قد تعتبر قلة من الناس التغيرات في الأنظمة في الدول العربية ولادة لنظامٍ جديد سيغيّر أوجه المجتمعات التي ولّدت الثورات. التغيرات في النظام التي أُنجِزَت من خلال الثورة ليست إلا الخطوة الأولى في مسيرة طويلة ستُحدَّد نتيجتها النهائية، من بين عناصر أخرى، وإذا تدخّلت القوى الخارجية، من خلال الاستراتيجيات التي جرى تبنيها خلال الفترة التي تلت الثورة. والأبرز أنّ النتيجة ستتبدّل استناداً إلى ما إذا كانت الجهود ستُبذَل في سبيل السيطرة على مطالب الثوار أو تغييرها، وما إذا كانت المشاركة السياسية من قبل المواطنين تلقى التشجيع، تُحفَّز أو تُحظَّر. عادة، ترغب النخب السياسية التي تستولي على السلطة عقب الثورة في ترسيخ مكانتها وكبح المعارضة والتغلب عليها. وترغب القوى الديمقراطية التي تتمرد على الحرمان وعدم المساواة والطغيان في أن تشهد على تنفيذ المطالب الثورية والوفاء بالوعود.
نشهد اليوم هذه الظاهرة في ما يتعلق بالانتفاضات التي باتت تُعرَف مجتمعة بـ«الربيع العربي». وللأسف، تولّدت ما بعد النشاط الثوري تغييرات تتناقض مع تصورات القوى التي تسعى إلى التغيير ومع مُثُلها العليا. ولعل الأبرز في هذا السياق أنّ التحوّل السريع لمصلحة الأحزاب الإسلامية الذي حدث عقب هذه الانتفاضات، في مصر وتونس على سبيل المثال، رغم أنّه كان غير متوقّع، يدعو بالفعل إلى القلق. لأسباب متعددة، من المتوقع اليوم إقامة دول إسلامية مكتملة، على الطراز الإيراني. لكنّ تجربة إيران تحديداً تحذّرنا من التحديات الخطيرة التي تنتظر القوى الديمقراطية.
إيران: من ديكتاتورية إلى أخرى
لا شك في أنّ العواقب الاجتماعية والسياسية لثورة عام ١٩٧٩ في إيران، في وسط سياسي كنت جزءاً منه، قد أثّرت على نظرتي القاتمة. فمن جهة، كان من الصعب ألا أتأثر إيجاباً بالانتفاضات الشعبية التي اجتاحت المنطقة في السنوات القليلة الماضية. لكن من جهة أخرى، جعلتني تجاربي السابقة حذرة في ردود فعلي على النشوة الثورية. وقد أخبرني أخيراً زميل لي، وهو مؤرّخ، أنّ المشكلة مع الباحثين خارج مجال التاريخ تتمثل في أنّهم لا يملكون فهماً طويل الأمد لاتجاه الأحداث السياسية الحالية. وقد يكون ذلك صحيحاً. لكن تأملوا فقط كم مرّة تمرد فيها الشعب في الدولة التي ولِدت فيها، أي إيران، على حاكم مستبد ليقع لاحقاً تحت سحر حاكم مستبد فاسد آخر يخدم مصالحه الذاتية. في القرن العشرين وحده، شارك الشعب الايراني في حركات اشتراكية كبرى عدة، وطنية وإقليمية، اجتمعت في ثورتين تغييريتين بارزتين لمكافحة الديكتاتورية، وأجبرت أربعة ملوك على الذهاب إلى المنفى. ولعل أكثر مثال يثير الصدمة والذهول على تحوّل التطلعات والمطالب الثورية، هو ما ظهر طبعاً بعد ثورة عام ١٩٧٩: أدت إطاحة النظام الملكي إلى إقامة سلطة دينية قديمة معادية للمرأة تلغي الحقوق. ترتبت عن تلك النتيجة أكلاف هائلة دفعتها النساء، اللواتي أيّدن الثورة بالملايين وبأشكال مختلفة. بالنسبة إلى النساء بشكلٍ خاص، تحولت الثورة ذات المطالب التعبوية المتمثلة في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، إلى سجن كبير في عهد من عينوا أنفسهم حراساً للشريعة. والواقع أنّ تأثيرات الهزائم المتكررة التي لحقت بالحركات السياسية والاجتماعية التقدمية في إيران خلال القرن العشرين كانت عميقة على النساء الإيرانيات: إنّ أبرز مطالب الناشطين في مجال حقوق المرأة المدافعين عن «الحق في التمتّع بالحقوق»، إذا ما اقتبسنا مفهوم حنة آرندت المعمق، ما زالت نفسها تلك التي أُعلِنَت للمرة الأولى في مطلع القرن العشرين وبقيت غير منجزة منذ ذلك الحين.
مثّلت الثورة الإيرانية وعواقبها تجارب حاسمة بالنسبة إلى المنطقة والعالم. لذا، من الملهم أن ندرس تجارب القوى الديمقراطية التي شنت الثورة، وبخاصة تجارب النساء الناشطات أثناء الثورة، بل وأكثر من ذلك، بعد الثورة. على سبيل المثال، لماذا وكيف فقدت النساء الإيرانيات بعد تغيير النظام عام ١٩٧٩، بسهولة كبيرة، المكاسب القانونية المتواضعة وحصتهن الضئيلة في موارد البلاد الاقتصادية والاجتماعية، التي كانت بمثابة مكافآت محدودة عن قرنٍ تقريباً من النضال في سبيل الديمقراطية الجندرية والعدالة؟ ما يقلقني، ولست بالتأكيد الوحيدة التي تتخوف من ذلك، هو ما إذا كان مصير مشابه ينتظر النساء في الدول العربية إثر التغييرات الحديثة في الأنظمة في مجتمعاتهن. هل سيبقى المجال السياسي الذي فتحته الانتفاضات الشعبية مفتوحاً أمام النساء اللواتي يتمتعن بوعي جندري وأمام الناشطات العلمانيات؟ وهل ستدعم القوى العلمانية اليسارية والليبرالية التي تمردت على الأنظمة الديكتاتورية على أساس برنامج الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحقوق، هل ستدعم النضال في سبيل الديمقراطية الجندرية كبُعد أساسي للثورة، أم تنحيه إلى مكانة ثانوية، مع منح الأولوية للمطالب الثورية الأخرى أكثر منه لهواجس المواطنات؟ هذه أسئلة مهمة، بخاصةٍ في ضوء الحركات الفاسدة البارزة في تونس ومصر والهادفة إلى قمع نشاط النساء، فضلاً عن تقويض حقوقهن المدنية والقانونية القائمة. بالنسبة إلى النساء الإيرانيات، ما نشهده في ما يتعلق بتونس ومصر مألوف إلى حد خطير. قلقنا منذ البداية بشأن الأوضاع المستجدة في الدول العربية. في آذار/ مارس ٢٠١٢ عبّرت شيرين عبادي، الحائزة جائزة نوبل للسلام لعام ٢٠٠٣، والتي تعرّف عن نفسها بأنّها محامية مسلمة تدافع عن حقوق الإنسان، عبّرت عن مخاوفها عندما دعت النساء العربيات إلى التعلم من تجارب النساء في إيران وحذّرتهن من اقتراف الأخطاء نفسها. وهذا ما فعلته الباحثات الجزائريات والناشطات في مجال حقوق المرأة، ومن بينهن مريام هيلي لوكاس وكريمة بنون وغيرهما. من بين الأحداث التي حصلت في مطلع القرن العشرين في الجزائر، عرفن خير معرفة الأعمال الوحشية التي يقدر المناضلون الإسلاميون على ارتكابها باسم العدالة الإسلامية، فضلاً عن ردّ الجيش الوحشي. فهمنا جيداً المعنى الخفي لتصريح الرئيس محمد مرسي بعد فوزه في الانتخابات، ومفاده أنّ نجاح الإخوان المسلمين يعبّر عن الاحتلال الثاني لمصر على يد الإسلام.
