يمرُّ العمرانُ الحزبي المغربي، في السنين الأخيرة، بحالٍ من التفسخ والاهتراء لا مثيل لها منذ قيام الظاهرة الحزبية في البلاد قبل ثمانين عاماً. تمتَّع المغرب بمؤسسات حزبية ذات سمعةٍ وأثر حتى في فترات القمع الاستعماري في الأربعينيات والخمسينيات، وفي عهود القمع السياسي، بعد الاستقلال، بين سنوات الستينيات والثمانينيات. ولم يكن للقمع أثرٌ في إضعاف الحياة الحزبية أو تفسيخها، حتى لا نقول إنه حوّلها إلى رياضة فكرية وسلوكية على المبدئية والالتزام. ولقد مرَّ على بلادنا حينٌ من الدهر كان الانتماء فيه إلى حزبٍ من الأحزاب الوطنية والتقدمية أشبه ما يكون بالانتماء إلى مجموعة فدائية؛ لأنه لا يَعِدُ صاحبَهُ إلا بالشهادة، أو السجن، أو المنفى، أو الطرد من العمل. ولم تكن هذه العقوبات المنَتَظرة، على هوْلها، لِتَفتَّ من عزائم من أرادوا أنفسَهم مناضلين، فلقد كانوا حَمَلَةَ رسالة (الاستقلال الوطني، بناء الديمقراطية...)، وكان لهم الأُسْوَة في قادتهم وما جابهوه، بشجاعة، من ابتلاءات. وما كان أحدٌ ممَّن خاض في الشأن العام صاحبَ شأنٍ خاص أو مصلحة؛ فما كانت هناك وزارة يسيل لها لعابٌ سياسي، ولا نيابة برلمانية يُقْتَتَل عليها بين المناضلين.
التفسير الاخلاقي لا يكفي
مشهد الحزبية، اليوم، يختلف تماماً عن ذي قبل، وإلى درجة يتساءل فيها المرء -يائسا- عمّا إذا كان المستقبل السياسي وراءَنا لا أمامنا !فإلى أن أحزابنا - والتقدمية منها بشكل خاص- ضاق نطاقُها التنظيمي حتى ضَمُر، وشَحَّت قاعدتُها الجماهيرية، وهبط معدّل تأثيرها في الرأي العام، وداخل الطبقة الوسطى، وفقدت بريقَها الذي كانتِ السلطة تحسب له حساباً في ما مضى. فقد افتقرت إلى المشروع والرؤية والبرنامج، حتى بات المرء يجهل ما يفصل زيداً عن عمرو بينها، وما يبرّر لها البقاء من دون بُوصَلة! والأدْهَى والأمَرّ أنها أَمْسَت ساحاً فسيحةً للحروب الداخلية بين ذوي المصالح فيها، تأخذها إلى الشلل فإلى الحَتْف ! لا عجب إن كان تمثيلها الشعبي قد أسفر عن فضيحة تاريخية في الانتخابات التشريعية للعام ٢٠١١، ولا عجب إن استطاع حزبٌ حديث النشأة، وحديثُ العهد بالعمل في المؤسسات، أن يحصد ثمرات سقوطها المروِّع انتصاراً ساحقاً في الانتخابات.
يميل رأيٌ شائع، في بعض النخبة المثقفة والسياسية، إلى ردّ ظاهرة الانحطاط الحزبي إلى عوامل أخلاقية: فساد النخب الحزبية الناجم من تذّوقها الطعوم اللذيذة للسلطة. ويذهب، بالتَّبَع، إلى القول إن الخروج بالحياة السياسية والحزبية من هذا النفق المظلم لا يكون إلاّ بـ «تخليق» هذه الحياة الحزبية (عبارة «التخليق» ليست مناسبة لأنها تعني، في اللسان العربي، توليد، تفقيس. والأدق منها، اشتقاقاً، الأَخْلَقَة نسبةً إلى الأخلاق). ومع تسليمنا بأن بعضاً من هذا التفسير دقيق وصحيح، إلّا أن الأخلاق لا تفسّر كل شيء، واستلام مناصب في السلطة لا يفسر كل شيء؛ فلقد تسلّم قادة الحركة التقدمية والوطنية مناصب سامية (علاّل الفاسي، عبد الله ابراهيم، عبد الرحيم بوعبيد، عبد الرحمن اليوسفي، أحمد بوستة... )، ولم تفسد أخلاقهم السياسية أو تَقْبُح، وظلوا متمسكين بثوابت العمل الوطني. إن الأخلاق عامل مقبول للتفسير فقط إن هو كان ضمن جملة عوامل أخرى مثل: المشروع السياسي والرؤية، والكفاءة القيادية التي تنتزع لنفسها المقبولية والشرعية والهيبة، والتي لا تتحصَّل من القدرة على الفَهْلَوْة وممارسة الحَلقية والتآمُر على الخصوم!
