العددان ٣-٤ خريف ٢٠١٢ / شتاء ٢٠١٣

نحو شرعة اخلاقية في زمن الثورات العربية

النسخة الورقية

فاجأت افلام المخرج السينمائي الايراني عباس كياروستامي الفن السابع بقدرتها على تحويل الطفولة الى حالة تجمع الاحتجاج السياسي الى رؤية العالم بعيون جديدة. ولقد شكلت ظاهرة الثنائي كياروستامي/مخملباف بداية حقيقة للسينما الايرانية، ما لبثت ان تحولت الى موجة ثقافية تركت اثرها في المشهد العالمي.

المدهش في النص السينمائي الذي انتج في ايران ما بعد الثورة، هو ثوريته الاحتجاجية. فالسينمائيون كانوا جزءا من نبض التغيير الذي اطاح النظام الاستبدادي الشاهنشاهي، لكنهم حملوا رؤيتهم النقدية للواقع السياسي الذي انتجته الثورة. فلقد انتهت الصراعات المعقدة على السلطة، الى انتصار الجناح الديني الأكثر تشددا على تيارات اسلامية منفتحة ويسارية، (علي شريعتي) و/او على اليساريين والليبراليين، والى التصفية الوحشية لكوادر اليسار في سياق اعدامات منظمة طاولت الوف السجناء السياسيين.

استعارة عيون الاطفال

القراءة الأولى للموجة السينمائية الايرانية التي استعارت عيون الأطفال، تقول ان فيلم «اين منزل صديقي» لكياروستامي (١٩٨٧) استخدم الكناية وسيلة للتحايل على القمع الذي مارسته ولا تزال تمارسه سلطة التحالف بين الولي الفقيه وعسكريتاريا «الحرس الثوري»، وهي قراءة تقليدية، تعيدنا الى رمزية الأعمال الفنية التي ازدهرت في ازمنة الاستبداد، من بغداد «كليلة ودمنة» لعبدالله بن المقفع في القرن التاسع، الى موسكو «مدار السرطان» لسولجنتسين في القرن العشرين.

غير أن القراءة العميقة للأفلام الأولى في الموجة السينمائية الايرانية، تشير الى احتمال آخر، يتجاوز المقترب الكنائي الى رؤية واقعية لم تجد امامها سوى عيون الأطفال كي تغسل بها العالم. فالعودة الى الطفولة كانت بابًا الى الحاضر من حيث قدرتها على اكتشاف واعادة اكتشاف العالم بعيون تحمل براءة الطفولة وشراستها في آن معًا، وتتحرر من القوالب والصيغ الجاهزة التي اشار زمن ما بعد الحداثة الى خوائها وعجزها عن فهم الواقع و/او تغييره.

الأطفال الذين احتلوا الشاشة، كانوا مدخلا الى سينما تتميز بواقعيتها النقدية وقدرتها على تفكيك العلاقات الاجتماعية، وهذا ما سيبدأ عمليا مع فيلم مخملباف «سلام سينما»، (١٩٩٥)، حيث سينفجر الواقع جديدا ومختلفا وقادرا على التعبير عن رغبات الحياة اليومية واحلامها.

الظاهرة الايرانية ليست فريدة الا من حيث حجمها وقدرتها على احتلال المشهد السينمائي برمته، اذ نجد بذورا مشابهة في باكورة المخرج السينمائي السوري محمد ملص، «احلام المدينة»، (١٩٨٣)، حيث تحتل عينا الطفل دياب الشاشة، لترسما صورة اخرى لدمشق عشية الوحدة السورية ــ المصرية (١٩٥٨)، وسوف نعود الى الطفل مرة اخرى في فيلم «الليل» للمخرج نفسه، وهو يقترب من اسئلة فلسطين ونكبة السوريين بالدكتاتوريات العسكرية المتعاقبة.

كما ان عوالم الطفولة سوف تتفتق في فيلم يسري نصرالله الأول «سرقات صيفية» (١٩٩٠) لتروي حكاية التحولات المصرية بعيون طفل تتفتح فيه الحياة. لم يكن هذا المقترب مجرد استعادة ذاتية للطفولة في اطار تعلّم لغة التعبير، بل كان ايضًا واساسًا محاولة لاكتشاف العالم من دون اقنعة، ومقتربا للتعبير عما لم تعد اللغة السائدة، سواء أكانت لغة السلطة ام لغة معارضتها، على اكتناه المعنى. وهنا لا بد من الاشارة الى البصمة التي تركها عمل المخرج الالماني فيم فيندرز «اليس في المدن» (١٩٧٤)، على عمل كياروستامي «اين منزل صديقي».

سوف يكشف لنا تاريخ المنطقة ان خيار الطفولة، والتوغل في الهامش الاجتماعي لم يكن مجرد خيار فني بهدف اكتشاف نقطة انطلاق جديدة، تسمح للتعبير بتجديد لغته بشكل جذري، بل كان أيضا تعبيرا عن تململ سياسي ــ اجتماعي ــ ثقافي سوف ينفجر من دون مقدمات محدثا مفاجآت متعاقبة وصلت الى ذروتها في الثورات العربية المتتالية التي شكلت وتشكل افقا لتغييرات سياسية وثقافية لا سابق لها.

اطفال فلسطين واللغة الجديدة

بدأ الأطفال يحتلون المشهد السياسي ويختزلون ضمير شعبهم في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ١٩٨٦-١٩٨٧، التي اطلق عليها اسم «انتفاضة اطفال الحجارة».

جاءت الانتفاضة بعد اربع سنوات على اجتياح لبنان عام ١٩٨٢، الذي اعاد رسم ملامح النكبة على الاجساد الممزقة والمقطعة في ازقة مخيم شاتيلا في بيروت في ايلول ١٩٨٢، وبعد طرد القوات الفدائية الفلسطينية من بيروت بعد حصارها الطويل من قبل الجيش الاسرائيلي، الذي اعقبه طرد آخر عام ١٩٨٤ من مدينة طرابلس ولكن هذه المرة على يد الجيش السوري، وبعد ما اطلق عليه اسم حرب المخيمات، وهي حرب همجية شنتها ميليشيا حركة «امل» المدعومة سياسيا وعسكريا من القوات السورية، وذلك بهدف تدمير ما تبقى من المخيمات الفلسطينية، والاجهاز على مخيم شاتيلا نهائيًا.

كان الأفق السياسي الفلسطيني مقفلا باليأس، وساد شعور عارم بالفشل والنهاية، كما جاء في قصيدة محمود درويش «انا يوسف يا ابي»، التي يستعيد فيها الشاعر حكاية النبي يوسف مع اخوته، كاستعارة للشعور الفلسطيني بالوحدة. في تلك اللحظة انفجرت انتفاضة اطفال الحجارة. الاسم الذي اطلق على الانتفاضة لم يكن اسما رمزيا، بل كان يسمي الأشياء باسمائها. كأن الأطفال جاءوا من لا مكان، حملوا المقلاع وتصدوا لآلة القمع الاسرائيلية الوحشية مطالبين بانهاء الاحتلال.

