لسوء حظي، وانا الاصغر في العائلة، لم ار جدتي واقفة على قدميها ابدا!
غالبا ما رأيت جدتي في بيتنا القديم في وسط البلد وفي بيتنا الجديد الذي انتقلنا اليه فيما بعد تجلس معظم وقتها على شرفتي البيتين في الظل لتحتمي من الشمس على كرسي قش، وعندما كانت تريد ان تنتقل تستعين بذلك الكرسي للاتكاء عليه والوصول الى المكان الذي تقصده على مهلها.
كانت امرأة مديدة القامة ذات جمال حزين تشبه الهنود الحمر الى حد بعيد، ولقد تعبت في الحياة ومن المصائب التي حلّت بها : فقدان زوجها بعد سنتين على زواجها، وفقدان ابنها الوحيد حنا, الذي كانت تعبده, وبسبب ظروف الحياة القاسية التي عاشتها، اذ عاصرت الاتراك والانجليز واليهود. كان يحز في قلبها ان عائلة بيدس فقدت معظم املاكها بعد موت زوجها وبعد وفاة آخرين في العائلة. من عائلة ملّاكين الى عائلة فقيرة. وعند قيام دولة اسرائيل صودر معظم ما تبقّى لابي من نتاتيف الاراضي التي بقيت، اذ صادرت حكومة اسرائيل لابي ٨٠ دونما في كريات آتا وكان يكفي ان يبقى دونم واحد من الثمانين لكي نثرى جميعا نحن الابناء والاحفاد. لكن الاراضي طارت كما طارت البلاد. وما تبقّى للعائلة من اراض لا يسوى وفي مناطق وعرية.
لم تكن جدتي لابي تحب الخوض في الحديث عن السياسة، لكنها كانت احيانا تقول ان الجِمال – جمال دار بيدس – كانت تملأ الساحة القريبة من كنيسة البلد بعد عودتها من الحقول والاراضي التي كانت العائلة تملكها ذات يوم. وكانت تشير بطرف خفي الى ان الظلم في زمن الاتراك كان مرعبا، وفي فترة الانجليز ايضا وان كان على نحو اقل ربما لانه كان محكما اكثر، وانه مع قيام دولة اليهود راحت البلاد وصودرت الاراضي وما بقى هو القليل من الاراضي لعائلة من الملّاكين.
جدتي لابي، تلك الشخصية القوية النادرة، كانت تتحدّر من عائلة الجمّال، وهي عائلة شفاعمرية كبيرة. لم تكن جدتي تتباهى باشقائها القبضايات بكل معنى الكلمة، بل كانت، ولانها كانت راوية بطبعها تذكر عفو الخاطر شقيقها بطرس السمرا – هذا ما كانوا يطلقونه عليه آنذاك – الذي قضى معظم حياته «فراريّا» من الاتراك وانهم كانوا يلاحقونه حتى في الجبال. وما زالت القصص والاساطير تروى عن بطولة بطرس السمرا عند كبار السن باعجاب وانبهار كبيرين. وغالبا ما يختمون القصص التي يعرفونها عنه انه على الرغم من جرأته النادرة وبسالته لم يستطع الاتراك قتله، بل مات بعد سنوات حتف أنفه. والى ان توفي ظل الناس يحترمونه ويهابونه وحتى يخشون من قوته التي لا تتزعزع. بطولة فردية لم تكن تستند الا على قواها الداخلية فقط.
جدتي لم تكن تأبه لكل تلك البطولات في عائلتها وفي عائلة زوجها، كل ما كان يعنيها بعد مقتل زوجها الياس ان تحمي ابنها وابنتها وان تحمي احفادها. لكن احيانا كانت تذكر كل تلك القصص التي لا تزال تروى احيانا بشكل سريع وفقط من اجل انعاش الذاكرة في زمن اسرائيل.
