منذ بضعة أسابيع، انتشر على موقع «يوتيوب» الإلكتروني شريط فيديو استفزازي مُصوَّر بين بلدتين على حدود لبنان الشمالية الشرقية، هما عرسال والهرمل. في الأشهر الماضية، باتت هاتان البلدتان تمثّلان قطبين متناقضين: فإحداهما (الهرمل) تضم جمهوراً من الناخبين الشيعة يؤيدون حزب الله بقوة، فيما تضم الأخرى (عرسال) جمهوراً من الناخبين السُّنّة يعارضون بحماسة متقدة النظام السوري، حتى إنه يُقال إنّ البلدة تؤوي ثواراً سوريين.
وقفتْ صحافية أمام مجموعة من رجال الميليشيا يلوّحون ببنادقهم عند نقطة تفتيش في بلدة اللبوة، قطع أهلها الطريق المؤدية إلى عرسال، ووجهت حديثها إلى الكاميرا لتختصر تقريرها على نشرة الأخبار والإبلاغ عن إطلاق نار بين الجانبين. أثناء حديثها، مرّت بالفريق التلفزيوني صدفة آلية تابعة للجيش اللبناني في طريقها إلى عرسال. وبدا المسلحون كأنهم أشجار مرصوفة إلى جانب الطريق. في استوديو المحطة، عبّرت مذيعة نشرة الأخبار عن عدم تصديقها ما تشاهده، وطلبت تأكيداً: «هل هذا حقيقة ما حصل؟ ألم يشاهد الجيش المسلحين؟». في الأيام التي تلت ذلك، نشرت مجموعة من المراقبين القصة لتأكيد تراجع الدولة اللبنانية (مع الجيش كرمز أساسي لها) إلى حالة من العجز. حتى إنّ معلقاً على موقع «يوتيوب» تساءل: «ما هي الخطوة التالية؟ هل سيوقف المسلحون عناصر الجيش ويسألونهم عن بطاقات هوياتهم ليتأكدوا مما إذا كانوا سُنّة أو شيعة؟». في المقابل، اعتبر مؤيدو الجيش أنّ القصة تطرح إشكالية مختلفة بعض الشيء؛ فهي تلقي الضوء على ما آلت اليه أمور سكان هذه البلدات «الغريبة» (إذا ما وضعنا خلافاتهم جانباً).
تمتعت العبارة المبتذلة «خارج عن القانون»، المستعملة في البقاع الشمالي، بمرونة كبيرة لوقت طويل في لبنان. غالباً ما غذتها وسائل الإعلام في تغطية أحداثها عن كثب وعن بُعد، مع التركيز على أوقات الأزمات وحسب، أو فورات الغضب، التي تبلور الصورة النمطية لرجل العشيرة البقاعي العنيد الخارج عن القانون الذي يضرب عرض الحائط بالقانون وبالدولة. ويبدو أنّ هذه العبارة المبتذلة تؤطّر الفهم الحديث للتطورات السياسية في البقاع الشمالي؛ إذ يقترن بتفسيرات طائفية جاهزة تطيح التعقيدات والتحولات على تلك الحدود ويحصرها بموضوع واحد: عداوة شيعية - سنّية مستوطنة تنعكس بشكل مختلف أكثر فوضوية، على هوامش المجتمع اللبناني. إن تغيير العلاقات الاجتماعية بين بلدات هذه المنطقة وقراها، وتغيير الروابط السياسية والاقتصادية مع الدولة السورية وشعبها، إلى جانب تزايد النزعة القومية اللبنانية في عرسال، ووجود حدود مفتوحة تاريخياً عبر الجرود، بالإضافة إلى تحول ملحوظ أخيراً عن الانتماءات التاريخية اليسارية المنحى (الشيوعية والقومية العربية) باتجاه هوية سنّية جديدة. هذه كلها تصبّ من حيث الزمان والمكان في إطار رواية عن «العشائرية الطائفية».
