غلاف: بلتنغ، هانس، «فلورنسا وبغداد: فن النهضة والعِلم العربي»، كامبردج: مطبعة جامعة هارفرد، ٢٠١١
Book Cover: Belting, Hans, Florence and Baghdad; Renaissance Art and Arab Science, Cambridge: Harvard University Press, 2011
في كتاب هانس بلتنغ «فلورنسا وبغداد: فن النهضة والعِلم العربي»، والذي نشر بداية باللغة الألمانية في العام ٢٠٠٨ وصدر بعدها باللغة الانكليزية في العام ٢٠١١، تمثل فلورنسا النهضة الايطالية بينما ترمز بغداد على الحضارة العباسية والعلوم العربية. ينظر بلتنغ الى ثقافتين مختلفتين تحت عنوان مشترك هو الصُوَر. ويروي ان المنظور التخطيطي (perspective) يستند الى نظرية بصرية في العلوم العربية مبنية على الرياضيات والهندسة، وهي نظرية لم تنقل الفلسفة الاغريقية القديمة الى الغرب بواسطة الترجمة وحسب وانما بنت عليها ايضا وثوّرتها تثويرا جديدا. يتجلى ذلك الأمر في حالة الحسن ابن الهيثم، المعروف في الغرب باسم Alhazen، والذي دخل مؤلفه «كتاب المناظر» النهضة الايطالية من خلال ترجمة لاتينية في القرن الثالث عشر وترك بعدها اثرا مستداما على الثقافة الغربية. وكما يبيّن بلتنغ، فإن نظرية ابن الهيثم في البصريات، كما روجتها النهضة الايطالية، جرى تحويلها الى نظرية صُوَر وأرست الاسس للمنظور التخطيطي في الفن الغربي، في حين ان النظرية كما هي في العلوم العربية تعيّن الدور الغالب [في البصر] للضوء وتحيل الصُوَر الى عالم الذهن.
ان بلتنغ عالِم مكرّس في فنون القرون الوسطى والنهضة كما في الفن المعاصر، له باع طويل في مساءلة الاختصاص الاكاديمي الذي يعمل فيه، أي تاريخ الفن، وفي النظر في ما يتعدى التراث الفني الغربي. ففي كتابه «تاريخ الفن بعد الحداثية » (شيكاغو/لندن ٢٠٠٣) مثلا يكرّس فصلا لـ«الفن الشامل والاقليات: جغرافية جديدة لتاريخ الفن» حيث يتفحص نقديا مصطلحات «الفن الشامل» و«الفن العالمي» محذّراً من «مستقبل للثقافة العالمية تعود فيه [الثقافة الغربية] الى الادعاء أن لها الموقع القيادي فيها». ذلك ان بلتنغ مدرك للسياسات التي يتضمنها الاهتمام الغربي بالثقافات الاخرى والانبهار بها. وهو يعي أيضا «المجازفات التي يترتّب عليها اجتياز الحدود بين فروع المعرفة» ويرى في مؤلفه الجديد ان هذه الفروع ليست تقتصر على المناطق الجغرافية المختلفة بل تتعداها الى حقول البحث الاكاديمي المختلفة والعلوم الطبيعية والفنون والانسانيات. فهل ان بلتنغ يتجاوز الحدود من حقل الى آخر، حين يتساءل ضمناً عن سلطة حقل معيّن على موضوعه؟ ام هو يفتّح عيني القارئ على طرائق جديدة في الدراسة المقارنة، وبالتأكيد على طرائق مختلفة في النظر، متحدّياً المفهوم الغربي للتاريخ؟ حقيقة الامر ان كتاب بلتنغ يسير عكس مفاهيم سائدة للتاريخ على اعتباره يتخلى عن سلسلة من التأثيرات حيث الاقوى يُخضِع «الآخر» ويحول دوره الى مجرد دور في نقل الافكار. بدلا من ذلك، يفترض الكتاب وجود «تاريخ مشترك من اللقاءات قد جرى التعتيم عليها بواسطة حواجز اديولوجية سميكة نصبها الاستعمار الحديث». في ذلك التاريخ المشترك، تقف فلورنسا وبغداد، وبغداد وفلورنسا، جنبا الى جنب، تُلهِم الواحدة منهما الاخرى وتتحداها.
ان بنية الكتاب ذاتها مبنية حول فلورنسا وبغداد تقفان عند مرمى النظر، في محاولة للتخلص من نظرات المركزية الاوروبية الى الثقافات الاخرى. وفي تفحصه لمصطلحات «المنظور التخطيطي» و«الشكل الرمزي» اضافة الى تفحصه مسألة الصُوَر في الاسلام والسجالات التي اطلقتها، يركّز بلتنغ على ابن الهيثم الذي ولد في البصرة حوالي العام ٩٦٥ ودرس في البصرة فبل ان ينتقل الى القاهرة الفاطمية لاستكمال أبحاثه.
