بأسف نفتتح هذا العدد بنبرة محزنة. في طريقه إلى المطبعة، وردنا نبأ وفاة الفنانة التشكيلية والروائية والشاعرة إتيل عدنان في منزلها بباريس. وإتيل، التي يعرفها قرّاء «بدايات» جيدًا، صديقة لهذه المجلة عملت على دعمها والكتابة فيها منذ أعدادها الأولى. نودّع هذه المرأة الاستثنائية بباقة ورد حمراء وسنواصل نشر نتاج إتيل عدنان في الأعداد المقبلة ومنه الكثير لم يجد بعد طريقه من الفرنسية والإنكليزية إلى اللغة العربية. ونختتم أعداد هذه السنة بالموضوع الذي أوليناه أهمية خاصة على صفحاتنا، ظاهرة النيوليبرالية وملحقها، مجتمع الاستهلاك. شجّعتنا على ذلك الملاحظات الإيجابية التي تلقيناها عمّا نشرناه عن هذين الموضوعين.
نواصل نشر مساهمات هذا الملف الثاني على أربعة محاور:
١) المجمّعات السكنية المسوّرة في لبنان حيث يتتبع جورج غلاسزي نشوءها كظاهرة من ظواهر الحرب الأهلية حيث وفّرت، لمن يستطيع، قدرًا من الحماية الأمنية والتسهيلات التي حُرم منها معظم اللبنانيين من كهرباء ومياه وخدمات لتتحول إلى عمليات عزل للأغنياء عن سائر أبناء البلد، وترافقت مع خصخصة الشواطئ والمشاعات وأملاك الدولة. ويكمل مات ناش نص غلاسزي بالإشارة إلى دور المجمّعات السكنية المسوّرة في جذب استثمارات المغتربين والعاملين في الخارج وتقديم شقق بأحجام وأسعار مناسبة للطبقات المتوسطة. نتابع البحث في الظاهرة من خلال مقال عن المساكن المسوّرة في القاهرة ودورها في بناء «المدينة الفاضلة»، حلم الارتقاء الاجتماعي لدى الطبقات المتوسطة، وتلبية هواجس أبناء الطبقات العليا بالحماية والأمن وحاجتهم للانفصال عن بقية البلاد، عدا ما توفّره تلك المعازل من وسائل الرفاه الحديثة من أحواض سباحة ونوادٍ رياضية وملاعب غولف وغيرها.
٢) في دراسته الوافية عن ثقافة السيارة الخاصة في لبنان، يعرض مارك بيري التمثل المبكر في لبنان بالثقافة الاستهلاكية الأميركية وغلبة النقل الخاص على النقل العام والتخلي تدريجيًّا عنه من ضمن إجراءات الخصخصة التي طبعت مشاريع «إعادة الإعمار» بعد الحرب. ولعلّ بيري لا يولي الاهتمام الكافي بالدور الذي لعبه وكلاء السيارات الخاصة في الترويج لتلك الثقافة. مهما يكن، فالذين عاشوا أزمة المحروقات خلال الأشهر الأخيرة في لبنان، والذين سيعانون تاليًا من الارتفاع الشاهق في أسعار المحروقات بعد رفع الدعم عنها، سيدفعون الثمن الباهظ لتلك الثقافة والسياسات الاقتصادية التي روّجت لها وأملتها.
٣) للراحلة منى أباظة نصان تأسيسيان في هذا العدد: تأريخ الدعاية في مصر الستينيات من خلال الإعلانات التي ارتبط تطورها بمشاريع التحديث التي تولاها النظام الناصري وبصعود طبقة وسطى جديدة ودخول السلع الاستهلاكية المنزلية إلى قسم كبير من البيوت المصرية. وتتابع في نصها الثاني نموّ أشكال متنوعة جدًّا من الأزياء في مصر وتتساءل عن فشل مصر في إنتاج زيّ مصري جديد، على غرار الزي الوطني الهندي الجديد، للرجال والنساء.
٤) تواصل كريستا سالاماندرا الكتابة عن نتائج أبحاثها عن مجتمع الاستهلاك الدمشقي حيث أنتجت سلطةُ حزب البعث أشكالاً جديدةً من التمايز الاجتماعي ومن استعراض الثروات والتشاوف بالمكانة الاجتماعية.
