العدد الثاني - صيف ٢٠١٢

من يصنع الثورة في القطيف؟

النسخة الورقية

عندما تقترب من أحد منافذ محافظة القطيف تشعر بشيء مختلف، ليس لأن ملامح الواحة الخضراء تلوح في الأفق، بل لأن نقطة تفتيش من نوع خاص في استقبالك. طابور من سيارات المواطنين ينتظر، وسيارات أمن متنوعة الأحجام والأشكال، وسلاح من الوزنين المتوسط والخفيف مشهور في وجه القادمين. لن يخطئ إحساسك حين تميّز أن حالة المواطنين مستقرة ولا يشعرون بأي قلق، فقد اعتاد أهالي المنطقة الشرقية، لاسيما في محافظة القطيف، تلك المشاهد وذلك التعامل وتحديدًا بعد خروج عدد من المواطنين في تظاهرات تجوب الشوارع وتطالب بشيء من الحرية والحقوق في مارس/آذار ٢٠١١. قد تنفذ من نقطة التفتيش بمجرد نظرة مرتابة من رجل أمن عابس، ولكن لن تكون تلك آخر محطة تقف فيها أمام رجل بزيّ عسكري يسيّرك بإيماءة من يده فيها الكثير من الازدراء والاحتقار. وقد تنتاب أحدهم رغبة مزاجية يطالبك فيها بإبراز هويتك أو يوقفك ويقوم بتفتيش كامل السيارة متذرعًا بعبارة تعلو أغلب سيارات الأمن: «أمنكم هدفنا وتعاونكم مطلبنا».

حين تدخل محافظة القطيف تلفت نظرك كثرة سيارات الأمن وحركتها السريعة والمريبة التي تبث الرعب والخوف، وكأن أمرًا ما قد حدث أو سيحدث. وعندما تتأمل لا تجد ما يستدعي كل ذلك الاستنفار، فسرعان ما تستنتج أن تلك الحركات المثيرة لا تعدو كونها شكلا أمنيا ومحاولة لإثبات حضور في وسط شوارع وأزقة محافظة القطيف وقراها.

الاستبداد يصنع الثورة والثوار

الشعوب لا تصنع الثورة إنما الاستبداد هو الذي يُخرج الثوار كما يخرج المارد من قمقمه. الحرمان هو الذي يؤسس للثورة والقهر هو الذي يصنع الثوار. وبالنسبة إلى النظام المستبد فإنّ القبضة الحديدية هي التي تعيد العبيد المارقين إلى أوكارهم. أما بالنسبة إلى الشعوب التي تهمها كرامتها فإنّ آلة الترهيب هي ما يكشف الحقيقة التي كانت تتوارى خلف ملمّعات إرهاب الدولة ومحسّناته.

قد تبدو لك القطيف هادئة ولكنها في الحقيقة تعيش الحراك الحقيقي. في دواخلها احتقان وغضب خفي إزاء ردة الفعل الرسمية التي واجه بها النظام أهالي المنطقة حين حاولوا أن يستفيدوا من أجواء الربيع العربي بأن رفعوا أصواتهم في الشوارع، وطالبوا بشيء من الحرية وشيء من الحقوق المنسيّة. رصاص ودماء وجرحى وشهداء وشباب كالزهور خلف القضبان بالعشرات. الجروح ألمّت بالناس وخلّفت الحزن والأسى في قلوب الجميع.

الآن، الحياة بشكلها الطبيعي، والناس يسيرون دون أن يعيروا لتظاهرة رجال الأمن العسكرية في مركز المدينة وضواحيها أي اعتبار. وهم في ما بينهم يتساءلون عن جدوى ممارسات رجال الأمن تلك في قتل إرادة الشعب وثني عزيمته عن مواصلة الحراك. بات الناس يشعرون اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن الكلمة قد تجرح السيف وتكسر شوكته، وأنّ الموقف والصمود قد يسلبان السلطان المستبدّ سلطانه، وإن كان يملك ترسانة عسكرية لا قِبَل لشعب أعزل بها.

تلك هي صورة الشارع والحالة الأمنية القلقة التي يفتعلها النظام وتعايش معها أهالي المنطقة. لكن تلك ليست هي الصورة كلها وفي العمق أشياء أخرى. فقد تغيّرت حال الناس مع الخوف من إسماع آذان الجدران إلى البوح والإعلان، وباتوا يرددون مسائل حقوقية ويتحدثون عن واجبات الدولة تجاه المواطنين وشرعية الحكم، ويشعرون بأنّ الكرامة هي أحد أهم أركان العيش بل هي أهم من الماء والخبز.