يرينا بلتنغ كيف ان نظرية البصر [المناظر] عند ابن الهيثم ولدت في بيئة ثقافية طغت فيها الرياضيات على التشكيل العمارة والفنون. فلم يعتبر ابن الهيثم «الصور» على انها نسخ عن الاشياء، كما في علم البصريات الاغريقي المبني على فكر ارسطو أو على البحاث أقليدس وبطليموس، وانما هو حلل الصور الى نقاط ضوء تتشكل منها عربسة تجريدية يمكن احتسابها بواسطة علم الرياضيات. ثم ان الحُجرة المظلمة التي اكتشفها ابن الهيثم أرست الاساس للـ«كاميرا اوبسكورا» الاوروبية التي درج استخدامها في القرن السابع عشر. وعلى الرغم من ذلك، يحاجج بلتنغ أن النظرية البصرية العربية تحولت الى نظرية صُوَرية. وفيما النهضة الايطالية ظلّت متمسكة بالميتافيزيقيا التي ترى أن النور قوة كونية، في حين كان ابن الهيثم ينظر الى النور بمصطلحات فيزيائية كالضوء. في هذا الصدد، أمكن لاقليدس، الذي عرفته النهضة الاوروبية من خلال الترجمات العربية، ان يحجب ابن الهيثم. وفي سعيهم لبعث التراث الاغريقي، استحوذ فنانون، امثال لورنزو غيبرتي، على النظرية البصرية العربية وقدّموها بما هي جزء من التراث العتيق، ومحوا دور العلوم العربية ورسموا خطا متواصلاً يمتد من الحقبة الكلاسيكية الاغريقية العتيقة الى النهصة الاوروبية بما يتماشى مع النظرة الشاملة الى العالم والحياة البازغة مع ولادة الدول القومية الاوروبية. ولعل الاكثر جذباً للانتباه، في بنية كتاب بلتنغ هو الـ«بليكفيشسل» (Blickwechsel) الذي يجريه بين الثقافتين في آخر كل فصل من فصوله. ويمكن ترجمة مفردة «بليكفيشسل» الى الانكليزية بما هي «نقل التركيز» و«تبادل النظرات » معاً، وقد احتفظت في اللغة الالمانية بمعناييها الاثنين. هكذا تناظرت فلورنسا وبغداد بالنظرات المتعاكسة، وبالمقارنة بين الواحدة والاخرى، ولكن عانقت الواحدة منهما الاخرى، كما يحصل في اللقاء بين عاشقين.
واذا وضعنا النظرة الرومنطيقية جانبا، فإن بلتنغ يدرك تماما صراعات القوى السياسية المتضمنة في هذا التناظر. ان المنظور التخطيطي ، إذ اضحى اختراعا تصويريا خلال النهضة الاوروبية، يشكّل «ثورة في تاريخ النظر»، على حد
وهكذا اخذ المنظور التخطيطي يلعب دورا سياسيا، إذ اكتسب طابعا معيارياً وفُرِض فرضا على شعوب لها ثقافات مختلفة دافعا بطرائق النظر الاخرى الى غياهب النسيان. «ما من شك»، يقول بلتنغ، «في ان المنظور التخطيطي خدم كاداة من ادوات الاستعمار. عمّده الاوروبيون الطريقة الطبيعية للنظر، واعتقدوا ان مثل هذه الواقعية انما هي دليل التقدم الذي سوف يجلب نِعَم العالم الحديث الى المستعمرات». هنا يقدم بلتنغ مثال النتاج الصيني المعاصر عن الفن الذي يؤكد، في تلاوته فعل النقد الذاتي، انه كما الفن الغربي وجد طريقة للخروج من «الواقعية الالزامية» كذلك الفن الصيني «تبنى قواعد التمثُّل الموضوعي بما هي واجب الوجود» على انها علامة من علامات الازمنة الحديثة. وما يصفه بلتنغ هنا بالنسبة للشرق الاقصى قد جرى الاعتراف به في ما يسمّى الشرق الاوسط حيث الكتابات عن الفن الحديث والمعاصر في العالم العربي تستعيد ما سمّي «رواد الفن الحديث» في المنطقة كما كان الحال مؤخرا عندما فتحت الجامعة الاميركية في بيروت معرضها لزيتيات خليل صليبي، وهي مجموعة قدمها بلفتة كريمة احد احفاد الفنان، وتضمنت عددا من لوحات العري تشهد على سلوك الفنان درب تقاليد الفن الغربي حيث يصير الجسم البشري بما هو علامة من علامات حداثته.
