ليس سرًّا أنّ المسألة الكردية في تركيا باتت على شفير الهاوية. لقد فشلت جميع حكومات حزب «العدالة والتنمية» في سياساتها المتعلقة بالقضية الكردية لأسباب عديدة. وحتى اللحظة، لا يزال أردوغان وحزبه يرفضان مواجهة الحقيقة المُرّة.
سبق لي أن عوّلتُ على قدرة «العدالة والتنمية» على اتخاذ خطوات إيجابية في طريق حل المشكلة الكردية. كنتُ عضوًا في مجموعة من مثقفين يساريين التقوا رئيس الحكومة اردوغان في 2005، مباشرةً قبل زيارته الشهيرة لدياربكر حيث ندّد بالسياسات الرسمية السابقة، ووعد بفتح صفحة جديدة. كنتُ من بين المتفائلين، لكنني لم أكن من بين من توقّع حصول معجزة. كان لا بدّ لمسار حلّ القضية الكردية من أن يكون طويلًا، وبحاجة إلى الكثير من الجهود. إلى جانب ذلك، كانت القضية الكردية ولا تزال جزءًا أساسيًا من التحوُّل العام نحو الديمقراطية في السياسة التركية.
رغم ذلك، بدأ الجوّ السياسي في الولاية الثانية لحكم «العدالة والتنمية» بالابتعاد عن مسار التحوُّل نحو الديمقراطية والحل السلمي للقضية الكردية. في البداية، لم يكن ممكنًا تحميل «العدالة والتنمية» وحده المسؤولية عن أشباح النظام القديم. لقد حاول الجيش التدخل في الانتخابات الرئاسية في نهاية الولاية الأولى، وقد واجه الحزب الحاكم ملفًا قضائيًا لحظره من قبل المحكمة الدستورية في بداية ولايته الثانية. كانت تلك العلامات الأخيرة لانبعاث الهيمنة العلمانية، ومحاولتها الأخيرة لعرقلة السلطة السياسية للمحافظين. لحسن الحظ، تمكن «العدالة والتنمية» من الكفاح وتخطّي التدخلات غير الديمقراطية. لسوء الحظ، جسّد انتصار «العدالة والتنمية» فجر الديمقراطية، لكن ذلك تحوّل في الواقع إلى مسار مرير للانتقام. تحوّل الأمر ليصبح انتصارًا للسياسات المدنية، لا للسياسات الديمقراطية. يمكن للسياسات المدنية أن تجنح نحو الاستبداد مثلما يمكن أن تكون ديمقراطية، وقد اختار «العدالة والتنمية» الطريق السابق لتثبيت قوته، وبعدها إحكام قبضته على السلطة. مع ذلك، اختار معظم ديمقراطيي تركيا عدم رؤية ما يجري، واستمروا في محاولة إيجاد كل أنواع الأعذار لـ«العدالة والتنمية» لتبرير عجزه الديمقراطي. لقد تمّت مسامحة «العدالة والتنمية» على فشله ما دام يقاتل السيطرة العلمانية ــ العسكرية، وهو ما ظنّ البعض أنّ من شأنه إحلال الديمقراطية أوتوماتيكيًا. في الواقع، لقد حارب «العدالة والتنمية» الهيمنة العلمانية للاستيلاء على السلطة المطلقة. إضافة إلى ذلك، لم يكن نضال «العدالة والتنمية» ضد استبداد وعسكرة الهيمنة العلمانية، بل ضدّ علمانيتها (الصارمة). الاختبار الحاسم للدمقرطة تجسّد بما يسمّى «المشكلة الكردية».
