مرت حركة «٢٠ فبراير» بثلاث مراحل رئيسية. مرحلة التأسيس، ومرحلة «المواجهة» قبل أن تسيطر عليها «العدل والإحسان»، ومرحلة الضمور. في هذه الدراسة نحاول تقديم تركيب لأهم محطات الحراك الشعبي المغربي، والتأريخ لتفاعلاته ومكاسبه و«أزماته» واستشراف آفاقه المستقبلية الممكنة.
يوم ٢٠ فبراير/شباط ٢٠١١، أي بعد خمسة أيام من اندلاع الثورة المصرية، وأكثر من شهر على انتصار الثورة التونسية استجاب عشرات الآلاف من المغاربة لدعوة إلى الخروج إلى الشوارع أطلقها شباب مغاربة على موقع فايسبوك.
الحراك كان وليد سياق سياسي عربي انتصر فيه المواطنون لفكرة احتلال الشارع من أجل المطالبة بإصلاحات ولإسقاط الأنظمة السياسية. إذا كانت الحركات الشبابية في العالم العربي تبنت مبادئ ثورية «راديكالية» ورفعت شعار إسقاط النظام أولًا وأخيرًا كما حدث مع المصريين والتونسيين، فإنّ المحتجين المغاربة رفعوا مطلبًا أقل جذرية تمثل في المطالبة بالإبقاء على النظام الملكي، لكن مع إحداث تغييرات شاملة في تنظيم الحكم، على أساس أن يصبح النظام الملكي المغربي شبيها بالأنظمة الملكية الأوروبية التي يسود فيها الملك ولا يحكم. وبهذا كان سقف المطالب هو «ملكية برلمانية» يحافظ فيها الملك على موقعه «الرمزي» في الدولة. رفعت الحركة في أسابيعها الأولى، إلى جانب مطلبها الرئيس، العديد من المطالب، التي ارتأت أنّ تحقيقها سيخرج المغرب من الفساد السياسي و«الحقرة» (الاحتقار) وهيمنة لوبيات الفساد المقربة من «المخزن». تختزل المطالب الرئيسة في حراك شباب «٢٠ فبراير» عدّة مطالب اعتبروا أنّها مدخل الديمقراطية في المملكة: الملكية البرلمانية، إقالة الحكومة، مجلس تأسيسي يأتي بدستور جديد، حل البرلمان، إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، محاكمة مسؤولين سياسيين واقتصاديين وأمنيين، منهم أسماء مقربة من القصر؛ إضافة إلى مجموعة من المطالب الاقتصادية والاجتماعية.
ومن أهم الملامح في بداية الاحتجاج رفع مطلب «الشعب يريد إسقاط الاستبداد»، الذي ظل ضبابيا ولم يفهم منه حينها إن كان تمهيدا لمطلب إسقاط النظام، أم أنه كان مطلبا من أجل القطيعة مع ممارسة سياسية يتحكم فيها الملك بسلطة القرار الشاملة وفق القوانين والدستور.
من التخوين إلى الشارع...
قبيل الخروج إلى الشارع انطلقت حملة تخوين في بعض وسائل الإعلام الوطنية، منها وكالة الأنباء الحكومية وصحف «مقربة من النظام». وصفت الصحف أعضاء من «٢٠ فبراير» أطلقوا نداءات عبر الإنترنت قبل الخروج إلى الشارع، بالـ«مسيحيين»، و«عملاء البوليزاريو»، و«المثليين»... وهي كلها نعوت تؤثر في التعاطف مع دعوات الاحتجاج.
