بعد قراءة الدستور التونسي، ومتابعة النقاشات والتساؤلات العديدة التي تحيط به، أُصبت بالدوار. هذا الدستور هو الثاني في تاريخ البلاد. وقد أُقرَّ الدستور الأول في فترة زمنية مماثلة تقريباً، واعتبر ضامن التحرر الوطني، وأعطى اسمه للحزب الرئيسي في البلاد، أي «الدستوري الجديد» البورقيبي.
في حينها، بدا دستور ١٩٥٩ كـ«قفزة دستورية»، ويحكى كيف أنّ بعض النواب قبلوا بانقلابات متأثرين باللحظة التحررية. يحب المحدثون منهم أن يصفوا بالبطولة ما فعلوه، وبأنهم «وقفوا وحيدين ضد الكل»، ما يعتبرونه تقدماً في ذلك الدستور، وذلك حتى حين يصفون أنفسهم بالديمقراطيين. هم يمجدون بالتالي كل انقلابات بورقيبة، باعتبارها قفزات نحو التقدم، من دون التساؤل عن متانة القاعدة الديمقراطية، وعن صدقية مفهوم هذا التقدم نفسه، الذي يشبه كثيراً ما كان يسمى في القرن الثامن عشر «استبداداً متنوراً».
ما بين ١٩٥٩ و٢٠١٤
في ٢٠١٤، لا يوجد زخم يتجه في مسار مباشر نحو التقدم، وهو مليء بالتشطيب والتصحيحات. نجد كلمة ثم نقيضها، والعديد من الفقرات، وهي تقنية وأكثر دقة. كذلك نجد العديد من المجالات الجديدة المتعددة أيضاً. هذا الشطب الظاهر والمعوِّق، يشي بالكثير حول النص الدستوري، الذي يشبه دفتر نوتات موسيقية خضع لنقاشات ومفاوضات حادة قبل تأديته.
بداية، يوجد المفاوضات المتعددة، التسويات والتوازنات للوصول إلى توافق نسبي. تظهر التعديلات كيف يسعى كل شخص إلى الدفع قدماً بالمشروع عبر حذف كلمة، أو نقل جزء من جملة – مثلاً البسملة، وهي العبارة الإسلامية المعتادة لبدء أي رسالة أو ملف، وقد وضعت بداية بعد «المقدمة»، أصبحت أول ما يطالعنا في النص كله. هي لعبة هائلة من التوازن، والصبر، يمكن أن نضيف إليها الضغط الذي يمارسه المواطنون، والجمعيات، والنقابات التي تمثل العديد من المصالح.
هذه التناقضات واضحة في النص، وهي تشكل انعكاس حالة المجتمع. هذه التناقضات هي إشارة إلى أنّ النواب كانوا تحت انظار المجتمع، بفضل الجمعيات التي سعت منذ البداية إلى جعل النقاشات شفافة (موقع www.marsad.tn يحتوي على مقالات ونسب الحضور، والتعديلات، وأحياناً بعض الأحاديث التي دارت في أروقة البرلمان).
كذلك، يبدو واضحاً في النص تأثير التاريخ الحديث. الزخم الوطني الذي تلى الاستقلال، وكان يعتبر راديكالياً في ١٩٥٩ (نحن ممثلي الشعب التونسي المجتمعين في مجلس قومي تأسيسي، نعلـــن، إن هذا الشعب الذي تخلص من السيطرة الأجنبية بفضل تكتله العتيد وكفاحه ضد الطغيان والاستغلال والتخلف) ورغم وجوده في نسخة ٢٠١٤ من الدستور، يأخذ في الاعتبار أنّ تونس موجودة منذ ستين عاماً ولا تعتز بإرادة الشعب فقط، بل بالوفاء والفخر.
بعدما دخلت التاريخ، لا ترغب الأمة التونسية بفتح صفحة جديدة مع الجمعية التأسيسية، لكن مرحلة جديدة في مسار نحو التحرر. إنّ الدستور يكتب باسم دستور آخر غير كامل وخصوصاً دستوراً تعرض للخيانة.
أكثر من ١٩٥٩، يعمل النواب التونسيون تحت أنظار العديد من المراقبين، داخل البلاد وخارجها. كذلك، هم ينالون انتقادات وتنويهات، من الأمم المتحدة، للتقدم أو التراجع الحاصل على مستوى حقوق الإنسان والحريات. إنّ المنظمات الدولية مثل «منظمة العفو الدولية» أو «هيومن رايتس ووتش» تتابع خطوة بخطوة مسار العملية، وتشجع النواب على ضمان عدد معين من الحقوق. يتشاور خبراء ومبعوثون ومراقبون دوليون مع النواب ومسؤولي الأحزاب، ويشاركون في النقاشات. إنّ الجمعية التأسيسية هي فعلياً تحت أنظار العالم أجمع. يسمح ذلك لتونس بتثبيت هذه المعايير، وشطب الخانات المناسبة، كما في لعبة، لعبة الأمم الكبيرة.
أين هي الثورة؟
في هذا التشابك داخل شروط ممارسة السلطة الدستورية، يوجد عنصر يمكن أن نحاول نسيانه، هو الثورة نفسها، الثورة التي جعلت وجود هذه الجمعية ممكناً. هي موجودة في النص، في عبارة «الوفاء لدماء شهدائنا»، وفي الرغبة في «تحقيق أهداف الثورة». وهي موجودة أيضاً في إضافة كلمة واحدة إلى شعار تونس الذي كان في السابق «حرية، نظام، عدالة» والذي أصبح «حرية، كرامة، عدالة، نظام». إذ إنّه في الدستور يوجد أيضاً معنى الأمة، تصريحات، مقدمات، النشيد والشعار. هذا الأخير يحتوي اليوم كلمة «كرامة» التي انتشرت في الشوارع أيام الثورة. لقد تقدمت العدالة على النظام، الذي لطالما استخدم كعذر للاستبداد. هكذا، أصبح آخر عجلة في العربة، جرى اللجوء إليه في اللحظة الأخيرة، بعد الحرية، والكرامة والعدالة، رغم أنّ الكلمة تأتي في نهاية الشعار كما لو أنّها موجودة لقطع الطريق على أي تهور، أو تحديداً كنقطة نظام.
لقد اعتُمد دستور الجمهورية الثانية التونسي في ٢٦ كانون الثاني ٢٠١٤، في تاريخ يمكن عدّه رمزياً؛ لأنّه يأتي تحديداً بعد ستة وثلاثين عاماً يوماً بيوم لما يعرف بـ«الخميس الأحمر»، حين قام بورقيبة، أبو الدستور الأول، بقمع الحركة النقابية الكبيرة والاعتراض الذي كان يجتاح اليسار منذ عقد، بالدم. منذ ذلك الحين، سالت الكثير من الدماء من أجل الحرية أيضاً: احتجاجات الخبز في ١٩٨٤، انتفاضة الكرامة في ٢٠١١، ونضالات وحركات اجتماعية يمكن أن نجزم بأننا لم نشهد آخرها بعد. ينكتب انعكاس كل ذلك في نصوص اليوم، وتنكتب أيضاً وعود بمعارك مقبلة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.