نقطة التحوُّل في السياسة الكردية لـ«العدالة والتنمية» كانت مبادرة «الانفتاح الكردي» في صيف 2009. كان التوقيت مناسبًا، إذ كان «العدالة والتنمية» قويًا لدرجة كافية لكي يقوم بخطوة جدية في طريق حلّ «المشكلة» آنذاك. أطلق «العدالة والتنمية» «مسارًا انفتاحيًا»، وبدأ بشكل واضح مسار مفاوضات مع عبد الله أوجلان ومع الجناح المسلح لحزب العمال الكردستاني لإنجاز حلٍّ. باختصار، كانت هناك مساحة كافية للتفاؤل بالنسبة إلى معظم الأكراد والديمقراطيين. وقد بدا أنني كنتُ الوحيدة (باستثناء القوميين الأتراك) التي عجزتُ عن مشاركة هذا التفاؤل، وللأسف أضحت كوابيسي حقيقةً. كنتُ متشكّكة منذ البداية في «الانفتاح»، ليس لأنني كنتُ أعتقد أنّ اردوغان شخص منافق. على العكس من ذلك، لطالما ظننتُ أن اردوغان مصمِّم للغاية وصادق في ما يتعلق بحل «المسألة الكردية». المشكلة كانت في فهم اردوغان للمسألة الكردية ولحلِّها. لقد توقّع اردوغان من الأكراد والأتراك ببساطة أن يتكيّفوا مع سياساته.
في الواقع، لم يكن اردوغان وحده الذي حدّد السياسات الكردية لـ«العدالة والتنمية»، بل حدّدتها الخلفية السياسية التي يتحدر منها اردوغان وحزبه. يُعرَف عن «العدالة والتنمية» جذوره الاسلامية السياسية، علمًا ان الاسلام السياسي التركي كان دائمًا قوميًا بشكل استثنائي. وحتى إن ظلّ الاسلام السياسي التركي متميزًا عن القوميين المتطرّفين من ناحية عدم التمركُز العلني حول القومية التركية، إلا أن هذه القومية أدّت دورًا مهمًا في تشكيل عقل الاسلاميين الأتراك. بالنسبة إلى الاسلاميين، المرجعية كانت «الامبراطورية العثمانية» بدلًا من «العرق التركي» المعتمدة بالنسبة إلى القوميين المتطرفين. مع ذلك، فإنّ الامبراطورية العثمانية كانت امبراطورية تركية، والاسلاميون لم يفكروا بشكل آخر بتاتًا. إشارتهم إلى مرجعية التاريخ العثماني كجنّة متعددة الاثنيات والأديان لم تعنِ يومًا إحالة إلى مرجعية تعايش متواضع. على العكس من ذلك، غالبًا ما يعني ذلك إشارة إلى كرم أخلاق وتسامُح الحكام الأتراك الذين لم يكتفوا بـ«إنقاذ الاسلام وإعطائه المجد» فحسب، بل أيضًا حكموا بلادًا شاسعة بإتقان وبعدل. كان أحفاد الاسلاميين حريصين دائمًا على تكرار التجربة (مثلما عبّرت عن نفسها أيضًا في السياسة الخارجية الأخيرة لحكومة حزب العدالة والتنمية). لقد ظنّ الاسلاميون السابقون، الديمقراطيون المحافظون الجدُد، أن المشكلة مع الأكراد تتمحور خصوصًا حول أوجه قصور النظام الجمهوري. لقد اعتقدوا أنّ السياسات العلمانية للدولة ــ الأمّة هي ما همّشت الأكراد المتديّنين غالبًا. لذلك، ظنّوا أنه، في حال تمّ تعزيز الأخوّة الدينية بالتوازي مع سياسات التعدد الثقافي، فستختفي المشكلة بكل بساطة. في الواقع، النقطة الوحيدة الجديدة التي حملتها السياسات الكردية لـ«العدالة والتنمية»، هي أنها حاولت الدمج بين مقاربة تتعلق بحقوق الإنسان وهذه العقلية المحافظة القديمة.