أطلقت أيضا حملة إعلامية تروج لإلغاء مسيرات «٢٠ فبراير» من طرف المعلنين عنها. قصاصة نشرتها «وكالة المغرب العربي للأنباء» قالت فيها: «إن رشيد عنتيد أحد مؤسسي صفحة «حركة حرية وديمقراطية الآن» (الداعية للخروج إلى الشارع يوم ٢٠ فبراير/شباط) أكد على «إلغاء الدعوة التي وجهتها حركتهم إلى التظاهر يوم غد الأحد ولقيت دعوته تجاوبا من قبل العديد من الشباب». في ما بعد، اكتشف أن عنتيد قبل تحت الضغوط والإغراءات بالإعلان عن إلغاء الاحتجاج. زملاؤه في مجموعة فايس بوك الذين أطلقوا الفكرة أكدوا أنهم يرفضون هذا المبدأ وأنهم يصرون على تنظيم الوقفات في مدن المملكة. هشام أحلا أحد مؤسسي الصفحة المذكورة، صرح على صفحته في الموقع الاجتماعي بأنه لم يستشر من طرف عنتيد و«لم يجر إخباره بمحتوى القرار». وأضاف: ما «وقع كان دون علمي كما أنه خطوة فردية لا تعبر عن قرارات الحركة. نعبّر الآن في هذه اللحظة التاريخية عن استغرابنا لما صدر عن رشيد ونقول له إن الأهداف التي سطرتها الحركة مند تأسيسها سنخرج من أجلها حتى تتحقق».
في الدار البيضاء خرج نحو ١٦ ألف مواطن يوم ٢٠ فبراير/شباط إلى «ساحة الحمَامْ» كما نظّمت عشرات الوقفات عبر المملكة، تعدى عدد المشاركين فيها نصف مليون شخص، حسب الحركة.
كان التاريخ إذا تاريخ ولادة الـ«٢٠ فبراير»، إلا أنه يوم حزين من تاريخ الحركة التي تعمدت بالدماء. السلطات وبدل مقابلة الاحتجاجات بالقمع الذي يجر عليها السخط الشعبي، كما حدث في مصر وتونس، استفادت من الدرس في البلدين، وقابلت الوقفات والمسيرات التي عرفها البلد بتكتيك جديد تمثل في «الحياد السلبي»، بينما تدخلت بعنف في المدن الصغرى المعروفة بمكانتها الرمزية كصفرو التي سبق أن عرفت انتفاضة. في مدينة صفرو سقط كريم الشايب ضحية عنف عناصر أمنية، ويوجد تسجيل فيديو يوثق للتدخل العنيف لقوى الأمن في حقه. في المقابل، عرفت مدن كمراكش والحسيمة وطنجة «انفلاتا أمنيا». خمسة من شباب الحركة في مدينة الحسيمة هم جعفر نبيل، القاضي عماد، بنقدور جواد، السالمي جمال، البوعزاوي سمير، ماتوا محروقين في وكالة بنكية. الرواية الأولى التي روجت لها السلطات الأمنية ووسائل الإعلام الحكومي كانت أنهم لصوص لا علاقة لهم بالاحتجاجات حاولوا سرقة البنك المحترق... لكن الوقائع توضحت في ما بعد. نشرت حركة «٢٠ فبراير» تسجيلا يظهر مشاركتهم في مسيرة يوم العشرين. لف الكثير من الغموض تفاصيل وفاتهم. اختفى تسجيل كاميرات مراقبة الوكالة البنكية، ولم يفرج إطلاقًا عن نتائج التحقيقات في الملف. مدينتا طنجة ومراكش عرفتا انفلاتا أمنيا، طيلة يومين بعد الحادث، إذ تم تكسير واجهات محال، وحدثت عمليات شغب، لكن الحركة نفت في مجمل بلاغاتها أن يكون المتورطون في الأحداث منتمين إليها أو مشاركين في مسيراتها. ويبدو أن «الحياد السلبي» للسلطات الأمنية في تأطير الاحتجاج آتى نتائجه، فكانت ضريبة الأعمال التخريبية على تطور الاحتجاج في المدينتين غالية، إذ تميزت نسب المشاركة بالمسيرات طيلة أشهر تلت الحادث بوصولها إلى الضعف. لكن الحركة في مدينة الدار البيضاء والرباط، عرفت نجاحا ثم ازدهارا. كل أسبوع كانت الحركة تنظم وقفة في مدن الدار البيضاء والرباط يرتفع عدد المشاركين فيها، قبل أن تقرر تنظيم مسيرات، خصوصا في الدار البيضاء يوم ٢٠ مارس/آذار ٢٠١١، وكانت المسيرة الأكبر في تاريخ الحركة في المدينة حيث وصل عدد المشاركين فيها إلى أكثر من ستين ألف شخص. جاءت مسيرة عشرين مارس/آذار ردًا على التدخل الأمني في مدينة الدار البيضاء يوم ١٣ مارس/آذار، الذي خلف عشرات الجرحى، واقتحمت خلاله قوات الأمن مقر «الحزب الاشتراكي الموحد»، أحد الداعمين للحركة وحيث كانت تجرى جمعيتها العامة.