في اللحظة التي بدا فيها ان الشعب الفلسطيني فقد لغته، ولدت لغة جديدة، متلعثمة تتهجى الأحرف وتتأتئ بكلمة الحرية، لكنها تقول ما لم تعد القيادة الفلسطينية قادرة على قوله. استولد الأطفال من مقاليعهم لغة جديدة، وكشفوا الحقيقة التي كان من المستحيل ايصالها الى العالم، لأسباب معقدة ليس الآن مجال مناقشتها، وقالوا ان الفلسطينيين هم الضحية، وان الجندي الاسرائيلي هو الجلاد.

احدث اطفال فلسطين بحجارتهم انقلابا لغويا وفكريا كبيرا، ويومها وللمرة الأولى رأى العالم مع عظام الأطفال التي طحنها جنود الاحتلال، ان الفلسطينيين صاروا «يهود اليهود»، وان ادوارد سعيد حين وصف نفسه بـ«المثقف اليهودي الأخير»، كان يعلن ان المنفى صار الحالة الوجودية الفلسطينية في ظل النكبة المستمرة والاحتلال.

لا شك ان الحصاد السياسي للانتفاضة كان حزينا وكارثيا، لأنه اوصل الفلسطينيين الى اتفاق اوسلو الغامض الملامح، الذي بدأ خدعة وانتهى فخًا. وهذا ليس من مسؤولية الأطفال، لكنه نتاج الطبيعة العفوية ــ الانفجارية للانتفاضة، وعدم قدرتها على نقل لغتها كي تحتل المستوى السياسي، ما سمح لقيادة منظمة التحرير بالتعامل معها بوصفها اداة لتحريك مسار سياسي وهمي، كانت القيادة الفلسطينية بأمس الحاجة اليه، كي تخرج من الغيتوات السياسية والعسكرية التي فرضتها عليها الدول العربية، التي استقبلت الفدائيين بعد انسحابهم/طردهم من لبنان.

الجديد الذي اعلنته الانتفاضة هو تصويبها للغة، واعلانها ان الشعب الفلسطيني، سواء من بقي في ارضه ضمن الدولة العبرية التي نشأت على انقاضه، او في مخيمات ومدن وقرى الضفة الغربية وغزة المحتلة، او الذي يعيش في الشتات، هو شعب يعيش مأساة مزدوجة. فهو في المنفى لأنه منفي الوجود. شعب مُحي من الخريطة فصار منفاه غفلا، لا فرق هنا اذا كان الفرد الفلسطيني يعيش على ارضه او خارجها، نفي وجوده ومحو اسمه هو منفاه.

النفي negation هو المنفى exile. هذه هي المعادلة التي عجزت اللغة الفلسطينية عن تفكيكها في سياق النضال من اجل الحق في الوجود. في لحظة الانسداد السياسي والفكري الكبرى التي اعقبت المآسي الفلسطينية في بيروت عام ١٩٨٢، ولدت انتفاضة اطفال الحجارة، وكانت كأنها آتية من لا مكان. الجميع فوجئ بها، وكان العجز عن ترجمتها من فعل اجتماعي ــ ثقافي الى تغيير سياسي ناجما ليس فقط عن عجز فكري وسياسي فلسطيني، بل ايضا عن وضع عربي مترهل، حطمته الدكتاتوريات الاستبدادية وقادته الى الانحطاط السياسي والعسكري في «عاصفة الصحراء» الاميركية، التي ارادت اعلان ولادة نظام عالمي جديد على انقاض الحرب الباردة.

اعتقد ان تحليل دلالات الانتفاضة الفلسطينية الأولى يشكّل مفتاحا اساسيا لفهم معاني الانفجار الهائل الذي يزلزل المشرق العربي منذ اندلاع شرارة الثورة التونسية على اثر انتحار محمد البوعزيزي محترقا بنار هامشيته ويأسه والعجز الذي ضرب مفاصل مجتمعه.

ثورات من اجل القيم الاولية

شكّل الأطفال نبض رؤية سينمائية كانت تبحث عن ضوء الكلام وسط عتمة اللغة، وعندما نزلوا الى شوارع التاريخ في فلسطين اولا، كانوا يعلنون ان الهامشي والمهمش قادر على احتلال المتن. وهذا ما اشار اليه الانفجار الشعبي الكبيرعامي ٢٠١١ و٢٠١٢ الذي اطاح أربعة حكام مستبدين في تونس ومصر وليبيا واليمن، ولا تزال امواجه تعلو في مواجهة دكتاتورية آل الأسد في سورية، وفي الصمت المريب المحيط بانتفاضة الشعب البحريني.

هناك مسألتان لافتتان في هذا المد الثوري الشعبي الهائل:

المسألة الأولى هي انطلاقه من هامش غير متوقع، وتحوّله الى انفجار كبير يرفع شعار اسقاط النظام، من دون ان يمتلك برنامجا سياسيا محددا، او نخبة قيادية. كان الانفجار مذهلا في قدرته على التعبئة والاستمرار، وقد فاجأ النخب السياسية المعارضة بالقدر نفسه الذي فاجأ فيه النظام واهل السلطة. في تونس بدأ من حادثة فردية صغيرة وفي بلدة ريفية نائية، حين اقدم شاب على الانتحار حرقا، وفي مصر اشتعلت الثورة انطلاقا من التعذيب الوحشي الذي اودى بحياة شاب اسمه خالد سعيد، فصرنا كلنا خالد سعيد ليس على صفحات «الفايسبوك» فقط بل وفي الشوارع ايضا. ثم بدأت العدوى تنتقل الى دول اخرى.

انفجار بلا خطة، وثورة بلا قيادة، وهامش يضم العمال والعاطلين من العمل، شباب الريف والمدن وابناء الطبقات الوسطى دخلوا الى السياسة من دون ادوات سياسية تقليدية، اما المفاجأة الثانية فكانت نجاح هذا الانفجار في اسقاط الرؤساء ودحرجة الأنظمة.

يستحق هذا المشهد الثوري ان يدرس بادوات جديدة. فلقد اضاف شباب مصر وتونس صفحة جديدة في علم التغيير والثورات الاجتماعية، وقاموا بثورتهم كأنها انفجار للاوعي جماعي لم يعد قادرا على تحمّل المزيد من القمع والاستبداد. لا وعي قام بكسر تابو التخويف الذي بنته الانظمة الاستبدادية، واقتحم السياسة بأدوات جديدة وناقصة، وشكّل نموذجا لحركات احتجاج امتدت من مدريد الى وول ستريت في نيويورك.

