدأ القصف علينا وسقط جرحى وشهداء. لم يكن لدينا أيّ ماء لإسعاف الجرحى الجدد والجرحى الذين أتوا من القصير. رأيت بعض الأهالي يحاولون سحب بعض نقاط الماء من داخل «نبريج»، وبعض هؤلاء حاول أيضاً استخراج الماء من حبّات اللوز.
عند حلول المساء قيل لنا إننا سنبدأ بالمشي. كنا نمشي معاً، ولكن يبدو أنّ قسماً منا ضلّ الطريق. حاولنا الرجوع، فضللنا الطريق نحن أيضاً. كنا نحو مئة شخص. كنت أمشي مع أمي وزوجي. كانت أمي تعبة جداً؛ فهي ممرضة في المشفى الميداني، ولم تذق النوم منذ شهر. وقعتْ أرضاً مرتين، وكنت أنا وزوجي نسندها لكي تتابع المسير. فجأة، فيما كنا نبحث عن الآخرين، انهمرت علينا القذائف و«ضَرْب الرصاص»، وكنا قد جلسنا لنرتاح قبل المتابعة. لم نُصب. طلبنا المساعدة؛ لأننا ضللنا الطريق، فأتى خمسة أشخاص ليصطحبونا، وقبل أن يصلوا إلينا بنحو مئة متر، سقطت قذيفة علينا. في البداية، شعرت بأنني متّ، ولكن بعد قليل تحسست نفسي وأردت أن أعرف ماذا حصل لي ولزوجي. كانت الدنيا مظلمة، وبدأت أتحسّس جسد أمّي. كانت جثّة هامدة، وبقيت أتحسّس جسدها حتى وصلت إلى رأسها، وعلمت أنها أصيبت في الرأس وقد توفيت فوراً. زوجي كان بعيداً عني بخطوتين. اقتربت منه وكان أحد الطباء بجانبه، وهو لا يزال على قيد الحياة. طلب ماءً، ولكن الطبيب قال له: «تشهّد». بدأت أصرخ: «أرجوك أسعفه. أنا متزوجة حديثاً، ساعدني». حاولت أن أحمل زوجي، لكني لم أستطع. صرخت بالطبيب: «لماذا تقول له أن يتشهّد؟ سيعيش». لكن الطبيب أعلمني أنه سيتابع السير، فطلب مني زوجي أن أمشي معهم وأن أتركه. رفضت في البداية، ولكنه قال لي: «اتركيني، حاجي تعذبيني». قلت له إنني سأعود لأحمله. مشيت قليلاً وندمت لأنني تركته. طلبت من الدكتور والآخرين العودة معي، ولكنّ أحداً لم يقبل. وجرّوني جرّاً لمتابعة المسير. لم أكن أستطيع سماع أي شيء من جراء القذيفة. وصلنا إلى «مدينة الأحلام»، وكنت مُنهكة غير قادرة على الكلام، ولكنني استجديت أن يعود معي أحدهم حتى ندفن زوجي وأمي على الأقل، ولكنهم وضعوني في سيارة، ووصلت إلى حيث كان إخوتي وأبي وأخبرتهم بما جرى. بعدها أتينا بسيارة إلى «عرسال».
أن أدفن أمي وزوجي على الأقل
في عرسال، بدأتُ أسائل الأهالي عن قصصهم. كنت أودّ أن أعرف ما إذا كان أحدهم قد وجد أمي وزوجي. لكن الكلّ كانوا قد أخذوا طريقاً آخر. أعتقد أنهما لم يُدفَنا. بقيا على الطريق. المشهد الأخير بعد سقوط القذيفة لا يفارق مخيلتي. أتذكّر كيف وعيت ووجدتهما حولي، وكيف استجديت الطبيب الذي غضبت منه لأنه لم يساعد زوجي. كنت متأملة رغم معرفتي أنّه لن يعيش... إنّني أشعر بالمسؤولية. كان من المفروض أن أبقى معهما وأموت معهما، لا أن أتركهما. أو ربما كان يجب أن أعود إليهما بأي طريقة، أو على الأقل كان يجب أن أدفنهما. لكنّ عقلي كان «مسكّر»، وما كنت أفكر في شيء... هو لم يكن يريد أن يترك القصير. قال لي: «طلعي إنت وأنا بضلّ»، لكن من خوفه عليّ قرّر الهجرة. لا أعرف كيف تركته يموت على الطريق. كان يعمل سائقَ سيارة إسعاف في المستشفى الأهلي، وقد أخرج جرحى إلى «عرسال» في بداية الحصار، وأُوقف وقال للجيش إنّ «المجموعات الإرهابية أجبرته على أخذ الجرحى». عملنا واسطة لكي يطلع من السجن، ولكنه فقد وظيفته ورفضوا أن يعطوه ورقة «لا حكم عليه». ولكن كان لدينا أمل في أن تتحسن الأوضاع ويجد عملاً. الآن لم أعد آمل شيئاً. لا أريد سوى العودة إلى «القصير.»