تراجع حقوق المرأة العربية
التطورات التي حصلت في المنطقة، تدعم حتى الآن مخاوفنا. على سبيل المثال، فكروا في أنه بعد الانتفاضات الدامية المدمرة في ليبيا، كان التصريح «الثوري» الأول الذي أدلت به الحكومة الانتقالية، كما أعلنه مصطفى عبد الجليل، وعداً برفع القيود على تعدد الزوجات والتقيد بأحكام الشريعة في المسائل القانونية. ومن يعلم كيف سيأتي رد النخبة التي في السلطة على حملة السلفيين الداعية إلى الفصل بين الجنسين في مجال التعليم وميادين أخرى في الحياة العامة. ما من تحريف أو تشويه للحقيقة يمكن أن يغير واقع أنّه عندما تصبح الشريعة أساس التشريع في دولة ذات أكثرية مسلمة، ينعدم أي أمل في أن تحظى النساء بمعاملة عادلة ومنصفة في ما يتعلق بالمسائل الاجتماعية والقانونية.
في مصر، شدد الدستور الذي صاغه على عجل أعضاء الجمعية التي تضم حشداً كبيراً من السلفيين والإخوان المسلمين، ثم جرى التصويت عليه في إطار استفتاء سريع – شارك فيه ٣٢ في المئة فقط من الناخبين – على «أحكام الشريعة» باعتبارها أساساً للتشريع. لا تأتي هذه الوثيقة على ذكر حقوق المرأة إلا في إطار العائلة، وتستعمل لغة التلميح إلى حماية كرامتهن وأخلاقياتهن بأسلوب يشبه بشكلٍ ملحوظ الدستور الإيراني. يلوح الخوف الآن فوق رؤوس النساء اللواتي ظننّ أنّهنّ من خلال المشاركة نهاراً وليلاً إلى جانب الرجال في احتجاجات ساحة التحرير، كسبن الاحترام، فضلاً عن الاعتراف بهنّ كمواطنات يتمتعن بحقوق مساوية لحقوق الرجال. والآن تخشى النساء تراجع الإصلاحات التي طاولت قانون الأسرة وأُقِّرت في ٢٠٠٠ و٢٠٠٥، إلى جانب الضغط الذي يمارسه الإسلاميون في سبيل إلغاء الحد الأدنى لسنّ الزواج للفتيات (وهو ١٨ عاماً حالياً)، وثمة تقارير عن مسودة قانون سيلغي الحظر على تشويه الأعضاء التناسلية للأنثى (ختان الإناث). سبق وتشتتت كل الآمال بالمساواة بفعل الاعتداءات الممنهجة والمتعمدة على النساء، من اختبارات العذرية التي تخضع لها الناشطات المعتقلات، إلى التحرش الجنسي بالمتظاهرات، ما يهدف إلى إذلال النساء وإخافتهن ودفعهن إلى الخروج من الشوارع.
تشير الأحداث في تونس إلى التوجه نفسه. حتى الآن شهدنا: إدراج عبارة في الدستور القائم تصف المرأة بأنها «مكملة للرجل»، ما يعتبره الكثيرون خطوة لتحديد مكانة النساء في الحياة العامة في تونس؛ مناظرات تلفزيونية بشأن إعادة عهد تعدد الزوجات إلى تونس في سبيل معالجة اختلال التوازن الديمغرافي؛ سلفيين متشددين يهاجمون الفنادق والحانات ويشتبكون مع طلاب ليبراليين يميلون إلى اليسار في الجامعات؛ ورقابة أخلاقية على الأعمال الفنية. فضلاً عن ذلك، يبدو الصراع المتزايد بين القوى العلمانية والدينية جلياً من خلال الاعتداءات العنيفة المتعددة على الصحافيين والناشطين على أيدي الجهاديين الذين يستوحون من السلفية قوة سياسية صغيرة إنما قوية في شمال أفريقيا، عازمة على أسلمة المجتمع من جديد. كذلك إنّ الاعتداءات على مقر الاتحاد العام التونسي للشغل والأحزاب اليسارية، من قبل من يطلقون على أنفسهم اسم رابطة حماية الثورة، إلى جانب أعمال إرهابية أخرى، بلا عقاب حتى الآن، بلغت ذروتها من خلال شكري بلعيد، تُعتبَر مدعاة للقلق.
