يخرج الرئيس الإسلامي على شعبٍ انتخبه على مضض بخطابٍ أول يشحنه عاطفيًا لينهض باللحظة المصرية، من انقسامها الحاد حول اسمين إلى برزخٍ من الفرح الوجداني يتجلّى في أفقه اسمٌ واحد، يحمله رئيسٌ «قلبه كبير».
يخرج الرئيس الإسلامي على شعبه الذي انتخبه، لا حبًا بالنهج الإسلامي بل إمعانًا في رفض الماضي وقهره العسكري، لينهل من فن الخطابة، الصيغة الأشدّ عاطفية والقاضية بذكر اسم كل محافظةٍ مصرية، وكل مهنةٍ مصرية، من دون النظر إلى ورقة الخطاب. كأنه بذلك يوزّع «زيت» حبّه العميق و«طحينه» الصادق على الجميع، وهو بذلك ينشر أيضًا سلطته على الجميع.. هذا «الجميع» الذي استثنى منه، بنحو لافت، المثقفين والفنانين والصحافيين، أي صنّاع الرأي العام.
مَن يحتاج إلى صنّاع للرأي العام، يمتثلون لأفكارهم الخاصة، عندما تكون الدولة بحاجة إلى اتحاد تام، يلغي الفوارق، يهمّش النقد بغير أدوات المنع، ويعلي من شأن الحماسة؟ الحماسة.. تلك التي يتميّز بها المصري «طيب القلب»، حسبما تقول الأسطورة الشعبية.
يخرج الرئيس الإسلامي على الناس، ليستبدل اسم «المواطن» باسم «الأهل» و«العشيرة»، ويلصق بهما مزيدًا من الودّ بملكية حرف «الياء» في ختامهما، «أهلي» و«عشيرتي»، فيضطر المواطن إلى حشر نفسه بينهما، وهو لم يكن بحاجة إلى المزيد من الأهل والروابط القبلية، بل إلى الكثير من الطمأنة إلى استعادة المواطنة.
وبينما الرئيس يبالغ في إغداق المعاني التملّكية العاطفية على شعبه، وهي معانٍ خارجة عن سياق الوظيفة الرئاسية، بادر بعض المعنيين بالرأي العام إلى إشهار النفور من «السكّر الزائد» على ريق الانتخابات الحديثة الولادة.. فكل ما يزيد عن حدّه يشي إما بعكسه، أو بنوايا تتخفّى وراءه. وعندما يكون «السكّر» إسلاميًا، فلا مفر من التوجّس من «المرّ» الذي يغلّفه، لتهضمه معدة الشعب.
تحدّث الرئيس وكأنه يغنّي مع عبد الحليم حافظ: «يا حبايبي يا أهلي يا جيراني، أنا عايز آخدكو في أحضاني».
ابتسم وهو يذكر «سوّاقي التوك توك»، ليُفهِم من لم يفهم بعد أنه «واحد من الناس». ابتسم وكأنه يذكر أفرادًا يمتلكون من البساطة ما ينفي عنهم أحقية الإشارة إليهم في خطابٍ لرئيس، إلا هو.. علمًا أن السائقين في مصر يطحنون في عرباتهم كافة الأفكار، ويعيدون إنتاجها كلامًا محبّبًا، تنتقل عدواه من راكبٍ إلى آخر، وربما يتغيّر تبعًا لشكل الراكب، وهواه، فيضحون الأشدّ اضطلاعًا على الرأي العام في بلدٍ حرص رئيسه على تجاهل مهن صنّاع الرأي فيه، في خطابه الغرامي الأول.
لقد خرج الرئيس الإسلامي على شعبه، ولم يطمئنه إلى مدنية الدولة.
ومَن يريد أن يسمع كلامًا واضحًا أو برنامجًا مفصّلًا في لحظة «الوصال» الوجداني الأولى؟!
اصبروا عليه.. فهو كان يمارس الحب، لا السياسة، في خطابه الرئاسي الأول.