الفراغ «الكارزمي»
لنأخذ عاملاً واحدا من كل هذه العوامل هو الفراغ القيادي في الحزبية المغربية. نعني بهذا الفراغ غياب الرمزية القيادية عن الذين يتصدرون أحزابنا اليوم. حين يتذكر المرء أن قادة الحزبية المغربية كانوا من طراز علال الفاسي، ومحمد بلحسن الوزاني، وعبد الله إبراهيم، وعبد الرحيم بوعبيد، وعلي يعته، وعبد الرحمن اليوسفي، وأمحمّد بوستة، ومحمد بنسعيد، وأن من كان سيرث بعض هؤلاء في القيادة رحل إلى رحمة الله (المهدي بنبركة، عمر بنجلون، عزيز بلال)، يُصاب بالحسرة على المآلات والمصائر التي انتهت إليها القيادات الحزبية بعد غياب الرأسمال الكاريزمي، الذي لم يكن شيئاً آخر غير رأسمال الكفاءة والاقتدار والصدقية. وأذكر أنه حين ازدهر، قبل عشرين عاماً، حديث متبرّم بالقيادات التاريخية، ومدافع عن ضرورة «تشبيب» الوضع القيادي في الأحزاب («التشبيب» عبارة غير مناسبة لأن معناها، في اللسان العربي، الغَزَل)، كتبتُ رأياً في الموضوع مفاده أن الحياة الحزبية المغربية لم تنجب، من أسفٍ، قيادات بديلة قادرة على إدارة الشأن الحزبي، وأن دعوة مَن بقي من قيادات إلى الاعتزال (وكان منها، في ذلك الحين، اليوسفي، يعته، بوستة، بنسعيد) دعوة إلى إدخال المؤسسات الحزبية في المجهول الذي ها نحن، اليوم، دخلناه من الباب الواسع، باب حيازة مراكز القرار الأوّل في أحزابنا من قِبَل قيادات جديدة يطعن كثيرون - من داخل أحزابها - في كفاءتها، وفي نزاهة بعضها، ويشك آخرون في وجود بصمات تدخُّل السلطة لتمكينها من الفوز بتلك المواقع في مؤتمرات أحزابها، وخاصة «حزب الاستقلال» و«الاتحاد الاشتراكي»، وقبلها «حزب التقدم والاشتراكية» («الحزب الشيوعي» سابقاً)!
ثمة من يعترض على توسُّل مفهوم «الفراغ الكاريزمي» لتفسير ظاهرة انحطاط الحزبية السياسية في المغرب: منتقداً المفهوم، ومفنداً فرضية الانحطاط الحزبي من الأساس. فالتمسك بمفهوم الكاريزما-في حسبانه- نقْضٌ لمبدإ المؤسّسيَّة العقلاني والعصري، الذي عليه ينبغي أن يقوم العمل الحزبي، وحنينٌ إلى فكرة الزعيم الملهم؛ ورجمُ الحياة الحزبية المغربية بتهمة الانحطاط إنما هو رفضٌ لرؤية الدينامية السياسية الجديدة التي تتخلَّق وتنشأ في أحشاء الأحزاب السياسية، وتُنتج أطراً وقيادات جديدة منتخبَة من قواعدها بنزاهة، الخ. هكذا يُرَدُّ النقدُ إلى نَحْر الناقد للقول إن حال الحزبية المغربية - و«التقدمية» منها خاصة - حالٌ حَسَنَة، متوازنة، أو هي طبيعية في أسوإ تقدير لها، وليُنْظَر إلى النقد وكأنه تَحَيُّفٌ مقصودٌ ومُغْرِض، غايته التحبيط والتخذيل.
غياب ثقافة سياسية ديمقراطية
لن نخوض في سجال مع هذا الاعتراض في مفهومه للكاريزما، وفي دحضه لفرضية الانحطاط الحزبي، بل نكتفي بسوق ملاحظتين من واقع ما يجري في بيئة العمل الحزبي في المغرب.
