أفكر بهذا الجار الضخم وأذاه العابر للحدود. أذى قديم يلاحقك على شكل عقال مهترئ يخنق رئتك ويمنعك من التنفس وأنت تحاول الاستكانة لجار ضخم يتفنن في امساكك من الرقبة كلما تملصت من الارتهان لمزاجيته العابثة في التعامل مع أخلاقية الجوار واستغلالها والذي لابد أن يحشرك في نفق ضيق كلما وجد حيلة لتأكيد ابتزازه التاريخي.
الابتزاز التاريخي لهذا الجار قديم ايضاً فأنت لا تستطيع التنبؤ بسلوكه حيالك أبداً، وأنت ترى تدخله المفرط في شؤونك الداخلية والتلصص على حياتك من نافذة مثقوبة ليملي عليك أفعالك وطريقة حياتك، وليس عليك أن تعترض وتبدي قلة الحيلة والعجز في صد هذا الأذى المتقصد بل عليك وفي كل لحظة وجودية تعيشها إبداء استعدادك القانع لتقبل هذا الجوار الأبدي وتُكيّف نفسك مع شروط مُجحفة للقوة.
القوة للنفط
شروط القوة كانت دائماً لصالح الجار -النظام السعودي- ليس لأسباب التفوق البيولوجي كما يعتقد البعض بقدر ما هو تفوق النفط في رسم معادلة القوة في واقع يعتمد على ميزان السوق وخضوع النظام في اليمن لاهتزازات كثيرة منذ قيام الجمهورية اليمنية عام ١٩٦٢ وحتى اللحظة وتدخل هذا النظام لفرض املاءات لا تحترم علاقة الجوار وإنما تنطلق من أرضية الأمن القومي للنظام السعودي وكيف يروض مثلاً جاره الضعيف سيئ التربية. لذا عليه أن يستخدم كل الأوراق في جعل هذه الجار مريضا وبحاجة لعملية انعاش متواصلة أو في حالة موت سريري حتى لا يشعر النظام السعودي بأي تهديد يأتي من هذا الجار المستلقي دائمًا على ظهره. لذلك تنوعت أوراق القوة التي يستخدمها النظام السعودي واختلفت باختلاف الظروف المحيطة. ففي كل مرحلة هناك ورقة جاهزة لكسر الرقبة. وهنا تبرز أهم ورقة يجيد لعبها النظام السعودي وهي قضية العمالة التي يلجأ إليها ليس فقط لحبس أنفاس اليمن وإنما كل بلد يحاول ممارسة استقلاليته السياسية بعيداً عن املاءاته. فالأعمال العدائية التي انتهجها ضد العمالة العربية تحتاج لمقاربات كثيرة لاستقراء هذه الذهنية في التعاطي مع الآخر المختلف المقيم في أراضيه والتي تكفل له كل الشرائع الانسانية والديانات السماوية العيش الكريم لكن ذهنية النظام السعودي ظلت تستخدم العمالة العربية ورقة للتدخل في الشؤون الداخلية لهذه البلدان وتجييرها لصالح هذه العقلية المنغلقة التي تكرّس مبدأ انتهاك الآخر العربي والأسيوي والأفريقي وكل جنسية طارئة قادمة من وراء حدود النفط ولم يستثن أحداً من هذا العدوان اليومي.