سابقا على تلك المراجعات، وقبل ان تستطيع الكتابات عن الفن في ما يسمّي «اطراف» مراكز القوة الاستعمارية القاء نظرة نقدية ذاتية استرجاعية الى بداياتها، كان المنظور التخطيطي قد تكرّس في الفهم بما هو الحالة الوحيدة للشكل الرمزي في عالم الفن، وهو فهم قد إنبنى الى حد كبير على كتاب إروين بانوفسكي «دراسات في علم الايقونات» (نيويورك ١٩٣٩). ينتقد بلتنغ هذا الفهم حيث يقترح النظر الى المقرنص، بهندسته الثلاثية الابعاد، والى المشربية، النافذة المغطاة بشبكية تحجب النور، بما هما شكلان رمزيان في الثقافة العربية، شبيهان بالتصوير الزيتي الشبكي الحديث في الثقافة الغربية. ويبيّن المؤلف ان هندسة المقرنص والمشرّبية مختلفة جذريا عن الهندسة المستخدمة في التصوير الزيتي الغربي الشبكي ذلك انها تصفّي النظرة التي يتخذها المنظور التخطيطي بما هي الصورة ذاتها. فالمشربية بحسب بلتنغ هي شباك للنور وليست شباك للنظرة، وهي تعطي للنور تكوينه في الفضاء الداخلي للمنزل الذي هو بمثابة الشاشة السوداء للكاميرا. فالمنظور التخطيطي هنا يوجه النور من خلال هندسة المشربية الى الفضاء الداخلي للمنزل. وهنا لا تكون النتيجة لهذا المنظور الصورة التي نعرفها أكثر صفاء وتجريدية للنور القادم من الخارج. هنا يذكرنا بلتنغ بأن مسألة انتاج الصور ليست مسألة تقنية فقط ولكنها تشير الى ممارسة اجتماعية ايضا.
يرسم «فلورنسا وبغداد: فن النهضة الاوروبية والعِلم العربي» التحولات الثقافية التي حدثت بين القرنين الحادي عشر والسابع عشر، مع انه يفسح في المجال احيانا لإشارات الى العالم المعاصر، كما في التمثيل بالفن الصيني المذكور اعلاه، وفي إشارته كذلك الى المعماري المصري حسن فتحي الذي أعاد إدخال المشربية في العمارة الحديثة. ويقدم «البليكفيشسل» في نهاية الفصل الاول لمحة إضافية مثيرة تتخطى القرن السابع عشر الى الادب المعاصر. يقرأ بلتنغ رواية أورهان باموك «اسمي أحمر» (اسطنبول ١٩٩٨) من اجل استظهار فكرة المنظور التخطيطي بما هي خيانة المرء لتراثه الثقافي، مشيراً الى الطابع الهجين لفن التصوير الشخصي العثماني الذي يتقلّب، في تصويره السلاطين العثمانيين، بين ادخال الواقعية الغربية والاستغناء عنها. ويمكن ان نضيف هنا ان ذلك بعيد عن ان يكون مجرد تضاد بين ابيض واسود؛ فالاحرى ان ما يطغى هنا ظلالٌ مختلفة من الرمادي، كما تبيّن ثريا الفاروقي في «رعايا السلطان: الثقافة والحياة اليومية في السلطنة العثمانية» (لندن/نيويورك ٢٠٠٠) عندما تصف «الشجاعة والاستعداد للاختبار والمرونة، وليس اقل منها هذه كلها الحماس الخالص، التي يبديها الفنانون وجمهورهم في ذاك المسار».
ان كتاب بلتنغ العابر لحدود الجغرافية والاختصاصات من الموقع المميز لمن يدرك فضائل اختصاصه، تاريخ الفن، بقدر ما هو محيط بنواقصه، لكنه يملك من الفضول والشجاعة ليتمكن من تجاوز تلك النواقص، فلا يكتفي بأن يقدم للقارئ استعراضا لكيف جرى تحويل نظرية البصر العربية الى نظرية تصويرية في النهضة الاوروبية. انه يفعل اكثر من ذلك إذ يعطي فكرة «الاستعداد للاختبار» التي يقدمها الوكلاء الثقافيون ولكنهم غالبا ما يطمسونها بالتركيز على الفوارق، فيحشرون الإنتاج الثقافي حشرًا في حدود ضيقة، بدلا من التركيز على تاريخ اللقاءات المشترك. ان كتاب بلتنغ يجذب قرّاءه الى الإثارة على جانبي الحدود الجغرافية والاختصاصية، فلورنسا وبغداد، والعلوم الطبيعية والرياضيات، والفنون والانسانيات، وله الفضل - النادر في الكتب الاكاديمية - بأنك تقرأه احياناً كأنك تقرأ قصة بوليسية او رواية غرامية. واخيرا ليس آخرا، يتميز الكتاب بمادته البصرية الثرية والمتنوعة والمعروضة على نحو جميل، وهي تتراوح بين التفاصيل الهندسية والسكتشات والنماذج وملفوفات الرسوم الهندسية، واللوحات الزيتية الشبكية على القماش، والجداريات النافرة، والرسوم البيانية للمنظور التخطيطي، والكتب عن الفن والمنمنمات الزيتية، والانسجة، وشاشات النوافذ، والاطبقة والاوسمة البرونزية، وصولاً الى ورقة نقدية عراقية عليها صورة ابن الهيثم. وان تجميع كل هذه المواد البصرية بين دفتي كتاب قراءة متحدية ومنعشة ومُثرية بذاتها. وكل الأمل أن يترجم هذا الكتاب القيّم الى العربية لأنه في مكان ما ينتمي الى هذه الثقافة.
رسم ابن الهيثم للعينين، «كتاب المناظر»
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.