الجدل الذي شغل النصف الأول من آذار هذا العام -وشغل الحيّز نفسه العام الماضي- في أوساط أهل الثورة السوريّة دار حول اليوم الذي انطلقت فيه الثورة وانطوى على توصيف للشرائح الاجتماعية- الاقتصاديّة المنخرطة في الثورة والمناصرة لها.
الخامس عشر من آذار كان يوم مظاهرة العشرات من الشبان والشابات الجامعيين أو الخريجين حديثاً، رفقةً بالعديد من النشطاء السياسيين والحقوقيين المخضرمين، في شوارع دمشق القديمة. في حين كان الثامن عشر من الشهر نفسه يوم تفجّر غضب مدينة درعا وريفها إثر اعتصام أهالي الصبية المعتقلين لدى الأجهزة الأمنيّة بسبب كتابتهم شعارات الثورة المصريّة على الجدران. كلاهما يحمل مناهضة لقمع السلطة والتحدّي لممنوعاتها عنواناً رئيسياً عريضاً. وكلاهما أتى منسجماً مع اللحظة التاريخيّة القادمة من تونس ومصر. هنا تنتهي المشتركات إذ ﻻ تنسيق كان بين الحركتين أو علمٌ الواحدة بوجود الاخرى. واﻻختلاف لا يعني، بطبيعة الحال، التناقض بين حراك نشطاء ومثقفين وطلاب الطبقة الوسطى في العاصمة-المركز وانفجار غضب شعبي عارم في مدينة طرفيّة وريفها.
حيتان «اقتصاد السوق الاجتماعي»
الانتفاضة الشعبيّة هي ابنة الثامن عشر من آذار، يوم درعا، يوم الغضب الذي انتقلت شرارته سريعاً إلى بانياس، وإلى حمص وريفها، وأرياف دمشق وحلب وحماة وادلب ودير الزور. في رفض القمع الاستفزازي المُمارس والعنف البنيوي لدى النظام السوري عنوانٌ أكيد، لكنه ليس وحيداً، كما أنه ﻻ يكفي لشرح أسباب التوسّع الأفقي السريع في المدن الصغيرة والأرياف وأحزمة المدن الكبرى. وليس صدفةً أن مراكز شركة «سيرياتل» تلقّت هجمات الجموع الغاضبة أسوةً بالمراكز الأمنية وأقسام الشرطة في درعا، و«سيرياتل» هي العلامة الأبرز لثروة رامي مخلوف ونفوذه، ابن خال الرئيس السوري وأغنى رجال الأعمال سوريا، والذي يُنقل عنه تباهيه بسيطرته على ٦٠٪ من الاقتصاد السوري. وقد أقرّت له وسائل الإعلام الدائرة في فلك النظام السوري بثروة قدرها ٥٩ مليار ليرة (أكثر من مليار دولار حسب سعر صرف الليرة حينها) رغم أن ثروته الفعليّة تقدّر بأضعاف هذا المبلغ. وهي ثروة ظهرت فجأةً وتضاعفت بسرعة دون أدنى جهد لشرح مصدرها، ولو في سبيل البروباغندا، مثلها مثل ثروات العشرات من أبناء مسؤولي النظام، الذين باتوا يفضّلون «ريادة الأعمال» على وراثة آبائهم في المناصب بالتوازي مع تحوّل الاقتصاد السوري إلى «اقتصاد السوق اﻻجتماعي». هكذا سُمّيت مجموعة التحوّلات النيوليبراليّة في بُنية الاقتصاد خلال الأعوام العشرة الأخيرة، والتي أتت لتوظيف الثروات المُكدّسة خلال عقود النهب، عن طريق المناصب العسكرية والحكومية والادارية، في ادارة اقتصاديّة مشوّهة ومرسومة على مقاس حيتان الظاهرة المخلوفيّة ورغبتها. وحقبة «اقتصاد السوق الاجتماعي» هي أيضاً زمن تردّي أوضاع الطبقة الوسطى، وانهيار سوية حياة الطبقات الأفقر، ﻻ سيما في الأرياف ومحيط المدن الكبرى. هنا سببٌ لاشتعال شرارة درعا في هذه الأوساط يفوق مقاومة الاستبداد السياسي والتوحّش الأمني أهمّية، دون أن يعني هذا التفضيل نفياً لحساسيّة ضد الديكتاتوريّة، وﻻ إهمالاً لدور العنف المفرط المُمارس في زيادة إشعال الغضب وتجذيره بدايةً، ثم دفعه نحو المقاومة المسلّحة تالياً.
