تعود فكرة العدالة الاجتماعية إلى العدالة التوزيعية التي دعا إليها أرسطو في مفهومه للمجتمع العادل. ولعلّ الفيلسوف الإغريقي أول من أثار موضوع توزيع ما سمّاه الموارد المجتمعية بواسطة هيئات عامة، مع أنه اشترط أن يتم حسب الكفاءة والاستحقاق.
مذّاك، ارتبطت العدالة التوزيعية بالمساواة من خلال مبدأ الحقوق الطبيعية التي تقول بأن البشر يولدون أحرارًا ومتساوين ومن خلال العقد الاجتماعي الذي يؤسس للاجتماع السياسي على هاتين القاعدتين. تَجسّد المفهوم في الثورات البريطانية ١٦٤٠-١٦٦٠ والفرنسية ١٧٨٩- ١٧٩٤ وقد زاوجتا بين الحرية والمساواة. واتخذ الظلم الاجتماعي واللامساواة الاجتماعية أبعادًا جديدة مع تطور الرأسمالية وحركات المعارضة ضد الاستغلال الرأسمالي وترسيخ مبدأ المساواة السياسية والقانونية والاجتماعية وأبرز تجلياتها الثورات الشعبية والعمالية الأوروبية في ١٨٤٨ وعامّية باريس ١٨٧١.
سرعان ما نشأت الحركات والأحزاب العمالية والاشتراكية على مبدأي المساواة والعدالة الاجتماعية. عبّر البرنامج المرحلي الذي قدّمه «البيان الشيوعي» لكارل ماركس وفريدريك إنغلز (١٨٤٨) خيرَ تعبير عن أهداف ووسائل التنمية وإعادة توزيع الثروة: مصادرة أملاك الملّاك العقاريين وتوزيع الأراضي على الفلاحين، واستصلاح الأراضي، ضرائب تصاعدية، مصرف مركزي، نقل عام، عمالة كاملة، تصنيع الزراعة، مجانية التعليم، إلخ.
العصر الذهبي
ورد البحث في العدالة الاجتماعية في مؤتمر الصلح بباريس عام ١٩١٩ مع نهاية الحرب العالمية الأولى. وقد اتفق تحالف المنتصرين على تأسيس «منظمة العمل الدولية» كردّ وقائي على الثورة البلشفية في روسيا وارتداداتها المباشرة في الانتفاضات العمالية في ألمانيا وإيطاليا وهنغاريا، وغيرها. لخّصت المنظمة هدفها بأنه «لا يمكن تأسيس السلام إلا إذا كان مبنيًّا على العدالة الاجتماعية». وعنى المفهوم في حدّه الأدنى استخدام التشريعات والسياسات الحكومية للحد من استغلال العمال في الأمم الصناعية، منها تحديد ساعات العمل، وتعيين حد أدنى للأجور، إلخ.
عرفت فكرة العدالة الاجتماعية عصرَها الذهبي بعد الحرب العالمية الثانية بسبب ظاهرتين: قيام أنظمة الرعاية الاجتماعية في العدد الأكبر من بلدان أوروبا من جهة، وقيام الأنظمة الوطنية الصادرة عن حركات التحرر الوطني في القارّات الثلاث، من جهة أخرى. وقد تعهد بعضُ هذه الأخيرة تحقيقَ الاشتراكية.
خلال تلك الحقبة اكتسب مفهوم العدالة الاجتماعية معنى النضال ضد الظلم الاجتماعي والفوارق الاجتماعية عن طريق إعادة توزيع الثروة والدخل وإجراء تحويلات بنيوية في الأنظمة الاقتصادية، منها تأميم التجارة الخارجية وسياسات توزيع اجتماعية واسعة النطاق في حقول التعليم والرعاية الصحية والنقل العام والسكن الرخيص وغيرها. من العلامات الفارقة على ذلك التيار العالمي تكريسُ الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في «شرعة حقوق الإنسان» التي أقرّتها الأمم المتحدة عام ١٩٤٨. وفي ذروة نفوذ المعسكر الاشتراكي ودول عدم الانحياز في المؤسسة الدولية، في الستينيات والسبعينيات، أقرّت عدة مواثيق عن التنمية والعدالة الاجتماعية، منها «إعلان التقدم الاجتماعي والتنمية» عام ١٩٦٩ الذي يؤكد أن «العدالة الاجتماعية ليست ممكنة دون سياسات قوية ومتماسكة تخطط لها وتنفّذها هيئات عامة»، في تأكيد على دور الدولة الحاسم في إعادة توزيع «ثمار النمو الاقتصادي».