خدعة «التعديل الدستوري»
أربك الخطاب الملكي المشهور بخطاب «٩ مارس»، حسابات حركة «٢٠ فبراير». وجدت الحركة نفسها أمام مجموعة من التنازلات الملكية، التي تحقق بعض مطالب الحركة. فخلال الخطاب أعلن الملك عن «تعديل» الدستور، وإقالة الحكومة والبرلمان، وإجراء انتخابات مبكرة. طريقة الإعلان عن هذه «الإصلاحات»، والترويج الإعلامي الكبير لها في وسائل الإعلام روجا لفكرة مفادها أن الملك استجاب لكل مطالب الحركة. ومباشرة بعد الخطاب، أعلن القصر عن خروجه من مشاريع اقتصادية وإعادة هيكلة الشركات الملكية.
طيلة حراك «٢٠ فبراير» اعتمدت السلطة في المغرب الإعلام لمواجهة الحراك الشعبي والشبابي. فهم النظام بسرعة أن نبرة التخوين لن تنفع في أي شيء، وتحولت وسائل الإعلام المغربية الحكومية من تلفزيون وإذاعات إلى أداة لـ«التطبيع» مع الحركة وجعلها ظاهرة احتجاجية مجتمعية تدخل خانة «الاعتيادية». هكذا عمد الإعلام الحكومي إلى «تحييد» الحركة وتحويلها من إمكانية ثورية/معارضة تطرح بديلا، وتهدد بنية النظام، ونمط وجوده ومنطقه الداخلي، إلى مجرد ظاهرة احتجاجية استجاب لها النظام الملكي، بل وكان سباقا عليها بمقترحاته التي تحلحل الأزمة السياسية بالبلد.
استقبلت المحطات التلفزيونية شبابا يمثلون «٢٠ فبراير» في برامج حوارية تبث على الهواء، ومنحتهم الحق في التعبير كما يريدون، كما استقبلت صحف مقربة من السلطة الشباب أنفسهم على صفحاتها، فانتقلت الصورة الرمزية «المعارضة» إلى صورة الحركة «الإصلاحية». التحول في الفضاء الذي يستوعب الشباب من الشارع إلى التلفزيون ووسائط اتصالهم من الفايس بوك إلى الشاشات وصفحات الجرائد، غَيَّر من وقع خطابهم ليصبح في خانة الاعتيادي. هكذا صرنا إزاء صورة يقدم فيها الشباب على أنهم إصلاحيون، ويحاربون ــ كما تحارب السلطة ــ الفساد السياسي والاقتصادي المتغلغل في البلد، بدل صورتهم كشباب يضعون مرتكزات السلطة محل تساؤل.
البروباغندا الإعلامية الرسمية سوقت لمقترحات الملك التي تخص التعديل الدستوري على أنها فتح سياسي جديد للمؤسسة الملكية، وتم إنزال قوي لكل وسائل الاتصال بما فيها التقليدية من «أعوان السلطة»، لأجل إقناع الناخبين بضرورة التصويت بـ«نعم» خلال الاستفتاء الدستوري. قبلها أعلن عن تأسيس لجنة «مراجعة الدستور» التي ترأسها القانوني عبد اللطيف المنوني، مقابل مطلب «المجلس التأسيسي». رفضت الحركة الجلوس إلى طاولة الحوار مع اللجنة (التي عين رئيسها بعد ذلك بأشهر مستشارًا للملك) وتقديم مقترحات لها كما دعت إلى مقاطعة الاستفتاء الدستوري، لكنها بالمقابل عجزت عن تطوير تصور واضح للنص الدستوري الذي تريده.
في الضفة الأخرى أي ضفة السلطة، التقى أعضاء اللجنة عشرات الفاعلين السياسيين والنقابيين المنضوين في تنظيمات، ومنظمات أهلية، لإضفاء صفة «التوافق بين جميع مكونات وشرائح البلد حول النص الجديد للدستور». تحققت «الخدعة»، وفي عملية تزوير كبيرة طاولت العديد من مكاتب الاقتراع، كما أوردت وسائل إعلام ومنظمات حقوقية راقبت الانتخابات، صوت ٩٨ في المئة من المقترعين بـ«نعم» على الدستور.
