لم يكن في خروج النظام السوري من مدينة الرقّة، أواسط شهر آذار/ مارس ٢٠١٣، إعلاناً لتحرير أول مركز محافظة في سورية فحسب، بل كان أيضاً نقطة تحرر من صفات ﻻزمت المدينة منذ لحظات الثورة الأولى: المدينة الصامتة، المؤيدة حين يقصدها بشار الأسد لصلاة العيد، وخزّان مجندين في الجيش السوري. فضلاً عن هذه الصفات الآتية من سياق وتضاريس اللحظة الثوريّة في سورية، كانت الرقة على موعدٍ مع فرصة ﻻ تعوّض للثأر من تهميشها المزمن، القادم منذ نهايات الحقبة العثمانية، مروراً بالانتداب الفرنسي، ثم عهد اﻻستقلال، وصولاً إلى عهد الوحدة، فالانفصال، فالحقبات البعثيّة والأسديّة. الرقة مدينة صغيرة، تكاد تكون، بالمعنى الاجتماعي واﻻقتصادي، قرية أكبر بقليل من مركز ناحية. مدينة ﻻ صناعة فيها بالكاد وﻻ تجارة، وتكاد الحياة اﻻقتصادية فيها تنحصر في الزراعة والتوظيف عند الدولة، بالإضافة إلى قطاع خدمي ملتحق بهذين المحورين.
مهرجان الحرية القصير
كانت رشا في الصف الثانوي الثاني حين اندلعت الثورة في أواسط آذار/ مارس ٢٠١١. كالأغلبية الساحقة من بنات الفئة الأعلى من الطبقة الوسطى في مدينة كالرّقة، أي طبقة الأطباء والمهندسين والمحامين ومتعهدي البناء، لم يكن لرشا اهتمامات عامة تُذكر في السياسة أو الثقافة. كانت قد أبرزت تفوقاً دراسياً مبكراً نالت على إثره تكريمات في محطات عدة من حياتها الدراسيّة. لكن هذا التفوّق عنى أيضاً المزيد والمزيد من التقوقع على الذات والمنزل في مجتمع، كالسوري، يرى درجات الشهادة الثانوية، فضلاً عن كونها مفتاحاً للدراسة الجامعية المستقبلية، موقع منافسة ونزال وتصفية حسابات بين حساسيات ومواقف الآباء والأمهات، بل والأشقاء أيضاً.
رغم المعسكر المغلق الذي تفرضه «البكالوريا» منذ بدايات الصف الثانوي الثاني، وخصوصاً عند طلبة الفرع العلمي، لم يكن من الممكن لرشا أن تنعزل عمّا يجري في البلاد. لم تنشط سياسياً ولا إغاثياً، ولم تشارك في التظاهرات أو اﻻعتصامات الشحيحة في الأشهر الأولى للثورة في الرقة. لكن هوى الوالد المُعارض طغى على مواقف الأسرة بأكملها. أحمد، شقيق رشا، خرج في تظاهرات عدة، واعتُقل إثر إحداها لأسابيع طويلة.
مرّت الأسابيع الأولى بعد تحرير الرقة وكأنّها مهرجان متواصل. الشعور بالانعتاق يعمّ أوساطَ المعارضين الرقيين، والمنظمات والتجمعات الشبابية تعلن تباعاً انطلاقَ عملها في شتّى المجالات السياسية والخدمية والثقافية. القوّة العسكريّة الأهم في الرقة هي لحركة «أحرار الشام» الإسلامية و«جبهة النصرة»، بالإضافة إلى كتائب وجماعات مسلّحة مختلفة، بعضها ينضوي تنظيمياً تحت لواء «الجيش الحر»، وبعضها الآخر لا.