ولعل الكتيب ــ المقال الذي اصدره ستيفن هيسل تحت عنوان «اغضبوا» indignez-vous(٢٠١٠) وتحول الى ظاهرة في عالم النشر في العالم بأسره، يشير الى ان عِلم الثورات الجديد، يبحث عن روح المقاومة لكنه يفتقر الى اشياء كثيرة، معبرا عن الأزمة الطاحنة التي اعقبت سقوط عصر الايديولوجية، ويشير في الآن نفسه الى العطش الى القيم الاجتماعية في زمن العولمة والنيو ليبرالية التي محت كل القيم، جاعلة من السوق إلهًا لا شريكَ له.

غير ان الثورات العربية التي يمكن قراءتها بوصفها فعلا في زمن ما بعد حداثي احتل العالم بأسره، تحمل خصيصتها الفريدة، انها ثورة من اجل القيم الأولية، اي ثورة من اجل الكرامة الانسانية التي امتهنها جنون المستبدين الصغار واعمل فيها انتهاكًا.

ان حكايات القمع في دول الثورات العربية لا تصدّق وهي تثبت ان الخيال الدموي للدكتاتور يتجاوز كل خيال، وان الامعان اللامتناهي في افقار الشعب واهانته يقود في النهاية الى انفجار حتمي.

المسألة الثانية هي التفاوت في الدور الذي لعبته آلة الدولة والمؤسسة العسكرية بشكل خاص. ففي حين قامت المؤسسة العسكرية في تونس ومصر بحماية الدولة ولو على حساب رأس النظام، نتيجة وجود بنية دولتية راسخة من جهة، ونتيجة عوامل سياسية تتعلق بالاستقلالية النسبية التي تتمتع بها المؤسسة العسكرية من جهة ثانية، فإن بنية الدكتاتورية الوراثية في سورية وليبيا، همشت مؤسسة الجيش وحطمتها جزئيا، في سياق تحويل الدولة الى بنية مافيوية عائلية، وهذا ما قاد الى تحول الثورة الى حرب طاحنة، اما في اليمن فان الانقسام العشائري الذي امتد الى الجيش قاد الى تسوية ملتبسة، مانعا تحول الثورة الشعبية الى حرب اهلية مفتوحة.

هذه الاختلافات البنيوية في السلطة في دول الثورات العربية، لا تعني ان الصراع قد اقفل بتنحي الرئيس الدكتاتور، او حتى بعزل قادة المجلس العسكري بعد فوز الاخواني محمد مرسي بالرئاسة في مصر، بل على العكس، فالصراعات مفتوحة على كل الاحتمالات، والانفجار الاجتماعي الهائل، الذي فتح جروح الأزمات وكشف الامراض الاجتماعية التي اورثتها الدكتاتوريات، سوف يستمر، الى ان تتبلور بنية سياسية جديدة تعددية وديمقراطية تضع في صلب اولوياتها العمل من اجل الحرية والعدالة الاجتماعية.

الثورة السورية بما هي انفجار

لم يكن احد يتوقع الثورة السورية، المظاهرات الصغيرة التي شارك فيها بعض المثقفين والناشطين في دمشق في ١٥ آذار ٢٠١١ في الجامع الأموي ومحيطه كانت مجرد مؤشرات الى احتمال غامض لم يكن احد يدري كيف يمكن ان يتشكل، الى ان جاءت البشائر من درعا عاصمة منطقة حوران، الشهيرة بسهلها الخصب، وقمحها.

لم تثر درعا على النظام، بل ثارت من اجل اطفالها الذين ثاروا على النظام. هذه هي الحكاية الحقيقية للثورة السورية. مجموعة من الأطفال كتبوا على حيطان مدرستهم الشعار الذي امتد من تونس الى مصر: «الشعب يريد اسقاط النظام». مجموعة صغيرة من الاولاد الذين لم يتجاوز عمر كبيرهم الثالثة عشرة كتبوا على الحائط الشعار الذي استولده التونسيون من مطلع قصيدة الشاعر ابي القاسم الشابي «اذا الشعب يوما اراد الحياة/فلا بد ان يستجيب القدر»، وحولوه الى شعار كل الثورات العربية.

هل كان اطفال درعا يلهون بالثورة ام كانوا يصنعونها؟

الجواب عن هذا السؤال سوف يأتي وشمًا على جسد الطفل حمزة الخطيب ابن الثالثة عشرة، الذي اعتقل في ٢٩ نيسان/ابريل عام ٢٠١١ وعذب حتى الموت، وانتهك جسده، واعيد الى ذويه منتفخا بالتعذيب والموت!

تقول الحكاية ان الأمن السوري قام باعتقال اطفال الشعار الذي كتب على الحيطان، حيث تعرضوا لتعذيب وحشي، وعندما قابل وفد من الأهالي عاطف نجيب، المسؤول الأمني في درعا، وهو بالمناسبة ابن خالة الرئيس السوري بشار الأسد، لم يكتف الرجل بتوجيه الاهانات الى شيوخ العائلات، بل طلب منهم ان ينسوا الأطفال، وان يرسلوا نساءهم اليه في حال كانوا غير قادرين على انجاب بدائل لهم!

سمعت هذه الرواية من مصادر متعددة، وأغلب الظن ان التصرف النزق للضابط الأمني السوري قاد الى الانفجار الكبير في درعا.

كانت شرارة الثورة مزيجا من عمل قام به الأطفال، ودفاع عن الكرامة والقيم التي اضطر اهل درعا اليها، عندما تحدّى ضابط نزق قيمهم الانسانية، وتقاليدهم الفلاحية ــ العشائرية.

من مدينة ريفية صغيرة، شكلت هامشيتها مخزنا بشريا تقليديا لكوادر النظام البعثي الاستبدادي، انفجر المجتمع السوري في ١٨ آذار ٢٠١١ على احتمالات الثورة بما تحمله من مفاجآت وتطورات.

لا نستطيع ان نصف الثورة السورية بأنها ثورة اطفال، على غرار الوصف الذي اعتمد كاسم للانتفاضة الفلسطينية الأولى. لكنني استطيع ان اجد صلة نسب شامية بين اطفال الحجارة في فلسطين واطفال الشعار الثوري في درعا.

عاد الأطفال الى شوارع التاريخ وجروا معهم جيلا جديدا من المناضلين الذين لم يدجّنهم القمع الذي حوّل سورية الى مملكة للصمت طوال اربعة عقود. وامتدت الثورة الى حماه وحمص ودير الزور وريف دمشق، وبدت المظاهرات التي احتلت ساحات حمص وحماه، وكأن الثورة التي اشعلتها مدينة ريفية صغيرة تحولت الى حدث تاريخي كبير لا يمكن احتواؤه، الى ان وصلت في النهاية الى دمشق ومنها الى حلب.

لم يتمركز السوريون في احدى ساحات دمشق كي يبدأوا منها انتفاضتهم. كانت البداية في مدينة درعا عاصمة منطقة حوران، ثم اتخذت شكل تحركات متنقلة من اللاذقية الى حمص الى القامشلي الى بانياس الى دمشق الى دوما...

