العدد الخامس - ربيع ٢٠١٣

«باب الشمس»

كل هذه الرومانسية!

النسخة الورقية

١

هكذا تكون العودة إذاً، بخيام جديدة. خيام هي النقيض للخيام التي اعتادها الفلسطينيون. هذه المرّة هم الذين نصبوها وتمسّكوا بها. ليست خيام «الأونروا» وليست خياماً على طراز «بيروت خيمتنا». فلسطين خيمتنا (وشكراً لبيروت). نتمسّك بها ونتشبّث كأنّ الروح تطلع منها وكأنّ الروح تعود إليها.

منذ مبادرة «باب الشمس» و«الكرامة» ارتفع منسوب الرّومانسية في الحَراك الفلسطينيّ. النقاشات والكتابات والستاتوسات، كلها رومانسية وضاجّة بالفرح. كأننا ننتقم من خيامنا السابقة، نقتلها على مذبح الخيام الجديدة. نيّفٌ من الصبايا والشباب يضربون جذوراً من حبّ في جسد فلسطين المُنهَك من الجذور. مُنهك من جذور حبيبة انقلعت ومن جذور حديدية باردة تُغرس فيها بالقوة، يسمونها في العلوم غير الدقيقة بالاستعمار. أما في التحليلات السياسية فيسمّونها «الخروج من دائرة ردّ الفعل إلى الفعل». إنها رحلة رومانسية بالأساس، رغم أنها تبدو نتاجاً لخطة عملية سريّة، رُسمت في غرف مليئة بسحب الدّخان والنوايا الجيدة. هذه رحلة من نقيضك كفلسطينيّ إلى نقيضك كفلسطينيّ، من أطراف اليأس إلى أطراف الأمل، وبينهما أطياف لا تنتهي من ضوضاء «الحلول الصحيحة» و«المقاربات العملية» و«الثوابت التي لا تتزعزع». بين هذا النقيض وأخيه النقيض (الفعل وردّ الفعل) توجد مجموعة من الفلسطينيين خرجوا صباحاً من بيوتهم ومزقوا بطاقات الإعانة (رمزياً). الإعانة المهينة التي تحوّلك إلى مُستجدٍ بائس. ترفضها، وتقول (مجازاً): أنا من سيعطي بطاقات الإعانة منذ اليوم.

المسافر بين الحديد البارد في جسد فلسطين يمرّ على أسطح القرميد في المستوطنات ويبرد مثلها. يشدّ الكنزة على جسده المتشنّج. تنزل من «شارع ٦»١ وتبدأ المسير نحو رام الله عبر بير زيت. المستوطنة «حلميش» تجسّد الخيمة البغيضة بلسانها الشائك الممدود إليك في الطريق إلى العاصمة غير المُتوّجة. تسير بين أكوام المستوطنين وتزكم أنفك رائحة الغربة والنفور. فلسطين كريهة حين تمرّ بين الحديد البارد المنغرس في تربتها الزيتونية. على عكس رائحة «باب الشمس».

من أين جئتم يا أحباء؟ هل كنا بحاجة إلى سنين طويلة من الضياع والتسليم والركض وراء لا شيء كي تقرّروا أنّ المشكلة فينا بالأساس؟ لم تكن «ضيعة باب الشمس» لتُولد بهذه الرومانسية لو لم يكن الوضع مخزياً إلى هذه الدرجة. درسٌ في الزراعة: قطعة أرض عطشى، معول وطورية، بضع خيام رخيصة، هتافات عنيدة. هذا كلّ ما تحتاج إليه كي تغرس زغرودة في فمٍ فلسطينيٍّ عطب. نعم، وشهران من الشمس الدافئة.

أرأيتم؟ كلّ هذه الرومانسية الجديدة لم تكن لولا كلّ هذا الخراب.

٢

صبيّتان في مركز الصورة. واحدة تُحمَل كي تُطرَد والثانية تصرخ كي تبقى. امرأتان فلسطينيتان لا تعترفان بالتقسيمة التاريخية البغيضة: النساء للبكاء على الشهداء والرجال للاستشهاد أو السّجن. كم اشتقنا إلى مثل هذه الصورة. كم كانت الانتفاضة الأولى رومانسية (نتحسّر الآن). حينها اعتقلت إسرائيل رجالَ الوطن وشبابه، تنظّمت نساؤه في جمعيات وحركات شعبية وأدَرْنَ شؤون البلد والنضال. لم يكن «الجهاد» وقتها قد استبدل «النضال»، ولم يكن «الاستشهاديّ» طرد «الفدائيّ» من أمام عدسات الكاميرا. كنا شعباً فدائياً، نتجاسر على الطائرات النفاثة والدبابات ونطلق الحجارة من سجّيل. ثم احتار الفيل. كيف لا يحتار وهو لا يقوى على سحق انتفاضة غزيرة، حجرية، رجالية ونسائية، طبيعية إلى هذا الحدّ؟

