العدد الخامس - ربيع ٢٠١٣

المنازل مبنيّة للغياب ونحن مبنيّون للمجهول

النسخة الورقية

١

عُدنا الى البداوة

صبّ أبي فنجان القهوة الأول، شربه بتلذّذ ثم راح ينشد في مديح القهوة العربية وهي تدور علينا. انفتحت القرائح على الشعر فتحول المجلس إلى ما يشبه مبارزة بالكلمات.

عدنا بدواً على غفلة منا، وعاد البيت مضافةً تَعْمر كل ليلة بالعائلة والأقارب والأصحاب والنازحين.

عدنا بدواً تجمعنا القهوة وقنديل الكاز في عشيات حكائية.

كل يوم نشعر أنها التعليلة الأخيرة، فالعاصفة تقترب أكثر وأكثر، لذا أخذ المسرح شكله الأقصى: ليلةٌ لفرحٍ أقرب إلى الهبل ندبكُ فيها في الغرفة على «كاسيت» عرس قديم، وليلة لحزن متوحش لا يوفر حتى لهب القنديل، فنراه يمعن في محو وجوهنا، إلى درجة تجعلكَ تظن أنك تساهر الظلال.

آه. سرعان ما كبرنا، سرعان ما نما الشَّعر أسود فاحماً على وجوهنا السمراء. كأنما نكبر لنصير ليلاً، أو أن في الأعمار ليلاً بعيداً، مضِي الأيام يجعله يقترب أكثر فأكثر لتأتي النهاية على شكل لطخة سوداء كاملة. ربما يبدأ الأمر في لطخة سمائيّة سوداء، من يدري؟

في مضافتنا الديمقراطية، على خلاف المضافات البدوية التقليدية، حيث يجلس الجميع، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، نكتشف أننا فعلنا الأشياء ذاتها، الأجداد والآباء والأحفاد، جميعنا فعلنا الأشياء التي تجعلنا من عمر واحد، وها إننا نلتقي لنتحدث عن أوّلنا، فما من أحد منا إلا ولا يزال هناك، وها إنه يتحدّث لثبّت أقدامه في الـ «هناك»، في الأول.

أولنا المخيم والخان والشيح

أولنا مخيم خان الشيح اسماً مقدوداً من وصف المكان.

إذا أردتَ تأسيساً أسطورياً فدونك الماء. ها هو النهر، النهر الأعوج، واسمُهُ وصفُهُ.

لأننا من أصول بدوية اعتصمنا بالنهر. القبائل التي هاجرت من فلسطين المنكوبة خيّمت على ضفة النهر لخوف دفين في ذاكرة القوم من غياب الماء، من عدم الثقة بالسماء، على عكس الفلاحين الذين يؤمنون بأنها لن تنساهم أينما حلّوا، بينما نحن الذين نؤمن بالأرض وبماء الأرض سكنا هنا. لحسن الحظ أنّا وجدنا نهراً أعوجَ نحاكيه. أهل البداوة لا يعرفون خطاً مستقيماً، وبشفاعة اعوجاج النهر شوارعنا كلها عوجاء. ما من شارع يستقيم لأكثر من ثلاث بيوت.

ماء أعوج لمكان دهليزي. لكننا واضحون. فرّغنا الاعوجاجات الداخلية ليكون لنا داخلٌ خالٍ من كل عوج.

النار تكتب المخيّم

الخان القديم فقد وظيفته كمحطة بين الآستانة ومكة، ولم يبق منه غير هيكله الخارجي. بقي كذلك كدلالة للمكان الفلسطيني المؤقت.

الشيح، النبتة البرية التي جلبَبَتِ المكان، قلّت إلى حفنات لا تكفي قطيعاً.

المخيم رغم كل التحولات، من تهميشه بعد انتقال الثقل الفلسطيني إلى داخل الأرض المحتلة حيث غابت الشعارات الثورية عن جدرانه، وصار التغيير واضحاً في ثقافة تسمية محلاته التجارية التي انتقلت من الأسماء الوطنية إلى الأسماء الدينية، وتوسعه الكبير خارج الدائرة التي رسمتها «الأونروا»، المخيم رغم كل ذلك لا يزال مخيماً، ليس كمكان، لا، فهو بهذا المعنى مثل عشوائيات المدينة وضواحيها. لا يزال مخيماً على الصعيد البشري. المخيم أكمل تحوله من مكان إلى إنسان. لو سردتُ لك الأسماء: أبو فيصل، الفرنسي، الكوبي، الحنونيّة، مريومة، حازم، ستجدهم كلهم واحداً. هذا الواحد هو خلاصة البداية التي نتعلل عليها بالقهوة وضوء القنديل، ولا سيما في الوقت الذي يرشحنا جميعاً للموت. ثم إن فمويتنا الشيحيّة موتيّة، فنحن نعبّر بـ«تحت النهر» أو «فوق الطريق» دون أن نعني الغرق أو الدهس، فهي مجرد أسماء محلية للجهات: شرق النهر وغرب الطريق.

