في كتابه الصادر في ١٨٥٨، المعنون «اليونان المعاصرة»، يتحدث المؤرخ الفرنسي ريموند أبو، في ما يتناوله، عن الاقتصاد اليوناني والمالية العامة السيئة جدًا. يقول أبو: «اليونان هي المثال الوحيد المعروف عن بلد في حالة افلاس دائم منذ يوم انشائه... كل الموازنات خاسرة... الحكومات أنفقت كل الموارد من دون اي نتيجة تذكر للبلاد...».
لم يكن أبو يبالغ. إذ شهدت اليونان أزمات ناتجة من القروض في ١٨٢٦، و١٨٤٣، و١٨٦٠، و١٨٩٣. أربع أزمات مالية في اقل من قرن، وكرّت السبحة في القرن التالي، لكن الأزمات السياسية لم تترك لأحد المجال للتفكير في الوضع الاقتصادي. وإذا اردنا ألا نتناول القرن التاسع عشر، يكفي ان نعرف انّ الملكية ألغيت واعيدت في القرن العشرين، اربع مرات، في غضون خمسين سنة فقط. وبعد آخر إلغاء للملكية، في ١٩٧٣، حصل انقلاب ديميتريوس ايونيديس في اثينا، الذي تلاه انقلاب قبرص المدعوم يونانيًا، وتقسيمها، وعودة الوضع المتوتر مع تركيا.
حين اتخذ قرار الانضمام الى الاتحاد الاوروبي في ١٩٨٠ (او ما كان يعرف وقتها بالمجموعة الأوروبية)، كان مشروع الاتحاد لا يزال في بداياته، من دون تصوّر واضح، وانشغل اليونانيون بالصراع الدائم مع تركيا، واضيف اليه توتر مع مقدونيا المستقلة حديثًا في بداية التسعينيات (التوتر لا يزال قائمًا، وأدّى الى تصويت أثينا بـ«لا» على دخول سكوبي الاتحاد الاوروبي في ٢٠٠٨. ويعترض اليونانيون على اسم الدولة مقدونيا، الذي يرون أنّه يحيل الى التاريخ اليوناني ويعني طمعًا في محافظة مقدونيا اليونانية).
في نهاية التسعينيات، اصبح الاتحاد الاوروبي واقعًا بالنسبة إلى أثينا مع اقتراب العد العكسي للدخول في «منطقة اليورو»، وما يعنيه ذلك من التخلي عن عمله وطنية عمرها حوالي ١٧٠. وبالفعل، في الأول من كانون الثاني ٢٠٠١، تم التخلي عن الدراخما المعتمدة منذ ١٨٣٢، وبات اليونانيون يستطيعون ان يعيشوا نعيم العملة الموحدة.
كان ذلك التاريخ هو بداية المتاعب اليونانية، الداخلية والخارجية المالية تحديدًا، اذ على المستوى السياسي والدبلوماسي شهدت تلك الفترة تحسنًا كبيرًا خصوصًا في العلاقة مع تركيا، وأُنهي عدد كبير من الملفات العالقة بين الطرفين، ولم يبقَ سوى مسألة الجزر المتنازع عليها في بحر ايجه، وممتلكات الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية في تركيا.
لم يكتشف اليونانيون أنّهم «لا يستحقون» الدخول في منطقة اليورو إلّا بعد سنوات عدة على حصول ذلك، عندما ظهرت الى السطح كل عمليات الفساد والكذب التي قامت بها الحكومات المتعاقبة منذ منتصف التسعينيات لاقناع دول الاتحاد أنّ معاييرهم تنطبق على اليونان.
لكن لنعد الى بداية الانضمام للمجموعة الاوروبية. مباشرة بعد توقيع المعاهدة في ١٩٧٩، نجح الحزب الاشتراكي «باسوك» في الانتخابات التشريعية ليتسلم السلطة، وهو الذي كان قد بنى حملته الانتخابية على رفض الانضمام الى المجموعة، وبرنامج الحزب الاجتماعي آنذاك لم يكن يناسب «منظمة التعاون الاوروبية». لم تبقَ الأمور عند هذا الحد، كان النقاش في البلاد يقوم على كيفية المواءمة بين الهوية السياسية والاقتصادية والثقافية للدولة باعتبارها اوروبية غربية، وموقعها وتقاليدها كدولة اوروبية شرقية. يحيل بعض الباحثين اليونانيين السبب في ذلك الانقسام إلى أنّ الدوافع وراء الانضمام الى المجموعة كانت سياسية لا اقتصادية، فقد اعتبرت القيادة السياسة التي تسلمت زمام البلاد بعد ١٩٧٤ أنّه لا يمكن الحفاظ على الديمقراطية البرلمانية الوليدة من دون دعم اوروبي (يمكن مراجعة أبحاث الاستاذ في جامعة أثينا مايكل تسينيسيزيليس في هذا المجال).