تعدد التفسيرات
لم تُحرم العدالة الاجتماعية طوال حقبة الحرب الباردة من تفسيرات وسجالات. الأبرز من حيث المرجعية هو فريدريش فون هايك («سراب العدالة الاجتماعية» ١٩٧٦) الاقتصادي النمساوي-البريطاني الذي هُمّش في حقبة دولة الرفاه، وأحياه ميلتون فريدمان و«صبيان شيكاغو»، وهم فريق من أساتذة الاقتصاد في جامعة شيكاغو رعوا أول تجربة في النيوليبرالية في ظل دكتاتورية بينوشيه الدموية في تشيلي. خلاصة فلسفة فون هايك هي وضع الحرية في وجه المساواة، والتوكيد على أن الفارق بينهما هو الفارق بين الحضارة، أي الرأسمالية التي أنتجت السوق الحرّة، والبربرية القائمة على ما يسمّيه العدالة التوزيعية التي تمارَس داخل الجماعات البدائية. (عن فكر فون هايك، راجع «بدايات» العدد ٣٠ /٢٠٢١). أما العدالة الاجتماعية فمفهوم «مشبوه من الناحية الفكرية» ولا معنى له لاستحالة تعريف الظلم الاجتماعي أو لأنها تحوّل التظلم الاجتماعي إلى تحميل الذنب دومًا للآخر، أي للأنظمة القائمة.
يثير جون رولز، («نظرية في العدالة»، ١٩٧١) موضوع العلاقة بين العدالة والمساواة ولكن من زاوية الحرية والليبرالية السياسية. طرح معادلة تقول «يقع الظلم عندما لا تكون اللامساواة لمصلحة الجميع. يجب توزيع كل القيم الاجتماعية بمساواة بين الجميع، إلا إذا كان التوزيع غير المتساوي لصالح الجميع». وهي معادلة ملتبسة تقيم علاقة غير متكافئة بين العدالة التوزيعية والحرية الفردية. يقول رولز إن العدالة ترفض أن يتحقق المزيد من الخير الذي يتشارك فيه آخرون على حساب خسارة البعض لحريته. والبعض دومًا أفراد. ويدعو إلى إخضاع العدالة للعقد الجماعي، أي للتفاوض بديلاً من اعتبارها نظرة موضوعية مبنية على القوانين أو على قاعدة أيديولوجية.
وثمة رواية أقل غوصًا في الفلسفة أو التاريخ، تلتزم بمنطق السوق التنافسية بلا قيد أو شرط، وتمثل الموقف الليبرالي الصافي وهي الأكثر تداولاً. ليست تحتاج هذا الرواية إلى اللجوء للعقد الاجتماعي. مبدؤها وجوب أن يكون التوزيع موجهًا للفرد بما هو الوحدة الأساسية في المجتمع. والعدالة هنا هي المعادل ل«تكافؤ الفرص». المشهد مشهد مباراة. ويتمثل تكافؤ الفرص في اصطفاف المتبارين بالتساوي عند خط الانطلاق. أما الجائزة فللأسرع، أي الاكفأ والأجدر في الحقل المجتمعي. لكن هذا الفكر يقع ضحية استعارته. فتكافؤ الفرص هذا ينطوي على اعتراف صريح بأن مآل المنافسة الحرة هو الاحتكار!
ومن محاولات الردّ على الشيوعية والاشتراكية في العالم العربي توطين الردّ في الدين. أبرز الأمثلة على ذلك كتاب سيّد قطب، «العدالة الاجتماعية في الإسلام» ١٩٤٩، الذي يَعتبر أن العدالة الاجتماعية موجودة أصلاً في الإسلام وهي التكافل المجتمعي عن طريق الزكاة والإحسان. ومع أن قطب ألّف كتابه لدى عودته من أميركا، إلا أنه سوف يخدم طويلا في الردّ على الاشتراكية والشيوعية وعلى الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية للناصرية والبعث خصوصًا.