لكنّ هذا التحوّل يخفي نقلة نوعيّةً في جوهر الحياة، فمنذ غابت النّار وحلّت محلّها الكهرباء في البيوت والشوارع أخذ نوع أحيائيّ جديد بالتكاثر كالبكتيريا، وتجلى خطر هذا النوع أكثر ما تجلّى في تبشيره الكاسح بالاستغناء عن الشمس، واستطاعته، في الآن ذاته، محوَ الليل. لم يعد أكل الطعام المكهرب، وتنفّس الأوكسيجن المكهرب، والعيش في نهار طويل وملفّق أمراً خطيراً، بل إن الخطر في تلك الكائنات الكهربائية التي لا يمكن أن ترى إليها إلا كبطاريات باقية ما بقي فيها كربون قابل للشحن. منذ عادت النار إلى وظائفها في الإنارة والتدفئة، في حضور قوة الإلهي في البشريّ حساً وعاطفةً وفكراً.. منذها، مع استعادة أهم عناصر الخلق، عدنا إلى أولنا، عدنا ناريين جداً، وما لهب القنديل إلا علامة في التحول الكبير. فمثلما فعلت النار في التاريخ، إذ لم تكتف بتقديم النور وإنضاج الطعام، بل قدمت تطويع المعادن، ها هي ذي نار القنديل تطوّع معدن الخوف، ومعدن الألفة، كي لا تسمح للجحيم بأن يكون جحيماً.

النار وحدها كتبت بداية المخيم، ووحدها ستكتب نهايته أيضاً.

٢

دكانة صبحي

استعادت البِقَالة ألقها. ازدهرت دكانة صبحي من جديد. كان صبحي آخر من حافظ على شرف المهنة، فبسبب عقليته المتحجرة ظل يرفض كل أشكال التخصص حين باتت هناك محلات للمواد الغذائية، وأخرى لمواد التنظيف، وثالثة للأقمشة. لأكثر من عشرين سنة تحمّل شح الزبائن وقلة الطلب حتى مات مكموداً، ليتسلّم الدكان أحد اكثر أبنائه تشبّهاً به، ليبقي تقاليد الوالد كما هي، منذ افتتاح تجارته قبل نصف قرن.

لا تزال الأدوية على رفوفها: مسكِّن «ساريدون»، برشام للزكام، دواء أحمر «اسمه الطبي ميكروفروم، وقد ألغي عالمياً»، دواء القمل مع المشط الأبيض المخصص لسحب تلك الطفيليات، كاسات الهوا، الأبر صينية لمرضى الأعصاب، قطران للجرب، إلى جانب بودرة قتل الصراصير.

لا تزال الحلويات القديمة تتجدّد، فلدى صناعها العناد ذاته الذي لدى البائع: برازق بعجوة القطعة الواحدة تكفي لقتل رجل. هريسة تصمد في كل ظروف المناخ.

حاجيات النساء: كحل وحنّاء وشَبَّة.

اللوازم المدرسية بجوار الأكفان.

ألواح الثلج الملفوفة بخيشٍ مبلول بالماء كرفض قاطع ونهائي لاختراع شهير اسمه الثلاجة.

المازوت، زيت الكاز، أسطوانات الغاز والبوابير والقناديل.. إلخ.

بقالية صبحي هي ثالث بقالية في المنطقة، وآخر واحدة باقية، فالأخريان اخفتهما التحولات العصرية.

في أيام عزّ تجارته كانت ديونه على الناس تعادل بنكاً. حتى أن الفقراء يتندرون به، فالذاهب إلى المرحاض يقول: «ذاهب لأسدّ صبحي». المديونون يرونه بالوعةً لا تشبع، ولأجل الإمعان في تحقير جشعه يجعلونه بالوعة مرحاض.

كان مرة بصبحة صديق في إحدى قرى جبل الشيخ، وفي طريق العودة الليلي المضبب كيوم مبكّر من أيام الخلق انزاحت السيارة عن الطريق العام لتخترق جدار أحد المنازل، ولم يكن ذعر تلك الأسرة من ذلك الاقتحام الشيطاني يعادل ذعر الأب من رؤية دائنه في غرفة المعيشة. صبحي، بين الصحو والإغماء، سأل صديقه السائق: «أين نحن؟ »، فأجابه من إغماء أشدّ من الصحو: «في المريخ». في هذه اللحظة اقترب رب الأسرة من صبحي يتوسله أن يؤجل دينه، فقال، بنشوة لا تعرف من أية درجة من درجات الإغماء جاءت: «حتى في المريخ لديّ ديون».