توسع رقعة الاحتجاج
الحركة بالمقابل عرفت امتدادا مستمرا في عدة مدن. أعداد المساهمين في مسيراتها بطنجة ومدن الريف، ومدن حوض الفوسفاط تكاثرت. وعرفت العديد من المدن والقرى وقفات ومسيرات واعتصامات.
مدن حوض الفوسفاط وجدت بدورها توسعا في الحراك الاحتجاجي، وقادت هذه الاحتجاجات «٢٠ فبراير»، إلى جانب المعطلين، وأبناء متقاعدي الفوسفاط. خريبكة شهدت مواجهات عنيفة بين الأمن والمتظاهرين، وأحرقت عدة مؤسسات تابعة لـ«المكتب الشريف للفوسفاط» (الذي يعدّ أكبر مُنْتَج وطني وتدبره الشركة المذكورة)، بينما لجأ ناشطون في «٢٠ فبراير» وجمعيات المعطلين بكل من اليوسفية وآسفي إلى منع القطارات التي تنقل الفوسفاط من المرور بالسكك، مقيمين الحواجز البشرية.
تعامل السلطات مع الاحتجاجات اختلف من مدينة إلى أخرى. راوح ما بين التدخل الأمني في بعض المدن والسماح بتنظيم مسيرات دون التدخل في حق المحتجين. لكن التدخل الأمني في عدة مدن عرف تجاوزات: في آسفي مثلا، وقعت حالتا وفاة، أبرز ضحاياهما كمال عماري، كونه أول شهيد (يوم ٢٩ ماي/ ايار ٢٠١١) يسقط خلال تظاهرة لـ«٢٠ فبراير» على أيدي الأمن. الشاب المنتمي إلى جماعة العدل والإحسان، و«٢٠ فبراير»، شارك بمسيرة للحركة، في حي «كاوكي» بالمدينة، المعروف بتعبئة قوية للحراك في شوارعه. لكنه أحيط بعناصر من قوات التدخل السريع، حسب شباب الحركة في المدينة، وتعرض لضرب مبرح، فارق على اثره الحياة بعد أيام، بينما يقول تقرير الطب الشرعي إن وفاته نتجت من اعتلال رئوي. التدخل الأمني في عدة مدن كان عنيفا، كما اختطف أعضاء من الحركة وعذب بعضهم قبل الإفراج عنهم. غير أن هذه التدخلات كانت جزئية، إذ تم تدبير الملف من طرف السلطات الأمنية، بطريقة يجري فيها الابتعاد ما أمكن عن التدخل الأمني.
مدينة الرباط بالمقابل شهدت أكبر عدد من التدخلات الأمنية. ولما أراد ناشطون في الحركة تنظيم شكل من أشكال الاحتجاجات فيها، أطلق عليه «بيك نيك» (نزهة) أمام مقر جهاز الاستخبارات «المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني»، والذي توجه له تهم من طرف منظمات حقوقية دولية ووطنية بتعذيب معتقلين داخل مقاره، حدث تدخل أمني عنيف في حق ناشطي الرباط، سبق تنظيم النزهة. شهدت مدينة الرباط أكبر عدد من التدخلات الأمنية لثني «٢٠ فبراير» عن تنظيم مسيراتهم ووقفاتهم، وذلك لحساسيتها بحكم أنها عاصمة المملكة.
بعد الإعلان عن تعديل دستور المملكة في الخطاب الملكي لـ٩ مارس/ آذار، وتنصيب «اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور» رفضت حركة «٢٠ فبراير» الدخول في أي حوار مع المؤسسات. واعتبرت الحركة أن الإعلان عن اللجنة لا يستجيب لمطلب «المجلس التأسيسي». واستمرت في الاحتجاج. وحين أعلن عن التعديل الدستوري ساهمت للحركة في حملة مقاطعة الدستور التي دعت إليها إلى جانب أحزاب تحالف اليسار الديمقراطي («المؤتمر»، «الطليعة»، «اليسار الاشتراكي الموحد»)، و«النهج الديمقراطي».
