«يللا بلشنا ناقصنا بعد بحث جديد وباحثة جديدة بالمخيم»، قال خليل - وهو اسم مستعار كباقي الأسماء الواردة في النص - عندما اخرجت دفتري لمقابلة مجموعة شباب ونساء في مخيم شاتيلا. وكنت قد كلفت من «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» بإجراء بحث حول الحقوق المدنية للفلسطينيين في لبنان. لست ادري لماذا قررت أنا أيضا البدء بشاتيلا وليس بكواليس صنع القرار في لبنان. تابع خليل بالتوجه الى الشباب قائلا: «يللا شباب مين بدو ينقّ (يتذمّر) أكثر من غيره؟». ضحك الجميع ودار الكلام لعدة دقائق حول الابحاث والباحثين في شاتيلا. وما بدأ بحثاً عن الحقوق المدنية انتهى بهذه الورقة عن السياحة السياسية والبحثية في المخيم.
لماذا شاتيلا؟
مخيّم شاتيلا هو الأشهر بين مخيّمات الشتات الفلسطيني على الارجح وأكثر مخيّم تعرّض للبحث والدراسة. ربما بسبب تعرض المخيم للتدمير وإعادة البناء عدة مرات وتعرضه للمجزرة في الـ١٩٨٢ وبسبب صلات المخيّم التاريخية بمنظمة التحرير الفلسطينية وموقعه بين منطقة وسط بيروت ومطارها. إنّ بحثاً بسيطاً في أرشيف مكتبة مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، يعطينا حوالي ٢٢٣٢ ورقة أكاديمية و ١٢٨ كتاباً و مخطوطات حول المخيّم المذكور بالاضافة الى آلاف المقالات الاعلامية الموجودة والكثير من الأفلام الوثائقية والريبورتاجات والأفلام الوثائقية. كل هذا جعل المخيم وجهة الباحثين من شتّى أصقاع الارض الى ان أصبحوا جزءاً يومياً من حياة أهل المخيّم. فالكثير من الأهالي لم يعد يذكر عدد المقابلات التي أجراها مع الباحثين والصحافيين. وفي المقابل فإنّ مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين الاخرى تنزع الى اجتذاب انتباه أقلّ بكثير، ففي مكتبة مؤسسة الدراسات الفلسطينية على سبيل المثال، ١٧ مقالاً أكاديمياً فقط حول مخيّم برج البراجنة، وهو المخيّم الفلسطيني الرئيسيّ الآخر في بيروت. وأخيراً فإنّ تدمير مخيّم نهر البارد عام ٢٠٠٧، القريب من مدينة طرابلس في شمال لبنان، أدّى الى اجتياح بحثي متزايد. فحسب أحد سكان المخيّم: «الباحثون يحبّون الدماء، والموت والدمار… فتعرّض أي مخيم للمآسي كفيل باجتذاب الباحثين ــ بدك تشدي باحثين لشي محل بعتيلو دبابات يدمروا بيهوجوا عليه».
عن البحث والمنظمات غير الحكومية
بدأت أم أحمد الحديث عن الأبحاث بـ«قصّة الباب المخلوع» قائلةً، «لقد قامت رئيسة «منظمة غير حكومية» ــ م غ ح ــ مركزها مخيم «شاتيلا» بزيارتي لمرات عديدة. كلّ مرّة كانت تأتي فيها كانت تصطحب معها باحثين من أجل أخذ صور فوتوغرافية. في أول زيارة كنت على وشك الاختناق. لم أكن حينها أملك شيئاً من المال و تخيّلت أنّ الحديث مع زواري سيكون التنفيس الملائم. فشة خلق وفضفضة ــ. استقبلتها مع الباحثين وتكلمت معهم بصدق وبكيت، كما سمحت لهم بأخذ صور للمنزل. لكان باب المطبخ مخلوعاً. وتكررت بعدها الزيارات بانتظام. كانت تأتي ثم تذهب آخذةً صوراً فوتوغرافية. هكذا مضت السنة الاولى ثم الثانية فشهر رمضان ثم شهر رمضان آخر، حتى السنة الماضية. لقد مضت ٥ سنوات من المقابلات وأخذ الصور لبابي المخلوع». ويعقّب ابن أمّ احمد قائلاً «الأمر كما قالت أمي، فلقد مضى على الباب المكسور ٥ سنوات، ولست أبالغ بالقول أنه تمّ التقاط ١٠٠ صورة له على الأقلّ. هل تريدين أن تريْه؟ تفضلي فهو لا يزال مكسوراً. هم يسألون ثم يذهبون و لا يتغيّر شيء ــ بيجوا وبيروحوا وكل شي بضل عا حالو ــ ».
