ارتكزت الدساتير العربية التي أقرت بعد الاستقلال على تحديد لهوية الدولة، فانطوت على مزيج مركب من الانتماء إلى العروبة والإسلام والاشتراكية والبعد الافريقي أو الوحدوي، وتضمنت بعض المفاهيم الليبرالية المتعلقة بالحريات وحقوق الإنسان. كل الدساتير العربية اعتبرت أن هوية الدولة هوية عربية وأن كيانها جزء من الأمة العربية ولغتها الرسمية العربية، والبعض جعل من مهمة الدولة السعي إلى الوحدة والبعض الآخر إلى التعاون في إطار جامعة الدول العربية أو في إطار منظومة إقليمية كاتحاد دول الخليج أو المغرب أو التعاون الافريقي.
ونصت دساتير بعض الدول على هوية إسلامية للدولة (المغرب والسعودية) وعلى المرجعية الإسلامية للشرع الإسلامي في تنظيم الدولة (المغرب) وعلى القرآن نظامًا أساسيًا (السعودية)، بينما استخدمت معظم الدول الأخرى تعبير الشرع الإسلامي المصدر الأساسي للتشريع، أو أن الشرع الإسلامي هو أحد مصادر التشريع، أو أن دين الدولة هو الإسلام، أو أن دين رئيس الدولة هو الإسلام. وحده لبنان قبل اتفاق الطائف لم ينص دستوره على هوية للدولة ثم أكد مع الطائف أن لبنان عربي الهوية والانتماء (١٩٩٠).
السلطة التنفيذية هي قطب الرحى في الدساتير العربية
أما الدول التي سيطرت عليها الأحزاب والحركات القومية ذات الايديولوجية اليسارية فقد أكدت على التوجه الاشتراكي بأشكال مختلفة. اما أنها وصفت الدولة بالاشتراكية أو اعتبرت اقتصاد الدولة يهدف إلى بناء نظام اشتراكي أو هي اعتمدت صيغة الديمقراطية الشعبية وأشارت إلى التخطيط التنموي الاشتراكي أو جعلت من السلطة تحالفًا بين الفئات الشعبية من عمال وفلاحين ووضعت صيغة حزبية لتمثيل هذه القوى، كالاتحاد الاشتراكي العربي المصري أو البعث العربي الاشتراكي في سورية والعراق، أو الحزب الاشتراكي اليمني الجنوبي. في معظم الدساتير العربية، ربما باستثناء بعض الممالك والإمارات في الخليج، جرى الإقرار بالحريات العامة وحقوق الإنسان والحريات المدنية والسياسية بما فيها حق الاقتراع، لكن ذلك كله يخضع لقوانين تنظم هذه الحقوق وتسعى إلى تجويفها من جهة وتنشئ قيودًا سلطوية تلغيها في الممارسة العملية.
في الغالب الدساتير العربية نظمت السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية. لكن السلطة التشريعية لم تكن منوطة بالسلطة المنتخبة (على تعدد أشكال القيود على الانتخابات) بل اشتركت السلطة التنفيذية في ذلك (الملك، الأمير، الرئيس، رئيس الحكومة والحكومة).
السلطة التنفيذية هي قطب الرحى في الدساتير العربية الملكية والجمهورية الوراثية أو المنتخبة. ولم تنشأ أنظمة برلمانية في العالم العربي باستثناء لبنان، فهي جميعها رئاسية، ما يعزز سلطة الفرد على رأس تلك السلطة. وقد اعتمدت الأنظمة الانتخابية كلها (باستثناء لبنان) مبدأ تقييد شروط الترشيح وجعلت الانتخابات الرئاسية استفتاءً على مرشح السلطة. غير أن لبنان وزع المقاعد النيابية وفق حصص طائفية. ترتب على هوية الدولة ما يلي:
ــ العروبة: أنكرت العروبة على شعب الدولة، ما يتكوّن منه لجهة الجماعات الإثنية والدينية والمذهبية غير العربية وغير الاسلامية: الأقباط، الأمازيغ، الأكراد، الأرمن، القبائل الوثنية، التركمان، الشركس، الآشوريون، السريان، الكلدان. هذه الأقليات لم تكن أقليات صغيرة في بعض الدول فكانت تشعر بمصادرة هويتها ودورها وثقافتها، وفي معظم الأحيان منعت من تطوير لغتها وتراثها وممارسة شعائرها.