أولهُمَا: أن القائد الكاريزمي لا يختفي من المشهد السياسي (الدولتي أو الحزبي) لمجرّد الرغبة في اختفائه والتحرُّر من سلطانه المعنويّ، ولا من طريق عملية «قتل الأب» (في التحليل النفسي)، وإنما هو يختفي وتنتهي الحاجة إليه حين تنشأ المؤسَّسة فعلاً ويَعْمُرُ عمرانُها بالروح المؤسَّسية. وهذه لا تأتي من فراغٍ مطلق، ولا تخرج إلى الوجود خروجاً سحريّاً كخروج الأرنب من كُمِّ الحاوي في عَرْضٍ بهلواني، وإنّما تؤسِّسها - وتُهيِّئ لها - ثقافةٌ سياسية ديمقراطية، وتقاليد ديمقراطية متراكمة في العمل الحزبي (كما في الدولة). وعندي أن هذه الثقافة، وهذه التقاليد، هي اليوم - وحتى إشعارٍ آخر- في حكم العدم. بل إن واقع الحال في المجتمع الحزبي المغربي يقول - منذ عقدين على الأقل - إن البيئة الحزبية ملوَّثة بأمراض الحلقية الضيقة وصراعات المصالح الصغرى على المقاعد والمناصب، وإن الثقافة السياسية لأحزابنا تنحدر إلى قعر لا قرار له، ولا تكاد تحتفظ من ميراثها في الماضي القريب إلاّ بالقشور، وإن الفهلوة والتكايد وتَبْييتِ المُبَيَّت، في جُنح الظلام، هي أخلاق أكثر أحزابنا ! ومن أسفٍ أن معنى المؤسّسية عند بعضٍ يَصْغُر ويتقزَّم إلى حدود وسائلية أو أدواتية: الاقتراع الحزبي! ونحن نسأل هنا: على مَن يقترع المقترعون؟ على برامج أم على أشخاص جدد يعرفون من أين تؤكل الكتف؟! فأما البرامج فلا وجود لها في مشهد اليوم، وأما الأشخاص فليسوا من ذوي الكفاءة المعترف لهم بها من أحزابهم، وليسوا ممّن يتقنون التجميع والتوحيد كإتقانهم للتفرقة والتشتيت!
وثانيهما أن ظواهر الانحطاط مطروحة على قارعة الطريق السياسي، يراها الذاهب والجائي، ولا يخلو متجاهِلُها أن يكون على أحد وجهيْن: إمّا جاهلٌ لها لعلمٍ لم يَحْصُل له بأمْرِ السياسة في المغرب حين كانت في حالٍ من العافية والاستقامة، ربّما لِصِغَر سنّه وحداثة عهده وظنِّه أن السياسة ومؤسساتها إنما هي ما يراه، وإمّا مكابِرٌ يتأبى الاعتراف بما إليه آل العملُ الحزبيّ وصار، لأن في اعترافه بذلك قرينةَ الاتهام بالضلوع والسَّهم بالحصّة في ما صار إليه أمْرُ ذلك العمل (الحزبي). وسيكون من باب الإفاضات والنوافل-حتى لا نقول من باب التزيُّد في الاستزادة - أن نستدل على الانحطاط، الذي دبَّ إلى عمران العمل الحزبي «التقدمي»، بالفاجعة الانتخابية الأخيرة التي جعلت حزباً واحداً هو «حزب العدالة والتنمية» الإسلامي يحصل على مجموع ما حصل عليه ثلاثة أحزاب وطنية عريقة من المقاعد هي: «حزب الاستقلال» و«الاتحاد الاشتراكي» و«حزب التقدم والاشتراكية»! وليست الفضيحة السياسية هذه، وهي تاريخية وغير مسبوقة، إلا التتمة المنطقية لسلسلةٍ من حلْقاتٍ متصلة من عوامل التفكك والترهّل في البنى السياسية والتنظيمية، وفي الرؤى والخيارات البرنامجية التي استقرّ عليها عمل تلك الأحزاب والقوى في العقدين الأخيريْن، وخاصة منذ مطالع هذا القرن.