لا يخفي أهل المخيم ومسؤولوه، مثل موظفي المنظمات غير الحكومية في مخيّم شاتيلا، ظنونهم حول العلاقة بين الازدياد المطرد في عدد الابحاث المقامة في المخيّم من جهة، وعدم حصول تحسّن ملموس في الظروف الاقتصادية والاجتماعية للمخيّم من جهة أخرى. «بينما تزداد أعداد الباحثين الوافدين إلينا، فإنّ مشاكل المخيّم تزداد أيضاَ» تقول لمى ذات الاربعة والعشرين ربيعاً. أمّا خليل، فيوافق على ما سبق ويزيد «هناك دوماً دراسات حول الظروف الصعبة للمخيّم، لكن لا شيء يتغيّر. لست أدري لماذا قد يحتاج المرء الى كلّ تلك الدراسات من أجل تحسين ظروف الآخرين ــ ما الشغلي واضحة كل هالأد بدها أبحاث!». يظنّ الكثيرون من سكّان المخيّم أن هؤلاء الباحثين لا يريدون في الواقع تحسين الظروف المعيشية في المخيم، والسبب كما يعتقد أحمد «أنّ هدفهم الرئيسي هو إبقاء الوضع على ما هو عليه. وهذه قناعة كل الأهالي»، فإذا ما تحسّن الوضع «شو بدهن يعملوا بينقطع رزقهم». يشتكي آخرون أيضاً من أنّه لو تمّ صرف الاموال التي خصصت للمواد البحثية عبر كلّ العقود المتتالية على تنمية البنية التحتيّة للمخيّم، لاختفت اليوم المشاكل التي تستقطب الباحثين.
وربط الأبحاث في المخيم بتحسين ظروف ساكنيه الاجتماعية والاقتصادية يتأتى مباشرة من الوعود المعطاة لهم من قبل الباحثين و(م. غ.ح) في شاتيلا. تروي على سبيل المثال باحثة تعمل في مركز عصام فارس، حادثة حصلت لها مع طفلة تبلغ الثامنة من عمرها، شكت لها فيها هذه الاخيرة خلال ورشة عمل لليونيسيف قائلة «بأنهم (الباحثين) يقومون بزيارتنا مراراً وتكراراً وبطرح الاسئلة، لكن لا شيء يتغيّر. لماذا إذاً تكملين بحثك في المخيمات؟». فلم تجد الباحثة الا أن تردّ على الطفلة قائلةً «نحن نكتب من أجل اليونيسيف ونتائج الورش ستعطى لهذه الاخيرة التي ستعمل على حلّ المشاكل». ويقول سكان المخيّم إنّ الباحثين عادة ما يكرّرون عبارات مثل «خدمة القضية الفلسطينية» كسبب رئيسي لدفع الناس إلى المشاركة في الأبحاث، لكن هذا لم يعد يقنع الأهالي يقول أحمد ويضيف:
«آخر باحث زار محلّي، قال إنّه يعمل فيلماً لخدمة القضية الفلسطينية. قلت له حينها إنّ فلسطين علّمتنا أنّنا عندما نزرع أشجاراً فإنّ ما يجب أن نحصده هو الثمار. ساعدني لكي أساعدك. يريدون مني أنّ أترك محلّي وأعمل معهم طوال النهار! ومن أجل ماذا؟ لأنهم يساعدون فلسطين! يأتون ليعبثوا معي على أساس فلسطينيّتي ولا يهتمّون إذا ما فقدت عملي ومورد رزقي، لكنّهم يهتمون لأمر فلسطين. كفى تجارة بالقضيّة الفلسطينيّة. ما نحنا فلسطين».
وتحاول «م.غ.ح» ــ ويعزو اليهم مفاتيح المخيم ــ ، إقناع الأهالي بالمشاركة في الابحاث من أجل «إيصال الصوت» و «تغيير النظرة» الى اللاجئين الفلسطينيّين، وبالتالي تحسين ظروفهم. لكنّ خليل يهزأ من ذلك غاضباً «لو يقولون لي إنّهم يقومون بأبحاثهم لأنها مصدر رزقهم و لا يعدونني بشيء أو يذكرون القضية الفلسطينية لكنت ساعدتهم». يتذكّر خليل قائلاً «كنت في ما مضى سعيداً بالمساعدة في الأبحاث. لقد جعلتنا م. غ. ح نصدّق أنّ الباحثين سيحسّنون وضع اللاجئين في المخيمات، وأنّهم سيكونون صوتنا في الخارج». يزيد سمير على ذلك، وهو أيضاً من سكّان المخيّم، قائلاً «كنت أهبل ــ ساذجاً ــ من قبل، وكنت أصدق أنّه كلما زادت الأبحاث زاد الخير. لم أعد أهبل ولا رومنسياً في هذه المسألة كما كنت. يعني اذا دبينا الصوت بيركضوا أهل الخير للنجدة».
يقول كثيرون من أهل المخيّم إن كثرة الأبحاث والباحثين من جهة وتزايد مشاكل المخيم ومآسي أهله من جهة أخرى، قلّلا الحماسة للمشاركة في الأبحاث الجارية اليوم. فبعد سنوات من الكلام حول وضعها واستضافتها لباحثين، يقومون بتصوير باب مطبخها المخلوع، قرّرت أخيراً أمّ أحمد التوقّف عن استقبالهم. «لقد أتت رئيسة م.غ.ح مع باحثٍ الى هنا، فقلت لها شكراً، لا أريد. أنت تفضحينني. انا إنسانة ولديّ أطفال ولهم كرامتهم. هل انت سعيدة بكونك تأتين الى هنا وتساعدين الباحثين لأخبرهم قصتي فتفضحيني؟ من أجل ماذا؟ ليقولوا إنّ هذه العائلة لا تملك شيئاً وإنّها معدومة؟ ماذا فعلت لتساعديني وتحسّني لي وضعي؟ أنا لن أساعد باحثيك بعد اليوم. لقد أتت رئيسة م.غ.ح لتأخذ صوراً فوتوغرافية وتساعد الباحثين مرّات عديدة. لم أستفد منهم بشيء. ولا يزال الباب مخلوعاً. تعالي وانظري».