حقوق المرأة الإيرانية بعد الثورة
بالنسبة إلى الكثيرين منا الذين عايشوا إقامة النظام الإسلامي في إيران وتمكنوا من البقاء، تعتبر هذه الأعمال محزنة، على الرغم من أنها ليست مفاجئة. كذلك، شاركت النساء الإيرانيات، من جميع مناحي الحياة، في ثورة عام ١٩٧٩. والأهم من ذلك، شنّت النساء العلمانيات، المؤمنات وغير المؤمنات على حد سواء، الاحتجاجات الجماهيرية الأولى ضد مطالبة آية الله الخميني بعودة النساء إلى وضع الحجاب في الأماكن العامة. أمرٌ صدر بعد أسابيع قليلة من انهيار نظام الشاه وصادف، يا للسخرية، عشية يوم المرأة العالمي لعام ١٩٧٩. لقد اعتبرنا، وكنا على حق في ذلك، تصريح آية الله بمثابة ضوء أخضر أمام تدابير رجعية أخرى، تبعت ذلك بالفعل. أفضت انتفاضة النساء العفوية، غير المدعومة من أيٍّ من المنظمات والأحزاب اليسارية أو الليبرالية، إلى تجمعات حاشدة أمام مكاتب الحكومة المؤقتة، تبعتها اعتصامات وتوقف عن العمل في الوزارات والمستشفيات والهيئات الحكومية والمدارس الثانوية المخصصة للفتيات. دامت هذه النشاطات أسبوعين، على الرغم من الاعتداءات المستمرة على المتظاهرات التي ارتكبها من يسمون أنفسهم سفاحي حزب الله. تم تشكيل الكثير من الجمعيات والمجموعات النسائية في المؤسسات والوكالات العامة والخاصة، وفي كل جامعة. أجبرت قوة التحرك النسائي ضد العودة إلى وضع الحجاب تراجعاً مؤقتاً من جهة الدولة الدينية.
بيد أنّ هذا النجاح كان ضئيلاً ومؤقتاً. فقد أصبح الحجاب إلزامياً بعد بضعة أشهر، بعد القمع الدموي للقوى اليسارية المناهضة للحكومة في الجامعات، واجتياح النظام لكردستان وصحراء تركمان، وأغلاق كافة الجامعات وطرد الأساتذة والطلاب اليساريين بذريعة «الثورة الثقافية» الإسلامية. أُقفِلَت كافة الصحف اليومية الليبرالية بأمرٍ مباشر من آية الله للعصابات بـ«كسر أقلام الصحافيين».
تطلب مناخ القمع الجديد هذا وتقدّم الإسلاميين، تشكيل ائتلاف وتعبئة الطبقات الوسطى إلى جانب الطبقة العاملة التي شاركت في الانتفاضة بطرقٍ مختلفة، أملاً بتحسين حياتهم ووضع حد للحكم الاستبدادي في إيران. كان المطلوب أن نأخذ على محمل الجد الإشارات التي تنذر بارتفاع موجة الاستبداد ضمن العباءة الدينية، ونشكّل جبهة موحّدة على أوسع نطاق ممكن ضد الاعتداءات الفكرية والتنظيمية التي يرتكبها الإسلاميون. «لو اجتمع الرجال ذوو العقلية الليبرالية والنساء اللواتي يتمتعن بوعي جندري في خندقٍ واحد، لتحول تحالفٌ بين قوى المعارضة إلى مخرجٍ سياسي ولحافظ على الديناميكية الأولى لانتفاضة النساء الإيرانيات دفاعاً عن حقوق المرأة والحريات الفردية، والديمقراطية الاجتماعية والسياسية». لم يغير أي شيء حدث منذ ذلك الحين وجهة النظر هذه، ومفادها أنّ قلة منا في قيادة الاتحاد الوطني للنساء في إيران جادلت باستمرار ضد الموقف الشعبوي لبعض النساء اللواتي أدَّين دور الوسيطات بين منظمتنا ومنظمة فدائي، أكبر منظمة يسارية في ذلك الوقت. بيد أنّه، وكما هو معروف، لم يتشكل ائتلاف مماثل.
في النهاية، سهّل غياب الدعم الكامل والمساعدة من قبل مجتمع المثقفين العلمانيين وصمت اليسار والتباساته النظرية، أو في أحسن الأحوال النقد الخفيف والواهي لتعديات النظام الإسلامي على الحريات الديمقراطية، وبخاصة على حقوق المرأة، المسيرة التي جعلت من آية الله الخميني قائد الثورة المتشدد الذي لا يردعه رادع. فأصبحت الناشطات عاجزات في وجه الاجتياح السياسي الذي تعرضت له إيران. روجت وسائل الإعلام التي تديرها الدولة أنّ الملكيين ومؤيدي الولايات المتحدة قد تسللوا داخل الحركة النسائية. كذلك، بدأت شريحة كبيرة من اليسار بالتلفظ بخطاب فحواه أنّ المسائل التي تطرحها النساء هامشية مقارنة بأهداف النضال الوطني ومناهضة الإمبريالية. انخدع الكثيرون، وبخاصة من هم ضمن اليسار، بدعم الخميني لاستيلاء الطلاب المسلمين على السفارة الأميركية، وظنوا أنّ النظام «مناهض للإمبريالية». وقد فاقمت حرب إيران والعراق الوضع، وأسكتت في السياق نفسه الأصوات النسائية المعارضة للأجندة الجندرية التي يتبناها الإسلاميون، وساعدت في تراجع المكاسب القانونية المتواضعة التي حققتها النساء في ظل نظام الشاه كما في وضع قيود جديدة لا يمكن تخيلها على الوضع الاجتماعي للنساء وتنقلاتهن.
مسؤولية الحركة النسائية الإيرانية
لم تكن الحركة النسائية بمنأى عن اللوم في هذه العملية. في البداية، فشلنا في الاستماع بدقة إلى بيانات الخميني الخطابية التي تفيد بأنّ «النساء والرجال متساوون في عيني الرب». كان معنى تصريحه بأنّ «الحكومة الجديدة ستمنح النساء كافة الحقوق التي حُرِمن إياها، ضمن نطاق الشريعة» واضحاً وجلياً. بيد أنّ سيطرة الميول الشعبوية المناهضة للإمبريالية أو التوقعات غير الواقعية بشأن الثورة ضمن صفوف فئات السكان الإناث الأكثر نشاطاً اللواتي يتمتعن بوعي جندري، أي النساء المدنيات والمثقفات اللواتي ينتمين إلى الطبقة الوسطى، منعتنا من تحقيق الوعود الثورية واتباع أجندة القرون الوسطى الملفوفة تحت العباءة الوطنية.