كثيرة هي الردود الفلسفية والاقتصادية على النيوليبرالية. يجب لفت النظر إلى مفهوم مميز للفيلسوف الماركسي الفرنسي إتيان باليبار الذي يتصدى لرفض التضادّ بين الحرية والمساواة بنحت مصطلح «المساحرية» égaliberté وفق معادلة تقول «لا توجد قيود على الحريات أو قمع للحريات دون أن تواكبها لامساواة اجتماعية متعددة الوجوه؛ ولا توجد لامساواة اجتماعية متعددة الوجود دون أن تصاحبها قيود على الحريات أو قمع للحريات».
انقلابات وتحولات
في عالم الأسواق التنافسية الحرّة في ظل العولمة النيوليبرالية التي انطلقت بوتيرةٍ زاخمة بين نهاية الحرب الباردة، تمّت شيطنة الدولة، والإدغام بين دورها في التخطيط والتنمية والتوزيع الاجتماعي من جهة والاستبداد من جهة أخرى. تصاعدت المعارضة للتخطيط الاقتصادي، ولمشاريع التنمية في البلدان النامية، واستعيض عنها ب«النمو» ينجم تلقائيًّا عن اعتماد آليات السوق التنافسية وعن «تدفقات الاستثمارات الخارجية المباشرة»، وفي حال وقوع اختلالات في التطبيقات ناجمة عن «عدم انتظام آليات السوق» أو عن «نواقص في المنافسة الحرّة»، يجري تصحيحها ب«شبكات الأمن» أو ب«الحماية الاجتماعية». أي تنفيذ مشاريع لمنع تدهور الأوضاع المعيشية لمن باتوا يسمّون فقراء أو مهمشين. وتضمنت التحولات والانقلابات التي فرضتها «التعديلات الهيكلية» وسيادة مبادئ «السوق الحرة التنافسية»، الفصل بين العمل والفقر من جهة واللامساواة الاجتماعية من جهة أخرى.
مهما يكن، عاد الحديث عن اللامساواة خصوصًا بعد انكشاف الفوارق الاجتماعية الضخمة التي أحدثتها النيوليبرالية وخصوصًا بعد الأزمة المالية التي ضربت القطاع المالي الأميركي العام ٢٠٠٨ وارتداداتها العالمية. وكان لكتاب الاقتصادي الفرنسي طوما بيكتي («رأس مال القرن العشرين»، ٢٠١٨) الأثر الواضح في كشف تفاقم معدلات اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية في أوروبا وأميركا بالذات، وكونها لم تتحسن منذ القرن التاسع عشر. هكذا عادت اللامساواة إلى التداول، لا بالمفرد إنما بالجمع بما هي لامساواة متعددة inequalities ومعها عادت العدالة الاجتماعية لكنها باتت عدالة اجتماعية أخرى.
ظلّت «المساواة» equality مفردة محرّمة في قاموس النيوليبرالية، في العالم الأنكلو-سكسوني خصوصًا، تُستبدل عادةً ب«الإنصاف»equity المفردة التي تعني أيضًا قيمة الأسهم في الشركات أو حقوق مالكي الأسهم. أما بالنسبة للّامساواة المتعددة فيكون التداعي فيها بالمناقصة: الجواب عليها لا يكون بالمساواة. والعدالة ليست تعني المساواة. وثمة بديل أصلاً عن العدالة هو تكافؤ الفرص. ولم يقتصر الأمر على ما يتعلق بالمساواة والعدالة في الاقتصاد والاجتماع. طاول الأمر الديموقراطية السياسية والقانونية ذاتها، إذ تم تحريرها من قاعدتها في المساواة السياسية والقانونية بين المواطنين، والاستعاضة عن ذلك بتمائم «التعددية» و«دولة القانون» و«المواطنة».