بالرغم من الغضب لكثرة الباحثين والأبحاث، يعتقد بعض الأهالي أنّ هناك مواضيع يجب دراستها، لكنّ الباحثين لا يلتفتون إليها كالحقوق المدنية وتستتبع ليس فقط دراسة اللاجئين الفلسطينيين بالذات بل المؤسسات الحكومية والدولية التي تتحكّم بمصائرهم. «لماذا يجب دراسة الفلسطينيين من أجل فهم فقدان حقوقهم؟» تسأل رندا وهي فتاة من المخيّم. «لماذا لا تقام الأبحاث على المجتمع الدولي والحكومة اللبنانية، المسؤولين عن حرماننا هذه الحقوق؟». فالأبحاث قيّمة بمقدار ما تتعلّق بتغييرات اجتماعية ملموسة ونضال سياسي واسع. ومن المفارقة بمكان، يقول البعض، أنه عندما كانت هناك حركة اجتماعية واسعة في المخيّم، كان هنالك القليل جداً من الابحاث التي كانت تجرى في شاتيلا أو في أيّ مخيّم آخر. لقد «كثرت الأبحاث علينا وأصبحت مشكلة جديدة لنا بعد هزيمة ١٩٨٢وطرد منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان». يقول خليل «خلصنا من اجتياح الإسرائيلية اجانا الاجتياح البحثي» ويكمل «بتّ أعتقد اليوم أن صوت الشعب الفلسطيني وصل الى العالم بسبب الانتفاضات والنضالات الشعبية الفلسطينية وليس بسبب الباحثين. أنا لم أعد أصدّقهم».
ارتياب حول ممارسات الباحثين وأجنداتهم
يتخوف أهالي شاتيلا من ازدياد الأبحاث أو ما بات يعرف بالاجتياح البحثي. فرولا مثلا،ً وهي من سكان المخيّم، تقول «إنّ مواضيع الباحثين تقرّر خارج المخيمات وليس بداخلها، وإنّ سكان المخيّمات لا يدَ لهم في تقرير مواضيع البحث». يوافق سمير على ذلك قائلاً إنّ «معظم الأبحاث إنّما هي مواضيع مشهورة في الجامعات الغربية فقط، فيتبنى الباحثون نظريّات دارجة في الجامعات محاولين إثباتها بدراسات ميدانية في المخيح حتى ولو كانت النظريات قد أنتجت بعد دراسة تمت في باريس. أسئلتهم لا تنبع من واقع المخيمات». يلاحظ أحمد مثلاً، أنّ الباحثين يسايرون الموضة، وأنهم جميعهم يعملون على نفس المواضيع في نفس الوقت. يعلّق على ذلك قائلاً «هناك مواضيع تتناول البشر قد تجلب الشهرة للباحث، لكن ينقضي الامر في النهاية. تصبح هناك مواضيع جديدة هي الرائجة، ويركّز الجميع آنذاك على تلك الأخيرة». حسب سكّان المخيّم فإنّ المواضيع الرائجة هذه الأيام، هي الشباب والنساء و«حلّ النزاعات» و«حقوق الإنسان». وبالرغم من أن أهل المخيّم لا يرون أي أهمية لهذه المواضيع؛ فإنهم يعون أنّ التمويل المؤسّساتي يلعب الدور الأهمّ في تحديد مواضيع البحث. تقول لمى «إنّ الاموال هي التي تقرّر ماهيّة الأبحاث وليس اهتمام الباحثين الأخلاقي والإنساني بالمخيمات».
لكنّ القلق حول الأبحاث في المخيّم يمتدّ الى درجة أعمق بكثير من الإحساس بانفصال الأبحاث عن واقعهم وانعدام صلتها بحياتهم اليومية. ففي المرتبة الأولى، يعبّر الكثيرون من سكّان المخيّم عن قلقهم حول ما يروْنه نقصاً في التحضير والمعرفة والفهم الضروريّ لدى الباحثين، مما قد يؤدي الى مستوىً متدنٍ من الأبحاث. فيتململ سمير، كغيره من قاطني المخيّم، لأنّ الباحثين يعودون دوماً الى المخيّم ويسألون الاسئلة نفسها مراراً وتكراراً. عندما سألته لماذا يعتقد بأنّ ذلك يحصل؟ ردّ قائلاً:
[كثيرون منهم] باحثون شباب ولا يقرأون ما كُتب حول المخيّمات قبل أن يأتوا إلينا. ألتقي أحياناً أفراداً يستنسخون أبحاثاً مُنجزة سابقاً لكنّهم لم يكلفوا أنفسهم عناء قراءتها. لم أعد أفهم تلاميذ الدكتوراه هؤلاء. إنّهم لا يقومون بواجباتهم. هذا يعني أنّهم لا يتوقّفون عن تعلّم بديهيات المخيّمات الفلسطينيّة. إنّهم لا يعرفون أبجدية القضية الفلسطينية. هذا مخيف حقاً ومتعب للسكان.