بصفتي باحثة عملت عن كثب في عرسال منذ عام ١٩٩٦، وقد نمّيت علاقات شخصية ونوعاً من الأُلفة مع العديد من العائلات والأفراد فيها، فوجئت كثيراً للوهلة الأولى بردّ فعل الجمهور على مثل هذا المشهد الذي شكّل مشهداً «عادياً» لعقود من الزمن بالنسبة إليّ وإلى أهالي عرسال. فهؤلاء المسلحون الذين يرتدون ثياباً مدنية ليسوا أول من منع أهالي عرسال من الوصول إلى منازلهم. قبل عشر سنوات بالتحديد، كان رجال الاستخبارات السورية الذين يرتدون ثياباً مدنية هم أيضاً يوقِفون أهالي عرسال عند نقطة تفتيش مماثلة ويمنعونهم من المرور ما لم يدفعوا «ضريبة». وهذه الضريبة اسم مستعار للخوة التي ينتزعونها من سائقي الشاحنات الذين ينقلون الصخور من المقالع التي في الجرود، هذا إذا رغبوا في ضمان استمرارية مصدر رزقهم.
كانت هذه «الضريبة» مربحة جداً، لدرجة أنّ غرفة من الأسمنت بُنيت على مسافة كيلومترات قليلة من موقع نقطة التفتيش، شكلت محطة دائمة لتجميع «الضرائب»، وكان على عناصر الجيش المتمركزين في عرسال أن يُبطئوا سرعتهم عند نقطة التفتيش تلك، مثلهم مثل أي شخص آخر. بغضّ النظر عن المنطق المعقول الذي سعى الخطاب الرسمي إلى انتهاجه، بحجة أن الاستخبارات السورية تساعد الدولة اللبنانية في مراقبة «مجموعة إرهابية»؛ أو أن «الحكومة تُعدّ لقانون جديد للمقالع (كسّارات)، ولم تكن «الضريبة» إلا بداية مرحلة تنظيم الأراضي». لا بأس، ولكن لماذا يطلب ذلك نشر قوات سورية في المنطقة؟ شارك الأهالي في هذه اللعبة لفترة طويلة بما يكفي ليفهموا أنّ معاناتهم عند الحدود تعني أنهم بعيدون عن أنظار دولتهم. لم يلقَ غضبهم وشكواهم آذاناً صاغية، والمسائل نفسها التي تثير السخط في سائر أنحاء البلاد اليوم ليست سوى ممارسات يومية اعتيادية عند أهالي عرسال: اختطاف الرعاة على أيدي شرطة الحدود السورية في الجرود؛ بساتين على الأراضي اللبنانية يدّعي مزارعون سوريون امتلاكها؛ تدخل الاستخبارات السورية في الشؤون الداخلية بعد وقت طويل من انسحاب الجيش السوري من باقي أنحاء البلاد؛ إلخ. ثم إن معاينة جيشهم اللبناني، وهو يخضع لسلطة عسكرية أو أمنية أخرى، لم تُسهم إلا في تعزيز المشاعر المتضاربة لدى أهالي عرسال تجاه الدولتين اللبنانية والسورية.
على الجانب الخاطئ من السلطة
فكيف وفي أي خندق سياسي تحديداً سيقف أهالي عرسال، عالقين في فخ عدم القدرة على توقع منحى العلاقات المتغيرة باستمرار بين الدولتين؟ منذ الاستقلال، بدا أنهم أهالٍ اختاروا «الجانب الخاطئ من السلطة»، بغضّ النظر عن مكمن هذه السلطة. فقد انحصرت خياراتهم السياسية المتغيرة بالعبارة المجازية نفسها، أي «العشائري» الذي لا يستطيع أن يرى ما هو أبعد من الولاء العشائري (وقد استُبدل به الآن الولاء المذهبي)، والذي لا يعبّر عن سياساته إلا من خلال العنف، فلا يمكن لجمه بالتالي إلا بالعنف. وقد شاركتْ وسائل الإعلام وأجهزة الدولة في نشر هذه المقولات. وانتشرت مقالات موجزة تعيد إنتاج هذه الصورة بشكل فوضوي في الصحف اللبنانية منذ خمسينيات القرن الماضي: أخبار عن مناوشات بين عائلة وأخرى، مسلحون يتبادلون إطلاق النار مع رجال الشرطة، وإخضاع الدولة سكان الجرود المتعنتين. لم تكن هذه الصور تنوي التعبير عن «طبيعة» الناس في منطقة معينة من لبنان وحسب، بل أن تحجب أيضاً مشاريعهم السياسية التي تغيّرت مع الوقت من خلال حصرهم ضمن نطاق الخلافات المحلية – بين عشائر، وعيل، وقرى – عوضاً عن أخذ علاقتهم بالسياسة الوطنية والإقليمية على محمل الجد. وخير مثال على ذلك العلاقة المتغيرة مع الدولتين اللبنانية والسورية.