تزاحم الناس أمام دكانةِ كلِّ شيء يُشعركَ أن الزمن يمشي إلى الوراء، ويُشعر الأبناء أنهم في خضم قصص آبائهم التي لطالما تململوا منها، ولطالما اعتبروها نوعاً من المغالاة، لولا هذه الأيام التي جعلت القصص كلها قصة واحدة، حيث ذاكرة الآباء واقعٌ لدى الأبناء، وحيث البقال ذلك برجاوي الذي يطوف ببضاعته على حمارٍ بين ديار البدو.

٣

قنديل رأس السنة

يتناقص زيت القنديل كل لهظة بينما أراقب الانطفاء ليلة رأس السّنة.

أنتظر نفاد الزيت لأنام رغم قابليتي النفسية للسهر، فما الذي سأفعله في العتمة المقبلة بعد دقائق؟

شيء غامض يبقي القنديل مشتعلاً رغم انتهاء زيته، ويبقى اللهب أصفر مائلاً إلى البرتقالي في المنتصف، أزرق قليلاً في حوافه السفلى. شيء غامض لا يجعل الوقت يمر، ولا يترك الظلمة تأتي..!

أبقى معلقاً في لحظة العبور بين سنتين، بين اليقظة والمنام، بين الإعتام والإضاءة.

في الحقيقة ما من غموض، فالوقت يمضي فعلاً، ودليلي إيقاع المدفعية التي جعلت نفسها بندولاً لساعة الكون، ساعة الموت.

في الحقيقة أنا في الظلام منذ ساعات، فالقنديل انطفأ والسنة الجديدة أعلنت دخولها في أماكن أخرى من العالم، لكن الظلام الكوني الذي يحيطني مُعْدماً شعوري بما حولي يفاقم، من حيث لا أدري، شعوري بي، فأقاوم العدم الأسود بتخيل لهب من قنديل لا ينتهي زيته، كي لا أسلّم بأنني عالق في شراك هذا الليل.

انقطاع الكهرباء يقذفني إلى سؤال قاتل: هل ذهب العالم وتركني، أم أنني ذهبتُ وتركت العالم؟

لا تعرف هذه العاطفة البدائية إلا في الحرب. فمع الظلام وتوقف الحركة البشرية تدريجياً، حتى وصول الكون إلى سكون كلّي، تعاودك هواجس الإنسان القديم. بل كأنك هو رغم هذه القرون كلها. أو كأنه اصطفاك لتنقل بالكتابة حيرته حيال نهار واضح يعطيه نفسه بالكامل، وليلٍ يكاد يسلبه حتى نفسه. نهارٍ سيحلّ مشكلته بالأبجدية، وليل سيظن أنه حل إشكاله باكتشاف النار، ليكتشف في لحظات الاحتدام أنه لا يزال كما كان قبل وجود الله.

على ضوء القنديل المشتعل جواتك تبحث عن خارجك فلا تعرف شيئاً. غياب الخارج غيابك. ضوء الخارج وضوحك.

هذا الظلام ليس مجازاً، هو الحقيقة.

نحن أحطناه بمجازات الأنوار والثورة، ومجازات النيران، ومجازات الأقمار والشموس، كي نخفف بعضاً من وطأة الحقيقة. ألسنا نحن البشر أكثر من تؤذينا الحقيقة؟

لو كنتُ الذئب الذي يعوي في الخارج لما كانت هذه أسئلتي. ربما لدى الذئب أسئلة نهارية بحتة..!

ليلي نهار الذئب، ونهار الذئب ليلي.

يا لها من لحظة لتفاهم الإنسان والحيوان! يا لها من لحظة للغة الكونية!

سأعوي، سأعوي حقيقةً لأوقف مجاز القنديل المشتعل، وعلى الذئب نهاراً أن يجد الكلام كنوع من الحل!

في انتظار القذيفة

في زمن مضى كان انقطاع الكهرباء يشعل تباشير هذا الخوف. في ذلك الانقطاع الجزئي كانت المخاوف جزيئة، لكن المشهد يكتمل الآن.

