في سنة ١٩٥٧ حصل إدوارد سعيد (1935-2003) على الإجازة من جامعة برنستون، ثمّ على الماجستير سنة 1960، والتحق بعدئذ بجامعة هارفارد لدراسة الدكتوراه، وكانت الأطروحة بعنوان «رسائل جوزيف كونراد وروايته القصيرة»، 1964 (سوف تتحوّل بعدئذ إلى كتابه الأوّل). طَوْر هارفارد شهد انكباب سعيد على دراسة الآداب الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والإغريقية والرومانية، ولكنّ سجيّته المتمردة قادته إلى قراءة كتابَي المفكر الهنغاري الماركسي جورج لوكاش، «التاريخ والوعي الطبقي» في الترجمة الفرنسية، و«الرواية التاريخية» في ترجمتها الإنكليزية. كذلك تعمّق أكثر في الفلسفة الأوروبية، فقرأ المفكّرَين الإيطاليَّين جيوفاني باتيستا فيكو وأنطونيو غرامشي، والألمان آرثر شوبنهاور ومارتن هايدغر وإريك أورباخ وتيودور أدورنو، والفرنسيين موريس ميرلو بونتي ولوسيان غولدمان وكلود ليفي ستروس وميشيل فوكو ورولان بارت. هذا التكوين التركيبي، المهاجر أبداً والمنشقّ دون كلل، لم ينفصل عن التيارات التي كانت تعصف بالمشهد الأميركي في مجال الأدب والنظرية النقدية بصفة خاصة، مثل مدارس «النقد الجديد»، و«النقد النصّي» كما مارسه ر. ب. بلاكمور؛ والتأثيرات الفردية لأشخاص أفراد، مثل الشاعر ت. س. إليوت، والناقدَيْن نورثروب فراي وهارولد بلوم.
كونراد المبتدى
كونراد سوف يكون، بعد أطروحة الدكتوراه، موضوع مقالة سعيد النقدية المستقلة الأولى. ونُشرت المقالة سنة ١٩٦٥، بعنوان «كونراد، ‹نوسترومو›، السجلّ والواقع»، وحملت بوضوح الكثير من خلاصات ذلك التكوين النقدي والفكري التركيبي الذي سيلازم سعيد طويلاً. آنذاك، وخاصة في ضوء المراجعات السلبية الكثيرة التي قوبلت بها أطروحة الدكتوراه، لم يكن أمراً مألوفاً أن يذهب أكاديمي شابّ، في الثلاثين من عمره، إلى مقارنات بين كونراد وكلّ من د. هـ. لورانس وجيمس جويس، ثمّ يبلغ هذه النتيجة: «لأنّ ‹نوسترومو› رواية واقعية، بالمعنى الأفضل والأخلاقي للكلمة، هنالك سبب وجيه لاعتبارها صانعة واحد من البيانات الأشدّ سلبية في العمق، على امتداد الرواية الإنكليزية. والعمل شبه المعاصر لـ د. هـ. لورانس، أو حتى جيمس جويس، حيث خليط من تماهيات الأرض، والأساطير، والأنماط العليا، وقوى الحياة المشبوبة، ورؤى الأحلام، يتتابع ظهوره، تاركاً تصريحات تأكيدية مقارَنة. ينتاب المرء الشعور بأنّ الحياة عند لورانس وجويس ليست جديرة بالعيش فحسب، بل هي جديرة بالاحتفاء أيضاً. أمّا عند كونراد، فإنّ صلابة العالم الحادّة ذاتها، ثمّ الحياة في ذلك العالم استطراداً، أمر يواصل جذب المرء إلى بذل الجهود لإحكام السيطرة، ثمّ السماح للحياة بتجريم ذاتها بسبب من الفشل في تحقيق تلك السيطرة»1.
في أواخر مايو ١٩٦٦ سوف ينشر سعيد أولى مراجعاته النقدية، في مجلة «نايشن» Nation التي ستشهد تعاوناً وثيقاً ومديداً معه، سيمتدّ حتى الأشهر القليلة التي سبقت وفاته، وسيشمل الكتابة في موضوعات نظرية الأدب والنقد الثقافي والموسيقى والسجالات الفكرية، إلى جانب المقالات السياسية والقضية الفلسطينية بصفة خاصة. هنا أيضاً، في تلك المراجعة الأولى التي نُشرت بعنوان «تجسيد الموضوعات» وتناولت كتاب ج. هيليس ميللر «شعراء الواقع: ستة كتّاب من القرن العشرين»، يعود سعيد إلى كونراد، من زاوية وصول التراث الرومانتيكي للقرن التاسع عشر إلى طريق مسدود، يمثّله على نحو أفضل حال تضخّم الأنا العزلاء في عالم ينحلّ ويندثر؛ وفضل كونراد الذي «يصوّر عبثيات الخُلُق الرومانتيكي، متخذاً بذلك هيئة عدميّ يبيّن تعثّر الثنائية الرومانتيكية بسبب أنّ الإله الذي كان يغذيها لم يختفِ فحسب، لكنه مات على جميع الصعد العملية»2.