لا أعرف ما الذي دفعني إلى أن أتركه، ولكني أذكر كلماته الأخيرة بأن أُريحَ له ضميره وآخذ الأمانة التي أرسلها أحد أهالي القصير إلى أهله. قال لي: أودّ أن أموت وضميري مرتاح. يجب أن توصلي الأمانة. أعطاني ظرفاً فيه بعض المال ودفعني إلى تركه لكي لا يتحمل ذنب عدم توصيل الأمانة. لا أعرف إن كنت قد تركته لأنني أودّ إراحة ضميره أم لأنني كنت خائفة على نفسي؟ كل ما أعرفه هو أنني أتمنى لو كنت مكانه.
شهادة المدرّس أحمد رحمة
استشهد مئتان من الجرحى على الطريق، ونحو ثلاثمئة من المهاجرين. عدد شهداء الهجرة بلغ نحو خمسمئة، وهناك ألف مفقود لم نعرف أين ذهبوا.
«بِعْنا ذهباتنا لنشتري بواريد للثوار»
يبدأ الرجل حديثه بالتأكيد أنّ الجيش السوري لم يكن ليستطيع دخول القصير لولا مساعدة «حزب الله». كان عدد الثوار قليلاً في القصير. نحو خمسمئة رجل، ولم يستطع النظام أن يدخل المدينة. يضيف أن «الجيش السوري كان سينهار لولا مساعدة «حزب الله» الذي أرسل كلّ قواته لقتل الشعب السوري، فأصبح هذا الأخير يحارب نظامه وإيران و«حزب الله» وكل العالم... السعودية وقطر وكل العالم الباقي أرسلوا لنا فقط كلام... كلام... كلام... في حين أنّ النظام حصل على المساعدات العسكرية من إيران وروسيا بالإضافة إلى ترسانته... السعودية تركت المليارات والأسلحة على الحدود؛ لأنّ أميركا وإسرائيل وكلّ العالم مع النظام. حزب الله» احتلّ المدينة... اكتبي هذا أرجوك... هو والنظام قوات احتلال».
تقاطعه زوجته فاطمة: «لم نرَ أسلحة من أحد. لم يدخل القصير أيّ مساعدات عسكرية من أيّ طرف كان، وما كان فيها رجال بتقاتل من برا القصير. بدك تعرفي كيف حصلنا على الأسلحة؟ بعنا ذهباتنا لنشتري أسلحة- بواريد يعني للثوار - خلص الذهب من القصير، والكل أعطى لولاده ليشتروا بواريد ويدافعوا عن المدينة».