ــ الإسلام: أنكرت الصفة الإسلامية دور المسيحيين وهو الدين الأهم قبل الاسلام، وكذلك اليهودية (العبرية) والصابئة والمجوسية. وفي معظم البنود الدستورية جرى تخصيص مذهب إسلامي بعينه، الحنفي أو المالكي أو الشافعي والحنبلي وأسقطت مذاهب إسلامية بالعشرات: الزيدية والإباضية والقرمطية والإسماعيلية والشيعية الجعفرية والعلوية والدرزية إلخ... وسمحت أحيانًا بقوانين الأحوال الشخصية ولم تسمح أحيانًا أخرى لزمن قريب بتنظيم الأحوال الشخصية لهذه المذاهب والفرق.
ــ الاشتراكية: انطوى مفهوم الاشتراكية في التجربة العربية على ملكية الدولة لوسائل الإنتاج: الأرض، المرافق العامة، الشركات الكبرى، الثروات الطبيعية وعلى إخضاع الاقتصاد للتخطيط والتجارة الخارجية لقيود واحتكار الدولة. وتم إلحاق المؤسسات النقابية، إذا وجدت، بالدولة ووضع الإدارة المدنية في خدمة التوجه السياسي.
في هذه السياسات إما أن ثروة البلاد خضعت لتصرّف العوائل الحاكمة في الأنظمة الملكية والوراثية العائلية، وإما أنها خضعت لتصرف الفئة السياسية والاجتماعية الحاكمة سواء أكانت مجموعة عسكرية أم حزبًا أم فريقًا مركبًا من عناصر عائلية وحزبية وجهوية. وتدريجًا خضعت ثروات البلاد لهذه النخب مكونة امتيازات وحرمانات إما لأسباب حزبية وسياسية وإما لأسباب طائفية أو عرقية فضلًا عن التمايزات الطبقية.
الدساتير التي أعلنت عن صفة الحاكم (الملك، الأمير، الأسرة، الحزب...) أقامت أنظمة سياسية مقيدة للحرية ولحقوق المواطنين المدنية في الوظيفة أو الحرية الاقتصادية وحرية العمل فضلًا عن الحريات السياسية.
ــ الحريات المدنية والأحوال الشخصية: نصت الدساتير جميعها على حرية الاعتقاد والضمير، وأكدت، حيث هناك تعددية في المجتمع، على كفالة ممارسة الشعائر الدينية بما لا يخالف النظام العام. لكنها نظمت قوانين الأحوال الشخصية إما على أساس مرجعية الشرع الإسلامي وفق المذهب الغالب (الحنفي، المالكي، الشافعي، الحنبلي) أو هي أعطت للجماعات الدينية حق تنظيم احوالها الشخصية في إطار مذهبها، (الكنيسة القبطية، الموارنة، الأرثوذكس، الأرمن، إلخ) والمذاهب الإسلامية الأخرى. في اليمن الجنوبي جرى إقرار نظام أحوال شخصية مدني موحد وكذلك في تونس. باستثناء هاتين الدولتين خضعت الأحوال الشخصية لقوانين الطوائف، الأمر الذي خالف حقوق الإنسان.
أما التشريعات المدنية الأخرى، فهي بدون قيود، جرى تنظيمها في استنساخ عن التشريعات الغربية لا سيّما قوانين التجارة والمصارف والملكية والعقود المدنية الأخرى كالعمل والنقل والسياحة، وكذلك تنظيمات المحاكم والقوانين الجزائية، إلا في الأنظمة التي جعلت الشريعة دستورها المباشر (السعودية) أو السودان أخيرًا الذي تبنّى تطبيق الشريعة دون أن يلغي بعض الإرث المدني السابق.
عودة الى معادلة «الاسلام واصول الحكم»
مع صعود الإسلام السياسي إلى صدارة المشهد العربي ينفتح النقاش مجددًا على معادلة «الإسلام وأصول الحكم» العنوان الذي اختاره المفكر المصري علي عبد الرازق في النقاش مع دعاة تجديد الخلافة في عام ١٩٢٥. كانت هذه المناظرة التاريخية قد شهدت حيوية في القرن التاسع عشر حين ظهرت حركات الإصلاح الديني مع رموز مثل جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا، رفاعة الطهطاوي، خير الدين التونسي، عبد الرحمن الكواكبي، شكيب أرسلان، إلخ. تحولت هذه المناظرة إلى مشروع سياسي تأصّل فكريًا مع أبي يعلى المودودي والسيد قطب وحسن البنّا، وتأسست حركة «الأخوان المسلمين» عام ١٩٢٨. تصادمت هذه الحركة مع أفكار القومية العربية (الناصرية والبعث) بينما وجدت فضاءً أرحب لها في حركات مثل الوهابية والسنوسية والختمية والمهدية في السودان والأدريسية في ليبيا وهي حركات إسلام سياسي تتبع طرقًا خاصًا لقادتها. ومعظم هذه الفرق ذات طابع صوفي.