السنة ذاتها، 1966، سوف تشهد طباعة أطروحة الدكتوراه، تحت عنوان جديد هو «جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية»، وفيه يعتمد سعيد على منجزات «مدرسة جنيف» في النقد الفينومينولوجي، لكن ليس ضمن انجذاب إلى الفلسفة الوجودية. يتوقف عند إسهامات جان بول سارتر ودراسته «العواطف: ملخص نظرية» تحديداً، أكثر من إبستمولوجيا إدموند هسرل أو مارتن هايدغر أو رومان إنغاردن. ويطوّع سعيد ثنائية شوبنهاور حول عالم مغترب أونطولوجياً عن الوكالة الإنسانية من جهة، و«الفكرة» الزائفة المخلوقة عن العالم إياه في الذهن الإنساني من جهة ثانية. ويستخدم بعض خلاصات وليام جيمس وسيغموند فرويد وكارل يونغ (حول عبارة «أوالية الوجود بأكملها» التي ظلّت تسكن تفكير كونراد). ويسخّر تطبيقات لوكاش ولوسيان غولدمان، حول ديناميات الوعي الطبقي، دون أن يتبنى نتائجها التي تقصي فردانية كونراد على نحو خاصّ. وفي الآن ذاته، وسط هذه المنهجية المتراكبة، لا يغفل سعيد تطويع مناهج هارفارد وتقاليدها الأكاديمية العريقة، ما وسعته الحيلة بالطبع!
ومن خلال التدقيق المعمّق في رسائل كونراد، يرسم سعيد الخطوط الكبرى لمزاج الروائي البولندي الأصل، لكي يكشف كيفية توليدها للأطر الرئيسية في رواياته، ولكي يبرهن على نحو مدهش أن كونراد انشغل دائماً بالتوتّر بين وعيه لنفسه من جهة أولى، وإحساسه بالشروط المتصارعة التي تكيّف وجوده كـ«آخر» فردي ولغوي في التراث المكتوب بالإنكليزية، من جهة ثانية.
ينقسم الكتاب إلى جزءين، يتناول الأوّل رسائل كونراد، ويرصد الثاني توازيات رواياته القصيرة مع الديناميات الداخلية التي تجلّت في رسائله. وعلى امتداد أحد عشر فصلاً (٢١٩ صفحة، في طبعة الكتاب الأولى) يساجل سعيد بأنّ كونراد مال إلى الروايات القصيرة أكثر من تلك الطويلة، وأنه رأى حياته الشخصية أقرب إلى سلسلة وقائع قصيرة؛ لأنه «هو نفسه كان أكثر من شخص واحد، وكلّ واحد من الشخوص يعيش حياة غير مرتبطة بالآخر: كان بولندياً وإنكليزياً، بحاراً وكاتباً»3. وبمعزل عن الإغواء الشخصي الذي انطوى عليه هذا التفصيل في حياة كونراد، بالنسبة إلى سعيد ذي الشخوص المتعددة بدوره، كان ثمة ذلك التحدّي الآخر الذي أغوى الناقد والأكاديمي الشابّ: أن ينشقّ عن المألوف والعرف السائد، فلا يغرق في دراسة روايات كونراد الطويلة، بل أن يتوجه إلى تلك القصيرة تحديداً، في إجراء أوّل، وأن يتفحصها من زوايا السيرة الذاتية، ومعطيات الرسائل والحوادث الشخصية، في إجراء ثانٍ.
تصفية حساب مع سارتر
جدير بالذكر، في ختام هذه الوقفة عند كتاب سعيد الأوّل، أنّ مفهوم الإمبريالية سوف يدخل مبكراً إلى عِدّة سعيد النقدية، ليس بصدد شخصية مارلو في «قلب الظلام»، ومبدأ القوّة والأنانية والتمايز الفرداني كما تُلتمس عند كونراد في أصولها الشوبنهاورية، فحسب، بل كذلك في توسيع للمفهوم، سياسي وثقافي، سوف يرافق سعيد على الدوام: «مشكلة الأنانية غير المنضبطة والكفاحية كما فهمها كونراد، كانت تكمن في أنها تصبح إمبريالية أفكار يسهل أن تحوّل ذاتها إلى إمبريالية الأمم. وبالرغم من الإجحاف الجلي الذي سيلحق بأولئك الذين تُفرض عليهم فكرة امرئ ما، من المهمّ إدراك أنّ السبب الذي يدفع فرداً إلى فرض فكرته مردّه إدراك الأخير أنه يخدم الحقيقة. وكلما اشتدّ إحساس المرء بفردانيته الخاصة، اشتدّ توجّه الحافز الناتج إلى تكريس الذات، على نحو «غير أناني»، لفكرة ما عن الحقيقة.
وبذلك فإنه يجب على الكاتب ذي الفردانية القوية أن يفتش داخل نفسه عن صورة ملائمة وصحيحة تعبّر أفضل تعبير عن فكرة الحقيقة كما يراها: ذلك لأنه، رغم مخاطر الإمبريالية، كانت السيرورة ضرورة للتلاؤم مع الظلمة الداخلية والعالم الخارجي»4. وبالطبع، هنا أيضاً، لم يكن مألوفاً في أوساط النقد الكونرادي أن يتجاسر ناقد وأكاديمي شابّ فيتكئ على شوبنهاور، لكي يساجل بأنّ كونراد أدرك الركائز الأخلاقية، ثمّ الإبستمولوجية، التي تجعل احتكار الإمبريالية الأوروبية للحقيقة أمراً يصعب الدفاع عنه.