عرسال في أحداث ١٩٥٨
خلال الحرب الأهلية اللبنانية الأولى (عام ١٩٥٨)، اصطف أهالي عرسال في الجانب المواجه لدولتهم. انسجمت انتماءاتهم السياسية مع الأيديولوجيات المسيطرة في سورية وليس في لبنان. شاركوا في التمرد الذي قاده القوميون العرب ضد الرئيس كميل شمعون ذي الدعوات المستهجنة إلى تدخل غربي من خلال موافقته على مبدأ أيزنهاور. تجاهل مؤرخو تلك الحقبة إلى حدٍّ ما تورّط «الدول الهامشية»، كذلك إنّ وسائل الإعلام التي كانت خاضعة لرقابة مشددة في خمسينيات القرن الماضي بالكاد تمكنت من تغطية الأحداث على حدود لبنان. بيد أنّ الروايات الشفهية والمحلية تكشف عن تورط كبير لأهالي عرسال في معارضة عهد شمعون. كذلك فإنها تسلّط الضوء على كيفية تردد صدى الخلافات السياسية التي تنشب في الوسط وتنتقل إلى مناطق مختلفة من البلاد. فعندما بدأ التمرد على شمعون، ردّ سكان القرى المجاورة، من مؤيدي الرئيس، على موقف أهالي عرسال، فاشتعل الخلاف وسعى أهالي عرسال إلى طلب مساعدة نظرائهم السوريين، انعكاسًا لكيفية ارتباط التوترات المحلية بين القرى بالتوترات الوطنية والإقليمية. ويخبر ناجون مسنّون شاركوا في التمرد أنّ أهالي عرسال اقترضوا الأسلحة، وهي مزيج من البنادق والقنابل اليدوية، من السلطات السورية (زمن الجمهورية العربية المتحدة) التي سلّحت نحو ٤٠٠ رجل، وتمكنوا من إخضاع خصومهم المجاورين. لكن هذا النصر كان له ثمنه وتداعياته الوحشية، بعضها علني، والبعض الآخر أكثر سرية. ولعل الأكثر وضوحاً من بين تلك التداعيات هو ردّ الفعل الأول والوحيد ربما من قبل الدولة ضد شعبها، وقد انطوى على قصف البلدة من الجو. فكان على الأهالي المرتعبين الهرب من حقولهم للاختباء. وقال أحد الرجال، وقد كان مجرد طفل أثناء الاعتداء، إن والده اختبأ من القصف، لكنه أحصى عدد القذائف من خلال وضع حجر كلما انفجرت قذيفة. فاحصى مجموعا قدره ٣٠٠ قذيفة.
على مستوى أدقّ، استمرت أجهزة الدولة في التدخل لكبح «خيانة» أهالي عرسال للأجندة السياسية التي تتبناها. جرى ذلك من خلال نشر استراتيجية خفية هي استراتيجية «فرِّق تَسُد» التي استغلت مشاعر العائلية القوية عند اقتراب موعد الانتخابات البلدية عام ١٩٦٣. يعتقد الكثيرون أنّ أجهزة الاستخبارات اضطلعت بدور في تأليب العائلات بعضها على بعض، وبخاصة عندما همّشت النتائج إحدى العائلات البارزة، فكان رد الفعل العنيف وشيكًا. أدت سلسلة من الحوادث المفتعلة إلى حالات قتل وإطلاق النار على عدة أشخاص في البلدة، سرعان ما تحولت إلى اشتباكات مع رجال الشرطة، انتهت بسيطرة قوى الأمن على عرسال. اندرجت هذه الأحداث في إطار الصورة النمطية «للرجل العشائري الخارج عن القانون»، وهو خطاب رسمي أزاح الغطاء السياسي عن نشاط أهالي عرسال ضد الدولة وقوّض العلاقة الأيديولوجية التي تربط هذه البلدة بسورية، وهي علاقة بقيت حتى نشوب حرب ١٩٧٥ الأهلية، وهي علاقة استمرارية وتوجه سياسي مشترك.