من موقع الضحية الى موقع المواطِنة
انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، صباح اليوم الذي تلى أمسية الخطاب إياه، أخبارٌ تفيد بتعرّض المحتفلين في الشوارع للناس المختلفين عنهم في الشكل، بالعنف وبعبارات من نوع: «بكرا مُرسي هيحجّبك». عبارات تتوعّد بطمس الجميع في بوتقة الشكل الواحد، أي الرأي الواحد. فالرئيس «اللي بيشبهنا» سوف يجعل الناس جميعًا «يشبهوننا». كأنه الانتقام من الفقر والجهل والتعب، يوجّه ضد الأقل فقرًا وجهلًا وتعبًا. لكنه ليس كذلك تمامًا، إذ لم تسجّل حوادث كثيرة من هذا النوع، ولربما انتشر الخبر بفعل الخوف المسبق من مستقبلٍ يحكمه إسلامي.
الحال انه وردت أخبارٌ مضادة تفيد بأن المتعرّضين للناس هم من عناصر «أمن الدولة» المدسوسين، هدفهم تشويه صورة الرئيس الجديد، وإشاعة الفوضى، لإعاقة مسيرة الاتحاد الوطني والنهضة. قد يكون ذلك صحيحًا، وقد لا يكون. لكن الخشية تكمن في ما يشي به ذلك، بغض النظر عن صدقيته، فتلك افتراضات تشي بضعف القدرة على احتمال سهام النقد في أول أيام شهر العسل الرئاسي، ما أنتج رغبة بالدفاع عن اللحظة من أجل حماية الأمل.. علمًا بأن حمايته قد تؤدي إلى نحره، خاصةً عندما تصبح التجاوزات مؤامرة، لا مشكلة تتطلب طرحًا ومعالجة.
في الأيام القليلة التي سبقت إعلان اسم الرئيس، انتشرت في مصر الإلكترونية رسالة وجهتها بالفيديو مواطنةٌ شابة، عبر موقع جريدة «المصري اليوم»، تخبر فيها عن كيفية تصدّيها لمتحرّشٍ في الشارع. مسّها بيده من فوق دراجته النارية، فوجدت نفسها فجأة أمام خيارين، اختارت ثانيهما بسرعة الضوء: إما أن تسكت وتكتم غضبها وتمضي مقهورة في طريقها كما جرت معها العادة، أو أن تبادر إلى كسر العادة فتلاحقه وتمسك به وتسلّمه إلى الشرطة، حيث يحرّر الضابط المختص محضرًا بحقه.
كان الطقس يومها شديد الحرارة، لدرجةٍ قلّ معها الأوكسيجين. والحادثة لم تكن أولى من نوعها، ليأتي التمرّد عليها ردّ فعل انفعاليًّا. ومع ذلك، فقد استخدمت الفتاة مخزونها من الأوكسيجين، وقررت التمرّد على السائد، والانتقال من موقع الضحية إلى موقع المواطنة. تقول بأن عينيها دمعتا في قسم الشرطة، وهي ترى الشاب يدخله مكبّل اليدين. تقول إنها رأت مواقع القوة تتبدّل، بينها وبينه: رأسها مرفوع، بينما انكسرت عيناه على الأرض.
انتشر الفيديو على نطاق واسع، على صفحات المواطنين الإلكترونيين، المصريين والعرب، حتى نشرت الصحيفة في اليوم التالي مقالًا تتوقف فيه عند مدى إيجابية استقبال هذه الصورة بين الناس. وهي صورةٌ لا تأتي من عشيرة بل من مواطنة. صورةٌ لا تحمي الأمل، بل تصنعه.
فعلٌ يرعى الامل
أن تموضع نفسك في المعارضة قبل إعلان اسم الرئيس، هو فعلٌ يرعى الأمل. أن تموضع نفسك في معارضة تيارين سياسيين شديدي التجذّر في الوجدان المصري، الدِين والجيش، الأول يصنع الهوية الفردية والثاني يصنع الهوية الوطنية، هو فعلٌ يستلزم كامل الجهد، ويؤسس الأمل.
وهو شعور عام ساد مصر، حتى لحظاتٍ سبقت إعلان اسم الرئيس.
وهو شعورٌ عام ساد مصر، حتى لحظاتٍ سبقت الخطاب الأول، والقرارات الأولى التي تلته. تلك القرارات الشعبوية دامعة العينين التي حصدت إطراء الكثيرين لكونها إذ تشي برئيس «يشبهنا»، تشابهًا مصنوعًا وضحلًا لا يرفع ظلمًا ولا ينتج عدالة، ولا يسعى إلا إلى منح الخطاب صدقيةً، انما تقول بأن الخطاب ليس كلامًا فحسب، وإنما هو أفعالٌ. وفي ذلك ما يذكّر بشعار حملة غريمه الفريق أحمد شفيق الانتخابية، «أفعال وليس أقوال»، فنفّذها بلا إشهار الرئيس الإسلامي.