خلال السنوات اللاحقة، حتى عام 1975 الذي سيشهد صدور كتابه الثاني «بدايات: القصد والمنهج»، سوف ينخرط سعيد في نشاط نقدي وأكاديمي حافل، يتضمن سلسلة من المحاضرات والحوارات والمراجعات؛ أدخلته في مناخات سجالية، انشقاقية الروح دائماً، مع أعمال فرانك كيرمود، ر. ب. بلاكمور، كلود ليفي ستروس، جيامباتيستا فيكو، إميل سيوران، أورباخ، جورج شتاينر، إيهاب حسن، رولان بارت، مكسيم رودنسون، وآخرين. في الدراسات المستقلة، يُشار إلى «متاهة التجسيدات: مقالات موريس ميرلو بونتي»، التي نُشرت مطلع ١٩٦٧ وكانت مناسبة لتصفية المزيد من الحسابات النقدية مع سارتر، و«فلسفة الهواة الإنسانوية» في فرنسا ما بعد ١٩٤٠، وابتذال هوسرل، وأحادية هربرت ماركوز، و«الصناعة التي اسمها البنيوية»، وليد ذلك «المزيج المُتَخيّل» من ألسنية فرديناند دوسوسور وفلسفة هسرل اللاحقة، ثمّ بارت وليفي ستروس وغومبريش... كلّ ذلك في غمرة امتداح أعمال ميرلو بونتي (وفي عدادها: «بنية السلوك وفينومينولوجيا الإدراك»، «المعنى واللامعنى»، «أوّلية الإدراك»، «فينومينولوجيا الروح»، «النزعة الإنسانية والرعب»، «مغامرات الديالكتيك»، و«المرئي وغير المرئي»...)، التي تردّ الاعتبار إلى المعنى، والإدراك، و«النظام الإنساني»، و«المنطق الداخلي للتاريخ». يكتب سعيد:
«كان سقوط فرنسا في عام 1940 قد أعطى دفعة قوية لحافز تقويض الفلسفة الميكانيكية أو الاختزالية، واستولد نفاد صبر إزاء ذلك النوع من الدقة المتحجرة التي بدت عاجزة عن لمس الإنسان. وما كان في سابق العهد جدالاً في صفوف الفلاسفة المحترفين، تحوّل إلى ردّ فعل شبه قومي على الحالة الاجتماعية والروحية والمعنوية والعسكرية التي لم تكن، ببساطة، جاهزة لاستقبال وحشية التاريخ (...) ومن السخرية، بطبيعة الحال، أن الفكر الألماني فكر ماركس وإدموند هسرل ومارتن هايدغر على وجه الخصوص أدى دوراً لا يستهان به في الانقلاب الفكري».
وفي نظر سعيد، كان «المعنى الدفين في الواقع الإنساني، المعيش»، الذي صار موضوعة مركزية في الفكر الفرنسي جرّاء عمليات التقويض تلك، هو الذي حظي في أعمال ميرلو بونتي بـ«معالجة غنية ومشبوبة ومعقدة»5.
مقالة أخرى، بعنوان «ملاحظات حول تشخيص نصّ أدبي»، نُشرت في أواخر عام ١٩٧٠، سوف تقتبس ميرلو بونتي في الاستهلال، وستتناول شبكة معقدة من المفاهيم الإشكالية (المؤلف، علاقات النصّ، إيديولوجيات النقد، النصّ والناقد، التفكيك، البنية، الزمن التجريبي والزمن الفنّي...) ضمن روحية السجال مع البنيوية الفرنسية، ومع جان بياجيه وبارت خصوصاً، ثمّ مع تفكيكية جاك دريدا.
هنا، في هذه المقالة، تُتاح للقارئ واحدة من الفُرَص النادرة للوقوف على بعض آراء سعيد في الشعر (من خلال قصائد جيرالد مانلي هوبكنز، وسونيتات ريلكه): «الكلمات لا تسكن نصّاً إبداعياً، بل هي بالأحرى البقايا اللفظية الميتة لمسار ارتدّ إلى أصوله، على غير هدى، في نفس الشاعر. وبذلك فإننا نجد أدباً يزعم أنّ ذاته ليست أدباً، رغم أنّ الأثر الشخصي الموصوف فيه باستماتة، يثبت وجود صوت إنساني تعس. بيد أنّ هذا الصوت الإنساني تحديداً، منسلخاً عن أيّ نصّ، هو الذي سيُهضم في عمل أجيال آتية من الكتّاب. النصّ يفسح المجال أمام صوت أعزل، يفسح بدوره مجالاً بعدئذ في موسوعيات طباقية عند جويس («عوليس» و»يقظة فينيغانز»)، هَكْسلي («قول على قول»)، بورخيس («قَصَص»)، أورويل («١٩٨٤») لأواليات الكتابة. وإذا كان شاعر مثل هوبكنز قد تُرك في الماضي وحيداً مع سلطته التأليفية المتطورة، فإنّ اللغة التالية سوف تكتسب وجودها دون مؤلف أو سلطة تأليفية أو ذات إنسانية. تحتفي البنيوية بالفقد حتى حين توفّر لها مناهجُها في التحليل أن ترى لمحات من نصّ يتقدّم أو يتلاشى. ذلك لأنّ البرهان الإنساني هو جماع ما تفحصناه من مسار شعري حديث»6. إلى هذا، ثمة في المقال ظهور مبكر لمصطلح «الطباقي» Contrapuntal، وكذلك ملاحظات مبكرة حول شخصية ت. إ. لورانس، وكتابه «أعمدة الحكمة السبعة»، تستبطن شذرات من تلك الترسانة النقدية الزاخرة التي سيوظفها سعيد، لاحقاً، في كتابه «الاستشراق»، 1978.
«بدايات» وأسئلتها غير البسيطة
بعض مقالات هذا العقد التأسيسي سوف يدرجها سعيد في كتابه «تأملات حول المنفى، ومقالات أخرى»، ٢٠٠٠، وخاصة «متاهة التجسيدات»، وبعضها الآخر، ولا سيما تلك التي اتصلت بالفلسفة والنقد والنظرية الأدبية الأوروبية، سوف يتحوّل إلى فصول في كتاب سعيد الثاني: «بدايات: القصد والمنهج». وهذا عمل يحتلّ موقعاً وسيطاً «قلقاً»، إذا صحّ القول، بين «جوزيف كونراد» و«الاستشراق»، أي بين انخراط سعيد في دراسة إشكالية الإمبريالية والذات والآخر من خلال الخطاب الروائي عموماً وأعمال كونراد بصفة خاصة، دراسة الإشكالية ذاتها ولكن عبر سلطة الخطاب وخطاب الاستشراق هذه المرّة. وفي قناعة كاتب هذه السطور، قد يكون «بدايات» هو العمل الأفضل من سعيد، بوصفه الناقد والمنظّر الأدبي الذي أحدث أكثر من ضجّة عارمة واحدة في صفّ النظرية الأدبية وعلم الجمال إجمالاً، ثمّ على نحو أخصّ في النظريات التفصيلية الخاصّة بالرواية، وعلم السرد، والمحدِّدات الاجتماعية والسيكولوجية والأنثروبولوجية وراء مفهوم العمل الأدبي، وما إلى ذلك.
