حين نناقش مسألة الانتفاضة السورية مع منتقديها، فإننا غالباً ما نسرع في التأكيد أنّ النظام السوري ليس مناهضاً للإمبريالية، ولم يطلق رصاصة واحدة لتحرير الجولان المحتل منذ ١٩٧٤، وأنّه يستخدم فلسطين فقط كورقة تين وأداة سياسية لكسب الشرعية والاستقرار الداخلي في سورية. كل ما سبق حقيقي، لكن لا بد أن نسأل: لماذا علينا دوماً أن نلجأ إلى هذا التكتيك؟ لماذا كلما تُناقَش المسألة السورية، أول ما نتطرق إليه هو سياسة سورية الخارجية، والتبعات الجيو – سياسية للفوضى العنيفة التي تسود البلاد، ومصير القضية الفلسطينية؟
من الأهمية بمكان تفكيك الأسطورة التي تقول بأنّ النظام السوري مناصر للقضية الفلسطينية، ومن المهم أيضاً الإشارة إلى دور حافظ الأسد في سحق المقاومة الفلسطينية، والأحزاب اليسارية في لبنان خلال المراحل الأولى من الحرب الأهلية اللبنانية. من الضروري أيضاً الإشارة إلى تحويل كلمة مقاومة في عهد بشار الأسد إلى كلمة «ممانعة»، ما يدلّ بوضوح على أنّ الرئيس الشاب يعتقد أنّ مهمته الرئيسية هي الرفض، لا المقاومة الفاعلة للاحتلال الإسرائيلي. لكن فيما تكسير الأساطير التي تدعي مناصرة النظام السوري للقضية الفلسطينية، هو أمر أساسي في أي نقاش حول سوريا، لا يجب أن يشكل ذلك نقطة التركيز الأولى.
هل ننتظر تحرير فلسطين؟
في السنوات الثلاث الأخيرة، جلّ ما حققه القوميون العرب، والستالينيون، ورهط من يسمون أنفسهم يساريين ويساندون النظام السوري و/أو يعارضون الثورة السورية، هو أنّهم نجحوا كلياً في توجيه أي نقاش حول سوريا وفق شروطهم الخاصة. إذاً، عوض مناقشة قمع النظام السوري للحريات السياسية والمدنية، وعوض الحديث عن الجهاز الأمني والاستخباراتي الذي بنته الدولة السورية لخنق شعب كامل وقمع أي نوع من التمرد، وعوض الحديث عن رأسمالية الدولة في عهد حافظ الأسد، أو السياسات النيوليبرالية الخاصة ببشار الأسد، وعوض الحديث عن استخدام النظام السوري للمذهبية والتخويف للحفاظ على سلطته، وعوض تناول المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعانيها السوريون، عوض كل ذلك تتمحور نقاشاتنا عن سورية حول السؤال الآتي: هل النظام السوري مناصر للفلسطينيين؟ ماذا سيحصل في المنطقة إذا سقط النظام السوري؟ ما نتائج ذلك على «المقاومة» في لبنان ومحور الممانعة؟ من يساندون النظام يصرون على أنه في حال سقوط هذا الأخير، ستحل الكارثة، وستضيع القضية الفلسطينية إلى الأبد، وستكون إسرائيل وحلفاؤها في الخليج المستفيدين من الموضوع. في المقابل، يصرّ من يساندون الثورة على أنه لن تحرر فلسطين ما دام يحكم سورية دكتاتور، وأنّ الطريق لتحرير فلسطين ومرتفعات الجولات تمرّ عبر دمشق. وليس الأمر مفاجئاً ألا تكون مسألة مرتفعات الجولان حاضرة بقوة في أدبيات مناصري النظام أو معارضيه. في المقابل، تبقى القضية المركزية هي فلسطين.
مهمتي هنا ليست في إثارة أسئلة نظرية أو الدخول في جدال عقيم عن إسرائيل، لكن يجب تأكيد نقطتين:
أولاً، لا شك أنّ نظاماً قائماً على الفاشية والعسكرة والإقصاء والاستبداد يحتاج بشدة إلى عدو كي يحافظ على بعض الشعبية في الداخل؛ إذ إنّ وجود قوانين الطوارئ في سورية والجهاز الأمني بُرِّر بوجود إسرائيل، وهي عدو يتشارك معظم السوريين العداء تجاهه. النظام السوري لم يكتف بالحفاظ على الأمن على الحدود مع إسرائيل خلال عهدي الأسد الأب والابن، لكنه استخدم شعبية الدولة العبرية كعدو لتبرير قمع السوريين. من مذبحة حماه في ١٩٨٢، إلى بداية الثورة، كان العدو إسرائيل.
النقطة الثانية التي يجب التركيز عليها هي أنّه رغم عدم رغبتنا في الدخول في النقاش المؤامراتي حول وجود حلف سري بين إسرائيل والنظام السوري، لكن من الواضح أن النظام لم يكن ينوي أبداً فتح جبهة مباشرة مع إسرائيل والتزم دوماً المفاوضات طريقةً وحيدة لتحرير أراضيه المحتلة.