تحررت الرقة من صفات ﻻزمت المدينــة منذ لحظات الثورة الأولى: المدينة الصامتة، المؤيدة حين يقصدها بشار الأسد لصـلاة العيد، وخزّان مجندين في الجيش السـوري
تبدأ الصدامات بين الناشطين المدنيين والقوى المسلّحة، التي أنشأت هيئة شرعية لتقوم مقام المحكمة الغائبة بعد سحب النظام للدولة عند رحيله. البداية مع مضايقات تتعرض لها فتاتان من قبل حاجز تابع للهيئة الشرعيّة، لتخرج تظاهرة منددة بهذه المضايقات سرعان ما تتحوّل إلى اعتصامٍ ﻻ ينفكّ، حتى أعلنت الهيئة الشرعية حلّ نفسها، ليُعاد تشكيلها على أسس جديدة لاحقاً.
ﻻ يخلو الجو من مضايقات وتجاوزات للقوى المسلّحة، من تعديات على الأموال العامة، إلى الاستقواء بالسلاح على المدنيين، مروراً بالفوضى العارمة في كل ما يتعلّق بإدارة شؤون المدينة. لكنّ الهامش المفتوح للعمل المدني كبير، وأعداد الشباب المنخرطين في الشؤون العامة تتكاثر باستمرار. التفاؤل، رغم الصعوبات، هو سيّد الموقف بين شباب الرقة.
بداية عهد «داعش»
في نهاية الثلث الأول من نيسان/ أبريل ٢٠١٣، نام أهل الرقة ومقرّ المحافظة - وهو قصر فخم شُيّد ببذخ مفرط، وخصوصاً بالمقارنة مع أحوال المحافظة الاقتصاديّة، التي كانت تعاني من نكبة زراعيّة بكل ما لكلمة نكبة من معنى - هو مقرّ جبهة النصرة، واستفاقوا وقد تحوّل إلى مقر لتنظيم جديد ابتلع غالبيّة عناصر الجبهة، وﻻ سيما الأجانب منهم: دولة الإسلام في العراق والشام. هذا التنظيم سيُعرف لاحقاً باختصار أوائل حروف الاسم الكامل: «داعش»، وسينال أكثر من رقّي سبعين جلدةً على ظهره عقوبةً له على استخدام اﻻختصار هذا.
كما كان متوقعاً، أحرزت رشا درجات عالية في امتحان الشهادة الثانوية لعام ٢٠١٢. درجات أهّلتها لدخول كلّية الطب في جامعة حلب. الطب في سورية بمثابة الفردوس لطالب الشهادة الثانوية: ﻻ أحد بكامل قواه العقلية يرفض دخول الفردوس. رغم ذلك، تمرّدت رشا على هذا العُرف وقررت العزوف عن سبيل قسم أبقراط، الذي كان والداها قد سلكاه قبل أكثر من عقدين ونيف. قررت رشا دخول كلية الصيدلة في دمشق.
لم يكن قرار شدّ الرحال إلى دمشق سهلاً على رشا، ولا على أسرتها. الطرقات من الرقة مقطوعة بسبب الاشتباكات شبه المتواصلة. الأوضاع في دمشق غير مستقرّة أيضاً، فالاشتباكات تعمّ الحزام المحيط بالعاصمة، وحوادث تبادل إطلاق النار تقع في قلب العاصمة بصورة شبه مستمرّة. فضلاً عن ذلك، كانت قذائف الهاون قد بدأت تتحوّل إلى ما يُشابه الروتين في أحياء عديدة من العاصمة السوريّة.