يساجل سعيد بأنّ كونراد مــال إلى الروايات القصيرة أكثر من تلك الطويلـة، وأنه رأى حياته الشـخصية أقرب إلى سلسلة وقائع قصـيرة، لأنه «هو نفسه كان أكثر من شخص واحد، وكلّ واحد من الشخوص يعيش حياة غير مرتبطة بالآخر: كان بولندياً وإنكليزياً،بحاراً وكاتبــاً»
«العمل الوحيد الذي يُعدّ طويلاً، هو ذاك الذي لا يجرؤ المرء على البدء به»، هكذا قال الشاعر الفرنسي شارل بودلير ذات يوم، مشدّداً ليس فقط على مفهوم البداية بالمعنى العملي، فحسب، بل أيضاً على مفهومها بالمعنى الإبستمولوجي لولادة النصّ إذا تيسّرت البداية، وربما ِبمَماته في المهد إذا تعسّرت البدايات. وقد يلوح للوهلة الأولى أن فكرة البداية أبسط من ذلك بكثير، أو أنها ليست على هذا القدر من التعقيد لكي تستغرق ٤٠٠ صفحة من التمحيص النظري والتطبيقي، وتوظيف أفضل ما في ترسانة سعيد من مهارات تحليلية بارعة. غير أن قراءة فصول الكتاب، والآن بالذات أي في أطوار صعود «أدب الصمت» وفنون «ما بعد الحداثة»، حين يتصاعد السعي إلى تحرير النصّ من كامل مرجعياته، أساليبه وإشاراته، أشكاله ومضامينه، بداياته ونهاياته تذكّر من جديد بالموجبات النظرية العميقة التي قادت سعيد إلى اختيار هذه الفكرة البسيطة، ثم معالجتها على نحو نقدي وفلسفي معمّق أبقى على بساطتها الكامنة، ولكنه كشف مستوياتها الخفيّة المعقدة. إنها أيضاً الموجبات التي جعلت العمل يحتلّ مكانته واحداً من أخطر الإسهامات في صناعة المشهد النقدي الأميركي أواسط السبعينات، وتجعله اليوم راهناً ومعاصراً وضرورياً.
«ما هي البداية؟ ما الذي ينبغي للمرء أن يفعله لكي يبدأ؟ ما هي خصوصية البداية كنشاط أو برهة أو مكان؟ هل في وسع المرء أن يبدأ حينما وحيثما يشاء؟ أيّ موقف، أو أيّ إطار ذهني، يُعدّ ضرورياً من أجل بداية ما؟ وتاريخياً، هل يوجد نوع واحد من البرهة الكفيلة بإطلاق البداية، أو هل يوجد نوع واحد من الأفراد الذين يعتبرون البداية هي النشاط الأكثر أهمية؟ وبصدد العمل الأدبي، ما هي أهمية البداية؟ وهل الأسئلة المتعلقة بالبداية جديرة بالطرح؟ وإذا صحّ ذلك، فهل يمكن أن تُعالج هذه الأسئلة، أو أن يُجاب عنها، على نحو ملموس ومفهوم ودالّ؟».
ومن خلال طرح هذه الأسئلة البسيطة، التي لا يطول الأمر حتى يتضح تعقيدها الداخلي، يوحّد سعيد عدداً من حقول اللقاء والافتراق بين الأدب والنظرية النقدية والتاريخ والفلسفة (البنيوية تحديداً، إذْ يُعتبر الكتاب رائداً في تقديم البنيويين الفرنسيين إلى القارئ الأميركي إجمالاً، والمؤسسة الأكاديمية الأميركية بصفة خاصة). يُحدَّد مفهوم البداية لكي يدشّن أو يوضح ويعرّف زمناً تالياً، مكاناً، أو فعلاً. وبهذا المعنى ينطوي تعيين بداية ما على تعيين «قصد» سياقي لها، الأمر الذي يمكّن سعيد من صياغة تعريف للبداية، بأنها «الخطوة الأولى في الإنتاج القصدي للمعنى»؛ وتعريف القصد بأنه «شهيّة البدء بإنتاج المعنى على نحو فكري». القصد، بالتالي، هو فكرة تتضمّن كلّ ما سيتطوّر عنها لاحقاً، بصرف النظر عن درجة التنافر أو الانسجام في ذلك التطوّر. إنه شهيّة الشروع، فكرياً، في القيام بشيء ما ضمن منظومة مميّزة، على نحو واعٍ أو لاواعٍ، شرط إنتاج المعنى في نهاية الأمر.
