أنا أنتمي للفداء
ولرأس الحسين
وللقرمطية كلّ انتمائي
وللماركسيين شرطَ الثبات مع الفقراء
وشرط القيام بها بالسلاح كما هي أصلاً
بدون التفاف ودون رياء
بغياب الشاعر العراقي مظفّر النوّاب (١٩٣٤- ٢٠٢٢)، فقدت قصيدة «الغضب» و«الجماهير العربية» أحد أهمّ أركانها، وصوت سخطها المحموم على الحكّام والأنظمة العربية المتخاذلة. لم يكن مظفّر النوّاب أول من يصرخ في وجه الطغاة ولا سيما في بلاد الرافدين، فالشاعر عبد الوهاب البيّاتي عُرف بـ«شاعر الراية» والراية في يده أمميّة حمراء، كما أنّ الشاعر سعدي يوسف طعّم قصائده بثورية تطبعها الجمل المشبّعة هادئة الوقع، لكنّ النوّاب كان العلامة الفارقة في القصيدة الاحتجاجية الحديثة، فبحسب الباحث العراقي سلام عبود «يميل (مظفر) إلى صناعة كلمة ملتاعة، مشحونة إلى حدّ الانفجار، تشبه الألغام الأرضية التي تنفجر كلّما رفعنا أرجلنا عنها، وأنت تقرأه بصوت عالٍ تخشى أن تنفلق جدران الكلمات في فمك، أو تنفجر في وجهك وأنت تقرأ صامتًا أو تقف مستمعًا، وفي دماغك وأنت تتمعّن بها متأملاً، متتبّعًا هزّاتها الراعدة في أعماق روحك».
شاعرٌ نموذجيّ
الشاعر الغاضب الذي عُرف بقصائد مثل «وتريّات ليلية» و«القدس عروس عروبتكم» و«تلّ الزعتر» التي حفظتْها جموع الغاضبين والرافضين عن ظهر قلب بمقاطعها الناريّة مثل: «القدس عروس عروبتكم/ فلماذا أدخلتم كلَّ زناة الليل إلى حجرتها/ ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب لصرخات بكارتها/ وسحبتم كلَّ خناجركم/ وتنافختم شرفًا/ وصرختم فيها أن تسكت صونًا للعرض/ فما أشرفكم!/ أولاد القحبة هل تسكت مغتصَبة/» سيثير برحيله كما في حياته الكثير من الزوابع حول طبيعة الشعر ذاته والجدل الذي لا ينتهي حول دوره ووظيفته في الحياة والسياسة والاجتماع، فإذا كان الشعر هو الناطق الرسمي باسم الجماعة والحامل لتطلّعاتها وقلقها وانتصاراتها وانكساراتها كما في ينابيعه الأولى في الشعر الجاهلي والمرحلة الأولى من صدر الإسلام، فإنّ مظفّر النوّاب يبدو ضمن هذه الرؤية الشاعرَ النموذجي لمجتمعات كانت أحوج ما يكون إلى تنفيس غضبها وردّات فعلها على الخيبات المتتالية من الاستعمار إلى النكبة فالنكسة فتخاذل الأنظمة واستباحة التراب العربي من البحر إلى النهر. قلّما جمع شاعرٌ كلّ شرائح المجتمع المتعطّشة إلى نسمةٍ من كرامة كما فعل مظفّر النوّاب، الخارج من كنف أسرة أرستقراطية تعود بنسبها إلى الإمام السابع عند الشيعة موسى بن جعفر الكاظم كانت قد حكمت إحدى الولايات الهندية ثم نُفيت إلى العراق مطالع القرن العشرين لمقاومتها الاحتلال البريطاني، وذاق الأمرّين في حياته تعذيبًا في أعتى السجون البعثية ومشرّدًا في الأهوار بعد أن حفر ومجموعة من رفاقه نفقًا للهرب نحو الأهوار في الجنوب العراقي ثم إلى كل منافي الدنيا.