ثانياً، اعتبرنا حقوقنا القائمة وحرياتنا الشخصية أمراً مسلماً به. لم نقم بأي ربط بين تجارب النساء في حركات مناهضة الاستعمار في مصر والجزائر وفلسطين وأجزاء أخرى من المنطقة. ولم نحاول أيضاً أن نتعلم من تجارب الرائدات في مجال حقوق المرأة في دولتنا: تمثّلت مكافأتهن مقابل المشاركة في الثورة الدستورية التي حدثت في مطلع القرن العشرين في حرمانهن حقَّ التصويت على الدستور الأول للبلاد إلى جانب الأولاد والمجانين والمجرمين. كذلك، لم نكن ندرك، أو لم نكن نقدّر النقاشات والصراعات المحتدمة التي كانت جزءاً لا يتجزأ من عملية الفوز بمكاسب دنيا للنساء في ما يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. والأسوأ من ذلك، اختارت شريحة كبيرة من المعارضة إما أن تصمت أو أن تنضم إلى النظام في خطابه العدواني المناهض للإصلاحات الاجتماعية والقانونية للنظام السابق، باعتبارها ناتجة من تأثير الغرب المُفسِد. غاب عن بالهم أنّ الهدف والنتيجة النهائية لهذه البروباغاندا كان تشويه سمعة الناشطات في الدفاع عن حقوق المرأة ومطالبها.
يتردد صدى هذا التصوّر الأحادي الجانب اليوم في مصر. فكما أشارت هدى السادات، الناشطة في الدفاع عن حقوق المرأة في حديث لها مع دينيز كانديوتي، يتمثل أحد العوائق الأساسية التي تواجهها الناشطات المعنيات بحقوق المرأة في مصر في:
تصور عام مسيطر يربط النشاطات المعنيات بحقوق المرأة ونشاطاتهن بسيدة مصر الأولى سابقاً سوزان مبارك والمحيطين بها، أي بسياسات النظام الفاسدة. سبق وخضع هذا التصور العام للتلاعب السياسي في سبيل إلغاء القوانين والإجراءات التشريعية التي تم تمريرها في السنوات العشر الماضية بغية تحسين الوضع القانوني للنساء، بخاصة في إطار قوانين الأحوال الشخصية.
في إيران، ترافق القمع الهائل والمنهجي للحركة النسائية مع تفكيك الإصلاحات القانونية المحدودة التي أنجزت خلال العقود الماضية باعتبارها إملاءات صادرة عن الأجانب وغير الإسلاميين ولا تستفيد منها إلا النساء من الطبقة العليا والطبقة الوسطى العليا. من هنا، بعد ثلاثة أسابيع فقط من الثورة، أُلغي قانون حماية الأسرة القائم، ومُنعت النساء من تبوّء المراكز القضائية. تبع ذلك تدابير صارمة أخرى أعادت إلى النساء وضعهن كشبه مواطنات في القوانين المدنية والجزائية التي تستند إلى الشريعة. عندئذٍ بالتحديد، عرفت النساء وما يمكن تسميته الأقليات، الأهمية الاستراتيجية للتغيرات الأيديولوجية وتأثيرها في النظام السياسي وقيادته، وكيف تُقيَّد حقوق المرأة بإحكام عند طرح إصلاحات قانونية واجتماعية ملائمة من قبل نظامٍ مستبد غير شعبي. عندئذٍ بالتحديد، سيقدرون عمق الخسائر أو المكاسب بالنسبة إلى النساء، نتيجة التغييرات في القوى السياسية، وذلك على صعيد الحماية القانونية والوصول إلى الموارد.
مسؤولية الفوضى في الصعود الإسلامي
دعوني أشدد على أنّه لا شيء مما قيل يهدف إلى الإيحاء بأنّ كفاحات الشعوب في الدول العربية في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية والديمقراطية والعيش بكرامة كفاحات خاسرة سلفاً بسبب الطابع الإسلامي للأنظمة الجديدة. أولاً، كما يعرف الجميع خير معرفة، لا تنحصر معاناة الشعوب في المنطقة بالإسلام وحسب، أو حتى بارتفاع موجة الأسلمة. والمقصود بذلك أنّ ظاهرة الأسلمة المعاصرة ليست السبب، بل هي نتيجة مجموعة سياسات مفروضة على المنطقة ومُطبّقة طوعاً من قبل طغاة محليين فاسدين. أدّت عقود من السياسة الاقتصادية النيوليبرالية وتقاعس الدولة عن تقديم خدمات الرعاية، والخصخصة، وتقاسم الأموال العامة وتوزيعها على المتحالفين مع الأنظمة، إلى إثراء أقلية صغيرة مع الضغط على باقي الشعب، وإغضاب وإحباط أكثرية الطبقة العاملة الفقيرة في آن واحد. كان الفساد الحكومي، والتفاوت الهائل في المداخيل، والفقر والبطالة، وقمع الحريات السياسية وحرية التعبير والمناقشات المفتوحة، واحتواء البدائل الديمقراطية، مع بعض التفاوتات، النمط المألوف في كل مكان.
كذلك إنّ الاستياء العام حيال القوى الغربية بسبب سعيها وراء مصالحها الاقتصادية والجغرافية والسياسية، إلى جانب مغامراتها العسكرية ومعاييرها المزدوجة، وبخاصةٍ في ما يتعلق بالعلاقات الإسرائيلية/ الفلسطينية قد زادت جميعها من سخط الشعب. شوّهت هذه الظروف كلها مفاهيم الديمقراطية الغربية وحقوق الإنسان وجعلتها موضع سخرية، وساعدت الإسلاميين في الظهور كمدافعين عن الكرامة الوطنية والعدالة. أدت عقود من قمع اليسار، ما سبّب إضعاف هذه الشريحة من المعارضة وإمكانات التعبئة لديها، إلى جعل المساجد المكان الوحيد لتعبئة السخط. وضعٌ ساعد على نمو الأحزاب الإسلامية وفي تنظيمها لمؤيديها. أكّدت نتائج الانتخابات التي أجريت بعد الانتفاضات على ما هو واضح؛ أي أنّ اليسار والقوى المستقلة ما كانا يتمتعان بالفرص نفسها على صعيد التنظيم ولا يستطيعان التنافس بفاعلية مع الأحزاب الاسلامية.
نما الخمينيون في إيران، والإخوان المسلمون في مصر، وجبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر، وحزب العدالة والتنمية في المغرب، وفروع أخرى كثيرة من الإسلام، وازدهرت كنتيجة لهذه الفوضى الاقتصادية والسياسية. وأدى حرمان الشعوب التربيةَ السياسية وسلبُها إحساسَها بالكرامة، الأمن الاقتصادي والأمل، إلى جعلها سهلة التأثر والانقياد ومتلقفة لفكرة أنّ الإسلام هو الرد الوحيد القابل للتطبيق والمناسب ثقافياً على الظلم الاجتماعي والبؤس، وبخاصةٍ عندما تُقدَّم الوظائف والخدمات الطبية وغيرها من خدمات الرعاية الاجتماعية باعتبارها مساعدة خفيّة من الله، وطبعاً مع تدفق الدولارات من قوى إقليمية غنية بالنفط. كذلك، ثمة جيش من الطبقة الدنيا مستعد لتنفيذ أوامر أخلاقية ودينية مبتدعة تركّز على التحكم بالحياة الجنسية للمرأة وسلوكها الأخلاقي.