ويوضح سعيد أنه، حين راودته فكرة دراسة البداية للمرّة الأولى، اعتقد على الفور أنها تخصّ معضلة مهنية للكاتب الذي يفكّر بما سيقوله عنه النقد الأدبي، فيسأل: كيف ينبغي أن أبدأ الكتابة؟ لكنه أدرك سريعاً أن هذا السؤال يخفي أربعة أسئلة لاحقة:
١ بعد أيّ نوع من التدريب في وسع الكاتب أن يكتب؟
٢ أيّ الموضوعات ينبغي أن تكون في ذهنه حين يبدأ الكتابة؟
٣ من أيّ نقطة انطلاق سوف يبدأ: من القديم الناجز، أم من الجديد المبتكر؟
٤ هل توجد بداية مفضّلة في نظر الدراسة الأدبية؟ بداية مناسِبة هامّة، بعيداً عن أو قريباً من هذا أو ذاك من ميادين علم النفس، أو اللغة، أو التاريخ، أو الثقافة؟
البداية في حقل الرواية
وبعد هذا الفصل التمهيدي يقدّم سعيد الفصل الثاني في صيغة «مقالة تأمّلية» يرسم فيها بُنية فكرية وتحليلية لما سوف يكون عليه قصده ومنهجه في الفصول الثلاثة التالية، وكيف سيعالج مسألة البداية في حقل الرواية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وحقل الإشكالات التاريخية والحديثة بصدد إنتاج وتحديد النصّ الأدبي والنقد بصورة أعمّ، وحقل الفلسفة البنيوية الفرنسية. هل نكون قد بدأنا بالفعل حين نخطّ الكلمات الأولى في السطر الأوّل من أية كتابة؟ نعم، إذا كنّا سنقتصر على رؤية المسألة هكذا. كلاّ، وكلاّ كبيرة جداً، إذا كنّا سنتذكّر أن منطق اشتغال الذهن الإنساني ليس بهذه البساطة، وخصوصاً أنّ اللغة بالذات هي أداة ذلك الاشتغال، الأمر الذي يقرن هذا النوع من المحاججة حول مفهوم البداية بما انتهى إليه المسيو جوردان في مسرحية موليير: حيازة احترام رفيع بمفعول رجعي للنثر الذي كان يمارسه بانتظام تلقائي، على الدوام، ولكن دون أن يعي جدارة النثر بالاحترام. والحال أن جدّية المحاججة حول مفهوم البداية لا تبدأ إلا بعد أن نطرح السؤال: ما هي البداية؟ متى وأين ولماذا؟
غير أن صياغة تحصيل الحاصل، تلك التي تقول مثلاً إننا نشرع في البداية حين نبدأ، إنما تعتمد على إمكانية اتحاد الذهن واللغة في الارتداد بعضهما على بعض، و«الانتقال من الحاضر إلى الماضي ثم العكس، من موقف مركّب إلى آخر بسيط ثم العكس، أو من نقطة إلى أخرى كما في دائرة». وهذه طاقة فكرية وعملية بالغة الأهمية، ليس لأنها لا تدخل في باب تحصيل الحاصل فحسب، بل لأنها تساعدنا على مساءلة نظام الأشياء، وعلى الدعوة إلى قَلْبه رأساً على عقب أيضاً. ويعتبر سعيد أن ثورياً من طراز فلاديمير إيليتش لينين كان شديد الحساسية إزاء عمليات الارتداد والقلب هذه، وفي مواقفه من الشيوعية اليسارية كان يعرف جبروت تلك العمليات، كما يعرف حدودها ومدى ما يمكن أن تشيعه من أوهام حول واقعية البدء والبداية. هذا، أيضاً، كان حال روائي مثل جوناثان سويفت، امتهن الدعاوة السياسية وفنون كتابة المنشور السياسي. وفي الكتاب الثالث من «رحلات غليفر» يعيش المهندسون فانتازيا بناء البيت بدءاً من السقف، وتبدو انتقالات غليفر في الزمان والمكان أشبه بسلسلة من عمايات قلب أبعاد الإنسان: من الحجم الطبيعي إلى المتناهي في الصغر، ومن هذا إلى الحجم العملاق، أو من الإنسان إلى الحيوان، وهكذا.
الفصل الثالث - وهو دراسة فذّة، وغير بعيدة عن أن تكون بين أعمق الاختراقات النقدية التي أنجزها سعيد - يتفحّص الكيفية التي أتاحت للرواية الكلاسيكية أن تصوغ، على نحو نَصّي، رؤية اجتماعية وتاريخية ونفسية للبدايات. وفي رأي سعيد أن الرواية كانت بمثابة المحاولة الأبرز التي بذلتها الثقافة الغربية لإعطاء البدايات دوراً شرعياً ومؤسساتياً ومتخصصاً، في الفنون والتجربة والمعرفة. والهدف المركزي للرواية الغربية هو «تمكين الكاتب من تمثيل الشخصيات والمجتمعات على نحو حرّ التطوّر بهذا القدر أو ذاك»، بحيث تنمو تلك الشخصيات والمجتمعات، وتتحرّك في الرواية، لأنها إنما تعكس سيرورة من «الاستحداث» أو «البدء» أو «النموّ»، تكون جميعها من نوع يُسمح للذهن بأن يتخيّل إمكانية وقوعه. الروايات، بالتالي، «موضوعات جمالية تملأ فراغات في عالم غير تامّ: إنها تشبع الحاجة الإنسانية إلى إكمال الواقع عن طريق التصوير (القصصي) لشخصيات يستطيع المرء الإيمان بها».