نزع الإنسانية عن السوريين
مع وضع كل هذه الاستنتاجات جانباً، من اللافت أنّ الطرفين يعتمدان الحجج نفسها للوصول إلى نتائج مختلفة. النقطة الأساسية المشتركة بينهما هي التركيز على السياسة الخارجية لسورية وإهمال ما يحصل فعلياً في الداخل. سورية بالنسبة إليهم هي طريق، أو دولة استراتيجية. وحتى لو قررنا مساندة الثورة، فإنّ أفضل حججنا ليست مصلحة الشعب السوري، وتحديداً المهمشين والمقموعين، بل إمكانية أن تؤدي هذه الثورة إلى تحسن الوضع في المنطقة عموماً، وفي فلسطين خصوصاً.
هذا بحدّ ذاته هو نزع صارخ للإنسانية عن السوريين. نتعاطى مع الموضوع وكأن السوريين ليسوا أكثر من أشياء أو أدوات، ومطالبتهم بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لا قيمة لها. المسألة الأهم هي تحرير فلسطين، فيما لا أحد يكترث بالقتل الجماعي في سورية واستهداف الأضعف والأفقر، ونعتبر ذلك تفاصيل جانبية لا أهمية لها يمكن العودة إليها لاحقاً. وفيما تغيرت بروباغندا النظام في السنوات الثلاث الماضية من استخدام فلسطين والمقاومة لتسجيل النقاط، إلى استخدام ذريعة الحرب ضد الإرهاب، فإنّه داخل الطيف اليساري لا يزال مناصرو الثورة ومناهضوها، على السواء، عالقين عند الخطاب نفسه.
نتعاطى مع الموضوع وكأن السوريين ليسوا أكثر من أشياء أو أدوات ومطالبتهم بالحرية والكرامــة والعدالـة الاجتماعيـــة لا قيمة لها. المسألة الأهم هي تحرير فلســـطين، فيما لا أحد يكترث بالقتل الجماعي في ســورية واستهداف الأضعف والأفقر، ونعتبر ذلك تفاصيل جانبيـة لا أهمية لها يمكن العودة إليها لاحقــاً
المثال الأوضح على نزع الإنسانية عن السوريين جاء من أستاذ العلوم السياسية أسعد أبو خليل على تويتر. بعد إلقاء النظام السوري برميلاً متفجراً على حلب، اشتكى أبو خليل: «لو أنّ النظام رمى هذا البرميل على إسرائيل». إذاً، بالنسبة إلى أبي خليل، المسألة ليست على ما يبدو بإلقاء براميل متفجرة على حلب وقتل المئات من المدنيين في أسابيع قليلة. لا، الموضوع مقبول ما دام النظام السوري يرمي البراميل على العدو الصهيوني.
من أجل تجنب نزع الإنسانية عن السوريين والتغاضي عن معاناتهم، صمودهم ونضالهم من أجل الحرية والكرامة، يجب أن نوضح بعض النقاط قبل بدء أي نقاش حول سورية. نحن نعارض النظام السوري، حتى لو كان الوحيد على الكرة الأرضية القادر على تحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي. لن يتم إحراجنا كي نتغاضى عن جرائم النظام واستبداده واستعباده للشعب السوري. إذا كان نظام ما مناهضاً للإمبريالية – وهي ليست حالة النظام السوري – لا يعطيه ذلك شرعية أو يجعله أهون الشرين. يبدو واضحاً لدى كل من يتابع الشأن السوري عن كثب أنّ قرار اعتبار إسرائيل عدواً ليس قراراً اتخذه النظام فحسب. هو أمر يوافق عليه العديد من السوريين. لا يحتاج هؤلاء إلى دروس في الوطنية أو حول فلسطين، ولا يحتاجون إلى إجراء اختبار لمقدار عدائهم لإسرائيل. لا يجب بأي حال من الأحوال لوم السوريين على توجيه كل عدائهم اليوم إلى النظام ومناصريه، وحزب الله والظام الإيراني وروسيا. لا يحق لأحد الطلب من السوريين تأجيل صراعهم من أجل الحرية أو تخفيف عدائهم لحزب الله أو إيران؛ لأنه ليس الوقت المناسب لذلك. لعقود مضت، كان السوريون يسمعون أنّ الوقت ليس مناسباً للمطالبة بإصلاحات؛ لأنّه يجب توجيه الاهتمام إلى العدو الخارجي. وفي خلال هذه العقود، لم يُطلَق الإصلاح السياسي أو الاهتمام بالعدو الخارجي. يحق للسوريين اعتبار النظام السوري وإيران وحزب الله أعداءهم الأساسيين حالياً؛ لأنّ النظام السوري يبيد مناطق وقرى بكاملها عن الخريطة بمساندة مباشرة من إيران وحزب الله.