في ثمانينيات القرن الماضي عاد الإسلام السياسي الحركي إلى الظهور مع انحسار الفكر القومي واليساري وأزمة النظام الرسمي العربي، وظهر مفكرون جددٌ من دعاة التجديد والإصلاح مثل الغنوشي، الترابي، شحرور، هويدي، العوا، الأنصاري، وغيرهم... وكان لنجاح الثورة الإيرانية (شباط ١٩٧٩) بقيادة دينية شيعية المذهب الأثر الأكبر على تزخيم حركات الإسلام السياسي في المدى الشيعي والسني كذلك. لكن الظاهرة الجديرة بالاهتمام هي تصدي الفكر العلماني عمومًا واليساري خصوصًا لفكر الإسلام السياسي. فبعد هزيمة الخامس من حزيران ١٩٦٧ بدأت مراجعة شاملة لجميع نواحي الاجتماع السياسي العربي ولاسيّما الظاهرة الدينية. وقد نال الإسلام عمومًا نصيبه الوافر من البحث لدى كل مفكري الحداثة في ما إذا كان يشكّل عائقًا أمام التقدم الاجتماعي أم هو يقبل إشكال التكيّف الضروري مع الحداثة السياسية. ومن رموز تلك المناظرة، عبد الله العردي، هشام جعيط، محمد أركون، محمد عابد الجابري، برهان غليون، نصر حامد أبو زيد، أدونيس، صادق جلال العظم، عزيز العظمة، الياس مرقص، ياسين الحافظ، وغيرهم.
وعلى مستوى الفكر الإسلامي نفسه ظهرت حركة «فقه المشاركة» التي اتسعت نفوذًا حيث الدعوة إلى الملاءمة بين الفقه الإسلامي والنظام الديمقراطي. أخذت الأبحاث الاستشراقية نفسها تنظر الى الإسلام على أنه يستجيب للمسار الديمقراطي بعد أن سادت قناعة بأن في الإسلام ما يتناقض مع احتمالات قبول الثقافة السياسية المعاصرة وركيزتها الديمقراطية التي تقوم على السيادة الشعبية. خلال العقد الماضي اتسع المطلب الديمقراطي في العالم العربي.
تبنت العديد من الدول العربية صيغًا للبرلمانات ولمجالس الشورى. بعض هذه الدول يملك تجربة سابقة (الكويت، مصر، لبنان) وبعضها حديث العهد بالتعددية السياسية. لكن معظم البرلمانات كانت تقوم تحت أحكام دستورية وقانونية تحد بشكل واسع من حرية المشاركة (مصر، الجزائر، اليمن، العراق، سورية، الأردن)، إما من حيث الاعتراف بالأحزاب المستقلة وحصر دورها في تحالف سياسي (الجبهة الوطنية في العراق وسورية) وإما عبر سياسات الحرمان تجاه بعض التيارات السياسية والفكرية (مصر التي رفضت الترخيص لحزب سياسي ديني وكذلك سورية والقانون 49 الذي لا يعترف بأية حقوق سياسية أو مدنية لجماعة الإخوان المسلمين).
بعد الوحدة اليمنية بين الشمال والجنوب، نشأ برلمان تعددي جرى اقتسامه بين ثلاثة أو أربعة تيارات وسيطرت عليه حركتا حزب المؤتمر الشعبي وحزب الإصلاح. أما مصر فبدأت تستعيد بعض الحريات السياسية أولًا من خلال المنابر في عهد الرئيس أنور السادات، ثم عبر الاعتراف بعدد من الأحزاب السياسية عهد الرئيس حسني مبارك، وعرفت تجربة برلمانية محدودة. أما في الجزائر فقد تم وقف العملية التعددية بعد فوز الإسلاميين (الجبهة الإسلامية للإنقاذ). وفي المغرب هناك تجربة حزبية تعددية لكنها ليست الجهة التي تتولّى السلطة التنفيذية، إلى حين انفتاح النظام على مشاركة أحزاب المعارضة في الحكومة. أما دول الخليج فقد أنشأت مجالس شورى معظمها معيّن وليست ذات صلاحيات فعالة تؤدي إلى نظام الفصل بين السلطات، وما تزال السلطة التنفيذية محصورة من عوائل الملوك والأمراء (المملكة السعودية، مملكة البحرين، الإمارات المتحدة والكويت وقطر).