هجرة ريفية وبطالة وعشوائيات
نالت الأرياف واقتصادها الزراعي القدر الأكبر من الهجمة الإفقاريّة التي وسمت حقبة «اقتصاد السوق اﻻجتماعي». فأولى خطوات انسحاب الدولة من دورها في ضمان العدالة اﻻجتماعيّة أتت من درب سحب دعم القطاع الزراعي، لا سيما مع قراري سحب الدعم عن أسعار المحروقات والأسمدة، ما أدى لارتفاع أسعارها ما بين ٢٠٠-٤٠٠٪ دفعة واحدة، وجعل أغلب المحاصيل غير مجدية اقتصادياً. في تلك الحقبة، كان عبدالله الدردري، نائب رئيس الوزراء الاقتصادي، ﻻ يتوقف عن الإشارة إلى ضرورة الالتفات إلى القطاعات الخدمية والسياحية والمالية في «الاصلاحات» بدل الزراعة، رغم أنه كان يُقرّ تباعاً بتزايد حجم الكتلة العاملة التي تركت العمل الزراعي وتوجّهت للبحث عن العمل في قطاعات أخرى. وهي كتلة وصل حجمها، حسب تقديراته، إلى ٦٠٠ ألف مزارع عام ٢٠١٠، رغم أن الواقع المرئي، كما أرقامٌ أخرى قدّمتها الحكومة السوريّة والهيئات الدولية المتعاملة معها، تثبت أن الرقم الفعلي أكبر من هذا بكثير.
تلقى كامل الريف السوري الضربة اﻻقتصاديّة، لكن حالة محافظات الجزيرة السوريّة (الحسكة، دير الزور، الرّقة)، والخارجة بأغلبيتها العظمى عن سيطرة النظام اليوم، كانت الأكثر مأساوية بامتياز، وقد علّلت السلطة حينها هذا الواقع بموجة الجفاف، دون أن تضيع وقتاً في تبيان نفع ١٥ مليار دولار أُنفقت -نظرياً- على أنظمة الرّي في حوض نهر الفرات. خلال النصف الثاني من العقد الأول من القرن، وحسب بيانات الحكومة السوريّة وبرنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، فَقََدَ ١,٣ مليون مواطن (من أصل حوالي ٤ ملايين هم تعداد سكان المحافظات الثلاث) مصدر رزقهم، ووصل أكثر من ٨٠٠ ألف مواطن إلى حالة «فقر مدقع» حسب تعبير وكالة الأمم المتحدة. تكفّل برنامج الغذاء العالمي بإطعام ١٩٠ ألف مواطن، ووزع حصص غذائية مساعدة على ١١٠ آلاف آخرين، وقدّرت الحكومة السوريّة أن عدد العائلات التي هجرت المنطقة إلى محيط المدن الكبرى يتراوح بين ٥٠-٨٠ ألف عائلة.
كيف يكسب هؤﻻء الهاربون من القطاع الزراعي رزقهم؟ قد تفيد احصائية نشرها البنك العالمي في الإجابة على هذا السؤال، إذ أعلن أن نسبة اليد العاملة السوريّة المنخرطة في «الاقتصاد غير الرسمي» قد وصلت إلى ٨٢٪ قبل اندلاع الثورة السوريّة، وهنا أثر مئات الآلاف من العمال غير المدرّبين الذين انتقلوا للعمل كمياومين حيثما استطاعوا: البناء، رعاية الحدائق الخاصة، العتالة، البيع المتجوّل، الخ. دون حقوق عمل وﻻ ضمان اجتماعي من أي نوع. الملفت للنظر أن الجهة التي نشرت هذه الإحصائية، البنك العالمي، كانت الجهة الأكثر إصداراً للآراء الإيجابية حول «الإصلاحات الاقتصاديّة» للحكومة السورية ما بين ٢٠٠٥-٢٠١٠.