مع بداية سنوات الحرب الأهلية، بات تفكك الدولة اللبنانية وعجزها أكثر وضوحاً. غير أنّ العلاقة مع الدولة السورية، التي كانت خلال الخمسينيات حليفة عرسال في توجهها العروبي، بدأت تتخذ شكلاً مختلفاً؛ فدخول الجيش السوري إلى لبنان عام ١٩٧٦ وضع لبنان، وبخاصة البقاع، تحت سيطرة سورية سافرة حتى عام ٢٠٠٥، ما عرّض سيادة الدولة اللبنانية للخطر. في نهاية المطاف، تراجع الوجود العسكري السوري تدريجاً على مرّ السنين في معظم المناطق اللبنانية (ولا سيما في العاصمة)، وانسحبت القوات السورية إلى عدد من القواعد الاستراتيجية مع تسليم الأمن إلى الأجهزة اللبنانية التي تعاونت في شتى الأحوال معها. بيد أنه في البقاع الشمالي، كان الوجود السوري أقل سرية مع عدة نقاط تفتيش دائمة مزروعة على الطريق الرئيسي، ودرجة عالية من السيطرة والتدخل في الشؤون المحلية.
نموّ نفوذ الإسلاميين
كان أهالي البقاع الشمالي يعرفون تماماً من يسيطر عليهم. كان مصيرهم بين يدي «المقدَّم السوري» وحياتهم تراقبها الاستخبارات السورية. وفي ظل غياب الدولة، مثّل حزب الله السلطة الحقيقية على الأرض، أقلّه في البلدات الشيعية، وبطريقة ما شكّل بديلاً من الدولة عبر توفير الخدمات الاجتماعية من خلال بناء المستشفيات والمستوصفات والمدارس ومجموعة متنوعة من المنظمات غير الحكومية. وقد جرى استثناء عرسال من هذه الخدمات، والآن لا يشعر سكانها بأنهم مهمشون من قبل دولتهم وحسب، بل أنهم يتعرّضون للاستغلال أيضاً من قبل حليفهم التاريخي. وما زاد الطين بلّة أنّ هذا الاستغلال يحصل بحضور دولتهم وعلى مرأى من الجيش الذي أقام قاعدة عسكرية في عرسال عام ٢٠٠٠ ولا يزال فيها إلى اليوم. بيد أنّ الانتهاكات المتزايدة التي تقوم بها السلطات السورية تقع خارج نطاق صلاحية الجيش اللبناني. زادت المطالبات بالمواطنة التي كان أهالي عرسال يعلنونها الآن، وقوضت نظرتهم إلى الجيش الذي يعتبر برأيهم أداة «تزيينية» تستعملها الدولة ضد مواطنيها لا لمصلحتهم.
شريط نشرته محطة «الجديد» في ٢٠ حزيران ٢٠١٣ من اللبوة في البقاع.
الأصوات المناهضة للنظام السوري التي باتت أعلى من أي وقت مضى في بيروت في مطلع عام ٢٠٠٠، ظلت أكثر كتماناً في عرسال. لم تستنبط بعد صيغة سياسية سهلة للتعامل مع «المسألة السورية» التي تخيّم على السياسات اللبنانية. بيد أنّ الضغوط السياسية كانت تتصاعد في عرسال، وقد غذت المخالفات السورية على أراضيها الغضب المتزايد. استغل الأهالي فرصة متاحة للتعبير عن مشاعرهم، رغم أنّ أيديهم مكبلة. فقد أفسحت انتخابات عام ٢٠٠٤ البلدية المجال أمام استعمال أدوات الديمقراطية لإنجاز تغييرات سياسية ضمن الحدود التي تسمح بها هذه العمليات. مثلت نتائج الانتخابات صدمة لدى بعض المراقبين؛ لأنها مهدت الطريق لانتصار غير مسبوق للإخوان المسلمين. والصدمة نابعة من تاريخ عرسال السياسي اليساري ولقبها كـ«أم الشهداء» الذي اكتسبته من خلال عدد كبير من الشبان الذين ضحوا بحياتهم وهم يقاتلون الجيش الإسرائيلي في ثمانينيات القرن الماضي، عندما كان لـ«جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» طابع وطني لا طابع إسلامي. طغت التغطية الإعلامية لهذه الانتخابات، وربما استخلاص العبر من أحداث عام ١٩٦٣، مرة أخرى على التكهنات المرتبطة باحتمالات حدوث أعمال عنف بين العائلات والخوف من العصبية العائلية. بيد أنّ تحليلاً أدقّ للنقاشات التي سبقت الانتخابات يشير إلى أنّ الأهالي رأوا أنّ خسارة مرشحي حزب البعث الموالي للنظام السوري لها مدلولات أكبر من فوز الإسلاميين. حتى إنهم ابتهجوا لقدرتهم على مواجهة السلطة السورية التي بدا أنها لا تُقهر، وذلك من خلال التسييس الديمقراطي.