الثورات والدساتير
خلال انتفاضات العامين ٢٠١١ و٢٠١٢ ظهر الجيش في هذه البلدان قوة رئيسية في احتمالات التغيير. في معظم هذه البلدان كانت الأحزاب ضعيفة تنظيمًا ونفوذًا. التيار السياسي الأبرز هو «الإسلاميون» الذين يستثمرون على الثقافة الشعبية الدينية. أعلنت القوى الأساسية الإسلامية أنها تريد بناء دولة غير دينية. قالت بعض هذه القوى بـ«الدولة المدنية» أو «الدولة الوطنية» (وثيقة الأزهر) واحترام الديمقراطية والتعددية. في معظم البلدان العربية يمثل «الإسلاميون» في حدود الثلاثين بالمئة من الجمهور لكنهم الطرف الأكثر فاعلية. يتصدرون النتائج الانتخابية ويسيطرون على المشهد السياسي. «الإسلاميون» تيارات عدّة، الليبرالية والسلفية والصوفية. يريد «الإسلاميون» أن تكون الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع. هذا الشعار لا يعني شيئًا واحدًا في كل الدول، خاصة تلك التي تتمتع بتعددية دينية ومذهبية وإثنية. وفي السابق كان هذا النص في معظم الدساتير العربية، أو بصورة «الإسلام أحد المصادر الأساسية للتشريع».
ليست البيئة الثقافية والسياسية واحدة في كل الدول العربية، ولا طبعًا مكونات المجتمعات السوسيولوجية.
في تونس توافر الاندماج الاجتماعي كما الانسجام الثقافي حيث لا تكوينات دينية أو مذهبية أو اثنية. وفي مصر هناك انسجام في البيئة الإسلامية لكن الجماعة القبطية (المسيحية) جماعة وازنة.
في ليبيا البنية القبلية هي المحرك الأساسي للنزاعات. أما سورية فهي مجتمع تعدّدي متنوع المذاهب والاثنيات. في اليمن المذاهب أكثر قربًا وانسجامًا في ما بينها (الشافعي والزيدي)، ويتدخل العنصر القبلي ليقوّي البعد المذهبي. وتمثل مشكلة الجنوب الذي انضم إلى الشمال دون حصوله على حقوق متساوية إحدى المسائل الهامة في استقرار اليمن.
رغم كل هذا التكوين المتعدد هناك مستوى من الحداثة والمجتمع المدني في مصر وسورية وتونس، وهناك نسبة عالية من المتعلمين ومن القوى المدينية. عمليًا، الأنظمة والانتخابات والمؤسسات السياسية (الأحزاب) تحدد طبيعة الأنظمة. لا يعني الإسلام السياسي للجمهور الشيء نفسه في هذه الدول. الإخوان المسلمون في مصر جنحوا منذ زمن إلى الانفتاح وقويت فيهم الاتجاهات الليبرالية ومارسوا النشاط الديمقراطي في الانتخابات البرلمانية. أما تونس فزعيم حركة «النهضة» راشد الغنوشي مفكر إسلامي ليبرالي اجتهد لملاءَمة المشروع الإسلامي مع الدول الحديثة. الإخوان المسلمون في سورية خارج الحياة السياسية منذ ثلاثة عقود وينشطون في تنظيم سري وليست لديهم نخبة ثقافية بارزة كما في مصر وتونس. في مصر وسورية أحزاب يسارية (الشيوعيون) وقومية (الناصرية والبعث) وليبرالية (الوفد في مصر لا يقابله حزب ليبرالي سوري). تبدو الممارسة الديمقراطية أسهل في مصر وتونس بينما يشكل الواقع الطائفي صعوبة أكبر في سورية. حفل تاريخ سورية الحديث بالنزاعات الجهوية بين زعماء المدن الكبرى والحذر بين الجماعات الطائفية. اندلاع العنف في سورية يؤجّج النزاع الطائفي حيث السلطة محسوبة في خانة أقلية طائفية، والمعارضة الشعبية تتموضع في بيئة طائفية وازنة جدًا في النسيج الوطني.
ضعف الديمقراطية لدى كل الاتجاهات
لكن ثقافة المجموعات التي توصف بالأقليات هي ثقافة مدنية. إن هذه الجماعات اتخذت وما تزال هويات سياسية مدنية (البعث، الشيوعيون، الناصريون، والقوميون السوريون، والليبراليون).
في سورية، خلافًا لمصر وتونس وليبيا واليمن، المسألة الأكثر حراجة هي الموقع الإقليمي للدولة وحساسيتها تجاه التناقضات المحيطة به. تبدو سورية عقدة المشرق العربي وتصبح المداخلات الخارجية ونزاعات الدول عليها أكبر من أي مكان آخر. إضافة إلى طموحات الدول المجاورة (إسرائيل، إيران، تركيا) هناك التوترات الطائفية الممتدة من لبنان إلى العراق. معركة التغيير الديمقراطي لا تنفصل عن هذه التعقيدات الجيوسياسية والتوازنات الإقليمية. ومن المعروف أن الحروب الأهلية والصراعات الإقليمية ليست بيئة ملائمة للمسار الديمقراطي.