في الواقع، حتى لو كان فهم «العدالة والتنمية» في ما يتعلق بحقوق الانسان لا يخلو من عيب، فهذه السياسة تمتلك حظوظًا متواضعة للنجاح. كان الأوان قد فات بالنسبة إلى الأكراد الذين كان يتوقع «العدالة والتنمية» منهم أن يحصروا مطالبهم بـ«ضمان حقوقهم في إطار الحقوق الفردية». لقد تشكلت المعارضة الكردية حول فكرة الاستقلال، وتحوّلت إلى مفاهيم الحقوق الجماعية ونوع من «الوضعية السياسية» عندما تمّ التخلي عن النضال من أجل الاستقلال. لهذه الأسباب، كان المعروض عليهم ضئيلًا جدًا. رغم ذلك، لم يكن مسار الانفتاح قادرًا على أن يتخطّى حدود مناقشة واكتشاف الاختلافات بين التوقعات الكردية والعروض الحكومية. لقد بدا واضحًا منذ البداية أن الحكومة لم تكن تمتلك برنامجًا واضحًا ما خلا بضع خطوات استعراضية كافتتاح فرع كردي في «التلفزيون الرسمي» TRT6.
الخطوة الأكثر جرأةً كانت تنظيم مجيء مجموعة من المقاتلين الأكراد كـ«موفدي سلام» إلى تركيا. مع ذلك، تحوّل عبورهم الحدود إلى فضيحة، وهو ما أنهى المسار الطموح لـ«الانفتاح الكردي». لقد استقبل «موفدي السلام» آلافُ الأشخاص على معبر «الخابور» الحدودي، وذلك بفرح واحتفالات وحماسة استثنائية مع موكب رافقهم في رحلتهم إلى دياربكر. لم تفوّت المعارضة القومية فرصة اتهام «العدالة والتنمية» باللعب في أيدي هؤلاء الذين يريدون تقسيم تركيا. في الواقع، لم تكن المعارضة وحدها مَن قام بردة فعل سلبية إزاء ما حصل، بل إنّ الكتلة الناخبة لـ«العدالة والتنمية» قامت بذلك أيضًا. باختصار، بعد ما يُسمّى «حادثة الخابور»، بدأ اردوغان ووزير الداخلية بشير أتالاي، الذي كان مكلَّفًا مسؤولية «سياسة الانفتاح» بتغيير الوجهة السياسية. أولًا، تمّت إعادة تعريف المسار على اعتبار أنه «وحدة وطنية وأخوّة» عوض أن يكون انفتاحًا كرديًا. بعدها، تمّ تحميل المعارضة الكردية مسؤولية فشل المسار من خلال اتهامها باستفزاز «الرأي العام التركي» عمدًا عن طريق الاحتفال بالمقاتلين العائدين إلى ديارهم.
في الحقيقة، الحكومة هي من فشلت في تحضير الرأي العام للمصالحة. إضافة إلى ذلك، مثّلت المحاكمات التي أٌنشئت على الحدود، حرجًا إضافيًا بما أنه لم يتم تحضير أي إطار مسبق للعمل. طُلب من المقاتلين العائدين الالتزام بقانون «الندم» لمسامحتهم، لكن هؤلاء رفضوا ذلك وأعلنوا أنهم عادوا بموجب أوامر زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان بوصفهم موفدي سلام، وتمّ حل المشكلة ببيانات غامضة. على ما يبدو، ظنت الحكومة أن المسار يشكل علامة حسن نية لإقناع الأكراد بترك باقي أجزاء المسار بين أيديها ونيّتها الحسنة. هكذا انتهى مسار الانفتاح بنحو فجائي أو غيّر مجرى التطورات بالنسبة إلى الحكومة.