حين ورث الاشتراكيون الدولة، بدأت المشاكل مع المجموعة الاوروبية، لكن بحلول ١٩٨٦، اندمج هؤلاء في المجموعة وتوّج ذلك بتوقيعهم على «المعاهدة الاوروبية الوحيدة» SEA، وهي مراجعة لاتفاقية روما المؤسِّسة للاتحاد، ويعدّها بعض الاقتصاديين المشروع الأكثر ليبرالية في تاريخ الاتحاد الأوروبي. وبحلول ١٩٨٩ وانهيار المعسكر الشرقي، كان الحزب الاشتراكي قد عدّل الكثير من القوانين الداخلية اليونانية لتتناسب مع الاتحاد الاوروبي، وتخلّى عن كل خطاباته الاشتراكية المعادية للامبريالية التي لم تظهر سوى مع مقدونيا وتقسيم يوغوسلافيا وحرب الخليج، واختفت تمامًا من اي نقاش اقتصادي او اجتماعي. هكذا إذًا دُجنت السياسة اليونانية لتصبح بيد اليمين الأوروبي ويسار الوسط الأوروبي الذي كان يريد الوصول الى الاتحاد والعملة الموحدة بأي طريق ممكنة، ولو على حساب الخصوصيات الوطنية.
خسر الاشتراكيون انتخابات ١٩٩٠، وعادوا الى الحكم في ١٩٩٤، وبدأوا يُعدّون البلاد للدخول في منطقة اليورو والعملة الموحدة.
في الأول من كانون الثاني ٢٠٠١، حين دخلت اليونان «منطقة اليورو» بعد سنتين على انشائها، اعتبرت الحكومة الاشتراكية الحدث «تاريخيًا»، سينقل اليونان الى قلب اوروبا، وحاولت اقناع الناس انّ ذلك سيؤدي الى البحبوحة الاقتصادية والازدهار. لم يعرف اليونانيون ما فعلته الحكومة الاشتراكية من غش قبل عام ٢٠٠٠ للدخول في اليورو، الا بعد خروجها من الحكم في ٢٠٠٤. فبعد ٨ اشهر على خسارة جورج باباندريو الانتخابات، كشف النقاب عن فضيحة التلاعب بأرقام الموازنات منذ ١٩٩٨، وجعل عجز الموازنة تحت الثلاثة في المئة المسموح بها أوروبيًا. تلاعب استمر حتى ٢٠٠٤، موعد اقامة الالعاب الاولمبية، التي ساهمت في القضاء سريعًا على مالية الدولة. ومع ٧ مليارات ديون من هذه الالعاب وحدها، بدأت حكومة «نيا ديموكراتيا» (حزب اليمين)، اليمينية التي نجحت في انتخابات ربيع ٢٠٠٤ التشريعية، بتطبيق اجراءات تقشف في آذار ٢٠٠٥، فرُفعَت الضرائب على التبغ والكحول، والضريبة على القيمة المضافة الى ١٩ في المئة. اي رُفعت الضرائب التي تطال المواطنين الفقراء ومن الطبقة المتوسطة مباشرة، ولا تمس بالاغنياء. لم توافق النقابات على تلك الاجراءات، وبدأت الاعتصامات والاضرابات والتظاهرات التحذيرية بداية، لدفع الحكومة إلى التراجع عن قراراتها. لكن القرارات والقوانين التي تراعي اوروبا اولًا توالت مع البرلمان والحكومة واستمرت معها التظاهرات المنددة بإنهاء التعاقد مدى الحياة في القطاع العام. ولم تهدأ التظاهرات منذ ذلك الوقت، اذ لم تتوقف الحكومات المتعاقبة عن جعل الحياة اصعب على اليونانيين العاديين. نزل اليونانيون الى الشارع بشكل متكرر، واتخذت الامور منحى عنفيًا في احيان عدةّ، فاستطاع المتظاهرون الوصول الى مبنى البرلمان واشعال حريق صغير فيه، العام الماضي. وشهدت المصارف والشركات المالية تكسير واجهاتها، من قبل المتظاهرين المعارضين للرأسمالية.