تتساءل لمى قائلةً «إنّهم يقومون بالمقابلات مع الاشخاص ذاتهم طوال الوقت. لا أعرف ما هم بصدد اكتشافه. لماذا لا يستعملون المقابلات التي انجزت من قبل الباحثين السابقين؟». والعديد من الباحثين الذين يأتون الى المخيّم لا يتكلّمون العربية، وبالتالي فهم يتّكلون على المترجمين المحليين. ولبعض هؤلاء معرفة محدودة باللغة الانكليزية.من أجل ذلك، فانّ سكّان المخيّم يشكّكون في ما يكتبه الباحثون من خلال المحاورات والمقابلات التي تجري في المخيّم. فبحسب خليل «هم أغبياء في معظم الاحيان حيث إنّهم لا يتكّلمون العربية ونحن في معظم الأحيان نتمسخر عليهم».
ويشكك الكثير من سكان المخيّم في أخلاقيات الباحثين. فبالرغم من شكاوي العديد من أهل المخيّم من التعب من الإجابة على أسئلة الباحثين فإنّ أولئك يعودون الى شاتيلا. ويعتقد الكثير من أهل المخيّم أنّهم لا يهتمون سوى بمصلحتهم الشخصية ويسعون دائماً خلف ترويج أنفسهم، فيتساءل خليل «لماذا يستمرّون بإجراء المقابلات؟»، ويجيب لأنّ الفلسطينيين يبيعون. نحن نبيع: نضال وقضيّة مركبّان ومعقّدان ــ وشعب معقّد كمان. في أغلب الأحيان، فإنّ الكلّ يريد دراسة الامر من أجل مصالحه الذاتيّة. هم يعلمون أن القضية الفلسطينية تبيع ومن أجل ذلك يدرسوننا. لكي ينجحوا في الجامعة.
يتذمّر السكان من أنّ الباحثين يتلاعبون بالعلاقات الاجتماعية في المخيّم. بينما يقومون بالأبحاث في المخيّم يعقدون صداقات محليّة ويعدون بأنّهم سيبقون على اتّصال مع الناس حتى بعد مغادرتهم المخيّم. إلا أنّه وما أن يغادر هؤلاء «حتى لا يعودوا يردّون حتى على الرسائل الالكترونية التي نرسلها اليهم. نرسل لهم سلاماً فلا يردّون الا وداعاً ــ «منقلّهم هاي بيقولوا باي». يتأسّف أحدهم قائلاً. بالإضافة الى كلّ ذلك فإنّ السكّان يشكون من أنّ الباحثين لا يشاركون الأهالي في أبحاثهم ولا يستشيرونهم لا حين كتابتها ولا بعدها. يتذمرّ سمير قائلاً «دائماً أسأل الباحثين بأن يرسلوا لي دراساتهم أو المخرجين أفلامهم وأتضرّع اليهم عبر الرسائل الالكترونية لكي أحصل عليها، وعادة ما يحصل هذا عندما يريدون العودة لإجراء بحث جديد! يعني لما يعوزوني مرة تانية». ويقول الأهالي بأنّ الباحثين يتوقّعون منهم أن يجيبوا عن أسئلة لا يمكن للباحثين أنفسهم أن يقبلوا بأن توجّه إليهم: «يريدون معرفة كيف أنام مع زوجي وعلى أيّ جنب برتاح. الى هذه الدرجة التدخل بحياتنا؟ أقسم إنّه في احدى المرّات سأل أحد الباحثين الذي كان يقوم ببحث حول العلاقات الزوجية عن أمور محرجة للغاية. الحقيقة أنّه لا يمكن اقتصار وصف الأمر بالمقرف فقط. بل الأصحّ القول إنه لم يبق شيء لدراسته. كفى. حقاً كفى. نحن ناس عنا كرامة كمان». أمّا رولا فتقول إنّ «الناس في المخيّم متعبون للغاية» لكنّ الباحثين يستمرّون في التعامل معهم «بصفتهم حقلاً للتجارب».
ويشك اهالي المخيم في الأجندة السياسية للباحثين وخصوصاً القادمين منهم من بلاد كالولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا. وبحسب أحمد «ما المصادفة في أنّ البلدان الصديقة لاسرائيل هي التي ترغب بدراستنا بحقّ الله». ويُنظر للباحثين في المخيم على أنّهم جواسيس وتعتبر أسئلتهم مشبوهة. ويقول سمير مثلاً، بأنّ بعض هؤلاء «يقوم بأبحاث تبدو لأوّل وهلة إنسانية الطابع، ولكنها تستعمل في الحقيقة لأغراض سياسية». وتوافق رندا على ذلك قائلة إن «الدراسات تساعد على فهم مواطن الضعف والمنافذ التي يمكن من خلالها اختراق المجتمع الفلسطيني وجعله ينسى حقوقه السياسية». ويشتكي سكان المخيّم من أنّ الباحثين يسألونهم مراراً عن رأيهم في حق العودة على سبيل المثال، ويحاولون البحث عن أدلّة تثبت أنّ تعلّقهم بالعودة قد يتبدّد يوماً ما او يخفّ. وبرأي سمير فإنّ استطلاعات الباحثين قد تهدف الى توجيه وتشكيل وعي الناس من جهة، وتجهيلهم من جهة أخرى. هناك توجّه الآن للتركيز على الفلسطينيين ليس كشخوص سياسية بل كبشر. هذا هراء. أنا لا أقول إنا لسنا بحاجة للتركيز على المشاكل الشخصية ولكن هناك ما يشبه الجهود المرتّبة لحرف الانتباه بعيداً عن المسائل السياسية باتجاه الأطر الشخصية والفردية وهنا يكمن الخطر. كلّ هذه المشاريع والدراسات مموّلة ولا تأتي من فراغ، وهي ليست مجرّد ابحاث بريئة».