المشهد السوري يختلف عن المشهد في تونس او مصر او البحرين او اليمن او ليبيا. كل بلد يكتشف بنفسه وعبر تجربته الخاصة الشكل الملائم للثورة على الحكم الاستبدادي. لسنا امام ثورة عربية واحدة تستعيد الخطاب القومي، لكننا في الوقت نفسه امام ظاهرة موحدة الهدف تجتاح العالم العربي برمته.

مرة جديدة يكتشف العرب وحدتهم واختلافاتهم في آن معًا. فكما توحد العرب في الماضي في المعركة ضد الكولونيالية، يتوحدون اليوم في المعركة من اجل الديمقراطية. وبقدر ما كانت معركة الخمسينيات ضد الهيمنة الاستعمارية واضحة الاهداف والمعالم، بقدر ما تبدو المعركة الجديدة بحاجة الى وعي تأسيسي بمعنى الديمقراطية وارتباطها بالعدالة الاجتماعية، وهي معركة مفتوحة على احتمالات متعددة.

التوريث يستكمل القضاء على شرعية الانظمة

كيف نقرأ الثورات في وصفها انفجارًا؟ وما هي العلاقة بين الأطفال والمهمشين الذين اشعلوا الشرارة الأولى؟

لا شك ان السياسة العربية تعيش ازمة طاحنة اسمها تهاوي الشرعية.

لقد بدأت علامات سقوط شرعية الانقلاب العسكري تظهر في الهزيمة الحزيرانية المهينة والمروعة. فإذا كانت شرعية ٢٣ يوليو والانقلابات العربية التي تلتها واتخذتها نموذجًا مستمدة من مجموعة من العناصر: الاصلاح الزراعي، تأميم القناة، كسر احتكار السلاح، السد العالي... فإن جذر شرعيتها الأساسي كان بناء الجيش بعد هزيمة حرب النكبة عام ١٩٤٨. وبينما كانت العناصر الاجتماعية لهذه الشرعية تتآكل بفعل القمع البوليسي ودولة المخابرات المستشرية، وبسبب فشل المشروع القومي (انهيار الوحدة السورية المصرية، والتعثر العسكري السياسي في اليمن) جاءت هزيمة الخامس من حزيران، بما كشفته من عار ومهانة، لتعلن ان الانقلاب فشل في بناء جيش قادر على الدفاع عن الوطن ومواجهة العدو الاسرائيلي. وعلى الرغم من المجهود الجبار لاعادة بناء الجيش الذي قاده الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، فإن غياب الرجل، ونتائج حرب تشرين ١٩٧٣، التي كانت اشبه بنصر ناقص، ثم اتفاقية كامب دايفيد، و«اصلاحات» زمن الانفتاح افقدت نظام الانقلاب شرعيته، وشرعت الابواب لولادة نظام هجين يستند الى توازنات خارجية من جهة، والى آلة قمعية وضعت في خدمة مافيات عائلية سيطرت على مفاصل السياسة والاقتصاد.

التهريج الدموي الذي طبع نظام القذافي له ما يعادله في جميع الأنظمة الانقلابية، ومشروع تحويل البلاد، على الطريقة الأسدية، الى جموريات وراثية، بحسب تعبير المناضل السوري الكبير رياض الترك، جرى تعميمه من العراق الى مصر الى تونس الى اليمن، هكذا لم يعد هناك من شرعية الماضي، المشكوك في شرعيتها اصلا، سوى فتات ذاكرة هشة، وآلة قمعية متوحشة لا ضوابط لها.

ابان حكم الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، ارتفعت لافتات في الشوارع والساحات تقول: «رئيسنا الى الأبد حافظ الأسد»، كما ارتفعت صورة ثلاثية تجمع الأسد الأب مع نجليه باسل، الوريث المعلن الذي قضى في حادثة سير على طريق مطار دمشق (٢١ كانون الثاني ١٩٩٤)، وبشّار، الذي سيرث شقيقه ووالده. وبذا تأسس نموذج الجمهوريات الوراثية التي عمت الأنظمة الجمهورية.

نجح آل الأسد في تحويل مشروع التوريث الى حقيقة، وتسلم بشّار السلطة، بعد وفاة والده عام ٢٠٠٠، بسلاسة ومن دون اعتراضات تذكر. لكن تعميم المشروع التوريثي، سوف يصطدم بردود فعل معارضة في باقي البلاد العربية.

لا شك ان شبح التوريث لعب دورًا كبيرًا في انطلاق الاحتجاجات التي ادّت الى سقوط بن علي ومبارك والقذافي وعلي عبدالله الصالح. فمشروع التوريث قضى نهائيًا على شرعية انظمة فقدت بريقها ومبرر وجودها منذ هزيمة الخامس من حزيران عام ١٩٦٧.

في مدخل مدينة طرابلس، في الشمال اللبناني قرأت مرة لافتة ولاء تفوقت في غرائبيتها على كل ما عداها: «حافظ الأسد رئيسنا الى الأبد والى ما بعد الأبد». لا نستطيع ان نفهم معنى عبارة «ما بعد الأبد»، الا اذا وضعناها في سياق تزلّف بعض اللبنانيين لحماتهم السوريين، غير أن هذا الشعار يشير الى لوثة جنون تصيب جميع الحكام الدكتاتوريين، حين لا يرون من حولهم سوى المرايا ويصير جلّ همهم هو الخلود من خلال حكم بلادهم من القبر.

امتلأت ساحات المدن بتماثيل الرئيس وصوره، كأن الرجل اراد تحويل البلاد الى مرآة لسلطته، يرى نفسه في كل مكان، فيدخل في هوس الخلود والتأليه، وتتحول ممارسة السلطة الى مزيج من الخبث والجنون.

لم تكن «ما بعد الأبد» مجرد استعارة، بل اراد الدكتاتور تحويلها الى حقيقة، عبر تأسيس سلالة ملكية تستند الى عصبية عائلية والى بنية مافيوية، وتبحث عن شرعيتها في لغة سياسية تجمع خطابًا ممانعًا الى الاستعداد للمهادنة والانحناء.

وفي سياق الثورة السورية رأينا كيف تم صكّ شعار جديد مستوحى من الأبد الأسدي، «الأسد اوْ لا احد» او «الأسد او نحرق البلد». واذا كان الوصول الى اللاأحد محالا، فان الدكتاتور مصمم على احراق البلد قبل ان يمضي، وهذا ما يقوم به، منذ ما يقارب السنتين.