كلما ازداد عنف النزاعات تعاظمت معوقات التحول الديمقراطي. وفي سورية، منذ بداية الستينيات، صراع على هوية الدولة وعلى مركز الشريعة في الدستور. غالبًا ما عنى ذلك الطعن بشرعية سلطة البعث (العلمانية) والعائلة الحاكمة (العلوية).
يُجمع الباحثون على أن الإرث الليبرالي كان ضعيفًا وهامشيًا في خلفية نشوء الدول العربية الحديثة. يصف جاكوب لاندو في كتابه عن الحياة البرلمانية المصرية الأحزاب (قبل ١٩٥٢) بأنها «تجمعات رأي شكلية حول شخصيات سياسية» وقد برز ضعفها التنظيمي على نحو لافت. أما غسّان سلامة فقال بوجود «لحظة ليبرالية» أعقبت استقلال بلدان المشرق العربي ثم انتهت بسرعة على وقع الانقلابات العسكرية.
سيطر على الحياة السياسية العربية خلال مرحلة الاستقلال الفكر القومي الذي تأثر تدريجيًّا بالفكر اليساري. لم تكن الديمقراطية هي القيمة الأساسية لهذا الفكر ولتلك القوى. بل إن هذه القوى نظرت إلى الديمقراطية كثقافة غربية مرتبطة بالاستعمار والإمبريالية. جنحت الدول العربية الحديثة الراديكالية وغير المحافظة إلى تبني أطروحات التحرر الوطني والوحدة القومية والاشتراكية. مثّل وجود «إسرائيل» مبررًا لهذه التوجهات كما مثّلت التحديات الغربية وصراعات الحرب الباردة تبريرًا خادعًا لتطوير آليات الدولة الأمنية في العالم العربي. ألغت هذه الأنظمة الحريات السياسية وخاصة بأنظمة الطوارئ وأحكمت قبضتها على الدولة والمجتمع وتبنت ايديولوجية مزيج من الاشتراكية والقومية والإسلامية. أدى فشل الأنظمة القومية في الداخل والخارج إلى صعود تيارات الإسلام السياسي باسم العدالة (عدالة النظام الإسلامي) والحرية (حرية المجتمعات من الاستبداد ومن الهيمنة الغربية).
يرفض الإسلام السياسي المفاهيم الغربية لأنه يريد بناء نموذجه الثقافي الخاص. لكن هذا الرفض يتراجع تدريجيًا بقبول الإسلام السياسي الانخراط في اللعبة الديمقراطية والانتخابات البرلمانية، ومؤخرًا خاض السلفيون الانتخابات المصرية. يسوّغ قادة الحركات الإسلامية ذلك بأن الديمقراطية هي وسيلة من وسائل تعبير المجتمع عن إرادته. لا يصل الإسلام السياسي إلى فكرة «السيادة الشعبية» أي أن تكون السلطة للشعب وهو الذي ينظم حياته ودولته وفق احتياجاته المعاصرة، بل يعتبر ذلك وسيلة لتحقيق العدالة في الدولة الإسلامية. غير أن الإسلام السياسي العربي يحاول تأهيل مفهوم الدولة المدنية انسجامًا مع تعددية المجتمعات، ولا يعني الإسلاميون بـ«الدولة المدنية» حياد الدولة بين الأديان والاتجاهات الفكرية والسياسية، بل يقصدون أنها غير محكومة من المؤسسات الدينية أو رجال الدين. الدولة المدنية دولة يحكمها مسلمون وهي تحترم حقوق الجماعات الأخرى وفق شريعتها. يذهب بعض قيادات الحركات والأحزاب الإسلامية إلى «فقه المعاملات» (لتمييز ذلك عن فقه العبادات) ويقولون بإمكان إباحة بعض المعاملات الاجتماعية (أي إخضاعها للعقد المدني الوضعي). لكن لم يستقر الإسلاميون على مفهوم واحد للدولة بعد.
الإسلاميون ومعركة تعديل الدساتير العربية
ينص دستور الجمهورية التونسية الاول من حزيران/يونيو ١٩٥٩ على ما يلي: «تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها. والجمهورية التونسية جزء من المغرب الكبير، والشعب التونسي صاحب السيادة يباشرها على الوجه الذي يضبطه هذا الدستور».