الروايات أكثر من ذلك بالطبع، غير أن سعيد يريد دراسة «مؤسسة الرواية النثرية» بوصفها نوعاً من «شهيّة الكاتب إلى تعديل الواقع وكأنه يبدأ من جديد وكرغبة في خلق كيان قصصي جديد أو ابتدائي، مع قبول عواقب تلك الرغبة في الآن ذاته». ويطالبنا سعيد بأن نتذكّر دائماً أن الشخصيات الروائية، على عكس مثيلاتها في المسرح الكلاسيكي، ليست من نوع نسلّم بأننا نعرفه منذ البدء. وهكذا فإن توم جونز وكلاريسا وروبنسون كروزو وتريسترام شاندي وآخاب وجوليان سوريل وستافروجين ليست نظائر أوديب أو أغاممنون، وهي لا تتكئ على ماضٍ أسطوري مشترك، أو على جماعة ذات قِيَم ورموز موظّفة اجتماعياً. وبعد تعميق هذا التأسيس النظري، الذي يعتمد على فيكو خصوصاً، ثم بعدئذ على ماركس وسورين كيركغارد ولوكاش، ينتقل سعيد إلى تحليل طائفة واسعة من التطبيقات المستمدّة من روايات سرفانتيس ودكنز وفلوبير وكونراد، وسواهم. ويخلص في نهاية الفصل إلى أن هذه المحاولة (وهي، كما سلف القول، كانت الأبرز بين المحاولات التي بذلتها الثقافة الغربية لإعطاء البدايات دوراً شرعياً ومؤسساتياً ومتخصصاً)، ظلّت مستمرة حتى عهد اكتشافات فرويد (في «تأويل الأحلام» و«ما بعد مبدأ اللذة» بصفة خاصة)، وما أعقب ذلك من انفتاح ملفّات النفس البشرية على مصاريعها.
انقلاب النص الى معرفة
الفصل الرابع يتناول البدايات بوصفها جوانب لوظيفة «النصّ ما بعد الروائي»، حين لاح أن النصّ وهو هنا المادة الرئيسية للعثور على البدايات أو صناعتها خضع لسيرورة خاصّة كانت فريدة في الكتابة الحديثة، أي انقلاب النصّ ذاته إلى معرفة بدل أن يكون حاملاً خطابياً أدبياً لتنويعات معرفة تراكمت على مرّ العصور، وتداولتها الأجيال والأساليب والأشكال والموضوعات. ويحاجج سعيد بأن كلّ برهة تاريخية تنتج خصائصها الخاصّة للفعل النقدي، وتنتج أيضاً معتركها الخاصّ الذي سيشهد احتدام التحدّي بين الناقد والنصّ، الأمر الذي يعني أنها تنتج في النهاية مواصفاتها الخاصّة لماهية تَشكُّل النصّ الأدبي. استطراداً، «من الخطأ الزعم بوجود فكرة واحدة عن النصّ، ثابتة بالنسبة إلى جميع أنشطة النقد الأدبي، ساكنة في انتظار أن تُكتشف»، يقول سعيد.
والحقّ أن هذا الفصل الرابع سوف يطور ذلك النوع بالذات من المحاججة المعقدة حول النصّ بوصفه مادّة العثور على البدايات، ضمن مقولة ناظمة أولى، هي أن «تجربة بعض كبار الكتّاب الطامحين إلى أنموذج مثالي تخصصي رفيع في الإنجاز النصّي بوصفه شرط البداية في عملهم، هي التجربة التي يتوجّب أن تحكم التقاط الناقد للنصّ». فالثابت بالنسبة إلى الناقد هو أنه توجد دائماً سيرورة «مؤلِّفية» («authorial»، نسبة إلى المؤلِّف، ولا تفوت سعيد الحاجة إلى وضع الكلمة هذه بين مزدوجات، للدلالة على إشكاليتها المعرفية والنقدية واللغوية)، لا تُدرك إلا عند اكتمال القسط الأكبر من أنساقها البارزة. ولأننا لا نستطيع التلصّص على صراعات المؤلِّف الداخلية، باستثناء ما يتطوّع هو بتقديمه من مكاشفات ارتجاعية غير دقيقة غالباً، فإنّ بديلنا الوحيد هو تناول مسار الكاتب بوصفه متجهاً بالكامل نحو ومتجانساً مع الرغبة في إنتاج نصّ ما، وخصوصاً إذا ارتدى الأمر طابع الهاجس الذي يتملّك المؤلّف ويتفوّق عنده على اعتبارات أخرى فنّية واحترافية.
قد يكون «بدايات» هو العمل الأفضل من سعيد، بوصفـه الناقد والمنظّر الأدبي الذي أحدث أكثر من ضجّة عارمـة واحدة في صفّ النظرية الأدبية وعلم الجمال إجمــال
ومسار الكاتب يتحوّل إلى وعي متنامٍ، هو الذي يعرّف في رأي سعيد بطولية الكاتب الحديث في وجه الحرّيات الرهيبة التي تلحّ ذاته على حيازتها، والتي قد يكتسبها من خلال التفريق المنضبط بين حياته النصّية النتاجية، وحياته الاجتماعية التجريبية. ويضرب سعيد أمثلة ذكية على نجاح هذا التفريق أو فشله، سبق أن تناولها في مقالته «ملاحظات حول تشخيص نصّ أدبي»، عبر أعمال هوبكنز وريلكه
و ت. إ. لورانس، مضيفاً إليهم مارسيل بروست وستيفان مالارميه وت. س. إليوت، وآخرين. وفي هذا الفصل يعقد سعيد مقارنة بارعة بين موقع النصّ في التراث الغربي اليهودي المسيحي، و«علوم النصّ» في التراث الإسلامي، من خلال مفاهيم مثل «الإعجاز القرآني» و«الذِّكر» و«الفقه» و«الحديث النبوي» و«الأسانيد». ويقارن أيضاً بين التراث المكتوب والشفاهي من خلال كتابات الجاحظ ومقامات الحريري. وتجدر الإشارة إلى أن سعيد سوف يطوّر هذا الانفتاح على التراث العربي الإسلامي في مقالة بعنوان «الإسلام، فقه اللغة، والثقافة الفرنسية: رينان وماسينيون»؛ ومقالة ثانية شهيرة بعنوان «العالم، النصّ، الناقد»، سوف تحمل عنوان كتابه النقدي الثالث الذي صدر للمرّة الأولى سنة 1983، توقف فيها عند ابن حزم وابن جنّي وابن مدع القرطبي، وما دار من صراع لغوي/ تأويلي حول المعنى بين أنصار المدرسة «الظاهرية» وأنصار المدرسة «الباطنية».