ومن الغريب اني بعد سنين عديدة، عندما كنت اقلّب في مكتبة ابي الضخمة التي احترق معظمها بسبب القنديل الذي وقع عليها، اقع على كتاب لبطرس السمرا بالانجليزية عن اربعة من ابطال اليونان بالانجليزية. والكتاب مهدى من بطرس السمرا الى ابن اخته حنا بيدس. كتب الاهداء بقلم رصاص وما زال واضحا جدا حتى اليوم. وما زلت احار في امر بطرس السمرا: ان يكون قبضايا بالمعنى الايجابي للكلمة فهذا مؤكد لكن ان يكون مثقفا في زمن موغل في القدم وفي زمن الاتراك فهذا ما يثير شيء من الغرابة في نفسي. ومع ذلك تبدو الصورة مختلفة عما هي في زمن اسرائيل التي قلبت تدريجيا كل المعايير والمفاهيم الايجابية في حياتنا وقضت عليها، وعلى نحو اكثر احكاما رفعت من بعض العائلات المتواطئة معها الى مرتبة «عالية» على كل المستويات، وبشكل منهجي اكبر عملت على تحطيم وتدمير كل الذين رأوا في وجودها استعمارا محضا لا يختلف عن اي استعمار آخر في العالم.
كانت جدتي كما عرفتها، وهي شبه مكرسحة، تمارس ثلاثة نشاطات رئيسية كل يوم: الصلاة، صلاة المسبحة، والتطريز، اذ كانت تطرّز المناديل والاويا والغيباني وانواعا اخرى، والقراءة. الغريب في الامر، ان معظم النساء في زمنها لم يتلقين اية دراسة كما انهنّ لا يعرفنّ القراءة، لكن جدتي كانت تجيد القراءة. كانت تلم اي كتاب قديم تجده حتى لو من دون علاف او ينقصه بعض الصفحات وتشرع في قراءته اذا ما كان قصة او رواية. وفي الليل كنا نتحلّق حولها وكانت تحكي لنا قصصا، على الغالب هي قصص شعبية كانت متداولة آنذاك في فلسطين، منها قصة سرايا بنت الغول التي كانت جدتي تؤكد لنا انها خرافة شفاعمرية بسبب السرايا الموجودة في شفاعمرو والتي لا تزال موجودة الى يومنا هذا (من الجدير ذكره ان السرايا او القلعة بناها عثمان ابن الظاهر عمر). وكانت تحكي لنا قصة ليلى الحمراء، وقصة عنترة بن شداد على نحو ساحر، وقصة تغريبة بني هلال التي كانت تقلب كل وقائعها وتجعلها قصة فلسطينية تقع كل احداثها في الجليل، وقصة افتح يا سمسم والكهف والاربعين حرامي، وقصة السندباد التي تحدث في بلادنا، وقصة المغر التي وجدوها تحت بيت جيراننا (آل حبيبي، من عائلة الكاتب اميل حبيبي الشفاعمريّ) والتي تمتد على مسافة كبيرة تحت الارض والتي تأسرنا. وقصص اخرى عديدة. من اين كانت تأتي بكل تلك الحكايات؟ اكيد من الآباء والاجداد ومن بعض الكتب التي كانت تقرأها. هذا ما اعتقدته دائما. لكن بيرجيت في عام ال ١٩٩٩ تبتاع لي هدية عبارة عن كتاب حكايات الشقيقين جريم لافاجأ ان عددا قليلا من الحكايات التي كانت ترويها لنا جدتي كانت مأخوذة من كتاب حكايات جريم، مع فارق ان كل حكايات جدتي كانت تحدث او حدثت في الجليل. الاسماء كلها عربية فلسطينية والامكنة، والزمن غالبا غير محدّد.