كان مظفّر النوّاب من قلّةٍ من الشعراء يجتمع به مريدوه في أمسياته فيطربهم ويضحكهم ويبكيهم ويرجّع في صوته كالمراثي الكربلائية ويرفع الأدرينالين في أرواحهم وينفعل هو الآخر مع كلّ لغة جسده ليسقط مغشيًّا عليه بينهم أو يتعتعه الخمرُ الذي لا يفارقه أثناء قراءة الشعر ليعين جسدَه على قوّة الكلمات التي تشبه صاعقة الوحي في جسد الأنبياء. التعريف الآخر للشعر الذي ينفي عنه صفةَ الالتزام ويريد حصره بتجربة داخلية متخفّفة من السياسة والقضايا الكبرى (وهي نظرية تناقَش لأنّ الشعر في أصله شحنٌ للّغة وتحويرٌ للخطاب السائد، وفي كلّ تحويرٍ للخطاب ضربٌ من السياسة) تستند إلى تجربة السيّاب، أب الحداثة الشعرية العراقية، الذي كانت لديه مناعة عالية ضدّ إغواء السياسة، وهي وليدة انسحاب كليّ من التاريخ المشترك إلى أسطورة عالمه الداخلي، ومملكة موتاه، هذا التعريف الآخر يعيب إذن على النوّاب منبريّته التي جعلت الجماهير تتمغنط حول نبرة صوته الموشّحة بالحزن العراقي الكربلائي، واعتبرت شعره أشبه بالخطب السياسية التحريضية والبيانات الراديكالية البذيئة. إلا أنّ صاحب «وتريات ليلية» لم يكن هذا ولا ذاك، إذ بقيت طبقاتٌ رقيقة الكلمات والمعنى، لا سيّما في الشعر الشعبي لمظفّر النوّاب وحتى في ثنايا بعض القصائد «النارية»، مطمورةً تحت الكتلة الصلبة من الجمل الموجّهة كراجمات الصواريخ من أعلى المنابر في تجربته التي جمعت بين التدوين والمشافهة، فلا بدّ لكلّ دارسٍ لشعر النوّاب من أن يدرس الجانبين، إذ إنّ للشعر العامّي عند النوّاب مزاياه وعالمه، وللشعر الفصيح أيضًا مزاياه وعالمه، وذلك يشبه تمامًا الشغل على مادتين مختلفتين في الخلق، إذ يختلف فعل الشاعر عندما ينحت في الصخر (القصائدَ الفصحى) عمّا يفعله حين يشكّل تكوينات بواسطة الطين (القصيدة العامّية).
قصائدُ من طين
أول ما اشتهر مظفّر النوّاب بقصيدة «للرّيل وحمد» التي لا يزال العراقيون يردّدونها عن ظهر قلب:
مرّينا بيكم حمد واحنا بغطار الليل
اسمعنا دكّ قهوة وشمّينا ريحة هيل
الرّيل يعني في لهجة جنوب العراق القطار، وقد كتبها الشاعر بعد لقاءٍ مع امرأةٍ من قرية أمّ الشامات في مقصورة الدرجة الثالثة في القطار المتوجّه إلى البصرة وأخبرته بقصة هروبها من أهلها ومدينتها لوصال حبيبها في قصة العشق الممنوع والخارج عن تقاليد العُرف والأهل والعشيرة. يقول مظفّر النوّاب في أحد حواراته إنه لم يكن يدور في ذهنه أنه سيطبع هذه القصيدة يومًا ما، أو أنها ستنتشر كالنار في الهشيم لتدخل كلّ بيت في العراق وسيحفظها القرّاء ويطلبون أن يقرأها بصوته في مختلف الأقطار العربية، إذ إنّ القصيدة التي كُتبت عام ١٩٥٦ واستكمُلت عام ١٩٥٨ استلّها الأديب العراقي علي الشوك من دفتر الشاعر ونشرها دون علمه، ثم كتب عنها الشاعر سعدي يوسف بوصفها «زهرة عراقية نادرة في بستان الشعر العربي»:
القصيدة التي كُتبت بروح الشاعر المتأثّرة بالألوان (كان النوّاب رسامًا أيضًا) والأجواء العائلية المشبّعة بالموسيقى (والده كان يعزف على العود وأمّه تعزف على البيانو وتترنّم بالمراثي الكربلائية) فتحت بمفرداتها المتداولة بين الناس أبوابًا جديدةً في لمس الشعر بليونة ويُسر: كان يطيب لمظفّر النواب أن يقارن شعره العامّي أو الشعبي بطمي الفرات أو الطين، لكون اللغة العامية مطواعة وبعيدة عن موضوع النحو والإرث البلاغي الذي يشدّ شاعر الفصحى إلى أثقال الوزن والعروض والبلاغة المتكلّفة، ثم إنّ مرونة العامّية وتراكيبها تمنح الشاعر سعةً وحريةً في اشتقاق المفردات وتشكيلها مثل الطين المختمر الذي اكتشفه النوّاب إثر هربه من سجون البعثيين نحو الأهوار في جنوب العراق، فالهور مائيّ وطينيّ وطبيعته انسيابية والماء فيه يتشكّل، وكذلك الطين بأشكال متعددة. ألهمت لكنةُ نساء الجنوب العراقي وهنّ يتنزّهن في القوارب ولغتُهنّ العامية مظفّرَ النوّاب كثيرًا، كثيرًا، لكنة كان يشبّهها بالموسيقا الرقراقة لا سيّما عند تصغير الأسماء (صاحب وجاسم تتحولان مثلاً في لهجة نساء العمارة إلى «صويحب» و«جويسم») ويجيد التعامل معها برفق ومحبة حتى يتشكل الطين كما نقرأ مثلاً في قصيدة (زرازير البراري):
جفنك جنح فراشة غض
وحجارة جفني وما غمض
يلتمشي بيّه ويا النبض
روحي على روحك تنسحن
حن بويا حنْ
قصيدة النوّاب العامّية باللهجة الدارجة الجنوبية والمطعّمة بلهجة بغدادية أحيانًا غلب عليها الغزل كما في «للرّيل وحمد»، و«زرازير البراري»، أو جمعت بين الغزل والسياسة كما في «سفن غيلان أزيرج»، أو كانت سياسية محضة مثل «مضايف هيل»، أو «عشاير سعود». هذه القصائد العامّية سيظهر طيفها في ما بعد حتى في شعره الفصيح في نسيجه الذي يقترب أحيانًا إلى التركيب العامّي منه إلى النحو المحكم أو الجملة البلاغية، فتعثر مثلاً في الحركة الأولى من «وتريات ليلية» على إحدى العبارات الدارجة في جنوب العراق:
«في العاشر من نيسان بكيت على أبواب الأهواز/ فخذاي تشقّق لحمهما من أمواس مياه الليل»، فعبارة مثل «أمواس الليل» كناية عامية عن شدّة برد الماء، ومن هذا التركيب العامّي قوله في قصيدة أخرى «ملكٌ من يجلس في زاوية يرضع ربعية»، فهو لم يكتفِ بأن يُقحم في الفصحى جملةً تتردد على ألسنة العامّة من المولعين بالخمر، وإنما تعمّد إقحام لفظتهم العامية «ربعية» واستعارتهم الجميلة «يرضع» لوصف أحوالهم في ارتشاف الشراب. دافع النوّاب بقوة عن قصيدته الشعبية بوجه الاتهامات التي اعتبرت العامّية لغة شعوبية تؤذي جمالية اللغة العربية، فاعتبر أن العامّية قادرة على التحريك واستثارة الناس لقدرتهم على استذكارها وتداولها أكثر من الفصحى. كما أنه في قصيدة مثل «للرّيل وحمد» لم يكن لينقل حديث قرويّة فلاحة تتحدث بهذه اللغة الشاعرية، وإنما الشاعر الذي ينقل مفرداته وعالمه والرّنين الذي أحدثته نبرة الشجن العذبة في صوت الفلّاحة الجنوبية في مخيّلته وروحه.
قصائدُ خشنة
الجناح الآخر من قصائد النوّاب، وهي القصائد بالفصحى انطلق فيها الشاعر من رؤية شرحها في أحد حواراته: «المفروض بالشاعر طبقًا لتركيبته وحساسيته وحدسه ألّا يتعالى على قضايا الناس. نحن أمّة مهددة بكوارث ونرى ماذا يحدث، فإذا بقي المثقفون جالسين في منازلهم لكتابة قصائد تُقرأ في الليل على ضوءٍ خافتٍ وموسيقى ناعمة، فأين نحن من الصراع، بل أين نحن كأمّة؟».