يسار يفقد رؤياه
على أن عامل الفراغ القيادي، وهو يُطْلِعنا على غياب البدائل القيادية والمؤسَّسية، قد لا يكفي لتفسير ظاهرة الفراغ الرؤيوي الذي تعانيه الحركة الوطنية والتقدمية المغربية منذ سنوات عدّة كفَّت فيها عن تقديم رؤى وبرامج تشدّ إليها قطاعات من الشعب، وتحصل على مساندتها. وتلك مسألة لم تلتفت إليها فتعيرها انتباهاً، وإنما استصْغرت شأنها على نحوٍ يدعو إلى الغرابة!
لم يعد لليسار وقوى الحركة الوطنية في المغرب مشروع اجتماعي-سياسيّ تتميّز به، وتتمايز، عن محيطها من الأحزاب السياسية الأخرى: ما خرج منها إلى الوجود من رحم المجتمع، وما أبصر النور منها في حِضن السلطة ووزارة الداخلية. تضاءلتِ الفروق بين الجبهتين حتى كادت أن تمَّحي لولا بعضُ رائحةٍ من الماضي تنبعث، بين فينة وأخرى، فتبعث في النفس حنيناً أو حسرةً أو هما معاً مجتمعين!
كان لدينا يسار، قبل ثلاثين عاماً، أطلقنا عليه اسم الحركة التقدمية، تمييزاً إيديولوجياً عن الحركة الوطنية، وإصراراً على رؤية مسائِلَ وآفاق جديدة لم تكن الحركة الوطنية تلْحظها في سنوات الستينيات. وكان «الاتحاد الاشتراكي» قطب الرحى في ذلك اليسار، وعلى أطرافه التنظيمات الماركسية-اللينينية و«حزب التقدم والاشتراكية »، وإنْ لم تَسْتَقِم العلاقةُ بين هذه الأطراف دائماً، أو في المعظم من أطوارها التاريخية؛ لأسباب بعضُها موضوعيّ وبعضُها الثاني ذاتي. لكن هذا اليسار ظل يستطيع، مع ذلك، ولفترة عقدين كامليْن، أن يَبْسُط سلطانه الفكري والسياسي على المجتمع المَدِينيّ والمنظمات الشعبية والمهْنية. هكذا سيطرت قواهُ على المنظمات الطلابية والعمالية والثقافية، على نحو سيطرتها على ساحة الصحافة المكتوبة، وكان له في هذه السيطرة الكفاية والغُنْية؛ لأنها وضعت تحت تصرّفه شبكةً هائلة من المؤسسات الاجتماعية والشعبية ذات القوة التمثيلية المعتَبَرة، كان يَسَعُه استخدامُها في الصراع السياسي رافداً عظيماً لقواهُ الحزبية.
ومن النافل القول إن ذلك النفوذ الذي كان لليسار في هذا المحيط الاجتماعي والوطني إنما مأتاهُ من دورٍ نشِطٍ نهض به، في ذلك الإبان، وبناهُ على رؤيةٍ تَلْحَظ أهمية العمل في الأطر الاجتماعية الأوسع بالنسبة إلى أية حركة سياسية؛ فاليسار، حينها، كان صاحب مشروع اجتماعي-سياسيّ، والمشروع هذا كان مشروع التغيير الاشتراكي الديمقراطي لبنى الدولة والمجتمع. وهو مشروع كلّفه جَهداً فكريّاً ونظريّاً حقيقيّاً أدَّاه، بحماسة، مثقفوه وأطرُهُ وأكاديميوه: الذين وضعوا تحت تصرفه رؤًى وبرامج عمل في المسألة الاجتماعية، وفي التنمية الاقتصادية، وفي إدارة المؤسسات المحلية، وفي الهندسة الديمقراطية للدولة، وسوى ذلك من مسائل كان ينبغي أن يُجاب عنها ببرامج قابلة للتحقيق. ولم يكن قليل الشأن أن مدار هذا المشروع كان على مسألة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للشعب وطبقاته الكادحة والفقيرة، وعلى العدالة في توزيع الثروة، وتقليص الفجوة الطبقية في المجتمع، وإصلاح القطاع العام وتفعيل أدواره الاقتصادية، وتوفير فرص العمل للخريجين والعاطلين، ومحاربة الفساد المالي والإداري، وإنجاز الإنماء المتوازن للمناطق والجهات، ورفع التهميش والعزلة عن العالم القروي، وإعادة الاعتبار إلى القطاعات المنتجة (الصناعة والزراعة) على حساب تضخم القطاعات الطفيلية، الخ؛ مثلما كان مدارُه على مسألة الحقوق السياسية والمواطنية للشعب، وعلى وجوب ترسيخ الحياة الديمقراطية والتمثيلية وتطويرها، ومقاومة تزييف إرادة الشعب، وإلغاء القوانين والظهائر التي تَحُدُّ من الحريات العامّة وحقوق الإنسان، وإنهاء حالة الاعتقال السياسي، الخ. وهو المشروع الذي وجدَ حامله السياسي (الحزبي) وحواملَه الاجتماعية الفاعلة، بمقدار ما أكْسَبَ قواه شرعيةً في بيئات اجتماعية عدة (الطبقة الوسطى، العمّال، فقراء أحزمة البؤس) ونفوذاً ملحوظاً.