الفصل بين الفقر واللامساواة
قبل سيادة النيوليبرالية، كانت مؤسسات الأمم المتحدة المالية والتنموية تُصْدر تقارير سنوية عن توزيع الدخل والثروة داخل البلدان وعلى النطاق العالمي. تلخّص الأمر في الحقبة النيوليبرالية بحالة واحدة من حالات التراتب الاجتماعي – الفقر، الذي يقاس بمبلغ الإنفاق على الاستهلاك في السوق. هكذا جرى تخليص الفقر من الإفقار، أي من العوامل التي تسبّبه، وإخراج الأجر والدخل والملكية كعوامل لقياس الفقر. وهكذا انفصل الفقر عن الثروة والفقراء عن الأثرياء. وعزلت معالجة الفقر عن إعادة توزيع الثروة أو تقريب الفوارق بين الطبقات أو التنمية المناطقية أو تطبيق العدالة الضريبية، إلخ. وفي مقاربة فلسفية للأمر، يعلمنا الفيلسوف الأميركي هاري فرنكفورت أن «المساواة الاقتصادية ليست مثالاً ملزمًا أخلاقيًّا» وأن الهدف النهائي للعدالة هو القضاء على الفقر لا القضاء على اللامساواة («عن اللامساواة»، ٢٠١٥). يبقى علينا أن نتخيّل عالمًا يشهد ارتفاعًا في مداخيل الفقراء (أو قدراتهم على الإنفاق والاستهلاك)- بانتقالهم من الفقر إلى مصاف «الطبقات الوسطى» بمجرّد أن يتعدّى إنفاقهم ٤ دولارات في اليوم- من دون أن يقابل ذلك انخفاضٌ في معدلات اللامساواة الإجمالية.
«العمل اللائق»
على الغرار نفسه، تولّت منظمة العمل الدولية فك الارتباط بين العمل والفقر واللامساواة. أسقطت العدالةَ الاجتماعية من أهدافها وتخلّت عن أي دور لإعادة التوزيع الاجتماعي واستعاضت عنها بمشروع «الحماية الاجتماعية والعمل اللائق» ويتضمن الأخير: الحق في العمل؛ التكافؤ في فرص العمل؛ الحوار المجتمعي (بين النقابات العمال وأرباب العمل والدولة)؛ والحماية الاجتماعية. أما ما تبقّى من الحماية الاجتماعية فيشبه إلى حد كبير الإحسان لكنه إحسان تموّله الدولة وبمساعدات أجنبية. الدولة نفسها - الممنوعة من التدخل في الاقتصاد ومن امتلاك مؤسسات عامة ومن التوزيع الاجتماعي- أعطيت دور توزيع تقديمات مالية نقدية على الفقراء. هذا عندما لا يتم تسليم أمر مكافحة الفقر إلى المنظمات غير الحكومية الدولية والمحلية التي تتناوله من خلال ثلاثة أوجه على الأقل:
١- اعتباره مناسبة دعاية للنيوليبرالية عمومًا: العداء للدولة، وتنصيب «المجتمع المدني» في وجهها، والترويج للفساد الذي يغطي الاستغلال ولحقوق الإنسان المختزلة بالحقوق الفردية والشخصية.
٢- الترويج للرواية النيوليبرالية المخصوصة عن الفقر بما هو وباء وعزله عن الفوارق الاجتماعية («منظمة أوكسفام» التي تنفرد بتوزيع إحصائيات سنوية عن الفوارق الفلكية بين عدة عشرات من أثرى أثرياء العالم وعدة مليارات من سكان المعمورة، تدرس الفقر في بلادنا مجرّدًا عن الثراء وعن الفوارق الاجتماعية.
٣- تجزئة القضايا المجتمعية إلى قطاعات منفصلة (بيئة، شباب، نساء، حقوق إنسان، رفع الوعي، بناء الكفاءات، إلخ.) حيث القطاعات المتعلقة بمعيشة الناس تقوم على الترويج للريادة في الأعمال (بناء الكائن التنافسي في السوق)، والترويج لحلول للبطالة من نمط ابتكار الشباب لعملهم بأنفسهم، والتسليف الميكروي، وما شابه.
وهكذا، ثمة معارضة للامساواة المتعددة لا تعالَج بالمساواة. وليس يقتصر الأمر على ذلك. يجري التزليق من مساواة إلى عدالة، ومن عدالة إلى تكافؤ فرص، ومن تكافؤ فرص إلى حماية اجتماعية حسب برنامج البنك الدولي «الحماية للفقراء والعمل اللائق للباقين». وهنا تختلط الأمور، فبعد أن كانت الحماية الاجتماعية وجهًا من أوجه سياسات ترمي إلى تحقيق مقادير من العدالة الاجتماعية، أخذ البنك الدولي يدعو إلى إدخال العدالة الاجتماعية في الحماية الاجتماعية. ومعروف أن لا غرض لسياسات الحماية الاجتماعية إلا منع تدهور معيشة الفقراء وارتفاع نسب الفقر، بناءً على نظرية لدى صندوق النقد الدولي تقول بأن هذا يسيء إلى «توازن الاقتصاد»!