ان مقارنة الثورات العربية بالسقوط الكبير لأنظمة الاستبداد في اوروبا الشرقية، بعد تهاوي جدار برلين، ليس صحيحا. فسقوط المعادلة الستالينية كان سقوطا ايديولوجيا في الأساس. فلقد سقطت الايديولوجية الشيوعية بصيغتها السوفياتية قبل ان يسقط النظام. وهذا يعود الى عوامل متعددة اهمها هو استيلاء البيروقراطية والمخابرات على السلطة، والفشل الاقتصادي وتنامي الفساد والهرم الذي اصيب بها المشروع برمته، ما قاد الى هزيمته في الحرب الباردة من دون حرب. اما في الحالة العربية، فلم تكن انظمة الاستبداد تمتلك ايديولوجية يمهد سقوطها لسقوط الأنظمة. فلقد تعرت الأنظمة من ايديولوجيتها القومية ومن طابعها «الاشتراكي» (اعني رأسمالية الدولة) من زمان، ولم يبق لها سوى فتات ايديولوجي: قومجي في عراق صدام حسين، وتهريجي في ليبيا القذافي، وتحالف ملتبس بين العسكريتاريا ورجال الأعمال الجدد من ناهبي المال العام في مصر، وفارغ لا يجد معناه سوى في محاربة الاسلاميين بمجموعة من الفاسدين في تونس، ومتلّون يلجأ الى خطاب الممانعة في سورية، لكنه يذبج المقاومة الفلسطينية ويشارك في عاصفة الصحراء ويتحالف مع ايران بحثًا عن توازن يؤبد سلطة الاستبداد ومافيا اقتصاد السوق القائم على النهب في عالم متغير كما في سورية، وسلطة عشائرية كما في اليمن.

السؤال العميق الذي يحتاج الى جواب هو كيف استطاعت هذه الأنظمة الاستمرار بعدما فقدت ايديولوجياتها طوال هذا الوقت، وكانت الثورة ضدها مفاجأة كبرى. كأن عرب القرن الحادي والعشرين فوجئوا بالبدهيات.

وما معنى ان نفاجأ ببدهية بسيطة وواضحة تقول ان هذه الأنظمة فقدت صلاحيتها، وكان يجب ان ترحل من زمان؟

البحث جهة المعارضات

لن نجد جوابا واحدا عن سؤالنا، بل يجب ان نبحث عن الأجوبة في كل بلد عربي على حدة. لكن لا بد من ان يكون هناك مسألة ما تفسّر هذا الواقع المشترك الذي يبدو مستغربًا.

هل نبحث عن الجواب في الفرضية المتهافتة التي شاعت في اوساط عديدة والتي كانت حجة الرئيس السوري في حديثه الى جريدة «وول ستريت»، حيث ادعى ان الثورة لن تصل الى سورية، مفترضا ان ممانعة النظام وموقفه ضد اسرائيل ودعمه لحزب الله سوف تعصم نظامه. لكننا نلاحظ من جهة اخرى ان معاهدة كامب دايفيد والصلح المصري ــ الاسرائيلي، لم يخلخلا ثبات النظام، الذي استمر ثلاثين عاما بعد المعاهدة.

البحث عن سبب قومي مرتبط بالصراع مع الاحتلال الاسرائيلي لبقاء الأنظمة الاستبدادية ليس منطقيا، فلا القذافي كان مقاتلا ضد اسرائيل ولا صواريخ صدام حسين إبّان «عاصفة الصحراء» حجبت واقع ان النظام البعثي في العراق اختار الحرب على ايران وتقديم خدمة لأنظمة الخليج واسيادها الاميركيين بدل الحرب مع اسرائيل، والى آخره...

ام نبحث عنه في الافتراض الاستشراقي الذي يرى في العرب شعوبا متخلفة وهمجية لا ترتضي ان تحكم الا بالحديد والنار. هذا الافتراض تهافت اكثر من مرة في تاريخنا الحديث، من ثورة ١٩١٩ في مصر الى ثورة الـ٢٥ في سورية، وهو افتراض لا يمكن قراءته الا بوصفه اختراعًا للشرق، كما شرح ادوارد سعيد في كتابه «الاستشراق».

ام نلجأ الى افتراض الخوف من شبح الاسلام السياسي، حيث قامت الأنظمة الاستبدادية بلعبة معقدة، وضعت فيها المجتمع بين خيارين: اما الدكتاتورية واما الأصولية؟ لكن هذا الافتراض الذي طالما صدحت به ابواق الأنظمة، كان يخفي لعبة معقدة، تمثلت في تقاسم النفوذ، كما في الحالة المصرية، او في الابادة الجسدية والسياسية للتيارات الاصولية التي تجسدت في مذبحة حماه في سورية. علما ان التطورات الاقليمية خصوصا بعد غزو العراق، لم تمنع النظام البعثي في سورية من حشد الاصوليين بهدف ارسالهم الى العراق او من اقامة تحالف وثيق مع اصوليي ايران وحزب الله.

اغلب الظن ان علينا ان نجد الجواب في مكان آخر، ولعل الجواب لن يكون عند الأنظمة بل في بنية نخب معارضاتها، التي لا يكفي القمع الوحشي الذي تعرضت له كي يبرر خمولها وعجزها عن بلورة مشروع سياسي حقيقي وبديل.

المشكلة اذًا لم تكن فقط في وحشية آلة القمع، التي دمرت جميع مؤسسات الحماية السياسية في المجتمع، كما في سورية، ولا في تقاسم وظيفي لم ترتسم حدوده بشكل عام، حين قام النظام بتسليط التيارات الاصولية من اجل ارهاب الثقافة والمثقفين، وادّعاء حماية الثقافة من جهة ثانية، كما في مصر، علمًا ان نظام مبارك لم يكتف بذلك، بل سلّف الاسلاميين مهمات اجتماعية وتعليمية وصحية، هي في صلب مهمات الدولة.

المشكلة كانت، وربما لا تزال، في نخب المعارضة.

في كتابه «الايديولوجية العربية المعاصرة» وبعد نمذجته الثلاثية للمثقفين: الشيخ، والليبرالي والتقني، قدم المفكر المغربي عبدالله العروي اقتراحه بضرورة المرور في المرحلة الليبرالية. غير ان الليبرالية المرجوة لم تأتِ، بل جاء في مكانها وعي مفوّت، صنعه فتات الايديولوجية المسفيتة، بحسب المفكر السوري الراحل ياسين الحافظ.

هذا الوعي المفوّت قضى على تجربة احزاب اليسار الشيوعي، فبعد الاندماج البائس في «الاتحاد الاشتراكي العربي» وفي «التنظيم الطليعي»، في مصر، انسحبت التجربة على الحزبين الشيوعيين في العراق وسورية في تجربة الجبهة الوطنية التقدمية، وعلى الرغم من الخضوع للبعث العراقي، فان هذا لم يجنّب الشيوعيين العراقيين المصير الدموي الذي اعده لهم صدام حسين، اما مصير الشيوعيين السوريين فكان الموت السريري في مقبرة الجبهة، والتعرض لانشقاقات متتالية، والخروج النهائي من اي دور سياسي.