أما في ما يخص الإخوان المسلمين، فقد نسب فوزهم إلى منطق «التجربة والخطأ». فبعد أن استنفد الأهالي ثقتهم بمجموعة من الأحزاب السياسية (الحزب الشيوعي، حزب البعث، وغيرهما) باتوا مستعدين الآن لـ«تجربة» لاعبين جدد لم تُشوَّه سمعتهم من خلال ما كان يعتبر سياسة فاسدة سابقة. بدا هذا الموقف منطقياً في بيئة لم تكن تأخذ الإسلاميين على محمل الجد، فيما رأى البعض إشارات إلى التوسع، تشهد عليه مدرسة شيدها الإسلاميون وحضور ملحوظ (لكن غير منذر بالخطر بعد) للّحى والعباءات الإسلامية، بدا من خلال المشهد العام أن عرسال لن تسلك هذا الطريق.
في الفترة التي تلت الحرب الأهلية، لم تعلَن السياسات المرتبطة بعرسال من خلال الخطاب الطائفي؛ فالعداء الذي يكنّه العرساليون للسلطة السورية ما كان يستند إلى انتماءات طائفية، بل إلى ممارسات يومية نفّرت الأهالي بصفتهم مواطنين شرعيين في لبنان وهددت سيادة الدولة. وتندرج المشاعر تجاه حزب الله في خانة تعلقه بالنظام السوري، أكثر مما كانت ذات صلة بالتوترات الطائفية بذاتها. ولا بد من التذكير هنا بالمدارس التي يتشاركها أعضاء من مختلف الطوائف في تلك المنطقة، وروابط الجوار والزيجات المشتركة بين القرى وتقاسم الأراضي المشاع في الجرود، وهذه لم تكن لتعوق الانتماءات الطائفية أيًا منها عبر الفترات الطويلة. المطالبات بدولة فاعلة، في ضوء الوجود السوري، كانت دعوة ملحة لمعالجة حالة انعدام الولاء الوطني على وجه الخصوص التي دائماً ما كان سكان تلك المنطقة يُتهَمون بها. بيد أنّ هذه المطالبات لا تمت بصلة إلى الوجود العسكري أو الأمني، بل ترتبط بتحسين الوضع العام: الأراضي الزراعية التي تطلبت تنظيماً في ظل قطاع مقالع يتنامى عشوائياً، وحاجات مجموعة سكانية متكاثرة تحتاج إلى بنية تحتية منظمة وشبكة مجاري صرف صحي، وتيار كهربائي، طرقات، ووظائف، ومدارس، وموارد وغيرها. ببساطة، كانت المطالبات تنصبّ على الخدمات المناسبة التي يتعيّن على الدولة تقديمها في بيئة مهمشة جغرافياً وسياسياً.
ربما لم تبرز «الورقة السنّية» في عرسال بشكل ملموس إلا عقب اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري عام ٢٠٠٥. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنه خلال سني حياته، لم يبدِ رئيس الوزراء ولا تيار المستقبل الذي يرأسه أي اهتمام بدعم عرسال. الارتباط السنّي بعرسال في ذلك الوقت لم يكن يتعلق بالسياسة، وحتى أواخر تسعينيات القرن الماضي، كان مجرد ذكر الحريري يستدعي موجة من الانتقادات التي تطاول نموذجه الإنمائي الذي أسهم في تحقيق نمو غير متوازن وزيادة تهميش المناطق الريفية. حتى أولئك الذين قدّروا المحسوبية كنظام سياسي انتقدوه رغم ذلك لتخليه، على وجه التحديد، عن هذه الدائرة الانتخابية السنية الكبيرة في البقاع. بيد أن الظروف تغيرت عندما بدأ تحالف قوى ١٤ آذار، في امتداد حملته المناهضة لسورية، ينشر خطابه المتعلق بالحدود والحاجة إلى مراقبة دولية لها، إن لم يكن إغلاقها بالكامل. أما وسائل الإعلام التي تسعى وراء أزمة مثيرة للاهتمام، فتذكرت الحدود المفتوحة وأصبحت عرسال بطلة الدراما التي تعرض الانتهاكات التي ارتكبها النظام السوري على الأراضي اللبنانية، وكأنها ظاهرة جديدة. في غمرة هذه اللحظة ربما اغتنم بعض أهالي عرسال هذه الفرصة ونادوا بصوت أعلى مطالبين بإغلاق الحدود. هل يعقل أنهم استقروا أخيراً في الجانب الصحيح من السلطة؟
حدود مفتوحة: مجازفة أم فرصة؟