عندما نجحت الثورة التونسية في شباط/فبراير ٢٠١١ وأخذت على عاتقها تعديل الدستور التونسي، رأى راشد الغنوشي أن لا حاجة إلى تعديل هذه المواد (ف ١ و٢ و٣) من مقدمة الدستور التي تنص على أن الشعب التونسي مسلم. فالشعب التونسي شعب مسلم وكفى. ولا حاجة بالتالي إلى النص على ان دين الدولة هو الإسلام. اتجهت التعديلات إلى تنظيم السلطة السياسية وكيفية تداولها والصلاحيات في ما بينها. ومع ان رئيس الوزراء التونسي خرج داعيًا فور تعيينه إلى قيام الدولة الإسلامية وإعلان «الخلافة السادسة» لم يؤثر ذلك على الجو العام في الشراكة الوطنية، في الانتخابات وتوزيع أعضاء الحكومة والرئاسة.
في المغرب، تقوم السلطة تاريخيًا على شرعية دينية. فالملك هو أمير المؤمنين يحرص على تطبيق الشريعة الإسلامية وفق المذهب المالكي. لم يحصل في المغرب جدل في هذه المعادلة لأن المعارضة المغربية اتجهت إلى تقوية سلطة الحكومة التنفيذية وتعزيز دور البرلمان والحريات العامة.
قام الملك بحركة إصلاحية عند توليه السلطة، ثم استجاب لبعض مطالب المعارضة أخيرًا ونص الدستور المغربي على الآتي: «تصدير: المملكة المغربية دولة ديمقراطية يسودها الحق والقانون.
مجتمع متضامن يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية ومقدمات العيش الكريم. المملكة المغربية دولة إسلامية موحدة بانصهار مكوناتها العربية، الإسلامية، الأمازيغية، الصحراوية الحسّانية، والغنية براوفدها الأندلسية والعبرية والمتوسطية...
يتضح أن الدستور المغربي يعتبر المغرب دولة إسلامية وليس الإسلام دين الدولة. أما السيادة فهي للشعب والمرجعية الإسلامية منوطة بالملك والمجلس الأعلى وفق «مقاصد الشريعة» أي يأخذ «بالمصالح المرسلة» والاجتهاد فيها. وينص الدستور المعدل على المكونات العرقية والدينية الأخرى (الأمازيغية، الصحراوية، واليهودية...).
في ليبيا أعلن رئيس المجلس الوطني الانتقالي مباشرة تطبيق الشريعة الإسلامية، لكننا لا نعرف بعد طبيعة المؤسسات التي ستنشأ ولا الدستور وأحكامه والمقصود العملي من تطبيق الشريعة، ففي دستور الجماهيرية الليبية في ٢ آذار/مارس ١٩٧٧ يرد «القرآن الكريم هو شريعة المجتمع في الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية... والسلطة للشعب ولا سلطة لسواه». في اليمن العربي نص دستور ١٩٦٥ ــ وتكررت المقدمة لاحقًا في التعديلات ــ على أن اليمن دولة عربية إسلامية والشعب مصدر السلطات والإسلام دين الدولة والشريعة الرسلامية مصدر القوانين جميعًا. في المقابل، نص دستور جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في١١ اكتوبر ١٩٧٠ على أن الشعب اليمني جزء من الأمة العربية ويمارس الشعب العامل كل السلطة السياسية (تحالف الطبقة العاملة والفلاحين والبرجوازية الصغيرة) ويقوم تنظيم الحزب القائد على أساس الاشتراكية العلمية. وفي دستور الجزائر ١٩ في حزيران ١٩٦٥ ان الجزائر جمهورية ديمقراطية شعبية اشتراكية والإسلام دين الدولة والسيادة للشعب.
مصر سورية
ينص دستور مصر (٢٣ يونيو ١٩٥٦) على الآتي: «مصر دولة عربية مستقلة... جمهورية ديمقراطية والشعب المصري جزء من الأمة العربية والسيادة للأمة والإسلام دين الدولة». عُدّل الدستور المصري غير مرّة لكنه حافظ على هذه الأسس والمنطلقات. وحين قامت ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ طالب الإسلاميون بتضمين هوية الدولة عدّة أوصاف. منهم من قال مصر دولة إسلامية أو مدنية أو وطنية ومنهم من طالب باعتبار الإسلام دين الدولة والشريعة المصدر الوحيد للتشريع.
لكن المعارضة الديمقراطية العلمانية نفسها أوصت بما يلي:
ــ جمهورية مصر العربية دولة ديمقراطية
ــ الشعب المصري جزء من الأمة العربية
ــ الإسلام دين غالبية المصريين.. وتكفل الدولة حرية الاعتقاد بجميع المواطنين. (يحفظ هذا النص موقع الأقباط المسيحيين).