في ذلك الصيف، صيف ٢٠١٢، لم تكن الثورة في الرقة بأحسن أحوالها. قبلها بعدّة أشهر، في آذار/ مارس، أي خلال الذكرى الأولى لاندلاع الثورة السوريّة، كانت انتفاضة سريعة قد عمّت المدينة إثر فتح قوى أمن النظام النيران على تظاهرة مسائية خرج بها بضع عشراتٍ من الفتية، وقُتل فيها الفتى علي بابنسي، الذي كان أول شهيد يسقط في المدينة خلال التظاهرات. خلال ثلاثة أو أربعة أيام، شلّ الإضراب المدينة، وتحوّل تشييع علي بابنسي إلى تظاهرة قُتل فيها ثلاثة شبابٍ آخرين، ليتحوّل تشييع هؤﻻء الثلاثة إلى تظاهرات قُتل فيها خمسة غيرهم. حصيلة تلك اﻻنتفاضة كانت ستة عشر شهيداً من شباب الرقة. بعد هذه الأيام، عادت الأمور إلى طبيعتها الأولى: تظاهرات متفرقة وهزيلة، وأهل المدينة يتابعون أخبار ما يجري في حمص ودرعا وحلب وريف دمشق على شاشات التلفزيون، وقوى الأمن مُرابطة عند كلّ تقاطع شوارع كي تقمع أي محاولة تظاهر، مع انسحابها الكامل من التعاطي مع جرائم الخطف التي كانت قد بدأت تعمّ المدينة ومحيطها بنحوٍ وبائي.
في الأيام الأولى لرشا في الجامعـة، سقطت قذيفتان قُرب مبنى كلّية الصيدلــة، وتعطّلت الدراسة فيها. عند أول فرصـة، ركبت رشا باصاً باتجاه الرقة عبر نحو عشرين حاجزاً للجيش السوري. دامت الحياة الجامعيـة لرشا نحو عشــرة أيـام
في الأيام الأولى لرشا في الجامعة، سقطت قذيفتان قُرب مبنى كلّية الصيدلة، وتعطّلت الدراسة فيها. عند أول فرصة، ركبت رشا باصاً باتجاه الرقة عبر نحو عشرين حاجزاً للجيش السوري. دامت الحياة الجامعية لرشا نحو عشرة أيام.
تظاهرات وخطف وقتل وهجرة
بدأت «داعش» بفرض الخناق على المدينة بعد أسابيع من ظهورها مكان تبخّر جبهة النصرة. خلال فترة قياسيّة، غدا صاحب أيّ نشاطٍ ثوري سابق مُعرّضاً للخطف. أنهت داعش وجود كل الكتائب التابعة لـ«الجيش الحر» خلال فترة قصيرة جداً، وتصدّرت المشهد في الرقة، في ظلّ تجاهل حركة أحرار الشام الإسلاميّة، الأكثر عدداً وعتاداً، لوجود «داعش» وممارساتها، ربما لحسابات تخص التوازن مع مناطق أخرى يغلب فيها حضور «داعش» على قوّة الأحرار.
خُطف الأب باولو، ثم لحقه الكثيرون من ناشطي المدينة... ثلاثة منهم ظهرت جثثهم بعد أيام من «اختفائهم» على أيدي ملثمي «الدولة». ظهر احتجاج سعاد نوفل ضد «داعش» ثم اضطرت إلى التواري والخروج من المدينة إثر تهديدات واعتداءات تعرضت لها أثناء تظاهرها وحيدة أمام مقرّ «داعش» للمطالبة بحرّية المخطوفين.
خلت الرقة تقريباً من ناشطيها. بين نازحٍ ومتوارٍ ومخطوفٍ وشهيد، تصحّر المشهد الرقّي بنحو محزن ومؤلم.
شهدت رشا تحرير الرقة في أواسط آذار/ مارس عام ٢٠١٣، ونزحت مع أسرتها إلى إحدى مدن الجنوب التركي بعد أيامٍ من التحرير هرباً من الغارات الجوّية التي شنّها النظام على المدينة، عقاباً لها على «الخيانة». بعد شهرين من النزوح التركي، عادت رشا وأسرتها إلى الرقة. تزامنت هذه العودة مع صعود حضور «داعش» وقوتها وعنجهيتها في شوارع المدينة.
بدافع الخوف المنطقي، شددت رشا من الإجراءات التي كانت قد فرضتها على نفسها منذ بداية الثورة: الخروج من المنزل للضرورة القصوى فقط، والعودة مبكراً إلى البيت، قبل غياب الشمس إن أمكن. خلال شهورٍ طويلة، عاشت رشا، كالغالبية الساحقة من فتيات الرقة، بل وفتيانها أيضاً، إقامة جبريّة فعليّة.