الدخول في منطقة اليورو عنى بداية المتاعب المالية الداخلية والخارجية لأثينا، مقابل تحسن كبير في العلاقات الدبلوماسية مع العدو التاريخي تركيا.
وبالطبع، تأثرت اليونان كغيرها من دول اوروبا، وربما أكثر، بالأزمة المالية العالمية (أيلول ٢٠٠٨)، وكان وقعها أشد عليها لأنها كانت تعاني منذ سنوات من صعوبات مالية داخلية وخارجية. مع عودة «باسوك» (الاشتراكيين) الى الحكم في ٢٠٠٩، كان الدين العام قد ارتفع من ١٦٨ مليار يورو الى ٢٦٢ مليارًا في اربع سنوات فقط. وانتخب جورج باباندريو على اساس خفض الدين العام. لكن الوضع اصبح اسوأ، وزادت مديونية الدولة للقطاع الخاص اليوناني والمصارف الاوروبية، ليضطر الى الاستقالة في نهاية ٢٠١١، فخلفه نائب رئيس المصرف المركزي لوكاس باباديموس، الذي اشرفت حكومته على انتخابات تشريعية مرتين في شهرين، في ايار وحزيران ٢٠١٢.
الانضمام الى اوروبا أساس المشكلة
خلال سنواتها الثلاثين بصفتها عضوًا في الاتحاد الاوروبي، عانت اليونان من الأمرّين: معاملة باقي الدول لها كدولة عالمثالثية، والإغداق عليها دومًا بالنصائح الأبوية التي تدّعي معرفة مصلحة البلاد اكثر من سكانها؛ وتراجع في مستوى النشاط الاقتصادي الداخلي. فقد فعلت السياسات النيوليبرالية للاتحاد فعلها وساهمت بإيصال اليونان الى ما هي عليه اليوم، إذ إن رفع الرسوم الجمركية عن بضائع الاتحاد داخله، وإلغاء بعض السياسات الحمائية لقطاعات اقتصادية معينة، ادّيا الى تراجع عدد المصانع والمحترفات الصغيرة، لصالح البضائع المستوردة الأرخص ثمنًا، من ألمانيا وفرنسا. ورغم المليارات التي اغدقت على اثينا في هذه الفترة، لتحسين الوضع الاقتصادي والتنافسية والاندماج كليًا في الاتحاد، إلا ان الوضع لم يتحسن. فقد عمدت الحكومات اليونانية المتعاقبة، واغلبها اشتراكية، الى تحويل هذه المساعدات الى القطاعات التي تخدمها انتخابيًا، عبر عقود باهظة الثمن مع شركات خاصة، لبناء مجمعات سكنية او حكومية (حدث ذلك خصوصًا في الفترة قبل ٢٠٠٤ خلال بناء المنشآت الأولمبية). وتم توظيف عشرات الآلاف من المحازبين في تلك الفترة في الادارات العامة او المؤسسات ذات المنفعة العامة، من دون اي حاجة لهم. وكلما اتى استحقاق دين جديد (من تلك المساعدات) كانت الحكومات تلجأ الى القطاع الخاص للاستدانة على سندات خزينة، كي تدفع فوائد القروض الاوروبية، وهكذا دواليك. ولم يستفد فعليًا من التقديمات التي تمنحها العضوية في الاتحاد الا الاغنياء الذين يملكون الاراضي الشاسعة، إذ استغلوا الاعفاءات الضريبية لشراء سيارات مسجلة على انّها خاصة للزراعة. واستعملت الحكومات ايضًا الكثير من الاموال للتسليح للتماشي مع متطلبات العضوية في حلف شمالي الاطلسي.
حزَم الإنقاذ عمقت الأزمة
اموال الاتحاد المقدمة لم تكن كلها هبات، بل مساعدات في معظم الاحيان على شكل قروض من مصارف الاتحاد، اضيفت الى القروض التي لجأت إليها الحكومات منذ ٢٠٠٠ داخليًا، لخفض عجز موازنتها وتأمين ما يكفي للألعاب الأولمبية، ودفع رواتب موظفي القطاع العام. ولجأت الحكومة الاشتراكية في ٢٠٠٢، بعد عام على دخولها اليورو الى مصرف «غولدمان ساكس» الذي مولها بقيمة مليار يورو، مقابل ١٠ مليارات يورو من القروض.