كنتُ أشعر الجنّ يعرّسون في حديقة البيت حدَّ سماعي طبولاً وزغاريد. فأشعلُ مزيداً من الشُّموع الوطنيّة سريعة الذوبان، وتخطر على بالي، حيث لا بال لي، فكرةُ الحرب. أقول: حتماً، بعد قليلٍ، ستلعلع صفارات الإنذار، وستبدأ الطّلعات الجويّة. فلأهربْ إذاً. هل في الشوارع ضمانٌ؟ فلأنمْ بسرعةٍ، ليس في مستطاع إنسان انتظارٌ عاديٌّ، فكيف بانتظاره لقذيفةٍ ستحيل البيت غباراً. فلأنمْ. هذا سبيلي. علّني إذا متُّ أموت نائماً. وحده النّوم ينجي من الآلام. (في زمن الحرب عرفت أن النوم أصعب ما يكون). إذاً.. هيهات هيهات مثلكَ يا أبا العلاءِ هربَ النّومُ عن جفوني هربَ الجبناء..

أفتح كتاباً للتّسلي فتزوغ العينان من رفرفةِ لهب الشموع. كيف كان الأسلاف يقرؤون على ضوء سراجٍ؟ أستدعي صورة امرأةٍ من فيديو موبايل خلاعيّ. أمسِ أحبَبْتُها، بالكرش والثديين العملاقين وطيات اللّحم في الخصر. أمس ثقبتني صراخاتُ لذّتها على شاشة هاتفٍ، وكأنّني من يضاجعُها. ولا تنصاع لأمر خيالي الصُوَر، وأبقى على حافة الحافة، ومن حولي سريعةً تموت الشموع.

أسمعُ تلقيم مسدّسات، صليلَ سيوفٍ، حوافر خيلٍ. وظلّي يغادرُ المكان الّذي يجب أن يكون فيه على الجدار. حتّى الظلال غدّارةٌ، فساعة الغفلة وقتها الذهبيّ للانتقام!!

كلما انقطعتِ الكهرباء يعود لتعذيبي خوفٌ نسيته ورائي، في مخابئ الطّفولة فأبلّلُ السّروال.

عاجزًا كنتُ أتوّحد بالسّكون القاتم، ولا قوة لدي في استخدام تلك التّميمة: «ألاّ أيّها اللّيل الطّويل ألاّ انجلِ»، ولا في الغناء: «يا ليل..». عاجزاً، عاجزاً وكأنّ الكهرباء هي وحداتُ دم مُنِعَتْ عن جسدٍ لا يتوّقف نزيفه. وحين تأتي الكهرباء أنسى كل ذلك.

اختلف الأمر الآن، القصف نقل الأمر إلى فضاء أبعد من الرعب العادي. صار الليل لئيماً. ثم إن المؤذن تأخر عن إعلان الفجر. في مثل هذا الوقت يشعل مكبرات الصوت ويترك لتجويد عبد الباسط عبد الصمد مهمة ترويض هذا العماء، وحين يطفئ المسجّل ويبدأ بالتكبير يخف كل شيء.

أينه؟

عليه أن يفعل هذا كالعادة، علّه يُفهم المدفعية الحقودة أن اسم الله أكبر.

للمرة الأولى يفوت موعد الأذان، كل المساجد فوتته معاً، وللمرة الأولى أطلبه بكل هذا الرجاء أنا الذي كنت أبدي الاستياء منه. أنا الذي كنتُ أعلّي صوت الأغاني كنوع من الرفض لمثل هذا التطفل على هدأة الليل. وأنا الذي أطلب الأذان الآن لن أسامح المؤذنين الجبناء، وفي الغد، إن جاء الغد، سأوغر قلوب الناس عليهم.

المدفعية كفر ولا بدّ من دينٍ يواجه هذا التجديف على الحياة، على نوم الناس، على مناماتهم.

حتى الذئب توقف عن العواء.

أصعد سطح المنزل، وبكل كفري وخوفي وإيماني المفاجئ، أطلق الأذان، أطلقه قوياً كعواء قطيع من الذئاب، أطلقه تحدياً للمدفعية بالذات، ولأن الفجر لا بد أن يأتي: «الله أكبر.. الله أكبر..».

٤

الفلسطينيون، كم سينزحون...

أبي قال لسامرين جدد مشيراً إلى أبي خلدون النائم: «لا أثق بأحدٍ ثقتي بهذا الرجل». أحدهم علّق على الفور: «طبعاً. كيف سيخونك وهو نائم طوال الوقت؟». لم نعرف لمَ يأتي أبو خلدون إلى السّهرة ما دام، منذ عشرين سنةٍ، يغرق في النوم فور وصوله، ليقوم، مع انفضاض القوم، ليمكل نومته في بيته.. أحياناً يصحو ليضحك كي يوهم الآخرين أنه يتابع ما يحكونه، فعلها مثلاً حين كان الدكتور خالد يتحدث بقهر: «عبرنا النهر ألف مرة، ليس مرتين فقط كما هو المستحيل لدى الفلسفة. عبرناه واكتشفنا أن الزمن ماء آسن».