لم يَبْقَ من ذلك كلِّه إلّا الأطلال، بل مجرّد ذكرى تبعث في النفس الشعور بالتحَسُّر! كأن الذي يفصل اليسار عن ماضيه القريب ليس ثلاثة عقود فحسب، بل ثلاثة قرون نهشت في تراثه ومكتسباته وأذهبَتْ ريحَه! لا نتزيَّد في ما نقول، يكفي المرءَ أن يطالع، اليوم، أدبياته و«برامجه» ليقف، بالعيان، على هوْل ما انتهت إليه أحواله: تبخَّرتِ الاشتراكية وخياراتها الاجتماعية-الاقتصادية، وأخْلَتْ مكانها لنقائضها... حتى من دون تسويغٍ نظري لهذا الانتقال الفجائعي نحو ضفاف أخرى! وانتهى عهد العلاقة بالشعب والعمل في قطاعاته لتحل محلها تقاليد المخاطبة الفوقية (في عصر وسائط الاتصال) ! واختُصِر النضال الديمقراطي في مجرّد مقاعد في البرلمان ما عاد «اليسار» يتحرَّج في استحصالها بالمال السياسي وأعيانه أسوةً بغيره من القوى! اليسار اليوم، إن جاز نَعْتُه بهذا الاسم، ذو عقيدة أخرى مختلفة: الليبرالية الاقتصادية، والليبرالية السياسية، وهو بات حزبَ «الأطر» ورجال الأعمال لا حزب الجماهير، وحزب البراغماتية السياسية المنفلتة من أيّ عِقَال! لا مجال، بعد هذا، للسؤال عن أسباب اضمحاله وأفوله وميل مؤسساته إلى الصيرورة كائنات ميكروسكوبية!
هجرة المثقفين
ما عاد يخامرنا شك، منذ زمن غيرِ يسير، في أن واحداً من أظْهرِ أسباب الفقر الرؤيوي والبرنامجي لدى اليسار والحركة التقدمية في المغرب التهميشَ المنظَّم للمثقفين فيه، وما استجَرَّهُ ذلك من انفصالٍ نكد بين الفكر والسياسة، بين النظرية والممارسة. ليس هنا مقام الحديث في التحوّلات التي كان الجسم الحزبي المغربي ميداناً لها، في العقود الثلاثة الأخيرة، والتي أفضت إلى تغيُّرٍ هائل في طبيعة القوى والنخب السياسية فيه، لكنها مناسبة للقول إن المثقفين ما عادوا يحتلون المكانة عينَها التي كانت لهم في مراكز القرار والتنفيذ في المؤسسات الحزبية لأسباب لا تعود-قطعاً - إلى عزوفهم عن السياسة وإبائهم تقلّدَ المسؤوليات الحزبية، على نحو ما يروّج مَن يعالنوهم الخصومةَ داخل الأحزاب، وإنما لأسباب أخرى ليس أقلّها أن رأسمال المال والوجاهة بات أدعى إلى الطلب في الحياة الحزبية «التقدمية» و«الوطنية»، من رأسمال الفكر والمعرفة! وإلى ذلك فإن سطوة البيروقراطية الحزبية المحترفة على تقاليد المؤسسات «اليسارية» استتبَعَتْ نوعاً آخر مختلفاً من السياسة والعمل الحزبي لا يحتفل، كبيرَ احتفال أو صغيره، بالبرنامج والرؤية قدْر احتفاله بوسائل تحصيل حصته من السلطة، حتى أن نشاط «اليسار» اقتصر، أو كاد أن يقتصر، على الانتخابات التشريعية والمحلية!