لكن الحديث هنا بات عن عدالة اجتماعية أخرى. يعدد الاتحاد الأوروبي عناصرها على النحو الآتي: دعم مجلس النواب، تمكين المرأة، حماية حقوق الإنسان، تشجيع الحوار المجتمعي، مناصرة الشباب، وتعزيز حملات منع المخدرات ومعالجة آثارها. ولا يختلف هذا التعريف كثيرًا عن المبادىء الخمسة للعدالة الاجتماعية كما يحددها معهد أميركي للأبحاث المالية: الوصول للموارد، الإنصاف equity، المشاركة، التنوّع، حقوق الإنسان.
أما آخر منقلب للعدالة الاجتماعية فهو الرد عليها بنقيضها. فقد زحل المصطلح إلى معالجة أمور المهمشين والمقصيّين نظرًا إلى العمر والإثنية والجنس والجنسانية والدين. فيما العدالة الاجتماعية تفترض أصلاً تحقيق مقادير من المساواة في الحقلين الاقتصادي والاجتماعي، ها هي تتحول إلى سياسات هوية وتنقلب إلى نقيضها فيصير الجواب على الإقصاء والتهميش هو الاعتراف بالاختلاف. (أنظر البحث الموسّع في مقالة نانسي فريزر «العدالة الاجتماعية بين المساواة والحق في الاختلاف»، في هذا العدد من «بدايات» ٣٢).
نشأ التيار الثقافوي مع نهاية الحرب الباردة، وقد أعلن فوكوياما «نهاية التاريخ» والانتصار النهائي للرأسمالية. وطرح صموئيل هانتنغتون نظريته عن «نزاع الحضارات» وقدّم لها بمحاجّة تقول إن نهاية الكتلة السوفياتية حملت معها نهاية التفسير الاقتصادي للعالم والحياة، وإن فكر التحرر الوطني قد انتهى مع استقلال الشعوب المستعمَرة، فلم يبقَ من نظرة مُجدية للعالم والحياة في العصر الجديد إلا الثقافة.
نسمّي هذه النزعة «الثقافوية»، وهي تفسير للحياة والظواهر المجتمعية وسلوك البشر بناءً على جواهر ثابتة وهويات راسخة متفرّدة عادةً ما تكون منبثّة في الدين واللغة. وتستدعي الثقافوية دومًا تراتبات وتمايزات وفوارق كما في حالة فرادة الغرب عند هانتنغتون. وباختصار، إن ما تتميز به جماعة أو هوية من صفات يُحرم منها الآخرون.
قسّم هانتنغتون العالم إلى حضارات مبنيّة على الثقافة- بدلاً من الأنظمة السياسية والاقتصادية. وقد تجلّى ذلك في انعطاف قضى بأن كل شيء في حياة البشر إنما هو ثقافي، وأن الثقافة هي القوة الدافعة أو الدينامية التي تعرّف الحياة البشرية والعلاقات بين البشر، وتتحكم بكل ما نفعل ونقول ونفكر، بما في ذلك بطرائق نظرتنا إلى العالم وفهمنا له. ووضع صاحب نظرية «صراع الحضارات» الثقافةَ في قلب النزاعات الدولية بدلاً من الحروب الاقتصادية. وعرّف الحروب بما هي منظومة ممارسات موحّدة عُيّنت لها وظيفة تحويلية واعتبِرت مصدرًا للقيم المسيطرة. هكذا يمكن تحقيق التغيير، أو مجرّد إنهاء النزاعات، بالتكثيف التلقائي للتبادل الثقافي. وقد سقط كثير من نقّاد هانتنغتون في هذا الفخ- وكثير منهم إسلاموي وقوموي- عندما قبلوا بنظرية «صراع الحضارات»- ومضمرها الثقافوي - وحصروا اعتراضهم بطابع «الصراع» بينها، داعين إلى استبداله ب«حوار الحضارات»!