كبرنا على حكايات جدتي الساحرة. ومن بين كل الامكنة التي كانت تجري فيه حكاياتها كان مكانان محددان يثيران اهتمامنا من بين كل الامكنة الاخرى (اذ كانت السيارات نادرة، وكان من الصعب علينا ان نسافر الى بحر الزيب او عكا او حتى حيفا لنرى البحر الذي كان السندباد يعارك امواجه وحيتانه): سرايا او قلعة شفاعمرو التي كانت تدور فيها قصة سرايا بنت الغول، فكنا ننظر الى تلك القلعة بانبهار ونتخيّل احداث الحكاية. اما المكان الآخر، فكانت المغر التي كانت تمتد من تحت بيت جيراننا دار حبيبي والتي ظل منها جزء في زمننا الى ان طموها. كنا لا نجرؤ على دخول تلك المغر لانها مظلمة، لكننا كنا نقف احيانا على بابها برهبة ونعود خائفين.
وعلى ما يروى فان قصة تلك المغر حقيقية. ففي زمن الانجليز اكتشف احد الاشخاص من عائلة حبيبي تلك المغر. ودخل في قلبها وقلّب في اشيائها، ولمفاجأته وجد فيها كمية هائلة من الذهب (ربما من زمن عثمان ابن الظاهر عمر !). عاد ادراجه الى البيت ولم يخبر احدا بامر الذهب. كانت كمية كبيرة جدا. ظل محتفظا بسرّه لفترة، الى ان تعرّف على سيدة انجليزية واخبرها بسرّه. وعندما رأت تلك السيدة تلك الكمية من الذهب، وفي معظمها تحف فنية خالصة، وعدته خيرا، واقترحت عليه تلك السيدة ان تأخذ كل تلك الكمية من الذهب في «الببور»، (اي باخرة)، الى انجلترا وتبيعها هناك، ثم تعود وتعطيه ثمنها بالعملة الانجليزية. وثق ذلك الشخص بها، وكان ان سافرت تلك السيدة بالذهب الى انجلترا. وانتظر ابن عائلة حبيبي شهورا وسنين، لكن تلك السيدة اختفت نهائيا. اختفى الذهب نهائيا، اما ذلك الشخص من آل حبيبي، فكان مصيره الجنون.
ظلّت جدتي تقرأ الى ان ضعف بصرها نهائيا. اما الصندوق الورقيّ الذي كانت تضع فيه كتبها فقد امتلأ بالعث ثم تبعثر. وعلى الرغم من ان جدتي كانت تقرأ يوميا، وكانت دائما تحب ان تقرأ كتبا جديدة، الا ان مكتبة ابي الضخمة لم تثر اهتمامها: لان تسعين بالمئة من تلك الكتب كانت باللغة الانجليزية، اما الكتب الاخرى التي كانت فيها فهي كتب عربية كلاسيكية للجاحظ والمتنبي والعقد الفريد وثلاثة تفاسير للقرآن عدا النسخ المختلفة للقرآن التي كان ابي يحتفظ بها، والعقد الفريد، وغيرها من الكلاسيكيات. كانت جدتي تبحث عن الحكايات البسيطة، لانها كانت تحتفظ بمخزون هائل من الذكريات، وربما الحكايات، وكان من السهل عليها ان تقلب بعض تفاصيل تلك الحكايات وتجعلها كلها تحدث في الجليل على نحو مشوق جدا. وفي تلك الايام لم يكن هناك تلفزيون، فكانت تلك الحكايات هي التي تجمعنا حول جدتي. وكانت تحكي لنا بعض تلك الحكايات احيانا اكثر من مرة مع تغييرات دائمة دون ان نصاب باي ملل. والى يومنا هذا ما زلت اتحسّر لاننا في تلك الايام لم نكن نعي اهمية تلك الحكايات الفائقة لندونها كما كانت ترويها لنا جدتي، لكن ذلك كان غير ممكن، لانه في تلك الفترة لم تكن هناك لم تكن هناك آلات تسجيل.