ــ المصادر الرئيسية للتشريع هي مبادئ الشريعة الاسلامية والمواثيق والاتفاقات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.
ومعظم الجدل الدائر الآن هو حول المادة الثانية من الدستور المصري أي حول مركز الشريعة الإسلامية في هذا النظام، فهل الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع، أم مبادئ الشريعة مصدر أساسي من مصادر التشريع؟ الإشكالية نفسها مطروحة في سورية التي نص دستورها (١٣ آذار/مارس ١٩٧٣) على أن «الجمهورية العربية السورية دولة ديمقراطية شعبية واشتراكية... وهي جزء من الوطن العربي، والسيادة للشعب.. ودين رئيس الجمهورية الإسلام.. والفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع». وقد حافظ الدستور الجديد على هذه البنود (٢٠١٢).
ما الفوارق بين هذه النصوص الدستورية:
دولة إسلامية،
الإسلام دين الدولة أو دين الدولة الإسلام،
الإسلام هو المصدر الأساسي للتشريع،
الإسلام مصدر أساسي أو مصدر من مصادر التشريع،
الفقه الإسلامي مصدر للتشريع أو مبادئ الشريعة مصدر للتشريع؟
وهناك تعابير أخرى مختلفة..
ينصرف وصف الدولة المسماة إسلامية إلى هويتها التاريخية الحضارية، بينما ينصرف القول إلى أن دين الدولة هو الإسلام إلى هوية الدولة والنظام السياسي وسيادة الإسلام في تنظيمها.
وينصرف القول إن الإسلام مصدر من مصادر التشريع إلى الأخذ في الاعتبار دين غالبية الجمهور وأحواله الشخصية التي ترتبط بالشريعة الإسلامية. بينما مرجعية الشريعة تعني السلطة السائدة على التشريعات، أما الفقه فهو ينطوي على القبول بتعدد المذاهب والاجتهاد والمصالح المرسلة. ولقد اعتمد عبد الرزّاق السنهوري، الذي أعد معظم القوانين المدنية العربية في الأربعينيات، على أحكام المجلة العدلية العثمانية والفقه الإسلامي.
يصعب في ظل صعود الإسلام السياسي تنزيه الدولة عن الصفات أو إعلان حيادها المطلق، ما يعتبر في الثقافة الإسلاموية السائدة الآن علمنة للدولة والمجتمع. أي حياد الدولة المطلق وبالتالي حماية الدعوات العلمانية وممارستها. ويصعب أيضًا عدم ذكر مرجعية الشريعة كأحد المصادر الأساسية في ظل التوازن السياسي الحالي. هذه المعركة انفتحت حول الدساتير العربية في مراحل سابقة وحول تشريعات تتعلق بقوانين الموجبات والعقود ودائمًا في نطاق الأحوال الشخصية.
استطاعت مصر أن تطور نظامها المدني رغم الاستبداد السياسي. لعبت الثقافة التاريخية، ولا سيّما المؤسسات القضائية، دورًا مهمًا في الدفاع عن الحريات المدنية (مستمدة من الحقوق الطبيعية وتجسّدها القوانين الوضعية). كان لإنشاء المحكمة الدستورية أثر مميز في تعريف «النظام العام الوطني» ومدى حدود سيطرة الشريعة الإسلامية على القوانين في إطار احترام حرية جميع الفئات. ساهم التوازن السياسي في المجتمع في كبح جماح الإسلاميين مرارًا في استخدام السلطة للتضييق على حرية التعبير والتفكير والإبداع والبحث العلمي والأدبي. لم يمنع ذلك استجابة السلطة لبعض مطالب المرجعيات الدينية (الأزهر) لملاحقة مفكرين مثل الراحل نصر حامد أبو زيد أو الاعتداء على الروائي نجيب محفوظ أو طه حسين من قبل أو نوال السعداوي، وذلك من خلال ما يسمّى «نظام الحسبة في الإسلام» أي «النيابة العامة الإسلامية». وأخيرًا ملاحقة الممثل الفنان عادل إمام والحكم عليه بالسجن. أو من خلال تطبيق بعض أحكام الردة ومنع الزواج المختلط (المسلمة من مسيحي) (حادثة الفتاة التي لجأت إلى الكنيسة القبطية) والتضييق المتزايد على أجواء الحريات الشخصية في معظم البلدان العربية (ملاحقة فتاة سودانية لأنها اتخذت بنطال الجينز زيًّا لها، أو ملاحقة الفتاة اليمنية التي اتّهمت بالسفور. وبعض الإسلاميين يفرضون النقاب لا الحجاب فقط). باستثناء لبنان، لم تلتزم أي دولة عربية ميثاق حقوق الإنسان العالمي والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهود الأخرى لحماية المرأة من التمييز والطفل ومكافحة العنصرية والتعذيب (هذه القوانين المدنية الوضعية).