استقالة اليساريين لم تكن كارثة سياسية فقط، بل كانت كارثة ثقافية ايضًا. فاليسار شكل الجزء الأكبر والأكثر فاعلية في النخبة الثقافية والفنية والابداعية في المشرق العربي. وخيانته لنفسه، عبر العمل كصدى لسياسة الاتحاد السوفياتي في سياق الحرب الباردة، شلّ قدراته السياسية اولًا، وحطّم صدقيته الثقافية ثانيًا.

وحين اندمجت قطاعات من المثقفين المصريين في آلة القمع بحجة الخوف من الاسلاميين، كانت تدق المسمار الأخير في ثقافة لم تتوقف رغم كل شيء عن المقاومة، وخير دليل على ذلك هو مأساة واحد من كبار مفكري مصر والعرب، انتهى الى المنفى، ومات في مصر، لأنه كان مفكرا عقلانيا ونبيلا ومستقلا. نصر حامد ابو زيد هو عنوان بؤس الثقافة العربية، وعلامة فخرها في آن معا. انه يجسد شجاعة المثقف الحر في مواجهة ما اطلق عليه جوليان بندا اسم «خيانة المثقفين». ان إلصاق الصفة التنويرية بأنظمة فاسدة واستبدادية، كان اشارة الانحطاط، التي تفسر، ولو جزئيا، قدرة هذه الأنظمة على اجتراح شرعيتها من مناخ الفراغ الذي صنعه بؤس الثقافة.

هل نعجب بعد ذلك، من ان يكون البديل المؤقت للأنظمة المتهاوية هو التيار الاسلامي الذي يتمثل في مصر بالاخوان المسلمين، وفي تونس بحركة النهضة؟

جذور ثقافة المؤامرة في انظمة الاستبداد

يصور الاعلام التابع للنظام السوري، الذي ترفده بعض الاقلام المحسوبة على اليسار، الثورات العربية، باعتبارها مؤامرة اميركية. بل ذهب وزير الخارجية السوري السيد وليد المعلم الى حد اعتبار الثورة السورية مؤامرة كونية على سورية!

يبدو النقاش مع الفكر المؤامراتي عبثًا، لأن هذا الفكر يقوم بتبسيط المسألة في عامل واحد، وينسى ان السياسة والثورات اكثر تعقيدا من ان تلخصها كلمة سحرية اسمها المؤامرة.

لكن لثقافة المؤامرة جذورها الراسخة في انظمة الاستبداد، ولعل النموذج الأكثر فضائحية لهذا النوع من الثقافة هو ذلك الاستنتاج المدمّر الذي خرج به منظرو الأنظمة بعد هزيمة الخامس من حزيران/يونيو، حين روجوا لاطروحتهم التي تقول ان عدوان حرب الأيام الستة فشل لأنه عجز عن تحقيق هدفه في اسقاط الأنظمة التقدمية! كأن احتلال كل فلسطين اضافة الى سيناء والجولان، ليس هدفا اسرائيليا، وكأن الأنظمة صارت بديلا من الأوطان، او هي الأوطان. هذا التماهي بين النظام والوطن، ثم بين الوطن والرئيس، هو تدمير لفكرة الأوطان نفسها، وتحويل للاستبداد الى نظام شامل لا يملك اي مرجعية اخلاقية.

في ظاهرة الثورات العربية التبست الأمور، في مستويات عدة:

كان الالتباس التونسي هو الأكثر وضوحا، حين تابعت الدول الغربية مساندتها لنظام زين الدين بن علي حتى لحظة سقوطه، وهذا ما شكل فضيحة سياسية واخلاقية اودت بموقع وزيرة الخارجية الفرنسية، واقتضت إحداث تحول سريع من اجل محاولة احتواء التغيير الذي حصل عبر الانفتاح على اسلاميي حركة النهضة. اما في مصر فكان المشهد اكثر تعقيدا، ففي حين واصلت اسرائيل والسعودية دعمهما لنظام مبارك حتى النهاية، قامت الولايات المتحدة بانعطافة استباقية، بعدما تأكد لها انه لم يعد من الممكن انقاذ النظام، وان تدخل الجيش لضرب الثورة بات مستحيلا.

ثم جاء الالتباس البحريني، حيث قامت قوات درع الخليج بقيادة السعوديين بسحق الانفاضة الشعبية في هذا البلد الصغير، وسط صمت مريب، شارك فيه يومها النظام العربي بأسره من دون استثناء.

اما الالتباس الليبي، فقد اتى بسبب تدخل الطيران الأطلسي الذي لعب الدور الأساسي في حسم المعركة لصالح الثوار، وقد ترافق هذا التدخل مع حملة تهريج اعلامية قادها المتفلسف الفرنسي الصهيوني برنار هنري ليفي، موحيا بأن الثوار الليبيين سوف يكون عملهم الأول هو اقامة علاقات مع اسرائيل. التدخل الأطلسي كريه ومكروه، لكنه اتى نتيجة عوامل متعددة، وعلى رأسها الثروة النفطية الليبية، وجاء ايضا كجزء من محاولة لململة الفضيحة القذافية، التي هي فضيحة اوروبية واميركية بمقدار ما هي فضيحة ليبية.

لكن الالتباس الأكبر يأتي في الثورة السورية، هنا تتقاطع كل تناقضات الثورات العربية الى جانب المصالح الاقليمية والدولية، في عقدة بلاد الشام، التي كانت وبقيت عقدة الصراع الكبرى منذ القرن التاسع عشر.

قبل ان نشير الى عوامل هذه التناقضات، لا بد من التأكيد واعادة التأكيد على ان الثورة السورية هي ثورة السوريات والسوريين ضد نظام استبدادي متوحش، وان ابناء درعا حين انتفضوا لكرامتهم، ثم التحقت بهم جميع المحافظات السورية، ارادوا لثورتهم ان تكون سلمية على غرار الثورتين التونسية والمصرية، ولم يتحركوا نتيجة اي اجندة سواء اكانت اقليمية ام دولية. وما لجوء السوريين الى السلاح الا نتيجة القمع والاستعباد الذي مارسه النظام، الذي قرر أن يقاتل حتى النهاية، وصولا الى تجسيد العلاقة بين «الأبد» و«اللاأحد».

لم تنكشف حتى الآن اوراق اللعبة الدولية في سورية، لكن من الواضح ان المحور الخليجي اعتبرها مناسبة ذهبية لضرب الامتداد الايراني الى المشرق في عقدة الوصل السورية، كما ان ايران وحلفاءها اعتبروا الدفاع عن نظام آل الأسد دفاعا عن وجودهم.

في المقابل جاء الموقف الاسرائيلي الحافل بالتناقضات، لكنه لم يبد اي رغبة حقيقية في استبدال نظام حافظ على هدوء حدوده مع اسرائيل منذ حرب ١٩٧٣، بنظام لن يكون مضمونا، خصوصا بعد ضم الجولان الى اسرائيل.