أما رندا فتقول إن الباحثين عديمو النزاهة: «في بعض الأحيان يضعون في نماذج الاستبيانات التي يوزّعونها بعض الاسئلة التي قد تكون مؤذية جداً، ولا علاقة لها بالموضوع الذي يدور البحث حوله. هناك أيضاً أسئلة تطرح على هامش البحث وهي تكتب وتسجّل على أوراق أخرى. إلى أين تذهب تلك الأوراق؟ كيف يتمّ تحليل النتائج؟ لا أحد يعلم».
الأبحاث على أنواعها
دخلت أنواع جديدة من الابحاث الى مخيّم شاتيلا مع بدء الألفية الثانية. وهي أبحاث يشار اليها بشكل او بآخر على أنّها تشاركية. تَعِد هذه الابحاث سكّان المخيّم بفرص للتعلّم والتمكين عبر مشاركتهم في العملية البحثية. ويرحّب بهذه الأشكال الجديدة من الأبحاث كونها بدت أنّها تتجنب ثغر مشاكل الأبحاث السابقة. تتذكّر رانيا ــ وهي شابة من شاتيلا كانت في ما مضى تعمل في منظمة غير حكوميةفي المخيّم:
«استحسنت الامر في البداية. على الأقلّ كنّا سنحصل على شيء ما مقابل الاشتراك بالأبحاث. فنحن دائماً ما نساعد الباحثين ثم يذهبون و لا أحد منهم يساعدنا في أيّ شيء، و هم لا يتذكّرون أننا ساعدناهم على أيّة حال. عندما أتى مدير احدى الـ(م.غ.ح ) اليّ، كنت قد ضقت ذرعاً بالأبحاث. الا أنّه قال لي إنّ الامر سوف يكون هذه المرّة شبيهاً بالمدرسة وستتعلمين أشياء. وإنهم يقومون بورش تشاركين فيها و هم يكتبون عن تمارينهم. كنت عاطلة من العمل وقتها. أنت تعلمين كيف نمضي كلّ وقتنا في الأزقة. أنا بحب العلّم. فقلت لنفسي لمَ لا اشارك في تلك الورش؟».
ولكن مع مرور الوقت، استنتج العديد من السكان أنّ الانواع المستحدثة من الأبحاث ليست بأفضل من سابقاتها، بل هي في الكثير من الأحيان أسوأ. فالسكّان لا يد لهم في تقرير المواضيع البحثية، وهم يشعرون بالاغتراب في حضرة المواضيع التي يختارها الباحثون ويتململون من «الجهل» و«التصرّف الارسالي» الذي يمارسه الكثير من الباحثين:
«يأتون الينا لتعليمنا كيف نتصرّف إزاء مشاكلنا. والله انهم أغبياء لا يعلمون شيئاً عن الفلسطينيين وتاريخهم في لبنان. يريدون تعليمنا وصْفات جاهزة كتلك التي يقرأونها في الكتب. هبل للغاية. بعض المواضيع لا علاقة لنا بها. يأتي الكثير من باحثي الصحّة العامة مثلاً، لتعليمنا النظافة وينتابنا شعور بأنّهم يعتقدون بأننا وسخون. ما ساقوله ليس بقصد الإشادة فقط ولكن تعلمين كيف هو المخيّم. رغم أننا لا نملك ماءً وما شابه، الا أنّ منازلنا نظيفة دائماً وأهالينا مهووسون بالنظافة. لذلك أنا لا أعرف لماذا يأتون لتعليمنا كيف نغسل البندورة وكلّ هذا الهراء. نحن نظيفون ولا نحتاج لمن يعلّمنا هذه الامور. في الأمر احتقار كبير لنا».
ويتململ البعض الآخر لأنّ هذه الاشكال الجديدة من الأبحاث متطلّبة منهم أكثر بكثير من المناهج البحثية السابقة. يقول سامي ــ وهو شاب لا يزال يعمل في منظمة غير حكومية في شاتيلا ــ إنّ «الأمر أصبح أكثر تعذيباً لأنّك ما إن تبدئين حتى تصبحي مجبرة على المتابعة إلى أن تنتهي كل الورش. يشعر المرء بالمسؤولية نحو الباحثين الذين يأتون للتعليم هنا، ولا يمكن أن تتركيهم في منتصف الطريق». تبدي رانيا نفس الملاحظة «صرت أعتقد الآن أنّ الامر ازداد سوءاً، لأنك في الابحاث العادية تلتقين الشخص مرّة واحدة فيلقي أسئلته عليك ثم يغادر. قد ترغبين بالمساعدة بذلك بالفعل. في أحيان أخرى هم يلتمسون منك اجراء مقابلات للمتابعة. في البحث التشاركي، نعلق حتى ينتهي الباحث من جميع الورش. تعدّ تلك الورش أحياناً أكثر من عشرين شخصاً. وهي تأخذ الكثير من الوقت ونحن مجبرون على المجيء لأنّ الـ(ج.غ .ح) يجبروننا على متابعتها حتى النهاية».