لم تعترف الحكومة بتاتًًا بأن الفشل كان سببه سوء إدارتها للمسار، وألقت بكل لومها على المعارضة الكردية، بينما كان الوضع بالنسبة إلى المعارضة الكردية عبارة عن خيبة كبيرة. رغم واقع أن الجميع عَلِم أو توقّع بأن المفاوضات مع أوجلان وحزبه «العمال الكردستاني» لم تُلغَ وأنها استمرت بعيدًا عن الأضواء، بدأ الجو السياسي بالتدهور منذ انتهى مفعول «الانفتاح الكردي»، وذلك بعد وقت قصير من إطلاق هذه المبادرة. من جهة، بدأت المعارضة الكردية بالتركيز على سياسات «الحكم الذاتي الديمقراطي» مثلما تسمّيها للتعريف بهدفها السياسي. ومن جهة أخرى، لم تعد الحكومة مهتمّة بمواصلة التفاوض مع المعارضة الكردية فحسب، بل أيضًا فقدت اهتمامها بالالتزام بأيّ مسار تفاوضي حواري. كانت الحملة الانتخابية للحزب الحاكم في الانتخابات الأخيرة (12 حزيران 2011) شديدة القومية ومعادية إزاء المعارضة الكردية. وحتى لو اعتقد معظم الديمقراطيين بأنّ ذلك كان مجرّد حملة انتخابية شعبوية، وأنّ حقبة جديدة من الحوار قد تُفتَح بعدها، إلا أنه سرعان ما اتضح أن اردوغان وحزبه كانوا يعنون ما يقولونه في اللقاءات الانتخابية.
طرأت الأزمة مباشرةً بعد الانتخابات، عندما قرّر مجلس القضاء الأعلى تجريد بعض النواب المنتخبين حديثًا من نيابتهم. معظم هؤلاء النواب كانوا من المعارضة الكردية (حزب السلام والديمقراطية). نُظر إلى هذا القرار على أنه قرار سياسي أكثر مما هو قضائي، بدليل أن الحكومة بدت سعيدة بالقرار. تُوِّجَت الأزمة في ما بعد بتصميم الحكومة في ما يتعلق باستبعاد التواصل مع المعارضة الكردية كمحاوِر. وقد تمّ التعاطي مع الأحداث التراجيدية في «سيلفان» في ما بعد، حيث قُتل 24 جنديًا تركيًا على يد «العمال الكردستاني» في «نقطة تحوُّل» لتفسير السياسات الحكومية المتشددة. إلا أن كل ذلك سبقته أحداث كالأزمة التي تلت الانتخابات، وقرار أوجلان التخلّي عن دوره وسيطًا.
مرّ عام تقريبًا وكل شيء يسير من سيئ إلى أسوأ يوميًا. لقد أظهرت الحكومة تصميمها على القضاء على المعارضة الكردية عند كل جبهة. من جهة، فُرضَت العزلة على أوجلان ورفضت الجهات الرسمية جميع طلبات محاميه للقائه، كما أنّ وتيرة العمليات العسكرية للجيش ارتفعت داخل تركيا وفي شمال العراق. من جهة أخرى، بدأت موجة اعتقال الآلاف من ساسة حزب «السلام والديمقراطية» بتهم الارتباط بـ«اتحاد المنظمات الكردية» (KCK) المحظور.
إلى أن أتت اللحظة المأساوية مع «حادثة أولو ديري» عندما قُتل 34 مدنيًا كرديًا بقصف جوي على الحدود العراقية ــ التركية. كان هؤلاء مهرِّبين قُتلوا بـ«حادث» نتج من معلومات خاطئة. في البداية، تردّدت وسائل الاعلام التركية في بثّ الأنباء، لكنها لم تتمكن من إخفاء ما حصل. عندها، فشلت الحكومة في إنكار ما حدث، وفي نهاية المطاف، تمّ الإعلان عنه على أنّه حادثة مع رفض الحكومة الاعتذار. ومنذ ذلك الحين، أصبحت هذه الحادثة نقطة تحوُّل بالنسبة إلى السياسات الحكومية، ومع الوقت، شعر الأكراد بالاستفزاز من سلوك الحكومة، وحتى الداعمون الديمقراطيون لها بدأوا يصبحون نقديين جدًا إزاءها. وأخيرًا، أعلن وزير الداخلية سيّئ الذكر، إدريس نعيم شاهين، أنه ليس هناك شيء للاعتذار عنه، وأشار إلى أن هؤلاء الذين قُتلوا هم مجرمون وكان سيعتقلون لو لم يُقتلوا. للحظة، لم يكن متوقَّعًا أن يدعم اردوغان وزيره، غير أنه خذل التوقعات ودعم ما قاله شاهين. وقد هنّأ زعيم الحزب القومي (الحركة القومية التركية) دولت بهشلي الوزير شاهين، وبدأت التوقعات تتحدث عن تحالف قومي ــ محافِظ محتمَل لتمرير الدستور الجديد.