في بيتنا الجديد في الجبل كبرت جدتي وكبرنا نحن ولم تعد تروي لنا حكاياتها. وفي البيت الجديد اخذت اقرأ مما في مكتبة ابي من كتب كلاسيكية كانت تسحرني جدا: كانت الخطوط التي يضعها ابي تحت السطور التي تعجبه تثير اهتمامي الشديد. وكانت ملاحظاته الثاقبة التي يكتبها بخطه الجميل في هوامش الصفحات تصيبني بالذهول احيانا: ملاحظات حادة، احيانا ساخرة، ومرات تنقل واقع تلك الايام على نحو دقيق. وكانت جدتي بسبب ضعف نظرها تطلب مني ان اقرأ لها ما اقرأه. كنت افعل ذلك بسرور، لكن الكتب التي كانت ترغب في الاستماع اليها هي روايات جرجي زيدان التاريخية التي كنت استعيرها من ابن جيراننا زيتون. كنت اقرأ لها وكانت تصحّح لي اخطائي العديدة باهتمام شديد. اما الكتب الاخرى التي كنت اقرأ لها منها، فكانت اجزاء كتب «المشوق» التي كنا ندرس فيها. كانت احيانا تضحك وتفرح من بعض اقاصيص «المشوق» وتقول لي «هذا كتاب ممتاز. ليت نظري كان قويا كما كان، لاني كنت سأقرأ الكتاب بسرور (وتسألني «معلش ايش اسمه ؟»، فأخبرها) واتابع القراءة.
ان تستطيع جدتي قراءة «المشوق» على مهلها كان يعني ان تعيد بناء تلك القصص في خيالها وان ترويها لنا فيما بعد على نحو ساحر جدا. وبعد سنين، وقبل ان يكتسح عالمنا التلفزيون، اذ كان ترفا خالصا آنذاك لا يستطيع امتلاكه الا الاغنياء وهم قلّة قليلة في البلد، كان اخي الياس الذي قضى شابا هو الآخر يروي لنا الكتب التي كان يقرأها ليلا بعد نهار عمل مضن، على نحو اننا ما زلنا الى يومنا هذا نقول عنه: «كان يروي لنا قصة الكتاب على نحو مشوق كما لو انه فيلم سينمائي من الطراز الاول». لم نكن نمل لثانية واحدة. وتدريجيا اندثر زمن الحكاية ليحل محله زمن التلفزيون. فاختفت الحكايات واختفى الرواة. وصار ابو ملحم وام ملحم واسعد وفهمان هم ابطالنا الشعبيين، الى ان تعرّفنا على مسلسل «هاواي» التحري الامريكي الشهير في زمننا وتتالت الافلام والمسلسلات الاجنبية التي كنا ننتظرها بلهفة.
فرحت جدتي لابي لفرحنا عندما نجحنا في اقتناء تلفزيون. لكنها لم تكن تشاهد التلفزيون بالمرة. كانت تنظر اليه ك «بوكس، اي صندوق» غريب عليها وعلى عالمها. كانت بالفطرة تدرك ان عالمها وتجربتها في الحياة اهم بكثير من التلفزيون. وظلت تكتفي بما اقرأه لها من كتب في النهار، وفي السابعة مساء كانت تلجأ الى فراشها وتنام. وربما ظلّت تحلم احلاما فلسطينية ممزوجة بخبرة من زمن الاحتلال التركي والانجليزي والاسرائيلي على مهلها. كنا نمازحها احيانا «اي الازمان افضل يا جدتي ؟» كانت تبتسم وتقول «كلها غريبة علينا وعلى عالمنا. ولا يصح الا الصحيح». وعندما كبرت فهمت ما الذي كانت تقصده بـ«الصحيح»، فلقد تربينا على ان للحيطان آذانا، وكانت جدتي تحكي سياسة اما بالرمز او التلميح، او من خلال حكاياتها التي كانت كلها تجري في الجليل الفلسطيني.