آثر الإفراط البحثي في العلاقات الاجتماعية والهويّات
عندما يتعرّض حيّ سكني مثل شاتيلا لاجتياح من قبل الباحثين تتأثر العلاقات الاجتماعية المحليّة والهويّات داخل المخيّم. فالباحثون يميلون الى التركيز على مجموعات وأشخاص محددين في المخيم بينما يتجاهلون آخرين بنحو تام. فعلى سبيل المثال انصبّ اهتمام الباحثين لوقت طويل وبشكل حصري على جيل ١٩٤٨ وتجربة النكبة، وتمّ بالمقابل تجاهل الهموم الحاضرة ونضالات الاجيال الاخرى. بعدها جرى التركيز على أحوال النساء والشباب والأطفال. ولكن في كلّ تلك الحالات، التركيز على الفئات الاجتماعية تحدّده الموضات وأجندات الباحثين وليس السكّان أنفسهم. ويركّز الباحثون على افراد من ضمن تلك الفئات، الذين يعتبرونهم نماذج لبحوثهم وبصفهم أهالي المخيم بـ«النجوم» وأن عملية تصنيع النجوم «دورة كاملة». قد تكون هذه الحلقة مريرة للنجوم أنفسهم وللأهالي. يروي أحمد قصّة سلمى، التي أصبحت بعمر الحادية عشرة، محور اهتمام فيلم وثائقي حول المخيّم. لكن ماذا حصل بعد عرض الفيلم؟:
«صارت سلمى نجمة. مقابلات معها في كلّ مكان. اخذوها الى المسارح والجميع دللها. وأصبحت فجأة مركز اهتمام الجميع. بقيت الحال هكذا الى أن تمّ انجاز فيلم آخر حول شاتيلا. فجأة، لم تعد سلمى هي النجمة. صارت تبكي طوال الوقت وتبالغ في تصرّفاتها، إذ إنّها أرادت أن تجلب الانتباه اليها من جديد. شعرنا اننا لم نعد نعرفها. صرنا نفكر انها مجنونة. كان هذا من تأثير المقابلات والتصوير السينمائي وتدليلها، وكذلك من انانية الباحثين ونزعتهم المصلحية، إذ لا يعيرون انتباهاً لحاجات أو آثار تحويل الاطفال الى نجوم ومن ثمّ التخلّي عنهم. لقدانتهت مدّة صلاحية سلمى النجمة وتمّ بعدها تصنيع نجوم جدد حتى انتهت مدة صلاحية هؤلاء كذلك. إنها دورة بالفعل. يستغلّك الباحثون الى أن تنتهي صلاحيتك تماماً ثمّ يرمونك لهمومك في المخيم تصارعها وحيدا».
ويسهب أحمد في الكلام حول الآثار العامة للبحوث على الاطفال قائلاً: «تم تحويل بعض الاطفال الى ابطال. يتلقّون الانتباه بلا حدود. أحسّ الأطفال حينها بأنّهم يحلّقون فوق الغيم. ويعطونهم أموالاً. يأتي يوم ينتهي فيه مدّة صلاحية هؤلاء الأبطال ــ النجوم تماماَ مثل الطعام المعلّب. وعندما يكبرون ويكفّون عن كونهم اولاداً صغاراً مهضومين؛ ينتقل البحث الى أولاد صغار مهضومين جدد! وهكذا يقتلونهم ويتركونهم مجدداً لأزقّة المخيّم. الناس هنا ترثي لحال هؤلاء الاطفال. وهذه عملية استغلال أبشع من عمالة الأطفال التي يعملون على ايجاد حلول لها. اذا لم يكن الأمر استغلالاً، فما هو إذاً؟».
تقول لمى التي أصبحت محوراً لانتباه الباحثين عندما كانت طفلة «عندما كنت نجمة كنت أحصل على مقابلتين خلال اليوم، على الأقلّ». تخبرنا بعدها كيف أصبحت تشعر بالمرارة وخيبة الأمل تجاه الباحثين: «عندما كنت نجمة كنت سعيدة لأنني شعرت بأنّ الباحثين أصبحوا يأتون الى من أجلي انا كشخص لأنني مثيرة للاهتمام وذكية». لكن عندما غادر الباحثون المخيّم ولم يبقوا على اتصال معها «صرت أتحرّق غضباً وحزناً وانزعاجاً». ادركت لمى في ما بعد أنّ الباحثين كانوا يهتمون بها «بسبب أبحاثهم فقط ولأنني بنت مخيّم».