في الواقع، وقبل وقت طويل من السجال الأخير، اتّبع اردوغان و«العدالة والتنمية» سياسات قومية وعسكرية لم تختلف عن تلك المتبعة في الأيام السوداء لأعوام التسعينيات. إلى جانب ذلك، كانت تركيا تبتعد عن السياسات الديمقراطية كثيرًا إلى حدّ يؤثر في النهاية على السياسات الكردية. قبل أي شيء آخر، كان للنجاحات الأولى ثم لمسلسل الفشل في السياسات الخارجية الحكومية، تأثير على السياسات الكردية لأنقرة.
في البداية، كان اردوغان وحزبه واثقين أكثر من اللزوم بشعبيتهم وبدورهم المهم في السياسات الاقليمية، إلى حدّ مبالَغ به جعلهم يقللون من أهمية التأثير المستقبلي المحتمَل للمسألة الكردية على السياسات التركية الاقليمية. ظنّ البعض أن تركيا ستُعطى حرية الحركة لسحق «أعدائها الداخليين» بما أنها حليف مهم للولايات المتحدة، ولكونها تتمتع بأصدقاء أقوياء في العالم العربي.
عندها، اعتقد البعض أن الأزمة في سورية هي فرصة للسيطرة على أكراد سورية. في البداية، لم تكن تركيا متحمّسة للتدخُّل في الشؤون السورية الداخلية، لكن في ما بعد، ولحظة قرّرت الحكومة الانخراط بعمق في سياسات تغيير النظام في سورية، أراد حزب «العدالة والتنمية» تشكيل المعارضة السورية وفق مصالحه، والتأكد من عرقلة أي مشروع للحكم الذاتي للأكراد في سورية الجديدة. لا يزال اردوغان حتى اليوم يكره الاعتراف بمحدودية الدور التركي في المنطقة، وبتعقيدات القضية الكردية بالنسبة إلى السياسات الاقليمية. يضغط «العدالة والتنمية» على حلفائه للتأقلم مع الموقف التركي حيال المسألة الكردية، ويتوقّع أن ينال دعمًا أميركيًا غير مشروط، ويطالب الزعماء العراقيين في شمال البلاد بأن يتصرفوا كخدم لتركيا، لكن كل ذلك ظلّ من دون جدوى. لهذه الأسباب انتفض اردوغان و«العدالة والتنمية» عمومًا بعد نشر التقارير الاستخبارية الأميركية المسرّبة حول حادثة «أولو ديري». وضع هذا التسريب اردوغان في وضع بالغ الصعوبة، وأطلق سجالًا جديدًا محتدمًا حول «أولو ديري». وردًا على ذلك، أصبحت السياسات الحكومية حيال الأزمة الكردية أكثر عدوانية بدل أن تهدأ في ضوء ارتفاع حدّة التوتر السياسي والتطورات الأخيرة في المنطقة.