الجميع رمقوا أبا خلدون نظرة توبيخ فتظاهر أنها ضحكة من المنام، وعاد يشخر بينما أكمل الدكتور حديثه: «هذه الأشياء حدثت هنا، كلها حدثت هنا. ألم ننزح نحن الذين لجأنا في ٤٨ إلى الجولان فوزعونا على مدن البلد لرغبة اسرائيل؟ ثم في ٦٧ بينما نزح أهل الجولان نزحنا أيضاً إلى دمشق. كم نزوحاً في هذا؟ كل الأشياء التي حدثت تعود لتحدث الآن. في لجوئنا أسعفتنا «وكالة الغوث» بالطحين والسكر والسردين والخيام. في نزوح أهالي الجولان أسعفت الدولة نازحيها بأشياء مشابهة، وإن لم تكن بكرم «الوكالة». الآن يحدث النزوح إلينا، وفي الغد يحدث منا، ويحدث معه أن الكل صاروا وكالة غوث لأننا كلنا صرنا فلسطينيين. يا جماعة اللعنة التي أصابتنا ستصيب العرب، ثم تصيب العالم. هذا العالم سيذوق طعم لعنة فلسطين». استيقظ أبو خلدون وعدّل جلسته. شلّنا حديث الدكتور خالد عن الكلام، صار الكلام له وحده فتابع: «قولوا لي متى لم يكن في هذه الأمة نازحون أو لاجئون؟ في ٢٠٠٣ لجأ العراقيون، وفي ٢٠٠٦ تبعهم اللبنانيون. آلاف مؤلفة من أهالي الجزيرة السورية أجلاهم الجفاف قبل سنوات. الفلسطينيون لا أعرف كم نزحوا وكم سينزحون، ما أعرفه أنّ هناك نزوحاً وعلينا أن نذهب. نذهب ولا نعود. يا جماعة لا أحد يعود. إذا ذهبتم لن تنتظركم البيوت، الحرب لن تترك البيوت مكانها، الحرب تجعل المكان مكاناً آخر، لذا كل عودة هي ارتكاسة. أقسم لكم إنني أرى في مناماتي أننا في بلد مجنون. الكل بهاليل ينطون ويصرخون ويخلعون ثيابهم ويأكلون الفضلات. الكل مجانين.. الكل مجانين..».

انطفأ القنديل. أخي مراد القريب منه نفخ عليه. كان يريد إسكات مجزرة الكلام، لكنه لم يحسب أن العتمة التي تلت ذلك الكلام الإرعابي تحولت إلى هرج راح يأخذ صرخات متداخلة، وزعيق حيواني.

انطفأ القنديل.. انطفأنا.. واشتعل الجنون..

٥

«حياة» الراوية

في المضافة الديمقراطية تتربّع حياة، بسمرتها الشديدة ونحولها المخيف. كانت ترقص في الأعراس، تملأ المجالس بنكاتها الجنسية، وتتندر بكل شيء. مجيئها نوع من النعمة في هذا الوقت.

تأتي القديسة، هكذا يسمونها، مع أنها أقرب إلى الزندقة في حديثها ومسلكها. تكفر كثيراً، لا تتوقف عن لعن الأديان والاستغفار، تتباذأ، تضرب، نهرب منها، تلحقنا، ثم نسترضيها خشية دعائها الذي لا يخيب. مرةً دعت على أمريكا أمام أهل الحارة وحدث في اليوم التالي ذلك المصاب الجبار الذي يعرفه العالم باسم «١١ أيلول». القديسة في تلك الفترة أعلنت براءة «تنظيم القاعدة»، وبراءة أسامة بن لادن، وأنها وحدها المسؤولة مسؤولية كاملة عن كل ما جرى، كما أنها على استعداد لمواجهة جورج بوش الابن بذلك.

في آخر نومة لأبي خلدون أطلق عوّاد قذيفة ستطغى من قوتها بين الناس، في اليوم التالي، على خبر الاشتباك الذي أودى بكثيرين من الحاجز العسكري القريب. بفخرٍ ممزوجٍ بالزهو أشاد عوّاد بأخته الكبيرة التي ربت أولادها أفضل تربية، لكنّ الزكام جعله يلفظ الحروف مدغمةً عندما باشر بكشف السر: «أختي تمسك زباب الأمور».