حاولت جامعة الدول العربية إقرار ميثاق حقوق الإنسان العربي، وقد أعد هذا الميثاق وفق الاستثناءات المرتبطة ببعض القيود الشرعية الدينية لكنه لم يصبح ملزمًا. واعترضت كل الدول العربية، بما فيها لبنان، على مواثيق حقوق المرأة والطفل في مؤتمر بيكين لأن الأحوال الشخصية التي تنظم الأسرة ذات مصدر ديني. في تجربة تونس واليمن الجنوبي سابقًا أمكن إقرار قانون موحد للأحوال الشخصية ألغى تعددية الزوجات وحدّد سن الزواج وخفض قيمة المهر الى حده الادنى ومنح المرأة حق الطلاق ونظم بعض شؤون الأسرة. لكن هذه القوانين الوضعية جرى إقرارها في بيئة تتمتّع بالانسجام الديني والمذهبي وتوافرت فيها ثقافة مدنية مؤثّرة. في لبنان الأكثر ارتباطًا بالثقافة الليبرالية، لم يستطع اللبنانيون إقرار قانون زواج مدني اختياري للأحوال الشخصية رغم وجود الحق الدستوري والحق القانوني في نظام الطوائف الذي أقر تحت الانتداب عام ١٩٣٦.
ورغم أن الإسلاميين غير السلفيين قدّموا تعهدات على مدنية الدولة وعلى كفالة الحريات عادوا يستخدمون سلطة الشريعة لتضمين الدساتير أحكاما تمييزية ملزمة بهدف التجييش الشعبي وبسبب خواء برنامجهم السياسي والاجتماعي من إجابات محدّدة على المشكلات الحقيقية المطروحة على الدول العربية. إلى ذلك، تتنافس بعض الاتجاهات الإسلامية في التشدد إزاء تضمين الدستور أحكامًا لإقامة الدولة الإسلامية، أي لتحويل الدولة سلطة في يد هذه الاتجاهات الدينية المتشددة. تفتح هذه المواجهة على مسألتين: الأولى، الإصلاح الديني في الإسلام الذي لم يسبق إنجازه بحيث لا تكون سلطة الدين واستخدامه مباحة لكل من يقيم نفسه مرجعية، وكذلك بحيث يتم الفصل بين ثقافة التديّن الشعبي وبين مصادرة الدين من قبل رجال الدين أنفسهم وهذا منتهى العمل السياسي الوضعي المدني أصلًا. الثانية هي إصلاح ثقافة المجتمع من خلال التمييز الواضح بين الإيمان الديني والممارسة السياسية واكتساب الثقافة المدنية والعلمية وتكريس حق الإنسان الطبيعي في التفكير الحر والاعتقاد والتعبير وضمان المساواة السياسية والمدنية بين المواطنين.
في معظم الدول العربية التي أقرت مرجعية الشرع الإسلامي بصفة أحد مصادر التشريع أو حتى المصدر الرئيسي، كان القضاء يشكّل الجهة التي تفسّر وتطبق القوانين ومدى حدود سلطة الشريعة. ففي مصر، لعب القضاء دورًا مهمًا في حماية حقوق الجماعات التي تلتزم تطبيق الشريعة لأنها ليست من رعايا الإسلام. في هذا الصدد هناك اجتهادات مصرية أكدت أنه «لا يجوز استبعاد تطبيق القانون الأجنبي (أو حتى قانون الجماعة غير الإسلامية) ما دامت هذه الأحكام لا تشكّل مخالفة للنظام العام أو الآداب العامة ولا تمس كيان الدولة أو مصلحة عامة أو مصلحة عامة أساسية للجماعة». وفي سياق آخر كانت المحاكم الإدارية والدستورية تميل إلى توسيع الحقوق المدنية (الوضعية) في وجه تقييدات الشريعة.
لكن المراجع الدينية في معظم البلدان العربية تتولى الفتوى (أو الفتية) في الإشكالات التي تستثير خلافًا. لذا تقوم المواجهة الأساسية في تنظيم مؤسسة القضاء وفي التشريعات القانونية الضامنة للحريات، لاسيّما قانون العقوبات والمحاكمات الجزائية وقوانين الإعلام وحريات التعبير والتفكير والضمير.
واقل ما يقال ان السجالات لا تزال في اولها.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.