«مفاتيح» المخيم
وجهة النظر هذه ليست السائدة بين كل الأهالي. فهناك مجموعتان تروّجان للأبحاث وتستفيدان منها. تشغل هاتان المجموعتان وظيفة الاتصال بين سكان المخيّم وباحثي الخارج، ويشير اليهم الأهالي بـ«مفاتيح المخيم». المجموعة الأولى تتكون ممن يعملون في منظمات غير حكومية وينظرون الى الابحاث كمجالٍ دعائي مهمّ لهم ومصدر للاموال التي يتقاضونها مقابل مساعدة الباحثين. هناك إذاً ما يسمّيه بعض قاطني المخيّم «شبكة مصالح» بين الباحثين في الخارج ومنظمات غير حكومية محلية تتكفل بتوفير التجاوب مع الباحثين. وبما أنّ العديد من سكان مخيّم شاتيلا يتّكلون على المحلية من أجل الخدمات والمساعدات المادية لزيادة دخلهم، فإنّهم يشعرون بأنهم مجبرون على المشاركة في الابحاث، وهم بالتالي لا يشعرون بأنّ لديهم خياراً حقيقياً برفض الانصياع لطلبات الباحثين. فهم يعلمون بسوابق حصلت في شاتيلا حيث توقفت منظمات غير حكومية عن تأمين خدماتها وأموالها وللأفراد غير المتعاونين. ويشعر العديد من السكان بأنّ المؤسسات المحلية والباحثين من الخارج يتواطأون في تعظيم الآثار السيئة الناتجة من العيش في المخيمات، ويرون أنّ الأمر يصبح تصويراً سيئاً لشاتيلا وتهجّماً على إحساسهم بالكرامة الشخصية. يقول أيمن وهو من سكان شاتيلا:
«تزعم المنظمات غير الحكوميةأنّ المخيّم في حالة سيئة للغاية لأنّها الطريق ليستحصلوا فيها على الاموال. يحبّ الباحثون أيضاً أخبار البؤس، مما يعني أنّ في الأمر مصلحة مشتركة، لذلك نُسأل دوماً عن مشاكلنا فقط... أتذكّر أنني عندما كنت طفلاً كنت أشعر بالمرارة الكبيرة تجاه الحياة في المخيمات. وكانت منظمة غير حكومية والباحثون يحبّون ذلك. والآن أضحك عندما أتذكر كيف كان موظفو المؤسسات يُملون عليّ ما يجب قوله. على سبيل المثال، كان العامل الاجتماعي في المنظمة غير الحكومية يأتي بالباحثة لتقابلني فيقول لي: «قلّ لها كيت و كيت» و«أخبرها عن هذا وذاك». وكان الأمر يدور دائماً حول القرف من حياتنا وصعوبتها هنا… في بعض الاحيان أجلس وحدي وأضحك. لست متأكداً انني كنت أقول الحقيقة، الا أنّهم قبلوا ما أخبرتهم به وشعروا بالشفقة عليّ. وأعتقد أنني قد أحببت ذلك حينها. طُلب مني حينها أن أستجلب شفقة الباحثين لكنني حتماً لن اقبل ذلك بعد اليوم».
يشتكي أحمد قائلاً «هؤلاء يجعلوننا نظهر بشكل سيئ». أحمد كغيره من شباب شاتيلا ممن هم في العشرينيات من العمر، امضى سنوات عمره في التعاطي مع الباحثين منذ أن كان صبياً في مقتبل العمر. يقول:
«لقد سئمت وتعبت منهم للغاية.. كلّما رأوا مبنىً مدمراً أخذوا صوراً عنه. الامر في غاية الاذلال. يريدون أن يلتقطوا صوراً لأطفال فلسطينيين فيذهبوا الى الحرج حيث الغجر. يلتقون هناك بأطفال عراة ويزعمون أنّ هؤلاء هم فلسطينيون. لم أرَ في حياتي أطفال المخيّم عراة. ويذهبون أيضاً الى الحرج من أجل تصوير منازل التنك ثمّ يدّعون أنّها جزء من المخيم. لست أتكبّر على من يعيشون في بيوت التنك. لكن لماذا الكذب؟ أنا فقير لكنّ لمنزلي سقفاً كما لكلّ منازل المخيّم».
«لماذا لا يكتب الناس عن المواهب الموجودة في المخيم؟» يسأل خليل. ويكمل قائلاً «إذا استمروا في الكلام عن المشاكل بشكل حصري فإنّ الغرب سيقول، هؤلاء لا يستطيعون معالجة مشاكل المخيمات فكيف سيتولّون أمر بلد إذا عادوا إليه؟ أعتقد أنّ ذلك يضرّ بالقضية ولا يساعدها على الاطلاق».
الفئة الأخرى من «مفاتيح المخيم» والتي تقوم بالترويج للابحاث والاستفادة منها مكونة من أشخاص على قدر لا بأس به من التعليم، يتكلّمون اللغتين العربية والانكليزية ويعتبرون البحوث فرصة ممتازة لزيادة دخلهم. يجدون إجمالاً أدواراً كمترجمين، وكتّاب، وأدلّاء للباحثين، فيقومون بترتيب المقابلات واللقاءات البحثية مع الأهالي. ويعلّق أسامة، احد سكان المخيم قائلاً بأنّ «هذه ظاهرة حديثة نسبياً انتشرت خلال العقد الماضي».