استلمتْ حياة السوالف بعبقرية في ليلة مزدحمة بالرواة. الكل ينافس الكل على استلام دفة الحكي والإبحار في أمواج المضافة التي تلوّنت ظلالنا فيها من شغف الكلام. كنتُ أرى اللون ينصع في ظلّ الراوي الأبرع. ظلال حمراء وخضراء زرقاء، وظلال تمتزج فيها الألوان.

ساعدت حياة غريزتها في المجاز، فعندما كان الجميع يتناوبون حكايات أحقر رجل في المنطقة، ذهبت إلى تمثيلِ سوئه، في لحظة تصعيد درامية، بامتلاك الخراف التي رباها صفات الضباع.

بعدها بدأت في فتح ملفاتها السرية كما تفعل عادةً. روت لنا أنه حين مات أبوها غابت تسعة أيام في بلدة أهلها. غابت ناسية بيتها وأولادها وزوجها. نسيت كل شيء إلا حزنها. في اليوم الذي عادت فيه كان الهياج قد أكل خصيتي زوجها، فحاولت إفهامه بأنها مكسورة القلب ولا تستطيع تلبيته. تَحيْوَنَ وحاول اغتصابها فعضته وهربت إلى غرفة وأقفلت الباب، فمد قضيبه يائساً وهو يصرخ: «عضوي يريد تعزية عضوك ليس إلا، لا تقفي ضد الواجب يا ابنة الناس..!!».

عضو زوجها بطل القصص أكثر من زوجها. لا لشيء غير أنه فاعلية زوجها الوحيدة، فهي استولت على أفعال الحياة كلها. هي من تشارك في المناسبات. أولي الراقصات في الأعراس، وأولي النادبات في المآتم. أولي من تزور المريض، وأولي من تبارك نجاح الطالب.

عملتْ في خدمة البيوت طوال عمرها. عملها ذلك ولّد في نفسها نوعاً من التفاني في خدمة الناس. بأمومتها زاولت عملها كخادمة ولهذا كان لديها وضع ماليّ ممتاز، فالأغنياء الذين عملت عندهم أوسعوها العطاء، وذلك مكّنها من القيام بواجباتها الاجتماعية على أتم صورة. الهدية التي تقدمها حياة دائماً هي الأولى، ودائماً هناك من ينتظرها.

قصة سيخ

يومَ قررتِ الذهاب إلى العمرة أخبرت سيدة البيت الذي تعمل فيه أنها ستغيب مدة. السيدة قدّمت مالاً وطلبت منها أن تدعو في بيت الله بشفاء سيخ زوجها. حياة بدأت الدعاء فوراً من فرحها بالمبلغ الذي يغطي كل نفقات رحلتها، ثم سألت السيدة بقلق مصطنع «وأين الكسر في جسم معلمي؟ ومتى وضعوا له السيخ؟». السيدة صححت أنها تقصد بالسيخ عضوه الذكري وما من سيخ، وما من كسور. حياة ذهلت. أعادت المال بلا تردد وانسحبت وعند الباب قالت بخشوع: «أمام الله سأنسى زب زوجي، فهل تريدين مني تذكر أزباب الناس؟».

ولأن الشيء بالشيء يذكر ربطت هذه الحكاية بحكاية مشابهة جرت معها في فترة الإيمان التي حلّت عليها آنذاك، لا سيما بعد عودتها من العمرة، حيث التحقت بشيخة لتلقّي دروس الدين. الشيخة كرّست يوماً لنصح النساء بإرضاء أزواجهن لأنّ في هذا إرضاء لله. تلك النصائح أصابت قلبها الصغير لتقصيرها الكبير مع زوجها في كل النواحي، وتداركاً للأمر بدأت منذ وصولها إلى البيت بتدليله. لم تعد تتركه بلا طعام، بل إنها في كل ساعة تأتيه بكأس شاي، أو صحن فواكه، وكلما سألته عما يريد كان جوابه الوحيد «أريدكِ يا حياتي». فتعطيه نفسها وتشعر بالرضا أكثر كلما لمست سعادته. لكنّ رجلاً من طينة زوجها الذي لا يعرف شبعاً أخذها في ذلك اليوم سبع مرات، حتى صرخت حين جاء يطلبها للمرة الثامنة: «حلّ عني.. غضب الله أهون من هذا العذاب».

في تلك الليلة كانت للقنديل ولحياة ظلاّن ناريان، فوق وجوهنا وفوق الجدران، على حدّ سواء.

٦

قالت الجدّة...

منذ استشهاد ابن عمي أثناء عبوره لمنطقة تقاطع نيران وحال جدّتي إلى الأسوأ. قبله بقليل ودّعت ابنتها الوحيدة التي رحلت في ظروف حرجة، وبصعوبة لا متناهية استطعنا دفنها في «الحجر الأسود» حيث تسكن.