ونظمت الحركة عدة حملات لدعوة المواطنين إلى الامتناع عن المشاركة في الاستفتاء الدستوري. إلا أنها لم تحقق ما كانت ترجوه. «٢٠ فبراير» دعت إلى مقاطعة الانتخابات التشريعية أيضا، ونظمت تجمعات ووزعت منشورات تدعو إلى المقاطعة.
أخطاء في التدبير
إذا كان النظام نجح في تدبير المرحلة، فقد كانت حركة «٢٠ فبراير» أمام أزمة داخلية تمثلت في كيفية اتخاذ قرارات. الطابع غير المنظم للحراك، وتعدد مصادر القرار أدخلاها في بعض الأحيان نفق الارتجال مع تعدد الأجندات داخلها، إذ لم تعد حراكا شبابيا رموزه من «المستقلين» كما في بداياتها، بل صارت الحركة أمام مستويين مختلفين من اتخاذ القرار.
على مستوى «المركز»: في مدينتي الرباط والدار البيضاء وجدت الحركة نفسها أمام مأزق إنزال الأحزاب السياسية. فقد عرفت العاصمة الرباط صراعات بين شباب مستقلين وآخرين ينحدرون من أحزاب وتنظيمات يسارية، أرادوا الاستحواذ على قرار الحركة، بينما في الدار البيضاء، عرفت لجان كالمالية واللوجستيك والشعارات سيطرة أحزاب سياسية معينة على مقرراتها. وأصبحت الجموع العامة، التي يفترض أنها برلمان الحركة في الدار البيضاء، في الكثير من لحظاتها، مجرد جموع شكلية تشهد فرض قرارات سابقة اتخذت في اجتماعات سرية.
على مستوى التنسيق الوطني: تكرر الأمر. كذلك دفع اختلاف تمثيليات الحساسيات السياسية داخل كل موقع إلى اختلاف في الأشكال الاحتجاجية على المستوى الوطني وتباينها. الطابع غير المنظم للحركة على المستوى الوطني، وغياب التواصل بين المدن أدّيا إلى «إنهاك الحركة» ودخل بها إلى مرحلة من الاختلافات وتبادل الاتهامات بين مختلف مكوناتها وتقدير المرحلة بين مواقع تجزم بأن عليها التصعيد وأخرى تقول بالحفاظ على نمط معين من الاحتجاج. إسلاميو «العدل والإحسان» المنظمون على الصعيد الوطني والذين لا ينزلون إلى الشارع إلا بأمر قياداتهم، وأحزاب اليسار التي يختلف حضورها في المدن، ويختلف حجمها السياسي وحضورها أثروا في الحراك. اليسار كان له حضور قوي على مستوى القرارات، لكنه لم يكن بالحجم نفسه خلال التعبئة، خصوصا أننا هنا نتحدث عن أحزاب تعرضت للتضييق طيلة عقود، أصبحت معها أحزابا صغيرة لا يتعدى عدد ناشطيها والمتعاطفين معها عشرات الآلاف في بلاد تعداد سكانها أكثر من ثلاثين مليون شخص.
إنزال الأحزاب داخل الحركة، لم ينقل إليها فاعلية تنظيمية وقدرة على التعبئة كما حدث في تجارب دول أخرى، بقدر ما نقل إليها مشاكل الديمقراطية الداخلية الغائبة عن العديد من الأحزاب، من جانب والصراعات في ما بينها من جانب ثان. العديد من المتعاطفين مع الحركة، والناشطين فيها، انسحبوا بعد إحساسهم بأن حراك «٢٠ فبراير» سرق الشباب لصالح الأحزاب السياسية التقليدية التي يعدّونها جزءا من المشكلة.