على المستوى الدولي نواجَه بمعادلة باتت واضحة، حسم روسي في دعم النظام، يقابله تردد غربي في دعم المعارضة بالسلاح من اجل شلّ حركة الطيران السوري التي تدمر المدن والبلدات والقرى. يعود الحسم الروسي الى عوامل عدة، منها شعور روسيا بأنها تستطيع من خلال الدم السوري العودة الى الساحة الدولية والحفاظ على ما تبقى لها من مصالح في المنطقة، اضافة الى دور اللوبي اليهودي الصهيوني في روسيا، ودور الاسرائيليين الروس في الدولة العبرية. هذا من دون ان ننسى التقيصر الذي يصاحب اداء ضابط الكي جي بي السابق، المحكوم بعقدة الاسلامو فوبيا، خصوصا بعد حرب الشيشان الوحشية. اما الموقف الغربي فإنه يجسد الكلبية الاستعمارية، فالغرب خائف على اسرائيل، ويتمنى ان يسقط الدكتاتور السوري ولكن بعد ان ينجز المهمة التي طالما حلم بها الاميركيون، وهي تعريق سورية وتدميرها من دون التكاليف الباهظة التي دفعت من اجل تدمير العراق، اضافة الى الخزي الأخلاقي الذي صاحب غزو بلاد الرافدين. هكذا ينجز الدكتاتور الصغير المهمة بدعم عسكري ايراني روسي، ثم يمضي، تاركا سورية قاعًا صفصفًا، ومحقّقًا امنًا مديدًا للاحتلال الاسرائيلي للجولان. هكذا تخرج سورية من الأزمة ضعيفة وفقيرة وفي حاجة الى فتات المساعدات الخليجية.

تشكّل الثورة السورية دحضا كاملا لنظرية المؤامرة. فالشعب السوري الذي يناضل وحده، تعلّم ان لا يصدق اوهام التدخل الخارجي الكاذبة، وفهم ان نضاله اليوم يلخص توق العرب الى الحرية والكرامة.

من اجل ملء الفراغ الاخلاقي

لا وجود للمؤامرة الا في اوهام مروجي هذه الفكرة، بل هناك مخاض طويل ومعقّد، في سبيل استيلاد زمن جديد من ركام الاستبداد.

تواجه هذه الولادة مهمات صعبة وعسيرة، تبدأ بالمضمون الاقتصادي ــ الاجتماعي للثورات، لتصل الى ضرورة بناء امن قومي متكامل يستطيع العالم العربي من خلاله مواجهة التحديات وعلى رأسها تحدي الغطرسة الاسرائيلية المتمادي.

لم يكن وصول الاسلاميين الى السلطة جزءا من مؤامرة، بل كان تعبيرا عن الأزمة التي تضرب قوى المجتمع المدني التي تحتاج الى اعادة بلورة وجودها وطرح برنامج سياسي واجتماعي جديد، تستطيع من خلاله التحرر من واقعها الهامشي، والانخراط في الصراع السياسي من اجل بناء الديمقراطية.

كما ان الاتجاهات النيوليبرالية السائدة في الاوساط الاسلامية، ليست نتيجة تسوية مع الغرب او الولايات المتحدة، فهذه الاتجاهات كانت جزءا من تكوين الحركات الاسلامية منذ نشأتها، وسوف تساهم في بلورة مأزقها وهي في السلطة. فالاعمال الخيرية التي ميزت نشاطها وهي في المعارضة لم تعد تجدي، لأن ما يواجهها ازمة بنيوية لا حل لها الا بالتنمية والعدالة الاجتماعية.

واخيرا فإن ما يبدو وكأنه هدوء يلف الممالك والمشيخات النفطية، ويبعدها بفضل الرشوة عن عاصفة الثورات العربية، بل ويجعلها تتوهم انها تقود هذه الثورات، ليس سوى لحظة مؤقتة ولن تدوم.

غير أن التحدي الأكبر الذي يواجه الثورات العربية هو التحدي الأخلاقي. وأعني بالاخلاق هنا بناء مدونة جديدة تشمل مفهوم الوطن والمواطنة، وترسي عقدا اجتماعيا قائما على التوازن الاجتماعي، وتؤسس لثقافة الحرية.

ما تحتاج اليه المجتمعات العربية اليوم هو سد فراغ القيم الذي خلفه الاستبداد المتداعي، عبر بناء مدونة سياسية اخلاقية جديدة، تعيد النصاب الى الوعي، وتخرجنا من متاهة استيلاء الفكر الديني على المجال القيمي، لأنه الفكر الوحيد الذي يملك مرجعية ثابتة، على الرغم من تخبط تياراته المختلفة.

ماذا يعني هذا الكلام؟

انه يعني اولًا أن ما ورثته مجتمعاتنا من انظمة الاستبداد هو فراغ اخلاقي رهيب. فلقد جاء الفقر والجدب الروحي والفساد، لتقوم بتحطيم نظام القيم، ولعل قراءة متأنية لرواية صنع الله ابراهيم «ذات»، تكشف العلاقة بين الفقر والخواء والقمع، وتشرح مسار لجوء المجتمع الى تحجيب نفسه، ولو بشكل مصطنع، حفاظا على الحد الأدنى من كرامات افراده.

ويعني ثانيا استلهام الفكرالعقلاني الذي يقوم بتأسيس نهضة عربية ثالثة مبنية على قيم العدالة والمساواة والحرية، وهذا لا يعني على الاطلاق استبعاد العامل الديني، بل يعني حوارا مقياسه الأول والأخير هو الانسان والعقل.

ويعني ثالثا تحرر نخب المجتمع المدني من عصبياتها والبنى القديمة، والفراغ الأخلاقي الذي ورثته من الأنظمة، والتخلص من هيمنة شبح تحويل المثقفين والمناضلين الى مجرد ناشطين في الجمعيات غير الحكومية، بما تحمله من امتيازات وعزلة، والانخراط في بناء مؤسسات سياسية جديدة تقطع مع ارث الآفات الاجتماعية الموروثة من زمن الاستبداد كالطائفية والعشائرية والفساد المفسِد.

ويعني رابعا اعتبار التراث الانساني بأسره ملكا للجميع، من تراث الثورة الفرنسية وفكرها الى التراث الاشتراكي بعد تحريره من المقترب «الطليعي» الذي اثبتت التجربة التاريخية الملموسة انه كان وصفة جاهزة للاستبداد.

ويعني خامسا واخيرا، نقل المعركة من اطارها الهوياتي الى اطارها السياسي. فالصراع مع التيارات الاصولية ليس على الهوية، لأن صراعات الهوية هي مجرد صراع على الوهم وقبول بالافتراض الاستشراقي، الصراع هو على البرنامج السياسي الاقتصادي الاجتماعي، وهنا في صلب هذا الصراع تأتي اولوية حرية المرأة وحرية الثقافة والابداع.