هكذا في عصر إعلان نهاية الأيديولوجيات والسرديات العظمى تحولت الثقافة إلى السردية العظمى الوحيدة على حد قول تيري إيغلتون (٢٠٠٢). لكن العقيدة التي يُفترض بها أن «تجعل من الثقافة القيمةَ الكونية المطلقة بِيَد، وتعيد تزخيم العالم باليد الأخرى» كانت تنتهي دومًا بتغذية الأشكال الأكثر جمودًا وتطرّفًا من الانفصالية والاستعلائية ومن الأصوليات الدينية على أنواعها. ولا غنى عن القول هنا إن تقسيم هانتنغتون العالمَ إلى حضارات معرّضة للنزاع لما بينها من «فوالق»، بعيدٌ كل البعد من أن يكون نظرة كونية. فسرعان ما يتبدّى أن «صراع الحضارات» نظرية جيو-سياسية تحتسب المخاطر والتحديات التي سوف تواجهها الولايات المتحدة المنتصرة في الحرب الباردة وقد تحولت إلى القطب الوحيد المهيمن على الحياة الدولية. ويتبدّى ذلك في تعيينه لتلك الحضارات: الحضارة الكونفوشية، تعبير عن خطر المنافسة الاقتصادية الصينية؛ الحضارة الأرثوذكسية، تسمية للخطر الجيواستراتيجي والعسكري الروسي؛ والحضارة الإسلامية، يُرى إليها على أنها الحاضنة المفترضة للإرهاب الجهادي؛ والطريف في الحضارة الكاثوليكية أنها لا تُنسب إلى دول أوروبا الغربية الكاثوليكية، التي هي جزء من «الغرب»، وإنما إلى أميركا اللاتينية، مصدر الهجرات البشرية غير الشرعية إلى الولايات المتحدة.
إرث كولونيالي
بناءً على النظرة الثقافوية، تصير الثقافة – وهي التي تتعلّق، تعريفًا، بالإنتاج والتنوّع والابتكار والتخييل– كيانات مسطّحة وجوهرانية. فإذا للجماعات البشرية جواهر أساسية تشكل كلياتٍ قائمة بذاتها ومتساوقة يمكن ربطها ربطًا وثيقًا بمناطق جغرافية محددة ومتمايزة من العالم. وحقيقة الأمر أن الأفكار التي تقول بوجود ثقافات «مرسومة الحدود» و«متمايزة» و«مسوّرة» في المكان، تتكىء على أفكار قديمة من تمثلات كولونيالية عن المكان تعتمد على «صوَر قطع وبتر وتخلّع».
إن هذه المُسبقات الجغرافية التخييلية تصنّف التنوعَ البشري بواسطة إثنيات متمايزة تحتل بطريقة طبيعية أمكنة متمايزة بدورها.
وتعود الجذور الحديثة للأيديولوجيا الثقافوية إلى حقبة الكولونيالية الأوروبية، عندما جرى حشد نظرية التمايز الثقافي بين المستعمَرين والمستعمِرين و«النقصان» الثقافي عند المستعمَرين لتبرير السيطرة الكولونيالية. وقد استمرت نظرية التمايز الثقافي هذه زمن حركات التحرر المعادية للاستعمار أو المقاومة السياسية عندما أعيد تأطيرها من قبل أيديولوجيي الكولونيالية على أنها مقاومة تقليدية ثقافية ضد الحداثة. فلا عجب أن يكون هانتنغتون قد استعار نظرية «صراع الحضارات» من المستشرق البريطاني- الأميركي الصهيوني برنارد لويس، صاحب خرائط إعادة تجزئة المشرق العربي على أساس إثني ومذهبي، تصحيحًا لخرائط «سايكس- بيكو»، ومستشار الرئيسين الأميركيين بوش، في شؤون الإسلام والعرب، ومنظّر غزو العراق.