إنها قصائد تحريضية بامتياز وإنْ شابتْها نبرة انكسارٍ دائمة بعد وصولها إلى نقطة الذروة في الفتك بالخصم وتقريعه وتوبيخه: صارت قصيدة النوّاب السياسية الخشنة إذن نقيض قصيدة الطين الليّنة، إنها حجر الإدانة، وصلابة اللغم، واحتشاد الرموز الثوريّة التي استلّها النوّاب من قاموس تاريخي حافل بفهرس من العصاة والمشاغبين والخارجين على سلطة الخليفة والحاكم والسلطان، إذ يشير الشاعر العراقي سعد الياسري في التفاتةٍ ذكيةٍ إلى نوعٍ من «الماركسية العراقية الشعبية» التي تظهر في شعر الشعراء الشيوعيين المتحدّرين من بيئة الريف والبادية، ومن عائلات تتعبّد بالإسلام الشيعي، «حيث ستلعب شخصيات بعينها، دورًا حاسمًا في تطور أفكار الإنسان العادي بتلك البيئة… إنّ شخصياتٍ تنمو لتصبح موضوعاتٍ مركّبة، ذات بعدين أو أكثر (ثقافي، اجتماعي، سياسي، إلخ) كالمسيح، يحيى المعمدان، يوشع بن نون، علي بن أبي طالب، الحسين بن علي، عمّار بن ياسر، أبي ذر الغفاري، كفّ وأفعى وعصا موسى، نار إبراهيم، شخصية القرمطي المتخيّلة، ثورة الزنجي المتخيّلة، بعض سور القرآن (مريم، الرحمن نموذجًا)، بعض أسفار الكتاب المقدّس بعهدَيه (المزامير، الأمثال، الجامعة، نشيد الأنشاد، الرؤيا نموذجًا)، المجوس، الوضوء، بابل، سومر، تموز، عشتار، آشور، إنكيدوا، هاشم، أمية… كلّ هذه الموضوعات وسواها تحضر لدى الشاعر العراقي المعاصر، الجادّ، بطريقة لا يكاد يشابهه في طريقة وأسلوب توظيفها شاعرٌ يكتب بالعربية في الشام أو مصر أو شمال أفريقيا أو الخليج. ومظفّر كان أستاذًا في توظيف بعض هذه الموضوعات وأسطرتها لأغراض اليسار الحماسيّة، في لحظةٍ مفصليةٍ كان الخطاب فيها يحتمل هكذا صوت وتعبير، من دون أن يذكر عنه معاشروه والمقرّبون منه في العراق وسوريا أيّ مسحة تديّن فعلي أو مزيّف». فسيظهر الإمام علي مثلاً في البعد الاشتراكي الثوري من شخصيته في المقطع الشهير:
أنبّيك عليا!
ما زلنا نتوضأ بالذلّ ونمسح بالخرقة حدّ السيف
ما زلنا نتحجج بالبرد وحرّ الصيف
ما زالت عورة بن العاص معاصرة
وتقبّح وجه التاريخ
ما زال كتاب الله يعلق بالرمح العربية!
ما زال أبو سفيان بلحيته الصفراء
يؤلّب باسم اللّات
العصبيّات القبَلية
ما زالت شورى التجّار ترى عثمان خليفتها
وتراك زعيم السوقية!
لو جئتَ اليوم
لحاربك الداعون إليك
وسمّوكَ شيوعيّا
أو حين يستحضر حسين الأهوازي، زعيمَ القرامطة في مقطعٍ آخر:
لقد علّمهم ذاك حسين الأهوازي
عشيةَ يومٍ في القرن الرابع للهجري
وكانت قدمي الملويّة قد تَركت
بقعًا خضراءَ من الدم المخلص
واستجوبت الأشجار فلم ينطقْ حجر
كيف نسينا التاريخ؟
وكيف نسينا المستقبل؟
كان القرن الرابع للهجرة فلّاحًا
يطلِق في أقصى الحنطة نارًا
تلك شيوعيةُ هذي الأرض
وكان الله معي يمسح عن قدمي الطين فقلتُ له
اشهدْ أني من بعض شيوعية هذي الأرض.