في الفصل الخامس نتعرّف إلى أعمق مقاربات سعيد للبنيوية الفرنسية، وللجانب السكوني في تياراتها بصفة خاصة. إنه، أيضاً، الفصل الذي يحتوي على موقف متكامل من أعمال ميشيل فوكو، لعلّه النذير المبكّر الأهمّ للمنهجية التي سيعتمدها سعيد في «الاستشراق»، بصدد تحليل العلاقة بين الخطاب والمعرفة والقوّة. وفي رأي سعيد، بخصوص فكرة البداية تحديداً، تكمن أهمية هذا الجيل من المفكرين الفرنسيين (ليفي ستروس، ميرلو بونتي، بارت، فوكو، غولدمان، جان ستاروبينسكي، دريدا، جورج باتاي، جاك لاكان، جيل دولوز، ...) في حقيقة أنهم شدّدوا بطرائق متنوّعة مركّبة، صريحة ونقدية وعقلانية على أهمية الشروع في صناعة بداية من نوع ما، راديكالية وقاطعة. وهو يختار لهذا الفصل العنوان الدالّ الآتي: «أبجدية ثقافية: الغياب، الكتابة، التصريح، الخطاب، الحفريات، البنيوية»، وكأنه حريص، منذ البدء أو البداية، على تصفية الحسابات بأسرها مع كامل «أعمدة الحكمة» في تيارات هذا الجيل من المفكّرين الفرنسيين.
سمات مشتركة
وليس الأمر أنه رأى فيهم الجيل الوحيد الذي انفرد بتقديم إدراكات حادّة لمفهوم وطبيعة البدايات، فهذه توافرت بهذا القدر أو ذاك عند أجيال أخرى من مفكّري العصر الحديث. إنهم، بالأحرى، أولئك النقّاد الذين جعلوا مشكلة البدايات هي بداية فكرهم، وهي المركز في ذلك الفكر بمعني ما. أكثر من ذلك، كان هذا التصميم قد اقترن بالرابطة بين البدايات واللغة. وعلى الرغم من «بروفنسيالية» الكتابة الفرنسية إجمالاً، يقرّ سعيد بأن نتاج هؤلاء تناول وتصالح، وإنْ على نحو مضمر أحياناً، مع مجمل التيارات الرئيسية في «المخيّلة المعاصرة»: نيتشه وماركس وفرويد قواسم مشتركة، ولكن ثمة أيضاً المدرسة الوضعية، التحليل الألسني، دوركهايم، مراجعات الماركسية والفرويدية والنيتشوية، وثمة كافكا ومالارميه وريلكه. «الكاتالوغ» لا يقول الكثير، مع ذلك، ولكن سعيد حريص على أن يرى في هؤلاء النقّاد صُنّاع «نوع من الفكر يكون فيه الوعي المعاصر بالبدايات هو الأكثر حظوة بالتعميق والتنميط، في المنهج والممارسة». وهو يعدّد أربع سمات مشتركة:
أولاً، إنّ المعرفة تُدرك بوصفها حالة انقطاع راديكالي، ليس بمعنى أن العلاقات غير جدلية بين البُرهات المحددة في المعرفة، بل بمعنى أن وحدة المعرفة هي برهة اختلاف عن الوحدة الأخرى. وهكذا فإنّ المعرفة الجدلية تفترض مسبقاً وجود معرفة قادرة على التمييز Diacritical: ينبغي للجدل أن يكون «مُبتَدأً»، وأن تُؤخذ في الاعتبار المسافة المعطاة بين كلّ وحدة من وحدات المعرفة.
ثانياً، المنهج هنا هو المنهج «ما بعد السردي» Postnarrative، بمعنى أنّ الحاجة المعاصرة إلى البداية، كما تنعكس في اهتمامات هؤلاء المفكّرين الفرنسيين، تشهد على البحث الناشط عن سبيل غير سردي للتعامل مع وحدات من المعرف غير قابلة للسرد. وفي الفصل الثالث كان سعيد قد اعتبر أن شكل السرد الروائي يبدأ من حاجات تاريخية ملموسة ومن شروط إبستمولوجية، ولكنه في هذا الفصل سوف يحاجج بأن الشكل الروائي قد أزاحه شكل لاحق تتألّف عناصره الجوهرية من الانقطاع، والتشتّت، والخلخلة.
ثالثاً، إنّ أفعال إدراك المعرفة، سواء أكانت أشكالها كتابية أم قرائية، هي بذاتها أفعال قائمة على مزيج من الابتكار وانعدام الوثوق. وإذا كان منهج القراءة لا يغطّي دائماً منهج الكتابة، فإن الأخير ليس ثابتاً ولا هو تَتَابُعاً منتظماً للسطور. وهكذا تكون الكتابة بمثابة «لَعِب، تحت السيطرة، بالقوى المبعثرة داخل فضاء نصّي تخلقه الكتابة ولا يكون موجوداً قبلها». أما القراءة فإنها «تكرّر الطبيعة العشوائية المُسيطَر عليها في خلق النصّ، ولكنها لا تصنع نسخة ثانية عنها».
رابعاً، يكمن في أساس مجمل عملية الانقطاع هذه، ذلك الافتراض القائل بأنّ المعرفة العقلية ممكنة، بصرف النظر عن تعقيد شروط إنتاجها وحيازتها.