استخدم النظام السعودي ورقة العمالة ضد البلدان العربية قبل ثورات الربيع العربي، وكانت هناك أزمات متواصلة بلغت إلى حد رفض هذا الامتهان وإغلاق السفارات السعودية في مصر قبل أعوام وكذلك في ليبيا وغيرها من البلدان. وحين قامت الثورات في البلدان العربية وجد النظام السعودي نفسه شبه معزول وعليه أن يخلق خططاً ذكية لامتصاص الغضب العربي من تدخلاته التي لا تنتهي، وهنا وجد نفسه الحارس الوحيد لصد رياح التغيير عن شباكه بل وتغيير دفة هذه الرياح في بلدان الثورات وتعديل قوتها، وأحيانا حبسها في قنينة كما فعل مع ثورة البحرين. وبالدرجة ذاتها كان عليه أن يصد رياح الثورة اليمنية العاتية خاصة وأن روح هذه الثورة كان يتعدى شعار اسقاط النظام إلى استرداد الكرامة اليمنية التي عمل نظام صالح على تجريفها كما جرف الأراضي اليمنية في اتفاقية الطائف. كانت الكرامة اليمنية صُلب الهتاف الحي الذي يطالب بسيادة القرار السياسي في اليمن وسيادة حق هذا الشعب في تقرير مصيره وفقًا لحرية كاملة وغير مشروطة. لكن النظام السعودي ونتيجة لخبرة متمرسة في امتصاص كل اهتزازات المنطقة العربية، كان عليه هذه المرة أن يبدو طيباً وأن يستخدم ورقة أخرى وهي ورقه تحالفه التاريخي مع نظام صالح والقبائل المرتبطة به وبعض القوى السياسية المشتراة بالمال. لذا استطاع النظام السعودي فرض «المبادرة الخليجية» كتسوية سياسية مقبولة في نظره ليبقى اليمن رهينة لصراع مراكز النفوذ القبلية اليمنية وليظل في حالة سقم متواصلة في انتظار يد الجار العطوفة.
ترحيل ٢٠٠ الف واعتقال ٢٥٠٠
ظلت صورة الجار العطوف والراعي الطيب للمبادرة الخليجية هي المسيطرة على مشهد العلاقات السعودية اليمنية اثناء المرحلة الانتقالية، واختفت ورقة العمالة اليمنية قليلاً من الوقت لتظهر من جديد أثناء الحوار الوطني اليمني ليعود النظام السعودي الى حيلته القديمة واللعبة التي يتفنن فيها لاذلال الحكومة اليمنية ليدشن هذه المرة حملة الجوازات ومطاردة العمالة السائبة على حد وصفه، أو حملة تطهير البلاد كما اطلق عليها بعض المثقفين السعوديين المتعصبين، لتتزامن هذه الحملة مع عملية (فجر٣) الأمنية التي تعدّت فرض قانون العمل السعودي الجديد على العمالة اليمنية إلى ملاحقتهم في أرزاقهم وقُوْتهم اليومي ومصادرة الإقامات وتمزيق كثير منها. لتصل هذه الحملة الهوجاء المعادية لكل يمني مقيم في السعودية إلى ترحيل أكثر من مائتي ألف يمني دون جنحة أو إخلال بالقوانين السعودية، بالإضافة إلى حملة اعتقالات واسعة حيث وصل عدد السجناء اليمنيين في السجون السعودية لأكثر من ٢٥٠٠ يمني حسب إحصائيات بعض المنظمات الحقوقية اليمنية، لتتوج هذه الممارسات ببناء سياج عازل على طول الحدود اليمنية السعودية والتي تصل إلى أكثر من ١٤٥٠ كيلومتر كأطول سياج عازل في العالم.
أدرك النظام السعودي أن هذه الورقة المُملة – مطاردة العمالة - ستجلب له كثيراً من الحرج ليس أمام شعبه بل أمام المنظمات الحقوقية الدولية التي بدأت الآن تقتفي أثر الانتهاكات السعودية. وجد النظام السعودي نفسه يبحث عن حيلة أخرى أكثر رواجاً وعاطفية تقوم على استثارة المشاعر الطائفية عند السعوديين والخليجيين، ليصبح النظام السعودي هذه المرة هو النظام البطل حامي حمى السُنة في مواجهة التمدد الإيراني الشيعي في المنطقة الذي يريد شراً بالسّنة ويريد إحراقهم واخراجهم عن طائفتهم. فالنظام الايراني وفق هذا المنطق يقوم حالياً بأعمال عدائية ضد النظام السعودي عبر استخدام المغتربين اليمنيين داخل الأراضي السعودية وكذلك الأفارقة المتسللين. وهو ما روجت له كتابات عديد من مثقفي السلطة في الخليج، ونذكر منها ما كتبه الكويتي الدكتور عبد الله النفيسي الذي استأسد مع النظام السعودي في حملته ضد اليمنيين، وبرر ذلك بأن إيران استأجرت جزيرة (دهلك) اليمنية فيها آلاف اليمنيين والأفارقة لتدريبهم عسكرياً استعداداً ليوم الفصل بدعم من الفئة الضالة (الحوثيين) على حد وصفه. وهنا يبرز دهاء النظام السعودي في اعتماده على هذه الحجة الواهية، وهي التخندق الطائفي، كونها الطريقة الوحيدة في الدفاع الساذج عن أنظمة تنتهك حقوق شعوبها وحقوق الشعوب الأخرى بالبحث عن عدو خارجي. عدو لا يختلف في العقيدة وإنما يختلف في الطائفة ويستمد الكراهية من تاريخ موغل في الصراع الطائفي المنهك، خصوصاً أن هذه الورقة نجحت في تحجيم ثورات الربيع العربي وتحويلها من ثورات شعوب حية تطيح الأنظمة الفاسدة إلى ثورات حروب الطوائف. وما يحدث في سورية والبحرين ومصر واليمن اليوم دليل على انتصار عقلية الطائفة على عقلية الوطن.