كما أنّ النوّاب سيوظّف من جديد كلّ مخزون التقاليد الدينية الشعبية في قصيدته بالفصحى مثل قوله: «لكنّ الناموس تجمّع في خيط الفردوس كنذر في رِجلي»، فقد درج أهل الريف في العراق على زيارة أضرحة الأئمة والأولياء، ودرج سدنة هذه الأضرحة على إعطائهم خيوطًا خضراءَ يشدّونها كالسوار حول المعصم أو كالخلخال حول الكاحل وهم يسمّونها كما في قصيدة النوّاب «خيوط النذر»، ومن المعتقدات الشعبية ما نراه أيضًا في الحركة الثانية في «وتريات ليلية»:
وهبّت نسمات أعرف كيف أفيق عليها
بين الغيبوبة والصحو تماوج وجه فلسطين
فهذي المتكبّرة الثاكل
تحضر حين يعذّب أي غريب
أسندني الصبر المعجز في عينيها
فنهضت، وقفت أمام الجلّاد، بصقت عليه من الأنف إلى القدمين،
ففي المأثورات الشعبية، يُعتقد أنّ فاطمة الزهراء وقد قُتل ابنُها الحسين بن علي غريبًا في كربلاء، تحضر في غربة كلّ غريب تخفّف عنه من مكابدته في المِحن. وهذا الخاطر الشعبي الذي مرّ في ذهن مظفّر أثناء هروبه لإيران عبر الأهوار عام ١٩٦٣ لا يلبث أن يعمّمه لتتماهى صورة فلسطين مع صورة بنت النبي الثاكل الغريبة. لكنّ النوّاب لم يرتضِ للغته السياسية أن تكون لغة مقعّرة بالأساطير وبالماركسية الشعبية فحسب، بل أراد لرأس جبل الجليد أن يكون حادًّا وجارحًا أيضًا، فكان أن ضمّن قصائده جملَ البذاءة النارية مثل «إنّ حظيرة خنزيرٍ أطهرَ من أطهركم»، و«قمم، قمم/ معزى على غنم/ جلالة الكبش/ على سمو نعجة/ على حمار بالقِدم/ مضرطةٌ لها نغم»، والتي كانت أشبه ببيان الرفض والمانيفستو الثوري الذي ينتقل على أشرطة الكاسيت في الزمن الرومنسي الجميل، وتنتقل كبارودةٍ لا تتعب في كلّ قضايا العرب المحقّة والمؤلمة، فمن ينسى قصيدته حول سقوط تلّ الزعتر إبّان الحرب اللبنانية بيد المليشيات اليمينية الفاشية:
لقد سقطت عاصمةُ الفقراء
لقد سقطت نسفًا والنسوة يرفعن
أياديهنّ ويمشين فرادى
والحامل بيت أنوثتها
طرحوا الحامل أرضا
سحبوا رحمًا فيها في الليل فدائي
أسمعتم عرب الصمت
أسمعتم عرب اللعنة
لقد وصل الحقد إلى الأرحام
أسمعتم عرب اللعنة
إنّ فلسطينَ تُزال من الرحم
أو ما كتبه في المقاومة اللبنانية:
بماء العنبر والشالات الوردية والحزن
ورقرقة الجسد الصيفيّ تشابك بالرشاشات
تَسلّل بين مدرّعتين
رقيقًا كالزيت
ولا أسمع غير الموت
ولا أسمع غير تنفّسه الخافت
والحزن ينوح على شجر الموز
وزقزقتي عصفورين حزينين
بحفرة كعبيه
الرائعتين الواثقتين القارئتين أغاني الدرب
ولا أعرف من أيّ قرى عامل
من صيفين تخرج
لا أعرف من أيّ قرى عامل
من صيفين تخرج
لا أعرف إلا أحرفه الأولى أر..بي .. جي
أيلول الممطر
كان لعينه تألّق حقل اللوز
منذ نهارين
كآبة حقل الألغام
لقد أومض حين اخترقته الرشاشات
التزام سياسي
لم يتخلّ مظفر النوّاب عن التزامه السياسي بالقضايا المحقّة حتى الرمق الأخير، ولم يبنِ مثل الكثير من الشعراء علاقات مع الحكّام المتسلّطين على شعوبهم، فلم يمتلك شاعر الجماهير مطالبَ شخصية بقدر ما هي مطالب الشعب الذي اعتبر نفسه الطائر الشجيّ الذي ينطق باسمه، والمطلب الوحيد هو كرامة الإنسان التي يجب ألّا يُعتدى عليها. ولم تنفع كلّ محاولات الحكّام في تدجين الشاعر وشراء صوته، وهو عبّر عنه شعرًا بالمقطع الشهير:
سبحانكَ ربي..