ولم تصبح الأزمة واقعًا بنظر اوروبا والسلطة اليونانية الحاكمة إلا في ٢٠٠٩، حين لم يعد بإمكان الحكومة في اثينا اخفاء عجز في الموازنة سيبلغ ١٢.٩ في المئة (أربع مرات العجز المسموح به اوروبيًا، اي ٣ في المئة). في العام التالي، بدأ تطبيق اجراءات التقشف، وحذرت الحكومة من امكانية تخلفها عن سداد ديونها التي تراكمت منذ الدخول الى الاتحاد، فضخّ الاتحاد وصندوق النقد الدولي ١١٠ مليارات يورو، لكن لم ينته العام الا وكانت الديون قد اصبحت تتخطى ٥٨٣ مليار يورو، ٢٠٦ مليارات منها للقطاع الخاص، من مصارف ومؤسسات مالية، مما أدى الى حزمة انقاذ جديدة في آذار ٢٠١٢، سيكون ثمنها، حين تصل، المزيد من التقشف لتطبقه الحكومة الجديدة (نيا ديموكراتيا، باسوك، اليسار الديموقراطي) بكل امتنان، مع ما يعنيه ذلك من خفض للانفاق الحكومي وزيادة للضرائب وموجات الصرف الجماعي.
ويمكن القول بأنّ «المساعدات» المتكررة التي يقدمها الاتحاد ساهمت بتعميق الأزمة، إذ كانت نسبة الدين العام الى الناتج المحلي في ٢٠٠٩ (مع بدء ضخ حزم المساعدات) ١٢٩ في المئة، ووصلت اليوم الى ١٧٠ في المئة، ويتوقع ان تصبح ١٩٨ في المئة، في نهاية العام الجاري. واذا راجعنا ارقام مديرية الاحصاءات في الاتحاد الاوروبي، «يوروستات»، نجد انّ هذه النسبة كانت ٩٤ في المئة منذ عشرة سنوات، اي انها تضاعفت تقريبًا، فقد اقرضت اليونان ١١٠ مليارات يورو في الحزمة الأولى، في ايار ٢٠١٠، وفي الثانية ١٠٠ مليار يورو، من جانب الاتحاد الاوروبي وصندوق النقد الدولي، الى جانب ٣٧ مليار يورو من قبل المصارف الاوروبية الخاصة وشركات التأمين، تدفع في ٢٠١٤.
الأرقام تتكلم
كيف تُرجم ذلك في الأرقام؟ يمكننا ان نرى كيف تغيّرت حياة اليونانيين والوضع الاقتصادي منذ اعتماد العملة الموحدة، عبر متابعة التغيير الحاصل على مؤشرات الفقر والبطالة. عشية الدخول الى منطقة اليورو كانت نسبة البطالة في اليونان ١٠.٥ في المئة، وهي نسبة مقبولة نظرًا الى أنّ الدولة لم تكن يومًا في مصاف الدول الصناعية الكبرى. في آذار ٢٠١٢، وصلت نسبة البطالة الى ٢١.٩ في المئة، أي حوالي ضعف النسبة قبل ١١ سنة. وهي زادت ٤ في المئة في سنة واحدة فقط، ومن المتوقع ان تصل الى ٢٥ في المئة قبل نهاية العام الجاري (يمكن مراجعة موقع يوروستات للمزيد من الارقام، http://epp.eurostat.ec.europa.eu) غير أن بعض المحللين والباحثين يقولون إنّ الرقم الحقيقي هو ما بين ٢٥ و٣٠ في المئة، لكن لا رغبة لدى احد بالإفصاح عنه، وخلق بلبلة شعبية اضافية. ويعود ذلك الى اضطرار العديد من المصانع والمعامل للإغلاق بعد رفع الحماية عن بعض الصناعات الوطنية، والقطاعات الاقتصادية، فقد اجبرت القوانين الاوروبية ايضًا اليونان، وغيرها، على شراء مواد اولية معينة من دول الاتحاد دون غيرها، واسعارها مرتفعة اكثر من المصادر السابقة مثل الدول العربية، او دول جنوب شرق آسيا، مما ادى الى اغلاق بعض المصانع. الامر نفسه ينطبق على مستوى الفقر، الذي وصل إلى ٢٠ في المئة في ٢٠٠٩. وتشير بعض مراكز الأبحاث المستقلة إلى أنّ الرقم يتخطى ذلك بكثير منذ بداية ٢٠١٢، وأنّ الدولة لا ترغب بنشر الارقام الحقيقية. حتى أنّ مؤسسة الاحصاءات اليونانية الرسمية، لا تنشر على موقعها الإلكتروني اي نسب عن الفقر، بل فقط عن مداخيل العائلات. كذلك ارتفعت نسبة الانتحار بين العاطلين من العمل أو المفلسين، وهي ظاهرة غير منتشرة عادة بين اليونانيين. ويذكر متابعو الشأن اليوناني النقل الحي لبعض القنوات لمحاولة انتحار ثنائي فقد عمله، عبر القفز من شرفة المكتب حيث كانا يعملان، قبل ان يقتنعا بالعودة عن قرارهما. عمومًا، انكمش الاقتصاد اليوناني منذ بدء اجراءات التقشف الذي فرضته اوروبا على اثينا بنسبة ٢٠ في المئة، وهي نسبة هائلة لا بل مخيفة.