لم يستغرق أهالي عرسال وقتاً طويلاً ليفهموا أنّ التغطية الإعلامية التي حصلوا عليها كانت مجرد اهتمام إعلامي لا أكثر ولا أقل، وأنّ معاناتهم مفيدة ما دامت تشكل الخطاب السياسي أو تخدمه. والأهم من ذلك كله أنه لم يمضِ وقت طويل قبل أن يدركوا أنهم سيكونون أول ضحايا الحدود «المغلقة»؛ إذ بقدر ما أصبح موضوع النظام السوري مدعاة للانفعال، كانت الحدود المفتوحة عنصراً أساسياً في حياة أهالي عرسال. تاريخياً، كان أهالي عرسال يعبرون مع قطعانهم إلى المناطق المنخفضة من سورية في فصل الشتاء حيث المراعي أكثر وفرة مما هي في لبنان. وقد انعقدت روابط عديدة مع بلدات على المقلب الآخر وتزاوج الناس في كثير من الأحيان. ومنذ سبعينيات القرن الماضي، باع أهالي عرسال الفاكهة بمقدار أقل إلى السوق اللبنانية، وبمقدار أكبر إلى الوسطاء السوريين الذين أقاموا أسواقاً متنقلة خلال الموسم الزراعي في أجزاء مختلفة من جرود عرسال على المقلب اللبناني من الحدود. وغنيٌّ عن الذكر أنّ عمليات التهريب (أو «التجارة» كما يسمّيها الأهالي) كانت تحصل أيضاً على نطاق واسع عبر الحدود. في أسوأ الأيام، راوحت المنتجات المتداولة بين السجائر والغسالات.
وأخيراً، وخصوصاً خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان عام ٢٠٠٦، نشط أهالي عرسال في تهريب المازوت عبر الحدود في سبيل توفيره للمستشفيات وغيرها من مؤسسات منطقة حتى عندما كان الأهالي يعارضون علانية النظام السوري. كان أهالي عرسال، وسائر البلدات المنسية على الحدود مع سورية في الطرف الشمالي الشرقي والشمالي الغربي من لبنان، يعتمدون اقتصادياً على الحدود لكسب قوتهم اليومي. واستمرت الحال على هذا المنوال حتى أخذت العلاقة بين لبنان وسورية تتأرجح يمنة ويسرة. فعلى سبيل المثال، درج أهالي عرسال على القيام برحلات يومية إلى سورية بداعي التسوق وإنجاز المهمات التي لا يمكنهم تحمل كلفتها في بعلبك، أقرب مدينة إليهم. كل صباح، كانت حافلة تعبر الحدود الشمالية الى سورية وتعود في المساء وهي تحمل ضعف حجمها من البضائع. وقد راوحت البضائع التي تم شراؤها من البقالة إلى الأجهزة المنزلية، والأثاث، والملابس الشخصية والجواهر. في أواخر تسعينيات القرن الماضي، حتى الكعك كان يشترى من سورية. كذلك اعتمد سكان البقاع على سورية للحصول على الخدمات الطبية التي كانت أرخص بكثير مما هي عليه في لبنان. وعلى الرغم من أنّ إغلاق الحدود كان جذاباً من الناحية السياسية في أوقات الأزمات الإنسانية والسياسية، لكن كانت ستترتب عنه في أي وقت انعكاسات مدمرة على صعيد العلاقات الاقتصادية والاجتماعية اليومية.
لا يمكن أن ينظر إلى تدفق النازحين السوريين أخيراً إلى عرسال وعبرها (ما زاد عدد السكان بمعدل الضعفين تقريباً) إلا باعتباره دليلاً على تلك الحدود التي يسهل اختراقها والتي جلبت عدداً من الفرص يفوق عدد المخاطر في أوقات مختلفة من تاريخ عرسال المعاصر.
ليست الخطابات السياسية التي تطوف في البلدة اليوم ببديهية؛ فهي لا تنبع بطبيعة الحال من هوية سنّية وميل عشائري طبيعي لاعتناق التطرّف. كذلك لا يستند العداء تجاه حزب البعث أو حزب الله إلى الانتماءات الطائفية دون غيرها. يجب أن تُفهَم بشكل أوضح كنتاج تاريخ من العلاقات المتغيرة بين الدولتين اللبنانية والسورية وكيفية مشاركة المقيمين على هوامش هاتين الدولتين فيها.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.