في النهاية، تبدو تركيا عاجزة عن التعامل مع «أزمتها الكردية» ما دامت جميع حكوماتها مصرّة على رفض مواجهة الحقيقة. بدل ذلك، يفضل حكام أنقرة أن يوهموا أنفسهم بأن المشكلة هي «مشكلة إرهاب»، وأن مصدرها حفنة من المتشددين، وأن المعارضة الكردية لا تمثّل جميع الأكراد، وأن الأكراد سيكونون سعيدين بالسياسات الحكومية الخيرية. لقد لجأت الدولة التركية إلى جميع أصناف سياسات القضاء على المعارضة الكردية منذ ولادة النظام الجمهوري. ثمّ حاولت جميع الحكومات التركية استعمال كل الوسائل والطرق، من الترويج لـ«الأكراد الجيدين في مواجهة الأكراد السيئين» وصولًا إلى تعزيز التعصب الديني ضد المعارضة الكردية العلمانية. فشلت كل هذه السياسات، لكن رغم ذلك، لا شيء قادرًا على إقناع الدولة التركية وحكوماتها بالتفاوُض مع الأكراد بعدل. قد يكون حكم «العدالة والتنمية»، أو ما يسمى «تركيا الجديدة»، مختلفًا جدًا عن الوجه السابق لتركيا في عدة نواحٍ، لكنه ليس كذلك في ما يتعلق بالمقاربة العسكرية والقومية إزاء الأكراد.
صحيح أنّ النظام الجمهوري نجح في استيعاب أطياف كبيرة من الأكراد، وأن المعارضة الكردية العلمانية لطالما تجنّبها الطرف المحافظ من المجتمع الكردي. إلا أنّ شرائح واسعة من الأكراد منجذبون حول الهوية الوطنية، بعدما عانوا طويلًا، والأكراد اليوم شديدو التسييس. رغم واقع أن حزب السلام والديمقراطية يأتي من خلفية سياسية يسارية علمانية، فإنّه يحصد المزيد من أصوات الأكراد في جنوب شرق تركيا، وأكثر بكثير مما هو متوقَّع من أناس محافظين للغاية. فضلًا عن ذلك، لا تنال أية حركة وطنية الدعم الكامل من المجتمع الذي تتكلم باسمه. حالة باكستان عيّنة من بين حالات عدة حيث المنظمة الإسلامية لم تمثل جميع الهنود المسلمين، لكن فكرة إنشاء باكستان تحقّقت ولم يتمكن حتى زعيم عظيم كالمهاتما غاندي من إيقافها. أكثر من ذلك، فإن اردوغان ليس غاندي. إذا كانت تركيا تسعى إلى حل سلمي ووسيلة للتعايش مع مواطنيها الأكراد، فسيكون ذلك ممكنًا فقط عبر أخذ المعارضة الكردية بالاعتبار جديًا، بدل الطلب منها الاستسلام.
في النهاية، ليست الأزمة الكردية مشكلة الحكومة الحالية، بل مشكلة جميع من يعيشون في تركيا. قد يكون صعبًا على جميع الأحزاب التركية والرأي العام التركي أن يهضموا الحقائق الجليّة المتعلقة بالأكراد، لكن الكثير من الأكراد ينظرون إلى أوجلان كمخلِّص وطني، ويرون في الكفاح المسلح («العمّال الكردستاني») ضمانة وحيدة لوجودهم وكرامتهم. في ظل هذه الظروف، من غير الواقعي، وبالتالي من غير المجدي، توجيه النداءات إلى حزب «السلام والديمقراطية» للابتعاد عن أوجلان وعن النضال المسلَّح. سيخسر «السلام والديمقراطية» شرعيته إن فعل ذلك ما دام ناخبوه يدعمونه على اعتبار أنه الممثل الديمقراطي عن المعارضة الكردية. في النهاية، ستحتاج تركيا إلى إيجاد طريقة لبدء مفاوضات مع جميع الفاعلين السياسيين في المعارضة الكردية، عاجلا أو آجلا، وذلك لإنقاذ حيوات الشباب من كلا الطرفين.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.