شعرت اليوم كمن يمشي بحركة بطيئة عبر التاريخ وأنا أشاهد سير موكب أكفان رفات الشهداء من خلف زجاج المقهى البارد، تسبقهم أسماؤهم المقدسة بعدما كانوا أرقامًا في الأرض الغريبة. شعرت بأني اعيش لحظات تاريخية بانتصارها وحتى حزنها، بعد الإعلان في اليوم ذاته عن وفاة أول أسير مضرب عن الطعام، زهير لبادة، إثر اصابته بالعمى والفشل الكلوي.
جيلنا كله يعيش ليشهد طزاجة اللحظة وانفجارها منذ أن خطّت شرارة الغضب في تونس واقعًا لم يحلم أجدادنا وآباؤنا يومًا بأنه سوف يحدث. لست أدري هل هذا من حسن حظنا أم سوئه؟ رجعت إلى كرسي المقهى وأنا أفكر: هل حرّكنا فعلا التاريخ وكنا وقود التغيير، أم أن الأنظمة الحاسمة في ظلمها هي بطبيعة الحال خالقة ثورات حاسمة في موقفها؟
في إدمان الازمات
فتحت الحاسوب فطالعني بيان صحافي جديد لشركة الكهرباء في قطاع غزة تعلن فيه أنها ستقلص ساعات عملها. أصلا لا يأتي التيار الكهربائي سوى ثماني ساعات يوميا، وامتحانات الثانوية العامة «التوجيهي» تدق الأبواب!
غالبية الناس في الشارع لا تصدق أن هناك أزمة بقدر ما انها صناعة للأزمة. أهالي القطاع لا يثقون في الحكومة ويعتبرون أن الحصار ليس نقصا في الدواء أو الغذاء، بل غلاء معيشة واحتكار التجار للسلع المتوفرة من كل الأصناف، سواء التي ترد عبر الأنفاق المحفورة تحت الحدود بين القطاع ومصر أو عبر المنافذ المشتركة مع إسرائيل.
العائلات هنا اعتادت على الأزمات بل أدمنتها. ولم تعد أخبار مفرحة كالمصالحة تثير عندها أكثر من رد فعل ساخر خاصة ما يتعلق بعمل لجنة الانتخابات من جديد في غزة. فمن يصدق أنه سيتخلص من حماس ــ «لازمة غزة» ــ وفتح ــ «لازمة الضفة» ــ ومباريات الثأر بين الواحدة والاخرى؟ لا يصدق الشعب أنه سيرى خاتمةَ مسلسل حلقاته أطول من المسلسل الأميركي «الجريء والجميلة» بتفاصيله المملة والمكررة والمحزنة وخلود أبطاله الذين لا يموتون.
حين تسافر خارج غزة ترى الناس يتحدثون عن الهالة المحيطة بحركة المقاومة الإسلامية «حماس» كأنها لا تزال تلك المقاومة المقدسة، ولا يعرفون ماذا فعل الكرسي بالبطون والهمم. وفي المقابل يبقى الرئيس الفلسطيني أبو مازن «العميل الأبدي للأميركان». إنه «ستيريو تايب» غزة والضفة في الخارج. لكننا في الداخل نعرف أن الحالة تجاوزته منذ زمن. فالمقاومة التي لم تعد كذلك تعيش على أمجاد الماضي، وبحجة انها مستهدفة من الاحتلال تعتقل وتظلم كي تحافظ على هيبتها من كل جاسوس، قد يكون في نظرها الليبرالي أو اليساري أو المنتمي لفتح أو الموالي للسلفية أو أحد شباب الفايس بوك المستقلين، وهذا بالضرورة يموله «الغرب» ليثور عليها!
هنا أتذكر كيف نزلت أخبار الربيع العربي كالكابوس على حكومة غزة. فحين اعتقلوا شبانا وفتيات مستقلين وكنت بينهم في ٣١ يناير/كانون الثاني ٢٠١١ خلال تواجدنا في اعتصام لدعم ثورة مصر قال لنا الضابط: «افرضوا ان مبارك لم يسقط والثورة فشلت، فهل تريدون منه إغلاق المنفذ الوحيد بين غزة والعالم؟». وإعتقلنا مجددا وضربنا في ١٥ مارس/آذار ٢٠١١ حين رفعنا شعارا لا يثير غضب أحد يقول «الشعب يريد إنهاء الانقسام»، فلو كنا رفعنا «إسقاط النظام» لوجدنا اتهامات التخوين والتساوق مع الاحتلال الذي يسعى لتقويض حكومتي الضفة وغزة.