هل العودة الى الدراخما تنقذ أثينا؟
منذ بداية التحركات الشعبية المعترضة على السياسات التقشفية للحكومة، ولاحقًا على حزم الانقاذ المتتالية من قبل الاتحاد الاوروبي وصندوق النقد الدولي، بدأنا نسمع اصواتًا تنادي بالتخلي عن منطقة اليورو والخروج منها من غير رجعة، للعودة الى النظام النقدي والاقتصادي والمالي القديم. لكن الامر لم يعد يقتصر على المتظاهرين، بل اصبح عدد من الاقتصاديين يتحدثون علنًا عن أنّ لا حل سوى بالخروج من اليورو، وذلك رغم الإرهاب الفكري الذي تمارسه مراكز الأبحاث المشهورة والصحف والمجلات التي لا تتحدث سوى عن خراب اوروبا واليونان إذا قررت هذه الاخيرة التخلي عن عضويتها في الاتحاد. وإلى جانب الاقتصاديين اليونانيين الذين يطالبون بخروج مشرِّف قبل الإفلاس (كوستاس لابافيتساس، مثلًا)، لا يتردّد إدوارد بريسكوت (نوبل للاقتصاد في ٢٠٠٤)، ونورييل روبيني (توقع الأزمة المالية في ٢٠٠٥)، وهاورد فالدستيان (جامعة هارفرد، مستشار سابق لرونالد ريغان) في طرح الموضوع نفسه.
الحل امام اليونان قد يكون خفض قيمة عملتها كي تعيد تنشيط الاقتصاد، وبما انها لا تستطيع ذلك ما دامت تستخدم اليورو الذي لا سلطة لها على قيمته، المسألة تكون بالعودة الى الدراخما. حينها، يمكن تحفيز النمو والتوظيف في البلاد بعد خفض قيمة العملة الوطنية.
لا حل غير ذلك إلا المزيد من اجراءات التقشف التي قد تشعل ثورة شعبية حقيقية فيما يتجرأ البعض على الكلام عن إعلان الإفلاس أو التوقف عن دفع الديون أو جزء منها. وقد اقدمت اثينا على تجربة في هذا الشأن حين اعادت التفاوض حول بعض الديون الداخلية مع مصارف ومؤسسات مالية، وقررت عدم دفعها كلها، في آذار الماضي، فأعادت جدولة ١٧٢ مليار يورو من القروض على سندات خزينة يملكها القطاع الخاص. ولجوءها الى هذا الحل سيكون ضربة موجعة للائحة كبيرة من المصارف اليونانية، والاوروبية والأميركية الخاصة، التي ما انكفأت تقدم الاموال منذ ٢٠٠٠ لأثينا مع اغراءات هي اشبه بفخاخ، كي تبقي اليونانيين الذين يدفعون الثمن، تحت رحمتها لعقود مقبلة.