في البداية كان الجميع مستعداً ليبذل الوقت والجهد مجاناً، معتقدين بأنّ ذلك أمرٌ جيد للمخيّم وللقضية. لكن بعد فترة ساد اعتقاد عام في المخيم بأنّ الباحثين مجرّد أشخاص أنانيين يسعون وراء مصالحهم الخاصة. حينها تبدأ بالتبرير لنفسك قائلا: «لماذا عليّ أن أساعدهم من دون مقابل؟».
رغم أنّ سكّان المخيّم يتفهمون مدى حاجة البعض إلى المال، فإنّ بعضهم الآخر يعبّر عن قلقه حول الطرق التي يجري بها تسليع الابحاث في المخيّم. يقول سمير: «لا يخجل أحد مفاتيح المخيم من كونه يتقاضى المال مقابل مساعدة الباحثين. فسّر لي الامر قائلاً: «يجب أن تفكّر بالامر على أنّه عمل». لست مرتاحاً لذلك، إذ إنني لا أريد أن أكون عبداً للباحثين، لكنني لا أحب فكرة كوني رجل أعمال وأعيش على حساب شعبي. بعض الناس لا يفكّرون الا بالمال. هذه نتيجة سيئة أخرى للاجتياح البحثي، فهي تخلق طفيليات في المخيّم.. لقد أصبح الامر نكتةً في الحقيقة، فهم يقولون أحياناً للناس ما يجب أن يقال للباحث. يتصرّفون كمرتّبات الأعراس، يأخذون الباحثين الى العائلات نفسها كل الوقت ويقول لهم ما يجب قوله».
رندا فتاة من سكّان المخيّم يأتي معظم دخلها من المال عبر ترتيب المقابلات والترجمة الكتابية والفورية ونقل محاضر لقاءات الباحثين الخارجيين مع سكان المخيّم. تنهي حوالي ١٠ مشاريع بحثية في السنة، شأنه كشأن الكثيرين من أساتذة الدكتوراة، طلاب الماجستير وتلاميذ الدكتوراة، بالاضافة الى الصحافيين والباحثين الذين يأتون من مؤسسات وضع السياسات ومدرّعات التفكير. ورغم أن رندا تعرف أنّ سكان مخيّم شاتيلا قد ملّوا من الباحثين، وأنّهم يشكّون في كون هؤلاء جواسيس الا أنها ما زالت تشعر بأنّ «الباحثين يخدموننا فهم يعطوننا خياراً». و تشرح رندا أنّها تقبل فقط بالعمل مع باحثين حول المواضيع التي تشعر بأنها لمصلحة أهل المخيّم. لكنّها تعترف بأنّها نادراً ما ترى ما يفعله الباحثون والمراسلون بالمعطيات البحثية التي يجمعونها: «أخاف من رؤية النتيجة، فحينها قد أتوقّف عن العمل وعن مساعدة هؤلاء الناس. وأنا بحاجة للعمل».
خاتمة
في الخاتمة، من المهم الاشارة الى أنّ سكّان المخيّم ليسوا مجرّد ضحايا الاجتياح البحثي. فليست المنظمات غير الحكومية في المخيّم وما يسمى بمفاتيح المخيمّ من يحاول فرض أجندته، بل إنّ من تجرى المقابلات معهم من سكّان المخيّم يعملون من جهتهم على إنجاز العملية البحثية، كائناً ما كان مصدر الأخيرة. يقول أحمد: «يكذب الباحثون معظم الاحيان. وأكذب عليهم في المقابل. لمصالحي المتأتّية من الابحاث. نختلق القصص من أجلهم في بعض الاحيان ونحمي مخيّمنا بإسماعهم ما نرغب بإسماعه وكتابته، حتى لو كان ذلك غير صحيح. هم يتعجّبون «آه، مثير للاهتمام». لديهم مصالح شخصية بينما مصالحنا جماعية.. أنا لا أردّ على أيّ شخص يسأل عن الاسلحة، الدعارة أو المخدرات أو شيء من هذا القبيل».
وبالرغم من ذلك، لا يزال الأهالي يشكون من قلقهم حول ظاهرة الافراط البحثي وأثر البحوث والباحثين في حياتهم الشخصية وحياة عائلاتهم والمخيم بنحو عام.
لسنوات عديدة، طالب أفراد وممثّلو المخيّمات الفلسطينية في لبنان الباحثين بوقف أبحاثهم في المخيّمات. ففي عام ٢٠٠٨، أطلق مركز عصام فارس في الجامعة الاميركية في بيروت برنامجاً ينفّذ على عدة سنوات، حول مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان والاردن وسورية وفلسطين. وفي معظم ندوات المركز طالب المسؤولون الفلسطينيّون بإنهاء البرنامج البحثي لأنهم شكوا من أنّ «اهالي المخيّمات متعبون من تطفّل الباحثين». (موظّف في مركز عصام فارس، مقابلة خاصة). وأُطلقتْ نداءات مشابهة من قبل اللاجئين الفلسطينيين في اجتماعات اليونيسيف عام ٢٠١٠ ومنظمة العمل الدولية في لبنان عام ٢٠١١، لكن يبدو أنه لا حياة لمن تنادي. فكأن الطريقة الوحيدة لرد الاجتياح البحثي هي «تحويل المخيم الى الشانزيليزيه ــ عمرك سمعت عن شي باحث بالشانزيليزيه؟»، على قول أحدهم.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.