كثير من رجال المنبر وأرباب الفكر باتوا يقارعون صوت الرصاص المدوي في سماء المحافظة الوادعة بقوة الكلمة وبحقيقة ما يجب أن تكون عليه الدولة المدنية، وكيف يجب أن تصان حقوق المواطنين. والكثير منهم بات يندّد بشكل مباشر أو غير مباشر، في السرّ أو في العلن، بإهانة المواطنين ويرفض بأن تداس كرامة الناس أو أن تمس إنسانيتهم بالأذى. ويتساءل كثير من المثقفيين والمفكرين عما حصدته المنطقة خلال الثمانين عامًا الماضية، كيف كانت وكيف أصبحت. بات الجميع يشعر بأنّ الخيرات التي كانت تزخر بها هذه المنطقة الغنية قد سلبت من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولا أرض لهم يطأونها تعود ملكيتها لهم بعدما كانوا يعيشون في ثراها وتحت سمائها بكل كفاف وراحة. بلاد الخير التي كانت سلة الغذاء في جزيرة العرب وأعانت بخيراتها القانع والمعتّر مرارًا عبر القرون الماضية، تسلب وتجرّد وتنتهك، دون أن يعود إلى أهلها شيء من خيراتها! وماذا بعد التظاهرات والمطالبات العلنية في الشارع؟ تتهم وتهان وتحارب إعلاميًا وعسكريًا سرًا وجهرًا.

لقد تنبه الناس كبيرهم وصغيرهم لكل حق مهدور من حقوقهم، والثورة اليوم ليست كلها في الشارع كما قد يظن من يحكم على الأمور بظواهرها. فأولئك الذين يرفعون أصواتهم في التظاهرات أسبوعيًا محافظين على ديمومة الحراك المطلبي ليسوا وحدهم. فلم يعد الشارع هو محور الحراك وساحته الأخيرة، ولم تعد تلك الكتابات والرسومات الجدارية المناهضة لرموز الدولة وحدها مؤشر الحراك. لقد أثار هتاف الشارع والدماء التي سالت على أرض القطيف حركة فكرية شاملة أيقظت كافة الشعب ورفعت من ثقته بنفسه وجدّدت قوته ورغبته في أن يكون كأي شعب يملك حرية الكلمة والمطلب.

في قصة الدم وشفرة السيف

جولة بسيطة في أزقة الانترنت تكشف مدى ما أحدثه حراك شباب المنطقة الشرقية من آثار. لقد تجاوزت الثورة معناها التقليدي ومداها الجغرافي لتؤثر على العقول وتحدث ثورة فكرية جديدة، ينتشي بها قاطنُ شبه الجزيرة في أقصى الجنوب. ولا نبالغ إن قلنا إن الحراك رفع سقف المطالب لدى كافة المفكرين والمنظرين في الشرقية وخارجها، ولم يقتصر تأثيره على منظّري التغيير بل شمل الكتّاب ومنظري الجهات الرسمية والذين يعملون على تبرير ما تقوم به السلطة على الدوام.

أهالي المنطقة الشرقية الذين عرف عنهم على مدى العصور والأزمان حبهم للعيش بأمان وبُعدهم عن الاعتداء والتخريب وعيشهم كأسرة واحدة، قد ثاروا اليوم ضد خوفهم فأسقطوا الرهبة من نفوسهم. لم يكن ينوي أهالي المنطقة أن يسيروا في درب الثورة، أرادوا فقط أن يجنوا شيئًا يسيرًا من حقوقهم في ظل الأجواء التي أتت بها رياح التغيير القادمة من الشمال الأفريقي. لكن القتل والتنكيل والإهانة حفزت في وجدانهم العزة والكرامة وعززت رغبتهم الحقيقية في عودة الحق كاملًا غير منقوص. ورجال الأمن الذين تراهم يجوبون الأزقة دون سبب إنما يبحثون عن هذا الفكر ليقتنصوه ويجهزوا عليه.

لم نسمع قط في تاريخ البشرية أن فكرًا قد اغتيل بالنار والحديد. لكننا سمعنا كثيرًا أن الدم قد انتصر مرارًا على شفرة السيف التي لا تفصل إلا الأجساد. رجال الأمن مستمرون في تنكيلهم يخطفون تارة ويهينون تارة أخرى. والشعب يهمس في داخله قائلًا: وماذا بعد؟ بعضهم يقول لو أن النظام تنازل عن شيء من كبريائه واستجاب لبعض مطالب الناس بشيء بسيط كإخراج السجناء المنسيين، والذين ظلوا في السجون بدون محاكمة، لانتهى كل شيء ولعلا شأن الحاكم في نظرهم. ولكن يبدو أن سوء ظن الدولة في شعبها جعلها تسيء التصرف ولا تتعامل بالحكمة المناسبة.

عاشت القطيف، حاضرة الساحل الشرقي في جزيرة العرب، المدنية لآلاف السنين، وأهلها ككُريات الدم البيضاء تعمل بالفطرة على لملمة بعضها بدون إيعاز أو توجيه من احد. وعلى الرغم من أنّ مواطنيها قد حُرِموا من أن ينشئوا الأحزاب والنقابات والجمعيات السياسية، إلا أن ذلك لم يغيّر من طبيعتهم الأصيلة وهي توحيد الصفوف ولملمة الشتات وخصوصًا في الأزمات. وقد وجدوا أنفسهم فجأة في أزمة إذ إن سوء تصرف الجهات الرسمية مع الحراك وضعهم في طريق ذات الشوكة بدون ميعاد. ويكفي أن تقترب منهم قليلًا لتعلم أنهم قد قبلوا التحدي، ولن تخطئ أذنك حين تسمعهم يهمهمون في ما بينهم قائلين: «نصف ثورة هلاك أمة».

العدد الثاني - صيف ٢٠١٢

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.