وقدم الاقتصادي اليوناني اندرياس كوتراس (وهو من مؤيدي البقاء في منطقة اليورو) دراسة برهن فيها انّ الخسارة المالية للاتحاد لن تكون كبيرة في حال خروج اليونان من اوروبا الموحدة، إذ ستتكلف الدول مجتمعة ٤٠٠ مليار يورو، وهو مبلغ اقل مما ستضطر لدفعه في السنوات المقبلة اذا استمرت الأزمة اليونانية. ويقول كوتراس انّ الخوف هو من العدوى التي قد تنتقل الى اسبانيا والبرتغال، ولاحقًا ايطاليا، مما سيؤدي حكمًا الى انفراط عقد الاتحاد، الكارثة الكبرى، خصوصًا على المانيا التي تتزعم اوروبا على الأقل ماليًا.
لكن العودة الى الدراخما ليست الحل المعجزة الذي سينقذ اثينا. الحل هو بالتخلي عن السياسات النيوليبرالية الاوروبية، واللجوء الى حل ماكرو ــ اقتصادي، وليس نقديًا فقط: اي تطبيق الحمائية، وتشجيع الصناعة وتنشيطها، والتوظيف الذي سينشّط الانفاق، وتشجيع الاستثمار الداخلي. كل ما سبق، إلى جانب توقف اليونان عن دفع ديونها، الخارجية والداخلية، هو ما سينقذ اثينا من الضياع. لكن واقعيًا لن يجرؤ أو يريد الحزبان المسيطران على الحياة السياسية منذ ٤٠ عامًا، اي «نيا ديموكراتيا» و«باسوك»، السير في هذه الطريق، ويقع ذلك على عاتق اليسار لتحقيقه.
هل اليسار هو الحل؟
منذ إعلان تحديد موعد في ٦ أيار ٢٠١٢ للانتخابات التشريعية، بدأ نجم ألكسيس تسيبراس يلمع خارج اليونان، بعد ان اصبح النجم داخلها منذ فترة. المهندس الشاب يترأس منذ ٢٠٠٨ «سيريزا» أو ائتلاف اليسار الراديكالي، واصبح اليوم رجل المعارضة الأبرز، بعد تشكيل الحكومة في نهاية حزيران ٢٠١٢.
تأسس ائتلاف «سيريزا» قبل الانتخابات التشريعية في ٢٠٠٤، من خلال لقاءات جمعت احزابًا يسارية كانت تفرّقها الخلافات قبل ذلك التاريخ، لكنها اتفقت على الوقوف في وجه الخصخصة المتزايدة، والتآكل الذي يصيب الحقوق الاجتماعية والمدنية في البلاد. بعد الانتخابات، اجتمعت احزاب عدّة لتشكل الائتلاف، وهي سيناسبيسموس (ائتلاف الحركات اليسارية والبيئة)، الذي كان حزب تسيبراس، أكوا (اليسار الشيوعي البيئي المتجدد)، ديا (يسار العمال الدولي)، كيدا (حركة من اليسار الموحد) وهو فصيل ترك الحزب الشيوعي اليوناني، الى جانب جماعات يسارية مستقلة. مر الائتلاف بأزمات عدّة بعد الانتخابات التشريعية ذلك العام، وعانى بضعة انشقاقات. لم يكن أحد يتوقع بعد ذلك ان يكون مفاجأة انتخابات ٢٠٠٧ حين نال ٥.٠٤ في المئة من الأصوات. وفي اول انتخابات داخل الائتلاف بعد ذلك، انتخب تسيبراس الذي كان مستشارًا في بلدية اثينا، رئيسًا. كان ذلك ربما نقطة التغيير الكبيرة، إذ استطاع تسيبراس أن يبني شعبية كبيرة له بين الناخبين كونه لم يكن نائبًا حتى في ذلك الوقت، مما جعله نظيفًا بنظر الناس، في زمن الفضائح المالية المتكررة. هكذا استطاع ان يصل بسهولة الى البرلمان في انتخابات ٢٠٠٩ المبكرة، رغم تراجع حصة الائتلاف الى ٤.٧ في المئة من الأصوات على المستوى الوطني. في العام التالي، انشقّ اربعة نواب عن الائتلاف ليشكلوا كتلتهم المستقلة، والتي اصبحت لاحقًا حزب «اليسار الديموقراطي» الذي خاص الانتخابات الأخيرة (في ٦ ايار و١٧ حزيران) منفردًا، وانضم الى الحكومة التي تألفت بعد انتخابات ١٧ حزيران مع حزب اليمين «نيا ديموكراتيا» والحزب الاشتراكي «باسوك». وكان واضحًا ان مكافأة اليسار «الديموقراطي» ستكون عالية بعد حضور بابادوبولوس مؤتمر الحزب الأول في آذار ٢٠١٠، وجلوسه في الصف الأمامي للحضور.