نهار السبت، كان يأتي لزيارة جدتي ختيارية من البلد يشاركون جدتي الحديث عن تجاربهم وايام زمان وعراكهم في الحياة. كان ذلك ايضا بديلا للتلفزيون الذي اكتسح البيوت. كان يأتي لزيارة جدتي: المهدي وهو بدوي من قرية الخيط التي دمّرت عند احتلال اليهود للبلاد (وكثيرا ما كان يردد على مسامع جدتي والآخرين «يا ريت اليهود يسمحولنا نرجع لقريتنا الخيط وبدي انام تحت بيت خرفيش!») وكان الختيار اصلان الذي يحكي العربية بلكنة ارمنية، واولاد اخت جدتي الذين كنا نناديهم بـ«خالي انيس» و«خالي اميل»، وابن اختها لويس الذي كان يبدو لنا بقامته الفارعة كأنه هندي احمر، واقلّهم حظا مع جدتي كان زوج خالتي منى سليم الذي يستفز غضب جدتي عندما تراه يأتي الى لقاء نهار السبت وقد ارتدى قميصا ابيض وفي جيبه يضع علبة دخان مالبورو التي يراها الجميع من جيب قميصه الشفّاف، فتقول له بغضب: «مالبورو للنعرة (اي شوفة النفس)؟ كل النهار مرتك قاعدة تخيّط للناس فساتين، وانت بدك تنعر وتجخ؟! عيب عليك!» وكان زوج خالتي البسيط الطيب يتقبّل انتقادات جدتي بصدر رحب. وفي تلك الجلسات كانت جدتي تستعيد ذكرياتها مع اولئك الاشخاص الذين عاشوا تجارب مماثلة لتجاربها. كلهم، ما عدا زوج خالتي الذي كان اصغر سنّا منهم، لم يشاهدوا ولا اي برنامج تلفزيوني واحد من دون ان يشعروا بنقص ما لا بل بطيب خاطر. «التلفزيون» الوحيد الذي استمتعوا به، رغم كل الغصّات والمرارات والآلام التي عانوها، كان ذكرياتهم وعالمهم الغني الذي عاشوه والذي كان يتدفق في جلساتهم من دون اي مجهود. اكثر من ذلك : احيانا كانت جدتي، بناء على طلب المهدي، الطاعن في السن، تروي لهم الحكايات التي كانت ترويها لنا، فيفرحون كالاطفال. وكثيرا ما كان الختيار اصلان يبكي لانه يتذكر في بعض احداث تلك الحكايات، بلاده ارمينيا، فيدمدم بالارمنية ببعض الكلمات ويمسح دموعه.
في تلك الايام كانت الساعات ايضا نادرة. كانت في بيتنا القديم ساعة كبيرة ترسل دقاتها رتيبة خاوية على نحو قاتل. وعندما عبثت بعقربيها غضبت امي، بينما جدتي لم تعترض. استغربت الامر. لكني فيما بعد فهمت: كانت جدتي لا تلجأ للاستعانة بتوقيت الساعة بالمرة. كانت تجلس على شرفة البيتين وتقول لنا الوقت الدقيق. كنا ندخل الى البيت وننظر الى الساعة لنفحص الامر، ونكتشف ان جدتي تعرف الوقت بالضبط. كنا نسألها كيف، فكانت تقول لنا «من حركة اشعة الشمس على الشرفة». وكنا نضحك من «ساعتها» الخفية الماكرة بالنسبة لنا.