العرب اليوم امام منعطف التغيير، وهم ايضا امام منعطف تأسيس بناء اخلاقي لمجتمعاتهم، ولقد رأينا كيف انعكس غياب هذا البناء بشكل سلبي في قلب الثورات العربية، في ليبيا حيث تم ذلك الاعدام الوحشي والمشين للقذافي، ما اراح جميع حلفائه وزبانيته الغربيين والعرب من فضائح محاكمته المفترضة، واحدث ثقبا كبيرا في الذاكرة والوعي الليبيين، الى اخطاء رد الفعل في الثورة السورية، من خطف الشيعة اللبنانيين الى اعدامات للأسرى من الشبيحة وافراد جيش النظام، من دون احترام القيم التي انطلقت الثورات من اجل الدفاع عنها. الثورات العربية قامت ضد انتهاك القانون والقيم الأخلاقية، ولا يحق لنا ان نجد اي تبرير لقيامها بانتهاكات تحت اية حجة.

في هذا السياق، وانا الآتي من بيروت، حيث تفترس البنى الطائفية كل القيم وتلغي الذاكرة والمحاسبة، اود ان احذّر من المرض الطائفي الذي لا شفاء منه الا بمجتمع المساواة، واتمنى ان نتذكر جميعًا شعار الحركات الوطنية القديم الذي نحن في امسّ الحاجة اليه اليوم: الدين لله والوطن للجميع.

العودة الى مدرسة التاريخ

يجب ان يعترف المثقفون والناشطون في العالم العربي بأنهم فوجئوا بهذا المدّ الثوري الكبير. فعلى الرغم من السجون والمنافي والاغتيالات التي تعرضت لها نخب المجتمعات العربية المختلفة، فان شعورًا عامًا بالعزلة كان يخيم على الاوساط الثقافية المعارضة، ويدفع بها الى التأرجح بين الاحباط والارادوية.

استمدت الدكتاتوريات العربية وهْم شرعيتها من عاملين: خارجي وداخلي.

تمثّل العامل الخارجي في تموضعها الاقليمي وتحالفاتها الدولية. وقد عبّر الرئيس السوري بشار الأسد عن هذه المسألة في شكل واضح في حديثه الى صحيفة «وول ستريت جورنال».

الشرعيات الخارجية، (اوروبا، الولايات المتحدة وصولا الى اسرائيل في الحالة المصرية)، اوحت بأن الدكتاتور قادر على البقاء من خلال قدرته على تطمين دول الغرب المسيطرة. ولعل النوذج الليبي هو الأكثر فداحة.

اما العامل الداخلي فقد تمثّل في وضع المجتمع امام الخيار بين الدكتاتور والأصولية الاسلامية، بما يتضمنه هذا الخيار من احتمالات الحرب الأهلية والطائفية.

ربما كانت الأنظمة الدكتاتورية العربية هي الأكثر استفادة من فوبيا الاسلام التي عمّت العالم بعد احداث الحادي عشر من ايلول الدامية في نيويورك. فنما على هامش فوبيا الاسلام تحالف معلن بين الدكتاتور العربي والغرب. وقد تغذت هذه الظاهرة من استعادة الفكر الاستشراقي الذي يمثله برنارد لويس وبعض تلامذته من العرب (فؤاد عجمي، كنعان مكية)، مكانته في صناعة السياسة الأميركية زمن هيمنة المحافظين الجدد، وفي المشروع البائس الذي قاده جورج بوش الابن لفرض الديمقراطية على العالم العربي عبر غزو العراق!

اما الدكتاتور العربي، فقد نجح في ان يقوم بلعبة مزدوجة، التنازل الثقافي امام الاسلاميين بحيث يرضيهم ويهدد بهم، واخافة مجتمعه منهم ملوّحًا بشبح الحرب الأهلية.

لكن المفاجأة جاءت من مكان آخر، وكان على الثقافة العربية، التي انهكها القمع واستولى على منابرها المال الخليجي، ان تستعيد نفسها، وسط بحر شعبي انفجر في المدن والساحات، وجرؤ على رفع شعار اسقاط النظام.

يستطيع نصر حامد ابو زيد وعبدالرحمن منيف وادوارد سعيد ان يشعروا اليوم وهم في غياهب الغياب، بأن عملهم وعمل اقرانهم من المثقفين لم يذهب هدرًا، وان دعواتهم الى ولادة مثقف حر، والى عقلنة الفكر العربي والاسلامي والى رفض ثقافة القمع وادانتها بدأت تجد صداها في الحياة العربية. لكن المسألة التي استطاع عدد كبير من الكتاب والشعراء والروائيين صوغها على المستوى الأدبي لا تزال معلقة في واقع من الفراغ السياسي، قد يسمح للجيوش او لمافيات الدكتاتورية باستغلاله من اجل وأد حلم التغيير.

فالتغيير الديمقراطي في حاجة الى بناء مؤسسات شعبية ديمقراطية، وهذا لن يتم بين عشية وضحاها، بل هو ورشة كبرى، فتحت الثورة ابواب الشروع بها.

جاءت الثورات العربية لتصالح العرب مع انفسهم ومع التاريخ ومع العالم. فجأة تبددت اللغة السائدة، وبدأت مرحلة تحرر العالم العربي من الديكتاتورية. واذا كانت المعركة تتركز اليوم في الجمهوريات التي اطلق عليها رياض الترك اسم الجمهوريات الوراثية، فإن الملكيات المطلقة والمشيخات النفطية التي تقوم بتبديد الثروة النفطية العربية لن تكون في معزل عن رياح التغيير. فالرشوة التي اعتمدها النظام السعودي عبر توزيع مليارات الدولارات ليست دواء ضد الحرية، مثلما يعتقدون، وسحق الانتفاضة البحرينية بالقوة المسلحة السعودية، لا يعني ان هذه الممالك لا تعاني هي ايضا من مسألة فقدانها الشرعية.

غير ان المعركة تتركز اليوم في المركز العربي، عبر القوس الممتد من مصر الى سورية وتونس. هنا سوف تتشكل ملامح العالم العربي الجديدة، وهنا سوف تلتقي الثورة الديموقراطية بالمهمة الأكثر صعوبة والتي تتمثل في بلورة استراتيجية جديدة في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي والغطرسة الصهيونية.

لقد اعادتنا الثورة الى مدرسة التاريخ، مبرهنة مرة جديدة ان الشعوب قادرة وفي اكثر الظروف صعوبة على استعادة حرياتها وكراماتها. وما على المثقفين سوى ان يتعلموا من هذا الدرس فضيلة التواضع من جهة، وضرورة ممارسة دورهم كجزء من الشعب، وكمجموعة آن لها ان تعيد للثقافة دورها كاطار نقدي وحر ومستقل، من جهة ثانية.

العددان ٣-٤ خريف ٢٠١٢ / شتاء ٢٠١٣

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.