صبيّتان تفترشان الأرض التي جاءتا لإطعامها تفاحة. قد تكون تفاحة جولانية، من الجولان الشريك (الشقيق) في الاحتلال. وقد تكون تفاحة جليلية نمت عند سفح الجرمق الوحيد البعيد. لكنها تفاحة حمراء مثلنا. حمراء مثل دمائنا وحمراء مثل الدبّ الصغير الذي يُربك الناس في عيد العشاق.

«باب الشمس» و«الكرامة» أعادتا النساء إلى مركز الحدث، فأزهرت فلسطين من جديد. فلسطين تُكشّر إذا استحوذ عليها الرجال. خصوصاً أننا مشغولون بالشؤون «الكبيرة» ولا وقت لنا للشؤون «الصغيرة» مثل مكانة المرأة وحياتها ومستقبلها (وإياكم والفتنة، يا أذيال الإمبريالية، والإسلام ينصف المرأة والمرأة تنصف الإسلام، وفلسطين مسلمة، أرض وقف، فزغردن يا نساء واحبلنَ وفرّخن مشاريع شهداء، فيأجوج ومأجوج على الباب). هكذا، تعيد قريتان صغيرتان رومانسيتان الورد إلى خدّي فلسطين الشاحبة، وتصير صرخة المرأة شرطاً ضرورياً لنموّ الزغرودة بين أبجديتنا. تمرّد مثير على «صوتها عورة». تمرّد يفضح كم عورتنا صوت في صوت.

٣

المحاولة الثانية كانت أقلّ رومانسية في التسمية: قرية الكرامة. قفزة واضحة في التسميات والتحدّي. حتى الغرف المؤقتة لم تُبنَ بالحجارة المُرتجلة، بل باللبنات الإسمنتية. كأنّنا سنبقى حتماً رغم أننا عائدون. عائدون إلى أين؟ إلى المكان الذي لم نعُدْ منه. الإسرائيليّ لا يفهم هذه التعقيدات. يقمع الاثنتيْن بالهمجية نفسها. هلا تروّيت يا جنديّ فتفهم المعنى، فتقمع بشكل مختلف يليق بالتفاوتات والإسقاطات؟ بين «باب الشمس» و«الكرامة» اختلافات في الدلالة والسياقات. المحاولة الثانية تختلف عن الأولى. لا يمكن الربط بينهما إلا جزافاً. ستقول إنّ «الكرامة» لم تتعلّم من خطأ «باب الشمس» وسنقول لكم: «باب الشمس» تعلمت من «الكرامة». لا تفهم أيها الجنديّ؟ صعبة. تعالَ نحاول صياغتها من جديد: رغم أنّ «باب الشمس» سبقت «الكرامة» إلا أنّ الكرامة علّمت باب الشمس. فهذه لا تسبق هذه وتلك لا تأتي بعد تلك، والاثنتان سيّان. هل فهمت؟ لا لم تفهم. ألهذا السبب تضرب بلا هوادة؟ ولكنك لن تصيب القرية الثالثة التي نبتت تحت الجاكيت السوداء التي تلبسها الصبية التي تقتلك الآن بعينيها السوداويْن. هل علّموك ما الكحل وكيف يكون («يا خوفي عدوّك بيدوّر عليك/ لحُطك في عيني واتكحّل عليك»)؟٢ لم يعلموك؟ إنه سلاحنا السّريّ. قتلتْ به جدتي جدي، وقتلتْ به أمي أبي، وقتلتْني به حبيبتي، وابنتي الصغيرة بدأت تتدرّب على قتل حبيبها به. أرأيتَ؟ الكُحل في العينيْن لا ينهزم ولا يستسلم. وتحدّثني عن الـ«إف ١٦»؟

شابٌ يتدفّأ قرب مِوقدة مُرتجلة. بعض الحطب اليابس تطوّع لإيناسه ريثما ينتهي من بناء «حنجلته» الشقية. أراها تضحك هذه الحنجلة كأنها تعرف ما لا نعرف. أحسدها. تعرف لغة الحجارة. تعرف كم طاغية هدمها وكم طاغية شيّدها وتعرف كم رطلاً من الدماء سالت عليها. لذلك تضحك «حَنجلتنا» الآن وهي تستسلم لمداعبة الطين البنيّ الطازج المبلول الخارج من الفرن.