فلنفترض كأمر مُسلَّم به أنّ الإسلاميين لا يشكلون كتلة غير متمايزة. لا شك في أنّ الخلافات موجودة بين الإخوان المسلمين في مصر وحزب النهضة وبين مجرمي تنظيم القاعدة/ حركة طالبان في أفغانستان، وأنصار الشريعة في تونس، وعسكر الإسلام في سوات في شمال باكستان أو عصابات أنصار الدين المتهورة في مالي. بيد أنّه عندما يتعلق الأمر بمسائل عائلية، والنساء والحياة الجنسية، تختلف درجة الخلافات بين هذه المجموعات. غنيٌّ عن القول أنّ قوة سلطة هذه المجموعات الايديولوجية والسياسية تُحدَّد بحسب مستوى التقدم الاقتصادي والاجتماعي في المجتمعات التي تنشط فيها، وقوة القوى التي تكافح الهيمنة. غير أنّ تركيز الإسلاميين على الأجساد، وطهارة النساء وشرفهن بحسب التعريف الذكوري لهما، يعني أنّهم - إذا ما حصلوا على فرصة - سيقفلون بعنف كافة المساحات العامة في وجه الناشطات العلمانيات المعنيات بحقوق المرأة، وسيحاولون ـ في أحسن الأحوال - السيطرة عليهن ضمن حدود الشريعة. بالتالي، أينما كان تترافق المكاسب السياسية التي يحققها الإسلاميون مع خسائر تتكبدها النساء.
لهذا السبب، من غير المجدي تضخيم الخلافات بين الإسلاميين، والأسوأ من ذلك، تجاهل واقع أنّه مع ازدياد تأثير الأسلمة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، تغيّر الطابع الجندري للممارسات المرتبطة بالعلاقة بين الدولة والمجتمع. فضلاً عن ذلك، تعتبر الايديولوجيات والمؤسسات البطريركية والنيو بطريركية في المنطقة أنّ مهمتها التي أعلنتها بشغف كبير تتمثل في إعادة إرساء العقيدة والتعاليم الدينية المحافظة المرتبطة بوضع المرأة. والواقع أنّ ازدراء ذكاء المرأة واستقرارها العاطفي والأخلاقي علامةٌ فارقة تميّز الأوامر الدينية والنظام الأخلاقي الذي تتبعه أنواع مختلفة من الأصولية.
بالتالي، سيكون من المضلل القول، كما يفعل البعض، إنّ الأحزاب الاسلامية في مصر، وتونس وأماكن أخرى تشبه تماماً الديمقراطيين المسيحيين في ألمانيا أو السويد. أو القول إنّ «الإسلاميين اليوم ليسوا هم أنفسهم إسلاميي عام ١٩٧٩، وإنّهم لا يستبعدون أحداً، يحترمون التداول الديمقراطي، وهم مرنون في تفسيرهم للشريعة». من المؤكد أنّ مقياس هذا الاعتدال الذي يحسدون عليه، وهذا النوع الديمقراطي من الإسلام، هو ما إذا كان حزب أو نظام إسلامي ما معادياً للغرب. فالإخوان المسلمون في مصر، على سبيل المثال، سجلوا معدلاً مرتفعاً على هذا الصعيد، وتقويمهم جنى ثمار وساطتهم بين الولايات المتحدة/ إسرائيل وحركة حماس خلال الجولة الأخيرة من الاعتداءات الإسرائيلية على غزة عام ٢٠١٢.
مسؤولية الغرب واليسار
ينبغي ألّا يفاجئنا التعتيم المتعمد على الأجندة التي يتبعها الإسلاميون بإصرار، أجندة إعادة صياغة الحقوق وإعادة رسم حياة المواطنات، على الرغم من أنّ الدفاع عن حقوق المرأة كان الذريعة لاجتياح أفغانستان والعراق. من لا يعرف أنّ قمع النساء المسلمات على أيدي الرجال المسلمين كان أداة شيطانية لتبرير المغامرات العسكرية في المنطقة؟ رغم ذلك، من المذهل أنّ الحكومتين الأميركية والبريطانية تعملان الآن بكامل قواهما على الترويج لـ«الإسلام المعتدل» في المنطقة، آملتين السيطرة على موجة المقاومة المرتفعة المناهضة لسياساتهما الاقتصادية الاستعمارية الجديدة والنيوليبرالية في المنطقة. هما تستمران في اتباع استراتيجية الحرب الباردة التي تقضي بتوصيف اليسار العلماني والقوى الوطنية في المنطقة بأنّهما عدوان، والسعودية والوهابيين المدعومين من قطر بأنهم شركاء أهل للثقة في أفغانستان واليمن والبحرين ومصر وأماكن أخرى.
ما يضايق أكثر هو التأييد غير المبرر الذي تتلقاه المجموعات الإسلامية المتطرفة من شريحة من اليسار، والباحثين المناهضين للعنصرية والمناهضين للحرب وناشطين من الغرب. يبدو أنّ الاعتراف بالتحديات السياسية والأخلاقية التي يطرحها الإسلاميون أمام هيمنة الغرب وقيمه الليبرالية، فضلاً عن ممارساتهم الجندرية، وفي بعض الأحيان حتى وحشيتهم ضد النساء، لا تثير قلقاً كبيراً، فضلاً عن إدانة صريحة. ولعل المنطقي في بعض الأحيان هو أنّ الشعوب التي تعاني الفقر والبطالة والعدوان الاستعماري الجديد ينبغي ألا تكون منقسمة بشدة من خلال طرح أسئلة مرتبطة بالجندر. يفشل منطق مماثل في الاعتراف بأنّ النساء يمثلن الأغلبية الساحقة من جيوش الفقراء والعاطلين من العمل والمستغَلين في هذه المجتمعات، بالإضافة إلى أنّهن أهداف يومية للإذلال الميزوجيني (الكاره للنساء) والعنف.