عذر المذهبية
فعقلية الطائفة المباركة أو الطائفة المُختارة أو الطائفة الناجية من النار جعلت من النظام السعودي درع السنّة الأخيرة في مواجهة النظام الايراني، الدرع الحصينة للشيعة، اللذين يشتركان في القبح ذاته وفي العقلية الدينية الأصولية ونشر الكراهية للسيطرة على ثورات فقدت هي الأخرى اختبار صلابتها في الحفاظ على المشترك الإنساني.
لستُ ضد أن يبني الجار السعودي جدارًا عازلاً يفصل بين يأجوج اليمني ومأجوج السعودي، ليبلغ هذا الجدار العازل سقف السماء السابعة إذا كان هذا الجدار العازل سيحقق الأمن الواهي لهذا النظام المذعور من الآخر ويجعله نظاماً مستقراً يحقق الرفاه لشعبه ويحترم حقوق رعاياه. لكن هناك معضلة أخلاقية تستقيم في رأسي كحديد صدئ وتجعلني أتساءل هنا: ما مقدار الهشاشة التي يشعر بها هذا النظام والأنظمة الخليجية من الآخر المختلف؟ وإلى متى ستظل ورقة إيران ويوم الفصل صالحة المفعول في الذهنية السعودية والخليجية المنكفئة على ذاتها وتجعله سبباً ملحاً في اشعال حروب طائفية في البلدان الأخرى التي كانت تنعم بسلم اجتماعي بعيداً عن مسمى الطائفة والديانة؟ إلى متى ستظل ورقة العمالة اليمنية والعربية والآسيوية عصى غليظة تستخدم ضد شعوب الله الفقيرة المستضعفة؟
للأسف ما زال الشعب اليمني مستضعفاً حتى بعد ثورة ١١ فبراير التي أطاحت صالح. وسبب الضعف اليمني لا يرجع إلى استكانة هذا الشعب لتجاوزات جار متبجح، بل المشكلة تقبع في رأس السلطة اليمنية التي ما زالت ولاءاتها عابرة للحدود ترتكز على البراغماتية والخضوع لإملاءات الجار القوي. فلم تحتجّ الحكومة اليمنية على ما يطال المغتربيين اليمنيين في السعودية من تنكيل وإهدار لكرامتهم بل صمتت في محاولة لامتصاص الغضب الشعبي في الداخل. والأنكى من ذلك أن بناء الجدار الحدودي العازل كان بموافقتها وفقاً لتصريح أمير عسير.
وهنا ما الذي على اليمني أن يفعله أمام استمرار الأذى والابتزاز التاريخي؟ ما الذي عليه أن يفعله تجاه حكومة خانعة لا تملك أي قرار سيادي ينتصر لشكاوى اليمني الحزين؟ ربما لا شيء حتى الآن سوى أن نظل نبكي روح الشهيد ابراهيم الحمدي ذلك الرجل الطيب الذي كان صلباً في مواجهة جار سيئ.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.