انتفاضات ضد «داعش»
اندلعت الانتفاضة ضد «داعش» في حلب. لم يكن الوضع ليُطاق أكثر من ذلك. مسلسلات الخطف والتصفية بحقّ ناشطي الثورة كانت أكبر من أن تُعامل ببراغماتية، والجهد المتواصل والمحموم لـ «داعش» لتصفيّة أي وجود للثورة، بشرياً ورمزياً، كان يجب أن يُقاوم، بل إن أصواتاً كثيرة تعالت محتجّة على تأخر هذه المقاومة أكثر من اللازم.
طُردت «داعش» من حلب وإدلب بعد أيامٍ قليلة من بدء اﻻشتباكات. في الرقة، تلقّت «داعش» الصفعة الأولى بذهول، لكنها سرعان ما استعادت قوّتها، مستندة في ذلك إلى تفضيل «أحرار الشام» التركيز على محاربة «داعش» في مناطق أخرى في حلب وإدلب وريفهما وترك الرقة. بعد أربعة أيام من اﻻشتباكات، سيطرت «داعش» بالكامل على المدينة بعد انسحاب كافة الفصائل منها، وأعلنت انتصارها على الثورة بمسح كلّ شعاراتها وطمس كل ألوانها، وعلى المجتمع الرقّي بفرض الصلاة والنقاب بالقوّة، مستندةً في ذلك إلى وهج رعب الإعدامات الميدانية التي نفّذتها في ساحات المدينة الرئيسية، تارةً بحق «مرتدين»، وتارةً أخرى بحق «صحوات». آخر الناشطين الرقيين، أولئك الذين كانوا قد صمدوا في المدينة، وإن متوارين، خرجوا منها. لم يعد هناك أيّ حيّز للعمل في ظلّ توحّش «داعش» بعد الصفعة التي تلقّتها في نقاطٍ كثيرة من جغرافيا الشمال السوري.
تقرر خروج رشا وشقيقها، من الرقة باتجاه تركيا مجدداً، في اليوم الثالث من اﻻشتباكات. وضع رشا، في الإقامة الجبرية الفعلية منذ أشهر، لم يعُد يُطاق. كذلك فإن سلامة شقيقها، الذي نشط في العديد من التجمعات الشبابيّة التي نشأت بعد تحرير المدينة، وإن دون أي دور قيادي أو بارز فيها، لم تعد مضمونة. السفر بين الرقة والحدود التركيّة دام أكثر من ثمانٍ وأربعين ساعة، رغم أن المسافة تقل عن مئة كيلومتر، إﻻ أن اﻻشتباكات وحواجز «داعش» حتّمت سلوك طريق متعرّج جداً، والمبيت في إحدى قرى الريف الغربي للمحافظة، التي كانت قد تحررت مؤقتاً من سلطة «داعش». كذلك شملت إجراءات السلامة ارتداء رشا للنقاب، رغم أنها لم تكن محجّبة وﻻ ملتزمة دينياً.
تعيش رشا الآن في إحدى مدن الجنوب التركي، وتُحاول أن تُمارس حياة طبيعية، بما في ذلك، بالتحديد، التنزّه دون خوف في الشوارع، وتسعى إلى الالتحاق بإحدى الجامعات التركيّة لاستكمال دراستها، أو بالأحرى للبدء فعلياً بها بعد عامين مهدورين. على عكس صديقاتها، وبعض الصحافيين الأجانب الذين التقت بهم بواسطة أحد أقربائها الصحفيين، ﻻ تمنح أهمية كبيرة لقصّة ارتدائها النقاب عند الخروج من الرقة، بل ترى في التركيز على هذه النقطة «استشراقاً سطحياً». هذا لا يسبب «تروما»، تشرح لصحافيّة كنديّة، الـ«تروما» في مكانٍ آخر، بحجم بلدٍ بأكمله. تدوّن الصحافيّة جملة رشا تلك، وتعود لتسأل عن شعور صاحبة الشعر الأسود الطويل عندما اضطرّت إلى ارتداء النقاب.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.