جعل نمط التفكير هذا الصحافية المصرية منى الطحاوي محط الانتقادات بسبب مخاوفها التي عبّرت عنها حيال السياسات التي يعتمدها الإخوان المسلمون ضد النساء، على الرغم من أنّها كانت تدين أيضاً الجيش بسبب وحشيته تجاه الناشطات. وفي مناسبات أخرى، كانت تستشهد بواقع العنصرية المناهضة للمسلمين في الغرب لإسكات الانتقادات التي تناولت الممارسات الجندرية الإسلامية. هذه كانت الحال عندما أُدينت فرقة الهيب هوب الفلسطينية «دام» بسبب شريط فيديو موسيقي أنتجته وتناول جرائم الشرف. قال النقاد إنّ الفرقة صوّرت «الفلسطينيين كأشخاصٍ غير متحضرين، يلومون المجتمع ويحطّون من قدر الثقافة» وإنّها «اتبعت سيناريو حملة عالمية ضد» ما يسمونه «جريمة الشرف المزعومة». انطلاقاً من المنطق نفسه، يدين آخرون الدفاع عن حقوق المرأة في المنطقة، وذلك عامة من خلال الدعم الغربي الذي يشمل النساء «العلمانيات والمواليات للغرب واللواتي هنّ غالباً مناهضات للإسلام» ولا يأخذ في الاعتبار معاناة «النساء اللواتي ينتمين إلى الإخوان المسلمين» في ظل عهد مبارك.
النقطة التي أُغفِلت هنا هي مسألة التوازن. والمقصود بذلك أنّ الحقائق الاجتماعية متعددة الأبعاد ومتكاملة، وليس علينا أن نختار من بين قوى القمع في محاولة لتحديد ما إذا كانت إحداها أكثر إضراراً من الأخرى بالحياة السلمية والكريمة للنساء.
إلى مَن سيميل ميزان القوى في المنطقة؟
على الرغم من كل ما تقدّم، لا أعتقد أنّ أحداً يستطيع أن يتوقّع حقاً المنحى الذي ستؤول إليه الانتفاضات العربية في المستقبل القريب. الآن، تواجه المجتمعات التي شهدت انتفاضات ثورية خلال السنوات القليلة الماضية نظاماً جديداً لم تتوضح بعد معالمه وتعقيداته وتناقضاته. يُحتمل، وعلى المرء أن يبقى متفائلاً طبعاً، أن تُنتِج الثورات غير المنتهية في المنطقة نتائج مواتية أكثر لمصلحة القوى الديمقراطية التي أشعلت فتيل هذه الانتفاضات. بصرف النظر عن وجود مجتمعات مدنية نابضة بالحياة ترفض التوقف عن ممارسة نشاطاتها، قد تؤثر بعض الفوارق بين الثورات في إيران مقارنة بالثورات في تونس ومصر بشكلٍ إيجابي على مجرى الأحداث وتعكس موجة الاستبداد الإسلامي.
بداية، أُجهِضَت الثورات في الدول العربية التي نجحت في تحقيق تغيير في النظام من خلال نصيحة القوى الأجنبية ومساعدتها الفعالة. هَدَفَ خروج بن علي ومبارك المبكر إلى الحؤول دون الانهيار التام للنظام بأكمله، وعدم المساس بالجيش والقوى الأمنية، بخلاف ما حصل في إيران. نجح الإخوان المسلمون وحزب النهضة في الفوز بالانتخابات، وهما الآن يسيطران على البرلمان، وفي حالة مصر، الرئاسة أيضاً. ولكن بما أنّ النظام كله لم ينهَرْ، لم يتمكنا من السيطرة على القوات المسلحة واكتفيا بإبرام الصفقات على الرغم من أنّ التصريحات الحديثة لوزير الدفاع الجنرال السيسي التي تفيد بأنّ «الجيش لن يقف مكتوف اليدين فيما تصل الدولة إلى نقطة اللاعودة على طريق الحرب الأهلية»، تجعل المرء يتساءل كم من الوقت بعد ستُحتَرَم هذه الصفقات. المعارضة المصرية ناشطة جداً، ولديها بعض النفوذ كما يتبيّن، من بين أشياء أخرى، من خلال إلغاء المرسوم الرئاسي للانتخابات النيابية من قبل المحكمة الإدارية في مصر في شهر نيسان/ أبريل. لم تكن هذه الحال في إيران حيث غادر البلاد أعضاء كثيرون من طبقة الصناعيين ورجال الأعمال الرائدة في البلاد، جنرالات وصفوة البيروقراطيين، قبل أن يُحسَم مصير الشاه.
ما نراه في الدول العربية هو عدم استقرار سياسي واشتباكات مستمرة، مع مشاركة طبقة أصحاب الأملاك ورجال الأعمال في النضال للحصول على حصة في السلطة. بيد أنّ وجود مصالح مختلفة في بيئة ما بعد الانتفاضة قد يوفّر فرصة سانحة للقوى الديمقراطية، والشبان العاطلين من العمل الذين يسعون إلى التغيير، الناشطين في الدفاع عن حقوق المرأة، النقابات العمالية، والطبقتين الفقيرة والمتوسطة، لتتكتل مجدداً وتعيد تشكيل نفسها كي تنقل إلى الشعب وجهات نظرها واستراتيجياتها البديلة الهادفة إلى تحقيق التغيير ووضع حد للهجوم الايديولوجي والسياسي الذي يشنه الإسلاميون.
لا بد من إيلاء اهتمام خاص إلى عاملين مهمين آخرين و/ أو اختلافين ما بين تجارب إيران والدول الثورية الجديدة في المنطقة. أولاً، تفادت تونس ومصر الأحداث الدامية المباشرة التي حصلت في مرحلة ما بعد الثورة في إيران التي شهدت الذبح الفعلي لمئات الشخصيات البارزة في النظام السابق، جنرالات في الجيش، وزراء، أعضاء في البرلمان، بيروقراطيون بارزون، وضباط أدنى مرتبة في الجيش وقوات الأمن، وذلك خلال الأسابيع والأشهر الأولى بعد الثورة. ولّدت هذه المجزرة حالة من الغضب العارم المستمر بين فئات السكان الذين كانوا على علاقة بالضحايا أو الذين أملوا، ببساطة، محاكمةً عادلة وعلنية لهؤلاء الأفراد. استمرت عمليات القتل التي لا ترحم حتى وقتٍ لاحق، بعد حرب إيران والعراق. كذلك، أمر الخميني قبل موته بقتل عدة آلاف من السجناء السياسيين، وتلا ذلك عمليات خطف واغتيالات عُرفَت بـ«القتل المتسلسل» لشخصيات بارزة داخل إيران وخارجها.