معطى آخر ساهم في انحسار مد الحراك في الشارع: يتعلق الأمر باختيار تنظيم المسيرات الأسبوعية للحركة، وكانت تنظم أيام الآحاد، في الأحياء الشعبية خلافا للتوجه الذي كانت تسير به الحركة في الأول والمتمثل في تنظيم وقفات ومسيرات في مركز المدينة. الأحياء الشعبية صارت عائقا أمام الحركة بدل منحها ألقًا، فهي ليست أرضا محايدة كما مركز المدينة، بل يسيطر عليها منتمون إلى أحزاب مقربة من السلطة، لهم ما يشبه العصابات الإجرامية. «بلطجية» الأعيان الحزبيين، اعتدوا على مسيرات «٢٠ فبراير» أكثر من مرة، وأعطوا مبررا للأمن بالتدخل لتفريق المتظاهرين بينما في الحقيقة كان تدخله لإنهاء مسيرات الحركة. هكذا كان قرار نقل الاحتجاجات إلى الأحياء الشعبية، والاعتقاد بأن هذا كفيل بأن يفجر مواجهات مع الأمن، والاتجاه بالاحتجاجات إلى أفق آخر خاطئ...
تقلص حجم المشاركين في الوقفات إذًا، وتغيرت التركيبة السوسيولوجية للمحتجين. ففي الحين الذي تميزت فيه الحركة خلالها أشهرها الستة الأولى بمشاركة مكثفة للطبقة المتوسطة، شهدت مشاركة تكتلات ذات مطالب اجتماعية بحتة كمشاكل السكن، وتوزيع الماء والكهرباء، والنقل إلخ. غاب السياسي المحض عن الحركة، وفقدت قدرتها على التعبئة بتبنيها التركيز على مطالب اجتماعية وفئوية وانتقالها إلى الأحياء الشعبية.
كذلك وجدت الحركة نفسها أمام أزمة في التعبئة وبناء التحالفات، فالتنظيمات التي يفترض أن تتحالف مع الحراك الاحتجاجي، تعيش في المغرب أزمة وجود حقيقية. الاتحادات الطلابية تعرف انشقاقا كبيرا وعدم قدرة على خلق وحدة طلابية وتنظيم طلابي قوي، بينما النقابات تعيش أزمة كبيرة وتشهد سيطرة ديناصورات نقابية تخنق الفعل النقابي، ولم تعمل على التحالف مع الحركة وإنزال مناضليها إلى الشارع. الطلاب والعمال كانوا ليشكلوا اختلافا جوهريا في الحركة.
سيطرة العدليين
انطلاقا من شهر ماي/أيار ٢٠١١ بدأت تترسخ هيمنة جماعة «العدل والإحسان» الإسلامية المحظورة على حركة «٢٠ فبراير». العدليون، الذين سايروا مد الحركة اقتداء بإخوان مصر، هيمنوا على العشرينيين بقفازات من مخمل، خصوصا في مدينة الدار البيضاء عبر ما أطلق عليه «النواة الصلبة»، وكانت تضم «العدل والإحسان» إلى جانب حساسيات سياسية أخرى من اليسار الجذري اتفقت مصالحهم مع الحركة واعتبروا أنها تخدم أجندتهم. النواة كانت تحسم في أماكن انعقاد مسيرات «٢٠ فبراير»، خلافا للمرحلة الأولى من الحركة والتي كانت قراراتها فيها تخرج عن الجموع العامة..
وبعدما كانت «العدل والإحسان» تكتفي بالحضور بكثافة داخل مسيرات الحركة ووقفاتها، وشغل فضاءات خاصة تضم أنصارها ذكورا وإناثا، دون محاولة الهيمنة على طبيعة تنظيم الشكل الاحتجاجي... تحولت مع مَرِّ المسيرات إلى العنصر المهيمن على وقفات الحركة ومسيراتها. في إحدى مسيرات الحركة (يوم ٢٩ ماي/ايار ٢٠١١) وقع حدث دال: إذ حين أراد أحد ناشطي «٢٠ فبراير»، أخذ الميكروفون من أجل ترديد بعض الشعارات نزعه من يده أحد أعضاء «العدل والإحسان»، ورفض السماح له بالحديث، تحت تهديد ممارسة العنف عليه. وكانت هذه بداية تحول مواقف أتباع الشيخ عبد السلام ياسين، وتكتيكهم في تدبير الاختلاف مع مكونات الحركة الأخرى.
العدليون أصبحوا أكثر حضورا، وبعد ان انحنوا للعاصفة «الحداثية» في البداية، كشروا عن أنيابهم (أعلنوا في بيان لهم أنهم يطالبون بدورهم بـ«دولة مدنية» رغم عدم تعريفهم لما يقصدون بالمصطلح وإصرارهم على تعويم شرحهم له).