في التزايد المتعاظم لظاهرة السكن العشوائي إشارة إلى الامكنة التي انتقل للعيش فيها اللاجئون من كوارث الزراعة ومُفقّرو المدن. فقد أعلنت وزارة الإسكان قبل اندلاع الثورة بعامٍ واحد أن عدد مناطق «المخالفات» في دمشق وريفها وحلب قد وصلت إلى ١١٥ منطقة، وكان المكتب المركزي للإحصاء، في بحثه الأخير عن الظاهرة العام ٢٠٠٧، قد أعلن أن ٥٠٪ من السكن الإجمالي في سورية عشوائي، وأن ٤٥٪ من سكان دمشق يقيمون في مناطق عشوائيات، يضاف إليهم ٣٥٪ من سكان حلب، و ٤٢٪ من سكان حمص، كما أعلنت مسوّدة «الاستراتيجيّة الوطنية للاسكان»، الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشريّة، أن نمو السكن العشوائي بين عامي ١٩٩٤ و ٢٠١٠ تجاوز ٢٢٠٪.
يُضاف على الأرقام السابقة توضيح أن نسبة البطالة لمن هم دون الثلاثين قُدّرت قبل اندلاع الثورة بـ ٤٨٪، وقُدّر أيضاً أن ٣٠-٤٠٪ من خريجي الجامعات العاملين قد عجزوا عن إيجاد فرصة عمل في مجال اختصاصهم الدراسي.
المعارضة وتحدي العدالة الاجتماعية
لم تكن صدفةً، إذاً، أن تكون الأرياف وأحزمة المدن الكبرى بما فيها من مناطق عشوائيات، الحاضنة الكبرى للاحتجاجات الشعبيّة بدايةً، ومنطلقاً للعمل المسلّح ضد العنف المفرط للنظام. كما لم تكن صدفةً أن تتلقى هذه المناطق أكبر قدر من كلّ أنواع العنف من قبل النظام وأجهزته، ليس القمع الأمني والبطش العسكري وحده، وإنما أيضاً بالعنف الرمزي والتحريض المسكوب من قبل وسائل الإعلام السلطوية والموالية، كأن تظهر سخرية متكررة على شاشات التلفزيون السوري من مظهر المتظاهرين الريفي (جلابيّة وكلاش)، أو أن تقرر صحيفة «الوطن» المملوكة لرامي مخلوف أن المشاركين في مظاهرة خرجت في جامعة حلب كانوا مدسوسين «ﻷن ثيابهم الرثّة تفضح أنهم ليسوا جامعيين»، أو الخطاب الممنهج الموغل في الفاشيّة ضد العشوائيات وأهلها، والذي بدأ من الربط بين السكن في العشوائيات والإجرام وتعاطي المخدرات واﻻنحلال الأخلاقي و«ضعف الوطنيّة» و«الاستعداد للعمالة» في عدد كبير من المقالات والتحقيقات الصحفية في إعلام السلطة والإعلام الخاص المتحالف معه، ووصل عند هيام علي، مديرة موقع «سيرياستيبس»، إلى المُطالبة بمسح مناطق المخالفات هذه من الوجود بالمدفعيّة الثقيلة بعد أن عبّرت عن اشمئزازها من كل ما سبق، وأضافت إليه الروائح الكريهة المنبعثة من هذه المناطق. يبقى القول إن عشرات المناطق العشوائية قد مُسحت من الوجود بالمدفعية فعلاً.
البعد الاجتماعي- الاقتصادي للثورة السوريّة، بجوهريته وأساسيته، شبه غائبٍ عن خطاب التعبير السياسي للمعارضة السوريّة اليوم، والتي تكتفي بالحديث العمومي عن الحرّية والكرامة، وﻻ تذكر من ممارسات النظام الإفقاريّة إلا الفساد بمعناه الضيّق. ليس الحديث عن هذا البعد اﻻجتماعي- الاقتصادي حاجةً تعبيريّة عن واقع أليم فحسب، بل هو تأكيدٌ على أن ﻻ مخرج للأزمة الوطنيّة اليوم، أو ﻻ انتصار للثورة السوريّة دون أن تمضي الأمور في طريق ردّ المظالم لأهلها، والمظالم لم تكن فقط ذات طابع سياسي-أمني، بل كانت اقتصاديّة أيضاً. سياسيو اليوم والغد مجبرون على التجهّز للإجابة على معضلات العدالة اﻻجتماعيّة، وعلى إعادة النظر بالعلاقات المتأزمة بين المدينة والريف، وبين المركز والأطراف، وبين المدن الكبرى ومدن الأطراف والبلدات. هذا مسلك إجباري في طريق المُواطنة، طريقٌ ﻻ يكفي في المشي فيه الحديث عن الطائفيّة ومن تسبب بظهورها وكيفيّة التخلّص منها.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.