كانت عواقب عنف الإسلاميين متعددة. جعلوا الناس عديمي الإحساس تجاه العنف، مشكلة تفشّت بعمق في المجتمع الإيراني، وهي الآن مصدر قلق اجتماعي كبير ومصدر خوف بالنسبة إلى المواطنين العاديين. كذلك أدى عنف الدولة وسفك الدماء المستمر إلى إحباط وإخافة الآخرين الذين شاركوا بحماسة في تظاهرات الشوارع قبل الثورة، والذين خابت آمالهم بمحصّلتها، لكنهم أصبحوا خائفين، أو مشلولين، بسبب وحشية النظام الجديد.
ثمة عامل ثانٍ مهم، إذ على خلاف الوضع في إيران، لم تعتمد الانتفاضات في الدول العربية على خطاب مناهض للغرب ومناهض للإمبريالية لتعبئة الدعم الشعبي. ولم تكن إقامة دولة إسلامية أو حكم الشريعة مطلباً. ما وحّد القوى المختلفة كان ضرورة مشتركة تقضي باستبدال الأنظمة القائمة بدولة مسؤولة تفكّر بمصلحة الناس وتقدر على وضع حد للأزمات السياسية والاقتصادية. قد يبسّط البعض هذه المطالب ويقول إنّ مطالب الانتفاضات عكست «الفكر الإسلامي المعاصر»، وبالتالي كانت الانتفاضات في العالم العربي، وبخاصةٍ في مصر وتونس، «ثورات إسلامية» والتطورات التي حصلت في ما بعد جاءت كما كان ينبغي أن تكون.
والواقع أنّه نظراً إلى أنّ مطالب الثورات في أيٍّ من الدول العربية لم تتضمن حكم الشريعة أو العودة إلى ممارسات ذات طابع إسلامي أكثر، يستطيع المرء أن يقول بعقلانية إنها كانت انتفاضات شعبية لمجموعة شعوب مسلمة بأغلبيتها الساحقة ولديها مطالب علمانية واضحة. بالتالي فإنّ الإسلاميين الذين في الحكم عاجزون عن التلاعب بالعواطف الدينية للشعوب ويصفون تحديات المعارضة بأنها مناهضة للإسلام، كما فعل نظراؤهم في إيران. هم لا يملكون قائداً ذا شعبية طاغية كآية الله الخميني، لديه مخطط ايديولوجي عن نوع النظام الذي سيستبدل النظام الملكي (ولاية الفقيه)، لديه موهبة رائعة في التواصل مع الناس والتلاعب بعواطفهم الدينية، ويفلت من العقاب بسبب أشكال لا يمكن تصورها من العنف ارتكبها ضد المعارضة. فضلاً عن ذلك، المشاركة المتأخرة نسبياً لحزب النهضة وللإخوان المسلمين في التظاهرات الشعبية، تحرمهما أي ادعاء ضد القوى الأخرى بأنها أشعلت فتيل الانتفاضة، وبالتالي تملك أسباباً شرعية للحكم.
من شأن هذه العوامل كلها أن تساعد المعارضة في التركيز على القضايا التي حفّزت اندلاع هذه الثورات: الأنظمة العسكرية الاستبدادية؛ معدل البطالة المرتفع في صفوف الشباب الذين يشكلون ما بين ٥٠ إلى ٦٥ في المئة من مجموع السكان في الدول العربية؛ الأجور المتدنية، مضايقات الشرطة، فساد الدولة الصارخ؛ وتركز الثروة والأعمال وفرص العمل بين أيدي الأشخاص المرتبطين بالنظام.
كان رجال الفكر اليساريون والليبراليون الذين بدأوا التظاهرات في إيران ضد الشاه يعانون من مظالم مماثلة. بيد أنّ عجز النظام عن التجاوب مع مطالبهم بفاعلية وبسرعة، إلى جانب مهارة الخميني ومعاونيه المراوغة في جمع الناس حول فكرة التهديد الخارجي، ما نجح في تحويل الانتباه، أقله مؤقتاً، عن المطالب الاقتصادية والسياسية الأساسية للثورة. وتمثّل رد آية الله الخميني على مئات آلاف الناس الذين دُفعوا إلى الفقر في أعقاب الثورة، والذين كانوا يأملون تحقيقَ الوعود الكاذبة التي قطعها الإسلاميون قبل الثورة، ومنها على سبيل المثال إغاثة على شكل قروض مصرفية، كهرباء مجانية وتوزيع متساوٍ لعائدات النفط، في أنّ الناس انتفضوا دفاعاً عن الإسلام، لا من أجل مكافآت اقتصادية. وتظهر كلماته الشهيرة - «الاقتصاد للحمير وليس للمؤمنين» - بوضوح ما كنا نتعامل معه.
هل يبدأ أفول الإسلاميين؟
أي خلاصة يمكننا أن نستمدها من ذلك كله؟ لا شك في أنّ إشارات كثيرة تدل على التحديات الصعبة التي تواجه الشعوب في الدول العربية، وبخاصة المعارضة التي تمثّل النساء جزءًا منها. لكننا نرى أيضاً إشارات كثيرة تدل على أنّ المناضلين الإسلاميين يفقدون سيطرتهم على الشعب في كل دولة ذات أكثرية مسلمة ذاقت جرعة من عنف الإسلاميين وخططهم الوهمية الهادفة إلى إعادة إرساء التقاليد الإسلامية التي لا تمت بصلة إلى مخاوف الشعوب الحقيقية وحاجاتها الملحة. المقاومة المستمرة في وجه الأحزاب الإسلامية الحاكمة في تونس ومصر، تشهد جميعها على حقيقة واحدة، اقتحام الناس مقرّ الميليشيا الإسلامية في ليبيا، إثر قتل السفير الأميركي، مسيرات احتجاجية في باكستان عقب إطلاق النار على ملالا يوسف زاي وذبح العالِم في مجال لقاح الأنفلونزا، التظاهرات الحاشدة في الشارع ضد حزب الجماعة الإسلامية في بنغلادش تشهد على واقع واحد: ثمة الكثير من الرجال والنساء في صف الإسلاميين، لكن هناك العدد نفسه على الأقل من الرجال والنساء الذين يعارضون رفع الشعار الإسلامي لليمين الديني في دولهم. كذلك، يشعر الناس بأنهم ليسوا بحاجة إلى السلفيين أو حركة طالبان، أو غيرها من فروع تنظيم القاعدة ليخبروهم كيف يكونون مسلمين صالحين.