«سيريزا» اصبح اليوم حزبًا، اكثر من كونه ائتلاف احزاب يضم ١٣ فصيلًا شيوعيًا مختلفًا، وتقدم الى انتخابات ايار وحزيران الماضيين وفق هذا التوصيف (على امل الحصول على «منحة» الخمسين نائبًا اضافيًا التي يمنحها القانون للرابح الأول في الانتخابات في حال حصل على ثلث الأصوات). وهو يعكس هذه الاحزاب التي يتألف منها، وتشمل اطياف اليسار كلها: من الخضر وانصار البيئة، إلى الماويين، والتروتسكيين، واليسار الأوروبي، واليسار الراديكالي، ويتكلم باسم اطياف اليسار كلها تلك... وتشير الأرقام بوضوح إلى التقدم الكبير الذي حققه «سيريزا» مع ١٦.٧٨ في المئة في انتخابات أيار، ثم ٢٦.٨٩ في المئة في حزيران، محققًا المركز الثاني في المرتين، ومتفوقًا على الاشتراكيين، والحزب الشيوعي الرسمي الذي يتخذ موقفًا عدائيًا من تسيبراس وحزبه، إذ رفضت الامينة العامة للحزب الشيوعي اليكا باباريغا حتى اللقاء بتسيبراس حين كلفه الرئيس اليوناني كارولوس بابولياس بمحاولة تشكيل الحكومة في ايار الماضي، وفكر بجمع اليسار كله في حكومة تناهض المساعدات الاوروبية.
استطاع «سيريزا» ان يتفوّق على الحزب الشيوعي اليوناني في معركة الحصول على اصوات اليسار (وغير اليسار، خصوصًا من بين الشباب والمترددين والمتضررين من الأزمة وحزم الانقاذ والتقشف) بسبب قيادته الشابة وعدم انحصار نظرته بالداخل اليوناني فقط، وذلك رغم أنّ الاثنين يعارضان حزمة التقشف والسياسات المفروضة اوروبيًا. وفيما يحافظ الحزب الشيوعي على قاعدته الانتخابية نسبيًا، يخترق «سيريزا» صفوف مجموعات سكانية وشعبية جديدة في كل استحقاق انتخابي. وناخبو «سيريزا» هم من الشباب بأغلبهم، وهذا كان واضحًا في انتخابات ١٧ حزيران، إذ اظهرت الأرقام انّ نسبة المقترعين للأحزاب التي تؤيد خطة الانقاذ الأوروبية كانت مؤلفة بشكل ساحق من الكبار في سن، والمتقاعدين، واصحاب الاعمال، الذين يأملون ان تأتي حكومة تنفذ الإملاءات الأوروبية وتنقذهم.. فيما صوّتت أغلبية شبابية لـ«سيريزا».
هذه النتائج والاحصاءات الانتخابية قد تكون مؤشرًا على دور كبير قد يلعبه الحزب، بوصفه ممثلًا للشيوعيين واليسار الراديكالي في مستقبل اليونان، خصوصًا أنّ تسيبراس وحزبه اصبحا اليوم يتزعمان المعارضة رسميًا، فالأزمات المالية المتلاحقة والسياسات النيوليبرالية التي تريد الترويكا الأوروبية فرضها على اثينا واجبارها على تطبيقها، قد تدفع بالمزيد من الناخبين الى حضن «سيريزا». لكن ذلك سيحصل على حساب احزاب اليسار الأخرى، وخصوصًا التي تصف نفسها بالراديكالية، ويرى الناخبون انها لم تعد تلبي طموحاتهم، في بلد تعتبر «الماركسية» فيه شرفًا لا تهمة، للدور الذي اطّلع به الشيوعيون والماركسيون في محاربة الفاشية (اليونانية والألمانية في نهاية الثلاثينيات وبداية الأربعينيات)، والجيش اليوناني خلال الحرب الأهلية (١٩٤٦ ــ ١٩٤٩).
واذا كان يمكن استخلاص درس من السنوات العشر الماضية في اليونان، فهو أنّ لا حزب محصنًا ضد النقمة الشعبية، وتغيير الحكومات واجراء انتخابات برلمانية اصبح حلًا يسهل اللجوء إليه كل بضعة أشهر، فهل يكون يوم «سيريزا» اقرب من المتوقع؟
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.