من الطبيعي أن لا يجد المثقفون مكاناً لهم في مثل هذه البيئة النابذة، فيهجروها أو - على الأقل - يقيمون معها بعض المسافة الضرورية التي تحفظ لهم استقلاليتهم كأهل رأيٍ حرٍّ ونقدي. ولقد كان يَسَع أحزابنا، حتى مع برمها بالمثقفين وعدم تحمّل أدوارهم فيها، أن يُبْقُوا على أشكالٍ من الصلة غيرِ المباشرة بهم، ولو من طريق الإفادة من المنتوج الفكري الذي ينتجونه في الشأن العام: في مسائل الدولة والسلطة، والاقتصاد والتنمية، والاجتماع الأهلي والسياسي، والمسألة الدينية والثقافية، والمسألة الاجتماعية وسواها مما يتناولونه بالدرس في عملهم الأكاديمي أو بالرأي في الدوريات اليومية والأسبوعين. غير أن شيئا من ذلك لم يحصل، من أسفٍ، على شدة حاجة المؤسسة الحزبية إليه؛ فكانت التلفيقية الفكرية والسياسية، والانتقائية البراغماتية، والعموميات اللفظية السمات الأطغى على الخطاب الحزبي «اليساري» بعد أنِ افْرَنْقَعَ المثقفون عن المؤسَّسة الحزبية مكْرَهين لا مختارين.
مع ذلك، لم تكن الهجرة الاضطرارية للمثقفين المغاربة من أحزاب اليسار وتنظيماته -المُعْلَن منها والمسكوت - هجرةً من السياسة والشأن العام أو طلاقاً؛ فالصلة بينها والسياسة ما انقطعت، ولا انقطع لديهم الرجاء والأمل في أن يروا يَسَارَهُم في أحسن حال. على ما كان يحاصر ذلك الأمل من شكوكٍ في قدرة أولي الأمر» من «قادة اليسار» على اجتراح حلول ومعالجات لظواهر بالغة البلاء كالضمور والتفتُّت. ولقد كان ذلك الحرص في أساس إقدام مجموعة من مثقفي اليسار، مستقلين ومنتمين، على صوغ وثيقة فكرية-سياسية موسَّعة حملت عنوان «بيان من أجل وحدة اليسار»، وذُيِّلَتْ بتوقيع ستة وأربعين شخصية من أَظْهَر الرموز الثقافية التقدمية في المغرب، ورام موقّعوها توفير مادة فكرية-سياسية مرجعية لعمل اليسار في المرحلة القادمة، وفتح نقاش عمومي في المسائل التي أثارتْها، وفي العناوين التي اقترحتْها مادةً لمراجعةٍ نظرية حاسمة اعتقدت أن على اليسار أن يُقْدِم عليها بجرأة في أفق إعادة بناء أوضاعه، وتوحيد تنظيماته المتذرِّرة. ومع أن الوثيقة نشِرت منذ خريف العام ٢٠١٢، في جريدة «أخبار اليوم »، وأعادت مواقع الكترونية عدة نشرها، مثلما أعادت مجلة «النهضة» نشرها في عددها الثاني الصادر حديثاً، إلا أن جهةً من ساحة اليسار لم تأبه لها، ولا حتى تهتم بأمرها صحفيّاً، وكأنها صادرة من جهة مجهولة، وكأن لدى اليسار من الوثائق والرؤى ما يغنيه عنها! لقد أحسن المثقفون الموقّعون على الوثيقة الظن بيسارهم، فتوقعوا منه أن يبادل مبادرتهم وجَهدهم بحوارٍ يفتحه في مؤسساته الداخلية، أو في صحافته، لمناقشة ما ورد فيها من أفكار وأطروحات وأسئلة. لكن ظنهم خاب؛ إذ كلٌّ في فلكٍ يسبحون، والمؤسّسة ما عادت تطيق رأياً يحاسبها على تقصيرٍ لا ترى فيه تقصيراً، وهي لا تقبل من المثقفين سوى كيْل المدائح لها (على ماذا؟!).
إن المؤسسة التي لا عقل لها لا يمكنها أن تنجب غير الفجائع؛ الفهلوةُ، و»الشعبوية»، والحَلَقية لا تبني سياسة فكيف تبني يساراً، وتهميش المثقفين وإقصاؤهم من المؤسسة قد يحرّر أفكارهم وألسنتهم من قيودها المضروبة عليهم ولكنه يُفْقِر المؤسَّسة من أهمّ مواردها ويأخذها إلى المتاهة السياسوية، ولكنّ أكثر الناس لا يَعْلمون.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.