كلّ الأشياء رضيت.. سوى الذل
وأن يوضع قلبي في قفصٍ في بيت السلطان..
وقنعتُ بكون نصيبي في الدنيا كنصيب الطير..
لكن سبحانك.. حتى الطير لها أوطان..
وتعود إليها..
وأنا لا زلت أطير...
فهذا الوطن الممتدّ من البحر إلى البحر
سجون متلاصقة
سجّان يمسك سجان!
«مظفّر الصوفي»
نقطة أخرى لا بدّ أن تستوقف الدارس لشعر النوّاب، هي البعد الصوفي الذي يظهر في معظم قصائده ولا يكاد بعضُ القرّاء يلتفت إليه لانشغاله بالمقاطع الناريّة المتفجرة، إذ غالبًا ما يوازن الشاعر بين قسوة السياسة ورقّة الغزل، فلو أخذنا مطلع الوتريات الذي يذكّرنا بمطالع القصائد الجاهلية القديمة:
في تلك الساعة من شهوات الليل
وعصافير الشوك الذهبية
تستجلي أمجادَ ملوك العرب القدماء
وشجيرات البرّ تفوح بدفء مراهقةٍ بدوية
يكتظّ حليب اللوز
ويقطر من نهديها
وأنا تحت النهدين إناء
فالدارس للقاموس المعجمي لهذا المقطع الرقيق (عصافير- دفء- حليب اللوز- نهد) سيجدها أقرب إلى نعومة النهد منها إلى قساوة الشتيمة في مقاطع أخرى من القصيدة ذاتها. كما أنّ البعد العرفاني لا يلبث أن يتجلّى في مقطعٍ آخر لتتبدّى قصيدة النوّاب مركبة فعلاً من طبقاتٍ مختلفةٍ من الحجر والطين يجيد الشاعر الانتقال بين مناطقها الصلبة والرخوة، فنقرأ مثلاً:
سقطت زهرةُ لوزٍ في قدحي،
يا ربّ ما هذا النقا
غرقَت لم أستطع إنقاذها
أصبعي زاغت من السُّكر، وقلبي شهقا
ما لها الكرمة لا تعرفني، أمس رقرقت لها خمرتها
وأنا اليوم على خمرتها، دمعي وأمسي رقرقا.
في هذه القصيدة نوعٌ من الصوفية المادية كما نظّر أدونيس في كتابه حول الصوفية والسوريالية، وروحانية أرضية يحدو بها القلق إلى الاتصال بالمطلق، كما أنها تفيض بشفافية هي أقرب لمقامات الصوفيين وأحوالهم عند ابن الفارض وحافظ الشيرازي وعمر الخيّام.
قسّم الناقد والشــــــــــــــــــــاعر العراقي الراحل فوزي كريم شــعراء العراق، وخصوصًا الجيل الستّيني، منهم إلى «شعراء المتاهــــــــــــــــــــــــــــــــة» ممّن انشغلوا بمتاهة عوالمهم الداخلية وتجنّبوا السياسة والخوض في غمارها شعرًا، ومنهم بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة ومحمود البريكان، قبل أن تتخطفهم العقائد والإيديولوجيات وتفسد أشعارهم. ووَضع في طليعة «شعراء الراية» عبد الوهاب البيّاتي وسعدي يوسف ومظفّر النوّاب. في هذا التصنيف مقدارٌ من الصوابيّة في بلادٍ انفصلت فيها السياسة عن الخبز اليومي ولم يلقَ بالشعراء في الزنازين وأقبية التعذيب، لكن في بلاد «سجّان يمسك سجّان» كان لا بدّ من اختراع شاعرٍ مثل مظفّر النوّاب لو لم يوجد صاحب «وتريات ليلية»، ليحمل راية الهدم حيث يجب الهدم، وليبقى الشعر خبز الحرية وجسدها وماءها وخمرتها الصافية.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.