وليس من الغريب أن يتفق شفيق ومرسي على تلك الناحية، إذ إن الرئيس المصري يسعى دائمًا إلى بناء علاقة قائمة على المودّة الشخصية، مع شعبه. مثال سريع على ذلك يقدّمه حسني مبارك الذي اختتم صفاته المتجدّدة بـ«أبو الشباب». فقد جعلت أسطورة «الشعب الطيب القلب»، من خطاب الرئاسة، إن أتى باللين أو بالشدّة، ديباجةً تشهر الحرص الأبوي على شعبٍ سيمنح رئيسه الطاعة تمامًا كما يمنحها الابن لأبيه.
حصد الرئيس، على مرّ العهود العسكرية الثلاثة، تلك الطاعة من المصريين. وما أن تحوّل حسني مبارك من عسكري ملتزم بالطاعة ويطلبها من الناس، إلى أب يريد لابنه أن يرث الحكم من بعده، بتناقض تام مع المبادئ العسكرية، حتى عمّ التمرّد عليه عموم البلاد، واندلعت ثورة يناير. وفي ذكراها الأولى، حوّل الشعب الثورة من «ضد مبارك، أب وابن»، إلى ثورة ضد العسكر، لكون «مصر دولة مش معسكر». فقد برهن مبارك على إمكانية فساد السلطة العسكرية، وخروجها عن مبدأ طاعة الوطن، فلتسقط إذًا طاعتها، ولتسقط معها السلطة العسكرية كلها.
اليوم، يستعدّ الإسلام السياسي لحصد تلك الطاعة، بالودّ طبعًا، وأيضًا. وهي أيديولوجيا تروّج بدورها لمبدأ الطاعة، باسم الإله، لا باسم جيش الوطن. والإله محبوب من المصريين، كما من الجيش. وحتى يثبت فساد الحاكمين باسم الدين، هل سيحصد الإسلام السياسي طاعة المصريين اليوم؟
ما يظهر من جبل الجليد حتى الساعة هو انقسام أساسه الأمل، بين مَن يرعاه بالحبّ، ومَن يحميه بالنقد. فترى الناس يلوم بعضهم بعضًا على سرعة التفاعل مع قرارات ظاهرية، وتجد الناس يلومون أنفسهم على سرعة النقد قبل تفعيل الوعد بالأفعال.
ولربما يحتاج الرئيس اليوم إلى شحذ عواطف من حوله، لتوحيد صفوف شعب انقسم جذريًا حوله. لكن الحرص دائما واجب، عندما تتجاور السلطة مع العاطفة. خاصةً في ظل وصول رئيس بعقيدة دينية إلى الحكم. وفي المقابل، فإن وصول شخص بعقيدة دينية إلى سدّة الحكم سيضع الناس في مواجهة صريحة مع نظرتهم إلى الحريات العامة، بعدما همّشتها في ما مضى درجة الإيمان الديني المرتفعة شعبيًا.
أما اليوم فهي مسألة هوية دولة. فلم يكن عبثيًا الإعلان عن «مليونية ستيلا إلى القصر الرئاسي» (ستيلا هي البيرة المصرية) مباشرةً بعد إعلان نتيجة الانتخابات، فانقسم الصحافيون والناس تجاهها إلى فريقين: واحدٌ يدين المطالبة بحرية شرب البيرة في بلد ينوء بحمل مصائبه الكثيرة، وآخرٌ يخشى انحسار ما تبقى من الحريات الشخصية، وهو يستعد لدخول عصر جديد يسكنه شبح الإسلام السياسي.
لقد خرج نقاش تلك الحريات في مصر، فعليًا، من الهامش المخنوق إلى صلب الصورة، بمجرّد وصول الإسلام السياسي إلى الحكم. وفي سرعة طرح المواضيع الشائكة على طاولة البحث، ما يبقي القلب مطمئنًا، نسبيًا، إلى اليوميات المصرية، فمهما استفحل الأمر، ومهما احتدّت شمس الظهيرة، ستجد فتاةً تركض خلف رجال «عشيرتي» في الشارع، لتقودهم، مرةً جديدة، من أعناقهم إلى حريتها.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.