آلام المفاصل أقعدتْهَا على كرسي ذي عجلات، ولم تعد تغادر بيت ابنها الذي تقيم عنده إلا لتجلس إلى النّهر الذي بات يبدو مُقعداً مثلها، فقبل عدة سنوات اخترعت الدولة اختراعاً جنونياً، حيث تم صب مجراه بالباطون.

الجدّة التي بالكاد ترى لا تعترف بما حل به، وبالنسبة لها لا يزال على حاله، بل لا يزال ماؤه صالحاً للشرب كما كانت تعرفه في صباها.

الشباب ذهبوا وجلبوها في سيارة ثم حملوها في حرام ليوصلوها إلى المضافة لتسهر وإيانا. فدنو أجلها لم يعد تهديداً بمقدار ما بات قرار في حيز التنفيذ.

جدتي بسيطة ولا تقول أشياء ذات بال كالجدات اللواتي يفضن حكمة. هي بالكاد تحفظ بضعة خراريف من تراث أهلها، وبالكاد أيضاً تعرف أحوال الماضي، فطوال الوقت كان لديها ما يشغلها غير أخبار الناس، لهذا جسدها يتكلم أكثر منها. تعبها حكمتها.

فجأة قالت: «محكوم علينا بناء بيوت لا نسكنها». قالت هذا فقط، ثم أردفت بأشياء غير مترابطة عن رجل شركسي نصح والدها بأن لا يكمل بناء بيته في البلاد، وأن عليه تحضير الجِمال للمسير القادم. غموض كلامها أرغمني على إجراء مسح ميداني مع العجائز الباقين لأفهم المعنى الكامن في هذه الجملة.

الكل اتفقوا على حكاية ذلك الشركسي، ونصحيته لوالد الجدة لم تلق بالاً، فسوى السخرية التي قوبلت بها، استمر قصّ الحجارة وتعمير البيت الذي ما إن صار جاهزاً للسكنى حتى هجروه.

والد الجدة أصابه ندم مرير ليس لأنه أكمل بناء البيت، بل لأنه لم يهيئ جمالاً للرحلة. ومنذ وصل إلى أول تجمّع للاجئين وحتى بدأ الابناء يبنون بيوتاً جديدةً ظل ممسكاً بخيمته، وصار يتحدّث بلسان صديقه الشركسي بألا يبنوا بيوتاً لأنهم سيرحلون إلى أراضٍ أخرى.

أخذت البيوت أشكالاً مختلفة قبل ان تصل إلى ما هي عليه الآن. في البدء كان الخيمة، ثم جاء الانتقال إلى طور دور الطين. هذا الطور كان بحد ذاته بناء دائماً، فالبيوت الطينية عقب كل مطرةٍ تحتاج إلى ترميم. ولم يسترح الأهلون من ورشات الشتاء إلا حين مرّ به رجل وعلمهم طريقة أكثر عملية، حيث وضع فوق جدران الطين غربالاً ورشّه بالرمل المعالج بالماء والكلس. ظل هذا حتى وصلنا إلى عصر الخرسانة، فحدثت عملية إعمار شاملة. وفي الحقب الأخيرة حدثت عملية إعمار تحولت خلالها البيوت أبنية طابقية.

الأهلون ظلوا يبنون بيوتاً لا يسكنونها. فالسكن فيها مؤقت. في القديم كان يقال سنعود إلى البلاد، وفي الوقت الراهن بإمكان برميل متفجّر تحويل تعب الأيام إلى كومة رمل، كما بإمكان معركة أن تجعل السكّان بدواً رحُلاً.

في علم نحو المخيم: المنازل مبنيّة للغياب، ونحن مبنيّون للمجهول.

ظل العالم يحاول إقناع أدمغتنا العنيدة أن البيت الحقيقي هو القبر والباقي محطات ليس إلا، ولم نكن لنقتنع بأقل من حرب.

والد جدتي ظل معتصماً بعمود خيمته لا لأنه سيعود إلى بيته الأول، بل ليعطي نبوءة الشركسي ما تحتاجه.

سؤال أخير أسألكم إياه، فالأهل هنا يقولون لي «لا نفهم على ربك» ويشيحون عني: «هل الشركسي هو ميلكيادس الغجري في «مائة عام من العزلة»؟ هل لدى أحد من أبناء المخيم صحائف سحرية كالتي تركها ذلك الغجري لأعرف هل العاصفة التي تعلن سيادتها على العالم هي العاصفة ذاتها التي محت «ماكوندو» من الوجود؟».