أوردت رنا جواد من ليبيا في شهر أيلول/ سبتمبر أنّ «عدداً هائلاً من الناس أخبرها أنّ وجود الأحزاب الدينية بحد ذاته مفهوم مهين». طبعاً، جعلت حالة إيران، بعد إرساء النظام الإسلامي في البلاد، الناس في المنطقة يدركون واقع أنّه عندما يتعلق الأمر بمسألة الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ليست الدولة الدينية بديلاً من دولة استبدادية شبه علمانية. كذلك فإنه عندما يمتزج التحفظ الديني بالتمييز على أساس الجنس والطبقية والتمييز العرقي والديني، إلى جانب السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، تصبح المعركة في سبيل بلوغ الحقوق الديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية أكثر خطورة حتى.
بدأت المقال بنظرة قاتمة نوعاً ما، لكن أود أن أختتمه بالأمل والتفاؤل. تثبت مقاومة رجال الفكر والعمال والشباب والمجموعات النسائية ضد الإسلاميين الذين في سدة الحكم، الجيش وطبقة رجال الأعمال وأصحاب الأملاك في الدول العربية الثورية أنّ آفاق مستقبل أكثر ديمقراطية للناس، وللنساء بشكلٍ خاص، لم تَضِع في وجه التطورات التي تلت الانتفاضة. نشهد اليوم على تشكل تحالفات سياسية كبرى في مصر وتونس وليبيا ودول عربية أخرى، وذلك على أيدي أفراد وأحزاب سياسية تسعى إلى التغيير، اليسار، الليبراليين، الأقليات الدينية، الشباب، النقابات العمالية وشرائح منظمة أخرى من المجتمع المدني. وفقاً للمؤشرات كلها، هي عازمة على حماية الحقوق القائمة والمؤسسات القانونية المدنية، والضغط في سبيل تحقيق المطالب الديمقراطية للانتفاضات.
تصرّ المعارضة المصرية على الإبقاء على موقفها المعارض لدعم الولايات المتحدة المقنّع للإسلاميين، الهادف إلى السيطرة على الانتفاضات الشعبية، كما يتبين من خلال رفضها القبول بدعوة الأميركي جون كيري إلى الاجتماع به أثناء زيارته الرسمية للمنطقة في شباط/ فبراير الماضي بصفته وزير الخارجية الجديد. والجدير بالذكر أنّ تحالفاً نشأ في مصر بين ٣٣ منظمة تدافع عن حقوق المرأة، وقد توحّدت جميعها حول المواضيع التي أرادت النساء رؤيتها مدرجة في الدستور، ومنها مثلاً قانون يجرم التحرش الجنسي. أدى الناشطون في هذا التحالف دوراً فعالاً في زيادة الوعي الجماهيري من خلال التظاهرات في الشارع وأداء الأدوار في قطارات الأنفاق ضد التحرش الجنسي بالنساء، الذي يعتبرونه أيضاً سياسة خفية ينتهجها الإسلاميون لإخراج النساء من الساحات العامة. كذلك، يمثّل نشوء تحالف آخر، التحالف الديمقراطي الثوري، الذي يضم عشرة أحزاب وحركات ذات ميول يسارية خطوة بناءة أخرى قامت بها المعارضة عندما أدركت أنّ مصر تمرّ بـ«مرحلة خطيرة تتطلب اتحاد كافة القوى الوطنية، لا اليسار فحسب»، كما أشار أحد قادة التحالف، كمال خليل. شكّل الليبراليون تحالفهم الخاص، جبهة الإنقاذ الوطني، التي تضم التيار الشعبي، وحزب الدستور وغيره.
نرى التصميم نفسه في تونس. أُعلِن «التحالف من أجل نساء تونس» الذي يتألف من ١٥ منظمة غير حكومية مسجلة، في أيلول/ سبتمبر ٢٠١٢، استناداً إلى «المثال الأعلى المشترك للمساواة بين الجنسين كقياس لحقوق الإنسان». لا يقتصر هدف التحالف على «الحفاظ على الحقوق المكتسبة للنساء التونسيات المنصوص عليها في القانون التونسي منذ الاستقلال والدفاع عنها (قانون الأحوال الشخصية الذي أُصدِر عام ١٩٥٦، بما في ذلك كافة التعديلات التي أُضيفت حتى عام ٢٠١٠)»، بل يشمل أيضاً جعل المواطنة الكاملة للمرأة حقيقة واقعة. اتُّخِذت في ليبيا خطوات مشابهة، رغم أنّها على نطاق أضيق، من خلال إطلاق منتدى المرأة الليبية الذي يمثّل ٨ منظمات معنية بحقوق المرأة، وذلك مباشرة بعد إعلان نتائج المؤتمر الوطني العام سنة ٢٠١١، وقد تمثل الهدف في الدفاع عن حقوق المرأة الليبية المُدرجة ضمناً في الدستور المقبل.
حدثت تطورات مهمة سيكون لنجاحها تأثير حاسم على التوجه السياسي المستقبلي في المنطقة، بما في ذلك في سورية وإيران. ما لا شك فيه، أنّ تحوّلاً ثقافياً واجتماعياً دائماً وأعمق في المجتمع، وتغيّراً في العلاقات الجندرية والأدوار الجنسية ضمناً، يتطلب «ثورة جذرية في الفكر»، بحسب المفهوم الغرامشي. بيد أنّ التأمل في تجارب النساء في إيران خلال العقود الثلاثة الماضية جعلنا ندرك مدى هشاشة الحقوق الاجتماعية والقانونية المكتسبة في ظل الأنظمة الاستبدادية وندرك أيضاً أنّ النساء يرتقين إلى مستوى التحدي، ويقفن في وجه القيود الجندرية، ويقمن بالرد بشكلٍ خلّاق على السياسات الهادفة صراحة إلى فرض المفاهيم الذكورية والعائلية لـ«الأخوات المسلمات». على امتداد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ترفع النساء أصواتهن ضد تجاوزات الايديولوجيين والموظفين الإسلاميين في سياق تضييق الخيارات الحياتية للنساء وجعل المجالات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد ذكورية أكثر. لقد وضعن القضايا المرتبطة بحقوق المرأة ومطالبها القانونية والاجتماعية في قلب كافة الخطابات السياسية بشأن الديمقراطية في المنطقة، كذلك طالبن بأن تتضمن كل حركة تسعى إلى إزالة هياكل السلطة وعلاقاتها، والامتيازات غير المكتسبة، والظلم الاجتماعي والاقتصادي، الديمقراطية الجندرية والعدالة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.