مع الوقت تسربوا في مختلف اللجان المشكلة لحركة «٢٠ فبراير» مثل لجنة الإعلام واللجنة اللوجستية التي تعتبر القلب النابض للحركة في مختلف المواقع. هذا التسرب تصطلح عليه جماعة الشيخ ياسين «بالتسرب اللطيف». أتباع الشيخ ياسين، وبعد أن كانوا ملتزمين في المحطات الاحتجاجية الأولى بالمطالب المرفوعة من طرف حركة «٢٠ فبراير» بدؤوا تدريجيا، بالموازاة مع إحكام قبضتهم على الحركة، في الانزياح عن الشعارات التي ترفعها والتعبير عن المواقف السياسية التقليدية للجماعة من النظام السياسي. كذلك تصارعوا داخل تنسيقيات مجموعة من المدن من أجل تحويل مطلب دستور ينص على ملكية برلمانية «إلى دستور شعبي ديمقراطي»، بما تحتمله هذه الجملة من إمكانية «إسقاط النظام».
بالمقابل، وجدت «العدل والإحسان» مقاومة في بعض المواقع، خصوصا بمدينة فاس، حيث كان ينشط طلبة جامعة ظهر المهراز المنضوون لتيار «النهج الديمقراطي القاعدي» (الماركسية) الذين واجهوا بحزم العدليين بل دخلوا في مواجهات معهم، وهو ما دفع العدليين إلى تنظيم مسيرات خاصة بهم بعد مواجهات بينهم وبين التنظيم الطلابي.
حضور الجماعة أصبح أكثر بروزا في المواقع التي أصبحت تعرف راديكالية أكبر، ورفعت شعارات مختلفة عن الشعارات السابقة التي رفعتها الحركة في بداياتها. فمن «الشعب يريد إسقاط الاستبداد» أصبحت تتردد في ساحات المملكة شعارات «تقاد ولا خوي البلاد» (عليك أن تعتدل أو إرحل، في إشارة إلى ملك البلاد)، و«هذا المغرب وهذا ناسو والحاكم يفهم راسو» (هذا المغرب وهؤلاء ناسه وعلى الحاكم أن يفهم الرسالة).
بعد الانتخابات التشريعية في شهر نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١١، التي جاءت نتيجة التعديل الدستوري وصعود حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي إلى الحكم، تغير سلوك «العدل والإحسان» داخل «٢٠ فبراير»، فالجماعة فهمت أن «العدالة والتنمية» الذي كان من أشد المعادين للحركة، هو الذي جنى ثمار «الربيع المغربي» وهو يصل إلى أول حكومة لدى رئيسها صلاحيات موسعة نسبيا.
تغير سلوك «العدل والإحسان» بعض الأحيان بدا واضحا في حجم مشاركتها في الاحتجاجات، فأحيانا كانت تقوم بإنزال عددي، وتفرض شعاراتها ورموزها، وفي أحيان أخرى كانت تغيب عن المسيرات.
وتدهورت علاقة الحركة ببعض مكوناتها مع الوقت.. وقبل آخر مشاركة لها في الدار البيضاء، ترددت شائعات عن إمكانية مغادرتها لسفينة «٢٠ فبراير» وهو ما أقدمت عليه ليلة ١٨ ديسمبر/كانون الأول ٢٠١١. وأكد بلاغ نشر على موقع الجماعة انسحابها، في حين برر الناطق الرسمي باسم الجماعة فتح الله أرسلان، بأن: «٢٠ فبراير، أصبحت بالنسبة إلينا مجالًا محصورا جدا وضيقا والتحرك فيه بات صعبًا». بعد ذلك بأسبوع، خرج الآلاف في مدينة الدار البيضاء.. وكأنهم يرسلون إلى «العدل والإحسان» رسالة بأن الحركة استرجعها «مؤسسوها».. لكن هذه الأعداد سرعان ما تقلصت وأصبحت المسيرات لا تستقطب إلا آلافًا تقل عن العشرة.
أفق ممكن...