غير أن هذا الشعار المعتدل لم ينقذنا من التهم والاعتقالات والملاحقة والتشويه، فضلًا عن سعي حكومتي الضفة وغزة إلى ركوب الموجة في بادئ تصاعد الاحتجاجات ليقولوا «نحن من نريد إنهاء الانقسام». فاحتلت حركة فتح منابر الشباب في الضفة بالأعلام الصفراء والهتافات، وفي غزة احتلت حركة حماس منابرنا ورفعت أعلامها الخضراء. وحين تعب الطرفان غادرٌ كل إلى حال سبيله، وبقينا نحن في الميدان نقول: «سحقًا للاحتلالات المركبة»! ولم تمض إلا بضع ساعات رفعنا فيها علم فلسطين لنجدهم يهاجموننا بالهراوات الغليظة وأخرى كهربائية، عدا أن عددا منهم كان يحمل السلاح الأبيض. وبعد أقل من شهرين ذهبنا للمشاركة في اعتصام نساند فيه ثورة سورية، لكننا لم نستطع حتى الوصول إلى ساحة الجندي المجهول في غزة، وتخبطنا ونحن نركض في الأزقة، فكيف لنا نحن الشباب أن نصدق ابتسامات خالد مشعل ومحمود عباس. كنت أقول إن غزة المتمردة لا يستطيع دكتاتور حكمها أكثر من عشر سنوات. هكذا يقول التاريخ منذ حَكَمَتها الملكة هيلانة. لكن مع اليأس الذي نعانيه وقد صرنا دمى محشوة يعبث بها الساسة، لم يعد للتغيير فارق معنا، إلى درجة أن انتخابات مصر أصبحت تعني لنا أكثر من مصالحة حماس وفتح.
رأسمالية وحصار وأزمات كهرباء ودواء
غزة ليست قفراء وليست فقيرة أو مدمرة. انها على العكس جميلة رغم محاولة تغيير شكلها بعمليات غسل الأموال التي تأتي من تحت الأرض من خلال بناء المولات الضخمة والمراكز التجارية والمشاريع الاستهلاكية التي لا حاجة للمواطن اليها ــ او المضاربة على العقارات والأراضي التي رفعوا أسعارها إلى حد صادم. فالشقة التي كانت بنحو ٣٠ ألف دولار قبل أربعة أعوام أصبحت الآن بتسعين ألفا، فكيف لحكومة رسالتها الإعلامية الوحيدة تبيان أزمات الحصار والكهرباء والدواء للخارج أن تتزوج بالنظام الرأسمالي بكل وحشيته وتؤسس لطبقية في مجتمع لا يزيد أفراده على مليون ٧٠٠ ألف نسمة؟
هل هي طبقية الأنفاق؟ ففي الوقت الذي تختار فيه أوروبا «الغنية» اليسار للتعبير عنها نرى أن عالمنا العربي «الفقير» لا يرى سوى الحل باليمين الرأسمالي والاجتماعي والديني المتشدد. فاليسار عندنا هو الطرف الأضعف الذي يركز في دأبه على البحث عن فرصه الخاصة، واليسار في أوروبا ينمو ويبحث عن حلول لمشاكل مجتمع بأكمله.
كل التجارب الديمقراطية والانتخابات النزيهة الشفافة التي بدأت في غزة والضفة عام ٢٠٠٦ والآن في مصر العام ٢٠١٢ وفي تونس العام الماضي تنتهي بحكم الإسلاميين. هل هي بالفعل قصة نجاح متفردة للإخوان المسلمين كي يستحقوا الفوز بالسلطة؟ أم أن الشعوب العربية تمارس الديمقراطية إجرائيا فقط والأغلبية هي أغلبية العاطفة والتفكير الديني، التي ترى الحل مع الشيخ الذي يخيّرها بين جنة انتخابه ونار انتخاب غيره؟ وبالطبع هذا الشيخ يصل إلى أفقر القرى وأكثرها تهميشًا بزيته ولحمه وطحينه ولافتاته وخطابه الإسلاموي، في حين يبقى اليساري في نخبويته محتفظًا بأوهام أنه يمتلك قلوب الشعب، وهو لا يفعل غير أن يروج للإسلامي بانتقاده له.
بين غزة ومصر: هل من طريق ثالث؟
إذا كان الشعب يدور في دائرة مغلقة ويغادر بإرادته من فساد سلطة «فتح» إلى حضن «حماس» وها هو الآن يرجع إلى لزوجة «فتح» ويهجر الإسلاميين كما فعل المصريون، حين أبقوا أقوى خياراتهم بين العسكري أحمد شفيق الذي يمثل النظام الذي ثاروا عليه وبين محمد مرسي الذي يمثل التيار الثائر، ويصبح السؤال المطروح ماذا يمكن أن يكون خيار الطريق الثالث: اليسار أم الشباب المستقل أم الليبرالية الإسلامية؟ أرى أنها كلها هي الخيارات الأضعف في ظل الحزبية وسلطتها التي تشتري الجماهير بأبخس الاثمان. لذلك كان وسيبقى صعود حمدين صباحي ومن قبله عبد المنعم أبو الفتوح الطريق الثالث المُشتهى والمحلوم به، ولن يُرى أبدًا هُداه في من يصدق وعود من يحمل ناصيتي المال والدين في يد واحدة.
ضجة أخرى خارج النافذة، ذهبت لأستطلع علّني ألتقط صورة جديدة كي أنشرها على «تويتر»، وأكون شاهدة جديدة على التاريخ الذي حضرت فيه الانتفاضات والانقسامات بين الضفة وغزة والحرب على القطاع ومن ثم أسلَمَتْه واندلاع الثورات العربية وسقوط الزعماء وإضراب الأسرى عن الطعام وعودة الرفات. لكني وجدتها ضجة «الفدعوس»، وهي فرقة ترتدي الزي الشعبي وتمسك الطبول متقدمة سيارة مليئة بالزهور لعروسيَن. تنفست الصعداء لأني أخيرًا رأيت غزة تعيش حدثًا طبيعيًا يتكرر في عشرات الأماكن، وعدت إلى طاولتي في المقهى البارد!
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.