في زاوية «خبز وملح» (الاقتصاد)، ننشر وقائع ندوة نظّمها «منتدى البدائل العربي للدراسات» في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي يثير السؤال الآتي «هل الريعية هي التوصيف المناسب للاقتصاديات العربية؟». ساهم في الحوار وائل جمال ومحمد زبيب وفواز طرابلسي وتدخّل خلاله محمد العجاتي ونجيب عيسى.
نبذتان جديدتان في «القاموس النقدي لمصطلحات النيوليبرالية» تتعلق الأولى بالعدالة الانتقالية بما هي صيغة معتمدة دوليًّا للتعامل مع النزاعات، وتعرّف الثانية بالنظام العنصري في جنوب أفريقيا، وكيفية انهياره، وتثير السؤال: هل أن ترجمة «الأبرتهايد» إلى العربية بـ«فصل عنصري» تؤدي المعنى ذاته كالذي تؤديه ترجمته بـ«تمييز عنصري»؟ ليس الفارق نافلاً إذا أخذنا بالاعتبار استخداماته في موضوع العنصرية، وخصوصًا في تشخيص النظام الصهيوني في فلسطين.
في القسم الفكري («فيها نظر») بحث شيّق وملهِم للمفكرة الماركسية الأميركية نانسي فريزر تحاول فيه تجاوز اختزال الرأسمالية بعلاقات الإنتاج، وتقدّم المكوّنات الثلاثة الإضافية التي بدونها لا تكون الرأسمالية: مكوّن إعادة الإنتاج الاجتماعي أو ما يسمّيه ماركس «إنتاج الحياة الحقيقية» ورعايتها- المكوّن البيئي؛ والمكوّن العرقي.
يفتتح «دليل ثائرات وثوار عرب» قسم الذاكرة من اختيار فواز طرابلسي، يليه الجزء الثاني من تاريخ الهجرة اللبنانية، عن دور عاملات وعمّال لبنان في الإضراب العمّالي الأميركي الشهير في مدينة لورنس الأميركية إضراب «الخبز والورد» والذي استشهد فيه العامل اللبناني حنّا رامي.
في القسم البصري تحلل جنى طرابلسي ثلاثة نماذج من الإعلان التجاري. وقد خصصنا القسم الملوّن في هذا العدد لنماذج من الإعلانات المصرية من الخمسينيات إلى السبعينيات.
زاوية الكتب مخصصة لعرض مسهب يقدمه المؤرخ بيني موريس عن كتاب المؤرخ والكاتب آدم راز الذي يروي تأسيسًا على وفرة من الوثائق الرسمية الإسرائيلية عن الاتساع المذهل لحجم نهب الممتلكات العربية الذي مارسته الفصائل المسلحة الصهيونية، وعن دوره في التهجير، بتغطية شبه كاملة من القيادات العسكرية والسياسية.
عن أثر التجارة على الخبر الصحافي ودور عنصر الإثارة في السعي نحو توسيع جمهور القرّاء يكتب جون برجر في زاوية الأدب («نون والقلم»). يقع هذا الموضوع في صميم اهتمام هذا العدد من «بدايات» لأن الناقد البريطاني الكبير يقيم فيه الصلة بين الإعلام والاستهلاك ليخلص إلى مطالبة الصحافة بمراعاة «حق القارئ في الكرامة» واعتماد «الرحمة» في نقل الأخبار السيئة، مستلهمًا التراجيديا الإغريقية. من تجربته الصحافية يكتب الصحافي والسيناريست والروائي المصري بلال فضل عن صداقته، عبر المراسلات، مع قارئ... قاتِل. أما الروائية الفلسطينية عدنية شبلي فتختار الخوض في جدل الاستهلاك الأقل والاستهلاك الأكثر.
ونختم العدد بتحية للموسيقي اليوناني الكبير والمناضل اليساري ميكيس ثيودوراكيس الذي غادر عن تراث موسيقي ثري، منشدًا الحرية والعدالة والمساواة، ناقلاً الموسيقى اليونانية إلى المصاف العالمي، ومناضلاً من أجل تلك المبادئ طوال حياته.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.