تظل حركة «٢٠ فبراير»، رغم الأزمة الداخلية التي تعيشها، إمكانية لفعل احتجاجي أعمق وأشمل، فداخلها تشكلت صورة جديدة عن المغاربة الذين رفعوا سقف الاحتجاج والانتقاد للسلطة وتعبيراتها المختلفة عاليا. في «٢٠ فبراير» ظهر جيل جديد من المناضلين والناشطين، هو امتداد لسابقيهم داخل الأحزاب لكنه يختلف عنهم بصراحته وكسره الكثير من التابوهات التي تتعلق بـ«قداسة» النظام. من أبرز ما أطلقه حراك «٢٠ فبراير»، فكرة مفادها «أن الإجماع لا يوجد بالبلد». هكذا استطاعوا دفن فكرة روجت لها بروباغندا الدولة طيلة عقود من أن المغاربة متفقون حول شكل الحكم بالبلد. كان من نتائج حراك «٢٠ فبراير» أيضا إسقاط حكومة حزب الاستقلال ورئيسه عباس الفاسي، التي تعتبر من أضعف الحكومات في تاريخ المغرب المعاصر إن لم تكن أضعفها. كما أنها اكتسبت، تعديلا دستوريا ثمينا رغم أنه لم يحقق كل مطالبها، فقد استطاع أن يجر جزءا من البساط من تحت أقدام المؤسسة الملكية، وينقل بعض السلطات إلى رئاسة الحكومة، المنبثقة من البرلمان. وانتهى عصر «القداسة» ودفنت فكرة الفصل ١٩ التي رافقت جميع دساتير المغرب الحديث الذي يقول: «الملك مقدس ولا تنتهك حرمته».
كشفت الحركة أيضا عن أشكال تعبيرية فنية، رغم أنها ليست ناضجة بما فيه الكفاية، إلا أنها تساهم في خلق وعي مجتمعي جديد، ورؤية مواطن مستقبلي متحرر من عقد الآباء، كما حدث مع معاد بلغواث الملقب بـ(الحاقد)، مغني الراب الذي انتقد الملك بشكل لم يجرؤ عليه أحد، ويونس بلخديم، كاتب شعارات الحركة. أصوات كهذه، نبتت في التربة الشعبية المغربية وبمستوى تعليمي بسيط، لم يكن لها أن ترتفع ولا أن تسمع لو لم تأت داخل الصوت الأكبر الذي هو حركة «٢٠ فبراير»، لكنها تجد نفسها اليوم خلف القضبان بعد محاكمات بتهم واهية فبركتها السلطات من أجل إسكات أصواتها.
حققت «٢٠ فبراير» أيضا الإفراج عن المعتقلين السياسيين الستة في ملف مفبرك أطلق عليه «الخلية الإرهابية» لبلعيرج، وبعض معتقلي الرأي السلفيين، واستطاعت تحقيق زيادات طفيفة في الأجور، وتحريك متابعات للفاسدين سياسيا، رغم أن الكثير من الأسماء التي رفعت في المسيرات وطالب المحتجون برحيلها لا تزال هنا، مثل أحمد منير الماجدي السكرتير الخاص للملك ومدبر ثروته، وفؤاد عالي الهمة، المتحكم في دواليب السياسية منذ تولي محمد السادس الحكم، والذي بدل إبعاده عينه الملك مستشارا له بعد خفوت الاحتجاجات.
إن «٢٠ فبراير» المغربية، هي بداية شكل جديد من أشكال النضال السلمي من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والقطع مع الفساد، ميزتها أنها وليدة شباب مغاربة كانوا لأشهر قليلة قبل الحراك الاحتجاجي يقاطعون السياسة ويعزفون عن المشاركة في الشأن العام. وإذا كان النظام نجح في «تحييدها» مؤقتا، فإن كل السياسات الأمنية والاجتماعية والسياسية والتضييق على الحريات، والاجراءات الاقتصادية التي تتجه أكثر نحو إرضاء إملاءات المؤسسات المالية الدولية والاتحاد الأوروبي، لن تعمل إلا على إحياء الحركة، وإنتاج الأسباب نفسها التي دفعت إلى الخروج إلى الشارع. حينها سنرى «٢٠ فبراير» إما باسمها الحالي أو في شكل آخر أكثر تطورا. شكل من الطبيعي أن يستفيد من أخطاء سنة ونصف السنة من النضال، لبناء حراك شعبي أقوى، يحقق نتائج أهم.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.