تقدمت جدتي في العمر وتكرسحت تماما. وصار من الصعب على امي ان تعنى بها لوحدها، فجدتي كانت حماة وصديقة واخت ومدرسة والدتي. كانت امي تستعين بنا على نقل جدتنا في البيت الى ان صار الامر غير ممكن. وشعرت جدتي بثقل حياتها. كانت تصلّي احيانا ان تموت في فراشها وهي نائمة، لكن الآلهة لم تستجب. ظللنا على ذلك الحال الى فترة طويلة: لا احد منا، وبالذات امي، يريد التخلّي عن تلك الجدة الرائعة. لكن انينها وبكاءها حالا دون ذلك. اجتمعنا بعمتي عبلة، فقالت ان الامر صعب عليها. عندها طلبت جدتي ان نأخذ بها الى الملجأ. «الملجأ؟!» كلنا رددنا تلك الكلمة كما لو انها كانت سجنا او غربة جديدة لجدتي، لكن جدتي قالت «بدي اروح على الملجأ !» امي حاولت ان تقنعها انها ليست ثقيلة علينا بالمرة، لكنها قالت بحزم «انا جهام (اي امرأة ضخمة) وما حدا بقدر يظل يعول فيّ. بدي ارتاح». نقلنا جدتي على مضض الى الملجأ، فقضت فيه بعد اقل من شهر حزينة على نفسها، وربما على الآخرين الذين يعزّون عليها. كانت لا تريد ان تموت في الملجأ، لكن كان من الصعب عليها ان ترانا ثلاثة او اربعا مجتمعين لرفعها على سريرها. وعندما ماتت عن عمر يناهز الـ٩٢ عاما في الملجأ تأثرنا جميعا، لكن العزاء الوحيد بالنسبة لي كان تلك الحكاية التي كانت ترويها عن الفيل او عن حيوان آخر لا اذكر اسمه انه كان عندما يتقدم في السن كان يذهب الى مكان بعيد عن القطيع واسرته ليموت وحيدا. وهذا ما فعلته جدتي. وكانت حكايتها تلك استشرافا لحالتها ولحالة اغتراب كثير من البشر حتى في موتهم!
ما الذي بقي من جدتي؟
تاريخ طويل من الحزن والمعاناة. كانت تجاعيد وجهها تحكي مأساتها الشخصية ومآسي شعبها. راوية من الطراز الاول من خلال حكاياتها حكت تاريخ منطقتها وتاريخ جيلها. بخيال خلاّق كانت تستعير حكايات شعوب اخرى وتجعل منها حكايات فلسطينية محلية. بالفطرة استطاعت ان تضحك على التاريخ القاسي الذي كان وما زال يتلاعب بنا وان تنسج عالما من الحكايات الجميلة التي تخفّف من وطأة ما يجري على ارض الواقع. وجوه لا تنسى. اصالة ازاء واقع جديد هش مائع.
وقبل ان تتوفى جدتي بسنين قليلة، استعير من مكتبة استاذ التاريخ رواية «فارس آغا» لمارون عبود. بتردد ابدأ بقراءة الصفحة الاولى لجدتي التي تفرح كالاطفال. اتوقف واتأملها، اذ انها للمرة في اثناء قراءة كتاب لها تبدو سعيدة. تطلب مني بالحاح ان اتابع القراءة. وعلى مدار اسبوعين ننجز قراءة الكتاب. تشكرني جدتي وتعطيني نصف ليرة. لا اصدّق عينيّ. تقول «هذه لك، لانك فرّحت قلبي بهذا الكتاب». وبعد صمت قصير تقول لي وهي متهلّلة الاسارير: «بتعرف؟ قرياقوس هذا انسان جبّار، بس بنقصو اشي واحد...» وانتظر ماذا ستقول، فتبتسم ابتسامة عريضة وتقول بأسف «جبّار، بس للأسف جبان. زوجي وابني واشقائي لم يكونوا جبناء بالمرة». وعلى الرغم من الروايات العديدة التي قرأتها، الا ان «فارس آغا» ظلّت رواية جدتي الاثيرة، ربما لان جدتي اعجبت بها جدا!
والى اليوم، ما زلت اتذكر ضحكات جدتي الموزونة وانا اقرأ لها كتاب «فارس آغا». ضحكات لا تموت نابعة من القلب في عالم قاس موحش.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.