٤

الحافلات

حافلات زرقاء داكنة، خضراء زيتونية، مثل لون شرطة «حرس الحدود» الكريهة. وأخرى بيضاء. وسيارات عسكرية وشرطية كشّافةٌ أضواؤها. تنير الليل بخجل كي لا ترى النجوم عودة الدلعونا إلى رقصة البيت. خيامٌ لونها أبيض داكن ــ «بيج» ــ تمسك بها حبال مشدودة إلى صخور كبيرة كي لا تفكر للحظة بالتحليق في سماء القدس. كيف نلومها إذا فكّت قيدها وحلّقت، هذه الخيام. ألم تحدّثها الخيام التي ولدتها عن بكاء الليل بين جنباتها؟ أتعتقدون أنّ الخيام معدومة الفضول، فلا ترغب برؤية ما بكى هؤلاء من أجله؟ علم فلسطيني يرتفع عالياً بين الخيام، يرتجّ في الريح ويرتجف مثل خلايا القبلة الأولى. من صوّر المشهد؟ من سمع حفيف الكنزة الصوفية بالقميص الرجاليّ المشدود قبل القبلة الأولى في «باب الشمس»؟

الحافلات تخرج محمّلة بأبناء وبنات العُرس، بعد ما «سحّلوهم» وجرّوهم. هناك يُسحّلون على إسفلت القاهرة (هِيّا كانت بتعمِل إيه هِناك؟) وهنا يسحّلونهم بجانب القدس (ما الذي يفعلونه هناك؟). يجرّونهم لأنهم يتحرجمون حول بعضهم البعض، يقعدون على الأرض متراصّين وينظرون إلى الجنود والشرطيين بوقاحة جميلة. ماذا تريدون؟ التقاط الصور لنا؟ هل ترسلها إلى حبيبتك في تل أبيب؟ ستحبّ الرجل القويّ الذي فيك وستأخذ ذكورتك الملتهبة حين تعود الليلة إلى حضنها الدافئ. كيف تريدنا أن نجلس في الصورة؟ هكذا؟ هل نتظاهر أننا نصرخ؟ هل نصرخ «اذبح اليهود!» كي يكتمل مشهد الفنتازيا الذي تحبّون التسلي به في ليالي عشية «عيد الاستقلال»؟

يرتجلون الارتجال: أنبوب مياه أسود يكفي لريّ الفم واليدين والشَعر (والشِعر) وبعض معجون الأسنان. «حنجلة» من الأحجار. تعرفونها الحنجلة؟ حين تبنون سوراً أو غرفة سريعة بأحجار كلسية بيضاء، تتماسك فيها بينها بالصمغ البدائيّ الجميل: تراب وماء. يقولون: حَنجَل الرجل ذقنه، أي شذّب أطرافها حول وجهه كي تكون ذقناً مرتبة. ويقولون: حَنجل أبناء «باب الشمس» الأرض، أي نكشوا تربتها كي يخبئوا فيها ذاكرةً من يافا أو حيفا أو صفورية، لم يحظوْا بمتعة عيشها. «باب الشمس» و«الكرامة» انتقال الذّاكرة من جيل لم يعِشْها إلى جيل لن يعيشَها (وسينقلها). هذا السرّ في «باب الشمس» لمن كان يبحث جاهداً.

أوّل الرقص «حنجلة». أول الرقص «بابٌ» و«كرامة». والرقص أغانٍ والأغاني ذاكرتنا.

تحضرني قصيدة راشد حسين، «بالاغاني»:

« بالأغاني حَرّروني.. بالأغاني
رسموني بدمي القاني، على كلِّ المباني
كتبوني.. لخّصوني
وأذاعوا كلّ عمري وبلادي
في ثواني
ثم... لمّا اعتقلوني،
بالأغاني اعتقلوني...
بالأغاني ».

  • ١. شارع رقم ٦ أو «عابر إسرائيل» يقطع فلسطين التاريخية من مجيدو نزولاً إلى ما بعد القدس، وهو يمرّ في معظم أجزائه بمحاذاة جدار الفصل العنصري الذي شيّدته إسرائيل كرمى لعين جابوتنسكي و«الجدار الحديديّ». منه يمكن الخروج إلى شوارع تمتدّ كالأخطبوط في جسد الضفة الغربية المحتلة.
  • ٢. «قطر الندى»، سميح القاسم.
العدد الخامس - ربيع ٢٠١٣
كل هذه الرومانسية!

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.