ثوار ضد الاحتلال
حتى مع مواجهة القصف اليومي والحصار القاتل، أظهرت المناطق السورية المنتفضة تضامناً مع غزة حين تعرضت لهجوم إسرائيلي في تشرين الثاني ٢٠١٢. حمل الشباب السوري المنتفض لافتات ضد «مخطط برافر» للتطهير العرقي في صحراء النقب، وساندوا إضراب السجناء السياسيين الفلسطينيين عن الطعام. حين يتعرض السوريون للقصف يكون ردّ فعلهم العفوي: «حتى إسرائيل لم تفعل ذلك للفلسطينيين». بالنسبة إلى السوريين، وضعت إسرائيل المعايير الأقسى للعنف، ولا تزال تعتبر عدواً، لكن النظام السوري تمكن من تجاوز حتى إسرائيل.
حتى حين يطالب السوريون بالتدخل العسكري الخارجي – وهو أمر لا أزال أعارضه بشدة – فإنّ من غير الأخلاقي وغير المنطقي إلقاء اللوم عليهم أو استخدام مطالبتهم تلك كوسيلة لنزع الشرعية عن الانتفاضة. لقد استخدم النظام كل قوته العسكرية لسحق المدن والقرى التي انتفضت. استخدم النظام القوى غير المتناسبة ضد المتظاهرين قبل وقت طويل من لجوء المعارضين إلى السلاح، وقبل وقت طويل من أي دعوة جدية للتدخل الخارجي. في الحقيقة، إنّ جزءاً كبيراً ممن يدّعون اليوم أنّهم توقفوا عن مساندة الثورة لأنّها بدأت بالمطالبة بتدخل خارجي، وبسبب المذهبية والعسكرة، وصفوها بالمؤامرة منذ يومها الأول، حين ووجه المتظاهرون في درعا بالرصاص الحي، مقابل مطالبتهم بالسلمية والحرية. مما لا شك فيه أنّه يجب لوم الخطاب المعارض في سورية لأنه لم يشدد كثيراً على سيادة سورية في الاشهر الأولى للانتفاضة، لكن المعارضة السورية لم تمثل فعلياً الثوار على الأرض كما هي الحال في معظم الحركات الثورية؛ فهناك فجوة بين الانتفاضة التي لا قائد فعلياً لها على الأرض وبين المعارضة السياسية المتفرقة.
حين نركز على هذه المسألة، وحين نصرخ عالياً بأننا ضد النظام السوري حتى لو قام بتحرير فلسطين، وأننا لن نتغاضى عما يرتكبه حتى لو كان مناهضاً للإمبريالية، وحين نكرر أن مطالب السوريين بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية يجب ألّا تهمل وتعتبر ثانوية، حينها فقط سيكون من المقبول أن ندخل في نقاش حول النتائج المحتملة لهذه الانتفاضة على السياسة الخارجية لسورية.
بالتأكيد، لا يريد هذا المقال أن يتوافق مع ما يكرره بعض الليبراليين العرب من رغبة في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، أو مع من يقولون إنّ الوقت ليس مناسباً للحديث عن مناهضة الصهيونية أو الإمبريالية أو عن تحرير الجولان. هذه قضايا يحق فقط للسوريين الأحرار أخذ قرار بشأنها. بالطبع، لا نزال نعتقد أنّ من الصائب والفعال سياسياً مناهضة أكاذيب النظام ومنعه من احتكار القضية الوطنية. لقد حاولنا أن نقول هنا إنّه ليس على ذلك أن يكون اهتمامنا الأساسي وألّا يكون على حساب مآسي الشعب السوري. بالإضافة إلى ذلك، حين تساند ثورة، يجب ألّا تضع شروطاً مسبقة لذلك. يمكنك ألا تتفق مع خطابات يستخدمها السوريون. يمكنك أن ترفض الطريقة التي تتصرف في خلالها المعارضة والمجموعات المسلحة، لكن لا يمكنك أن تنكر أنّ السوريين نزلوا جماعياً إلى الشوارع للمطالبة بالتغيير الشامل. لذلك، يجب أن نساند انتفاضتهم بغض النظر عما ستكون نتائجها علينا كفلسطينيين. بعض الشبان فهموا ذلك، مثل أنس عمارة، وهو شاب فلسطيني يساري اعتقله النظام، وخالد بكراوي، الناشط الفلسطيني الذي تعرض للتعذيب حتى الموت في أقبية النظام، وعدي تيم، الناشط من مخيم اليرموك ذي العشرين عاماً الذي يعتقله النظام. هؤلاء الفلسطينيون وغيرهم ممن ساندوا الثورة وشاركوا فيها بفعالية، لم يسألوا عن شروط مسبقة، ولم يطلبوا من السوريين إثبات عدائهم لإسرائيل قبل المخاطرة بكل ما يملكون للتظاهر ضد النظام أو مساعدة النازحين. يجب علينا ألّا نصادر من السوريين أصواتهم، ونركز فقط على النتائج الخارجية.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.