ويكمل أحمد قائلاً: «قبل الحصار الأخير ومنذ بداية الثورة، استعمل الثوار البواريد فقط، وكان الجيش النظامي يطلق النار على الحواجز. معظم الوقت كان إطلاق النار من النظام في الهواء هدفه الترهيب فقط وإدخال الرعب. مقابل ذلك، كان شبّان المدينة يمنعون أيّاً من عناصر الجيش من النزول إلى الشوارع. كنا في المستوى نفسه: الجيش يحارب بالبواريد، ونحن نحارب بالبواريد أيضاً. هكذا كانت الحال خلال السنتين الأوليين للثورة. أحياناً كان يحصل ضرب (قصف) على أحياء معيّنة تجابهه مقاومة. يرحل الأهالي إلى أحياء أخرى من المدينة ثم يعودون إلى بيوتهم. كان هناك توازن رعب بين النظام والمقاومين. لم يستطع النظام أن يدخل أيّ حيّ من أحياء المدينة حتى أول شهر حزيران عندما استعان بالإيرانيين و«حزب الله». عند دخول قوات «حزب الله» المعركة بدأنا نشعر بالفارق. في ٢ حزيران أصبح القصف كثيفاً، فتركنا البيت وسكنّا مع بنات أخي في الحيّ الوسط للمدينة (من الحيّ الجنوبي حيث نسكن)، وأخذنا «غياراً» واحداً لأننا كنّا نأمل أن نعود بعد هدوء القصف. كنا خمسة وعشرين شخصاً في غرفتين. ما كان فيه مازوت ولا كهرباء وبالتالي لم يكن فيه ماء، والقصير كانت تعتمد في الفترة الأخيرة على مياه الآبار؛ لأنّ النظام قطع المياه عنّا. لحقنا الضرب إلى الحيّ الوسط. تركناه وانتقلنا إلى بيت لابنتي كان لا يزال قيد الإنشاء، سكنّا فيه ثلاثة أيام، ومن ثمّ لحقنا الضرب إلى هناك.
بقينا على هذه الحال إلى أن اتخذ الثوار قرار الرحيل. بدأنا المشي ليلاً. أنا عمري خمس وسبعون سنة، وكنت أمشي مع مجموعات من البشر ليس لدي أي رابط معهم. كلّهم أصغر مني سنّاً. لم يكن معنا ماء ولا طعام. كان النوم نهاراً تحت فَيء الشجر، والمشي خلال الليل. أكلت بطاطا وورق عنب. لم أشعر بأّنني متمسك بالحياة كما شعرت ذلك اليوم. كان معنا شاب وأبوه. ترك أباه وغادر. وقال لي: إذا كنت إلى جانبه وأُصيب فلن أقدر على حمله، وإذا تركته سأُحس بالذنب، فتركته يمشي وحده. خلال عبور «الفتحة» ما حدا تطلّع بحدا. الناس تمشي كأنها منوّمة مغناطيسياً. عند سقوط القذائف بعض الناس تستلقي على الأرض والبعض الآخر يتابع المسير. الحياة والموت يتساويان بشكل مطلق عند «الفتحة» قبل الوصول إلى «مدينة الأحلام». بعد الوصول إلى مدينة الأحلام ذهبنا إلى «شتشاء» ثم «شمسين»، ومن بعدها «حسيا»، ثم إلى يبرود فعرسال. واستقررنا في «العين» حيث كان ابني وعائلته قد سبقونا إليها منذ عام».
تضيف الزوجة: «كان هناك حماس عام لدى الشباب، لكن إجوا «الحزب» وقلبوا كل موازين الرعب. كلنا بالحي بعنا الذهب لنعطيه للشباب المتحمس ليشتري بواريد. فقدتُ ابني وابن بنتي ولم أرَ أحفادي منذ تسعة أشهر. الحمد لله هناك تليفونات وعرفنا أنهم في طرابلس لأنهم حكوا مع إبني اللي صار صلة الوصل مع كل اللي وصلوا على بيروت.»
يكمل أحمد: «بعد انسحاب المقاومين أتى الشبيحة وسرقوا البيوت، وما لم يستطيعوا سرقته أحرقوه. قالت لنا ابنتي التي حاولت زيارة بيتها إنّها وجدت حتى قنينة الغاز محطّمة. لقد قاموا بحرق البساتين وقطع الأشجار كأنهم يقولون لنا إنّه لا عودة لكم بعد الآن. لقد فعلوا كما فعل اليهود. أنا حزين لأنني لم أكتب شيئاً في مذكّراتي؛ فأنا أستاذ تاريخ وعلّمت في ثانوية «القصير»، وكنت أحتفظ بيومياتي منذ ثلاثين عاماً عن كل ما تغيّر حولي في القصير، من توسيع للمدينة يوماً بعد يوم، إلى ارتفاع أسعار الخضار والمواد الغذائية، إلى كل ما كان يدخل المدينة من مواد جديدة... لدي نحو ٢٨ مجلداً لا تحتاج إلا إلى تبويب. كلّ عمري راح مع تلك الأوراق. إنّه الاستعمار بثياب جديدة».
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.