البداية والأصل
ورغم ما يبديه سعيد من تعاطف مع فوكو وموقفه من جوهر التقدّم في المعرفة الإنسانية، ومع إصرار البنيوية على تناول البداية بوصفها واضعة مطلقٍ غائب ولكنه فعّال، فإنه لا يوفّر لفيلسوف مثل دريدا سوى النقد الشديد المتعدد الجبهات، والذي قد يبدأ من خيارات الفيلسوف الفرنسي في تنظيم موادّ كتُبه، ولا ينتهي عند أسلوبه اللغوي واشتقاقاته ومصطلحاته. وفي عبارة قاتلة موجزة، بقدر عمقها النقدي التكثيفي، يقول سعيد عن دريدا: «عمله منشغل كلّ الانشغال باجتياز المسافة التي في الذهن، بين البنيوية بوصفها أبجدية النظام الثقافي من جانب أوّل، وبين خطوط عريضة محضة هي آثار باقية من كتابة تومض بوهنٍ على مبعدة شعرة عن الخواء الأقصى من جانب ثانٍ»!7.
ليست هذه حال الإيطالي فيكو، بطبيعة الحال. ففي الفصل السادس، وهو بمثابة الخلاصة والنتيجة، يوضح سعيد جملة الأسباب التي تجعله ينحاز إلى مفهوم فيكو حول البدايات، وكيف أنها لا تُكتشف بل تُخلق وتُصاغ، وتتفاعل وتتطوّر، وفق جدل العلاقة بين المعرفة التراثية والحدود الثقافية وديناميات المخيّلة. «العِلم الجديد» هو كتاب فيكو الذي يسهب سعيد في إعادة قراءته في ضوء ما أثارته الفصول السابقة من إشكاليات، لكي يتوصّل أخيراً إلى «المنهج» الختامي، أي المفردة الثالثة في أعمدة عنوان الكتاب. ومع فيكو يميّز سعيد البداية عن الأصل: الأولى علمانية ومُنتَجة على نحو إنساني مستديم خاضع للفحص والتدقيق، والثاني مقدّس وأسطوري وثابت. وليس بغير دلالة حاسمة أن البدايات تقترن بحسّ مأسويّ بالفقدان وبالنقصان، لأنها في آن واحد تُكَوّن المعنى، وعنها أيضاً تنجم أنظمة تشتيته.
انتمى إدوارد سعيد إلى تلك القلّة من النقاد والمنظّرين والمفكّرين الذين يسهل تحديد قسماتهم الفكرية الكبرى، ومناهجهم وأنظمتهم المعرفية وانهماكاتهم، ولكن يصعب على الدوام حصرهم في مدرسة تفكير محددة، أو تصنيفهم وفق مذهب بعينه. ذلك لأنه كان نموذجاً رفيعاً للمثقف الذي يعيش عصره على نحو جدلي، ويُدرج إشكالية الظواهر كبند محوري على جدول أعمال العقل، ويُخضع مَلَكة التفكير لناظم معرفي ومنهجي مركزي هو النقد. كان يسارياً، علمانياً، إنسيّاً، وحداثياً، ولكنه كتب نقداً معمقاً بالغ الجرأة ضد يسار أدبي يبتذل الموهبة الإبداعية حين يخضعها للسياسة اليومية أو الطارئة، فينتقصها أو يستزيدها قياساً على ما هو ليس فيها. وكان بين أشجع نقّاد العلمانية الكوزمبوليتية، التي لا تبصر أي عنصر تقدمي في المعتقدات المكوّنة للثقافة والذاكرة الجَمْعية. ومارس فضحاً منهجياً صارماً وأصيلاً لنزعة إنسيّة مطلقة، تبدأ من مركزية كونية لكي تصبّ في مركزية غربية صرفة، تقصي الآخر أو تهمّشه لمصلحة ذات أوروبية مؤنسنة على نحو تجريدي مطلق.
كذلك غاص عميقاً في تاريخانية الحداثة وفي ملفاتها الثقافية الاجتماعية، لكي يكشف الحدود الفاصلة بين التحديث وقسر التحديث؛ وبذل جهوداً مضنية لكي يكون الخطاب الصادر عن مفكّري العالم الثالث ونقاده (من الشباب بصفة خاصة) بعيداً عن ابتداع مركزية جديدة، تضع الأطراف في مواجهة أحادية عدائية مع المركز الإمبريالي بكل ما ينطوي عليه من إنجاز إبداعي وفكري، هو الذي كان في طليعة من فتحوا ملفات الاستشراق وتخييل الشرق، وأعادوا قراءة فرانز فانون بهدف تكوين جدل نقدي لنظريات الخطاب ما بعد الكولونيالي، وحقّ التابع في تمثيل الذات.
ولسوف يظلّ سعيد نموذجاً صالحاً وقدوة سارية المفعول، في نقد الاستشراق كما في تسليح عشرات المناهج البحيثة والدراسية، التاريخية والأنثروبولوجية والسوسيولوجية والسياسية، قبل تلك الأدبية والنقدية والثقافية.
- 1. Edward W. Said:
«Conrad, Nostromo Record and Reality» In John Unterecker, ed., Approaches to the Twentieth Century Novel, pp.108- 152.
New York: Crowell, 1965. p. 152 - 2. Edward W. Said: «Configuration of Themes. Review of J. Hillis Miller’s Poets of Reality: Six Twentieth Century Writers». Nation (May 30, 1966), 202(22),pp. 659- 661
- 3. Edward W. Said: Joseph Conrad and the Fiction of Autobiography. Cambridge, Mass.: Harvard University Press; London: 1966. p. viii
- 4. المصدر السابق، ص140.
- 5. Edward W. Said: «A Labyrinth of Incarnations : The Essays of Merleau- Ponty».The Kenyon Review, Vol. XXIV, January 1967
- 6. Edward W. Said: «Notes on the Characterization
of a Literary
Text.» MLN
(December 1970), 85(6), pp. 765- 790 - 7. Edward W. Said: Beginnings: Intention and Method. Granta Books, London 1998, p. 343
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.