٧

الصمت هو الخطر الاكبر

جعلت العاصفة الصباح رمادياً. لطالما أطنبت في مديح هذا الجو، حين يطول الصباح يوماً كاملاً، لكن الآن لا، ما من مجال بعد للبحث عن جماليات أمام برد يتجلى بهيئة قاتلٍ خنجري، لا يهم إن كان من الحشاشين أو حراس الهيكل أو الشبيحة، المهم أن القتلة يصيرون واحداً. هذه العاصفة إرهاب. هذا الثلج تكفيري أصبحنا في سجن كاملٍ الإغلاق، لم يذهب أحد إلى عمله ولا لجلب حاجيات البيوت. ما من حاجيات أصلاً، وإن وجدت فما من مالٍ يكفي لشرائها، وفوق هذا نجرب الجوع عن كثبٍ، ونجرب بالقذارة أيضاً. لا خبز، لا ماء، لا لكهرباء، والقصف متواصل. مع كل قذيفةٍ يقفز الطفل إلى حجر أمه في اللحظة التي تفكر فيها بحجرٍ تقفز إليه، فتراها تتشبث به بقوة خوفها، لا بالقوة التي يطلب منها الحماية والأمان. الأمر يومي والرعب طبيعي. هذا صحيح، لكن العاصفة توقظ في الإنسان خوفاً أكبر من ذلك الذي تخلفه الحرب التي تصبح عادية مع الوقت.

البرد قتل حتى الفضول

العاصفة تنضح منا خوفاً بكراً لم تتدرب القلوب على إيقاعه.

قصفان إذاً. قصف الطبيعة وقصف الجيش.

قال رجل حمصي ألِفَ أصوات الانفجارات إنه يطمئن إلى توتر الوضع، يأمن اللحظة العاتية ، فهكذا يكون كل شيء على ما يرام ، الخطر الكبير هو صمت الجو. الليلة الصامتة هي ليلة قلق. ربما تخفي مداهمات. المداهمات تنتهي إلى مجزرة أو إعدامات ميدانية. الصخب يبقي احتمالاً ما للحياة فقد تخطئك القذيفة، قد تتوه عنك الرصاصة لكن الصمت موت. من يستطيع النوم وهو أنه سيموت؟ الرجل الحمصي الغائب منذ سنة في اعتقال غامض نقل إلينا الأحداث التي شهدها حيه، حي «بابا عمرو »، ومنذها أراقب تكرار القصص في نسخ لا تتوقف. الرجل الحمصي فاته أن يشهد اجتماعا للحرب والعاصفة ليقول ما يمكن أن يفيدنا، هذا غير أنه مثل جميع الحماصنة بارع في تحويل التراجيديا كوميديا. البرد قتل حتى الفضول. منذ مدة شاهدتُ في المخيم فضولاً لم أسمع عنه في مكان هل المخيّم مكان فضوليّ؟

أتساءل لأنّ الاشتباك الذي يدور منذ الصباح على الشارع العام، أول المخيم، لم يمنع الأهالي من التجمهر على طول الطريق، وعلى سطوح المنازل، ليراقبوا النار ويعدوا صليات الرصاص ويتباروا في تسمية الآليات العسكرية.

أهو فضول أم طيش؟

العساكر أطلقوا أكثر من مرة باتجاه الناس لتفريقهم، فالبعض لم يبق أمامهم إلا أن يقعدوا فوق الدبابة. علمتنا صفحات الإنترنت طرق السلامة، التلفزيونات لم تتوقف عن بث الإرشادات، القادمون من المناطق المنكوبة حملوا خبراتهم في الوقاية إلينا، لكنّ أهل المخيم بدوا غير مبالين بشيء من هذا، فالكبار والصغار، الرجال والنساء، كلهم في الخارج على مقربة من المعركة، لا يفعلون شيئاً سوى النظر بكراهية إلى الجنود والضباط، بطريقة لا تحتاج إلى ترجمة.

حاولتُ أن أسأل أكثر من شخص وشخصة عما يفعلون هنا؟ الكلّ أجابوا إنهم هنا لأن الآخرين هنا، مع ذلك حين عاد بعض الآخرين لم يعد بعض آخرِ الآخرين، ليستقيم التعليل بأنها مجرد عدوى.

يقال إنهم في غزة على هذا الحال. ربما كان الفضول مرضاً فلسطينياً، أعراضه الواضحة الذهاب إلى الموت قبل أن يأتي..!

المخيم مكان فضولي؛ لأنّ العيون مادة صناعته الأولى.

العدد الخامس - ربيع ٢٠١٣

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.