تخدم الأيديولوجيا الثقافوية الكولونيالية في أنها تلغي الطابع التاريخي لبناء الهوية السياسية وتمحو نظرة إلى السياسة والثقافة بما هما مجموعة ظروف وعلاقات ونزاعات معاصرة نجمت عن الفعل الاستعماري. وهي إذ ترى إلى البشر بما هم نتاج ثقافتهم، مجمّدين في تقاليد فاقدة للحياة، سوف يمكن تقديم تدخّل القوى الاستعمارية- في الغزوات والاحتلالات العسكرية- على أنه تلبية لحاجة ملحّة إلى التغيير والتقدم. إن افتراض الاستقلال الذاتي للحيّزين الاجتماعي والثقافي مكّن «قوة الطوبوغرافيا» من أن تنجح في حجب «طوبوغرافيا القوة».
ولما كانت الثقافوية هي المذهب التأسيسي لفهم المجتمع والسياسة والاقتصاد، فإنها تنظر إلى البشر على أنهم نتاج ثقافاتهم بدلاً من أن تكون الثقافات هي نتاج البشر.
ومن جهة أخرى، تنظر الثقافوية إلى الأفراد من خلال معايير الأصالة والفرادة كأن هوياتهم تكوّنت كليًّا بواسطة ثقافة لا تتغير ولدوا فيها.
أخيرًا وليس آخرًا، إن تقسيم أي نظرة للعالم إلى فضاءات ثقافية متقطعة لا يساعد فقط على تكريس «الغيرية» بينها، لكنه يساعد أيضًا في حجب التقاطع والتواشج بين المحلي والكوني. فإذا كان تطور العالم العربي، مثلاً، يتغذى بمنطق ثقافي، فهذا لأن مفهوم الثقافة يرى إليها على أنها محصورة ومسوّرة في موقع محدد، لا تتغذى بسياسات اقتصادية واجتماعية وبمظالم بنيوية تمارَس على المستوى الكوني.
الثقافوية عربيًّا
إن الثقافوية إطار تحليلي بات مهيمنًا في صياغة التفسيرات في العالم العربي وعنه، ليس فقط بين المحللين الغربيين وإنما بين النخب العربية أيضًا. بناءً على هذا التحليل، يوجد عطب أساسي في «الثقافة العربية» هو عطب مميت يشدّ المنطقة إلى الخلف ويفسّر تأخرها. لذا لا بد من «معالجة» هذا العطب إذا كان للمنطقة أن تسير قدمًا وتواكب مسيرة الأمم المتطورة والمتقدمة.
يمكن متابعة هذه النظرة الثقافوية في تقارير البنك الدولي و«تقارير التنمية البشرية العربية» وتقرير «مؤسسة محمد بن راشد آل المكتوم لمجتمع المعرفة» بالتعاون مع «وكالة الأمم المتحدة للتنمية»، وفي كتابات العديد من المثقفين العرب. وتَفتتح الأيديولوجيا الثقافويةُ حقبةَ الكولونيالية الجديدة في المنطقة. ويمكن ربطها بطريقة أعمّ بالمشروع النخبوي المحلي والكوني لإعادة تركيب المنطقة وفق النمط النيوليبرالي اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا.
لتدارك النقصان في كافة مجالات الحياة العربية، دعت عدة مؤسسات اقتصادية وتنموية دولية نحو ٢٥٠ مثقفًا عربيًّا إلى مؤتمر في الإسكندرية في آذار/ مارس ٢٠٠٤ صدرت عنه وثيقة «إصلاحية» شاملة عُرفت ب«وثيقة الإسكندرية». ومع أن الوثيقة لم تتمحور كليًّا حول كيفية تجسير الفجوات بين العرب و«مجتمع المعرفة»، إلا أن معظم المقترحات والوصفات التي تقدمت بها لسدّ النقصان الثقافي العربي صبّت باتجاه التكيّف عربيًّا مع النيوليبرالية الزاحفة. بين «الإصلاحات» المقترحة جعل القطاع المالي المحرّكَ الأساسي للاقتصاديات العربية، وضرورة فتحه للاستثمارات الخارجية؛ والدعوة إلى الخصخصة؛ وإلغاء «احتكارات الدولة» (لا مكافحة الاحتكارات الخاصة)، علمًا أن المقررات لم تمسّ النفط- الموضوع المحرّم- ولا هي اكترثت كثيرًا لقطاعَي الصناعة والزراعة. وتأكيدًا للمزاوجة بين الثقافة والدين، دعا المؤتمر إلى تشجيع الإسلام المعتدل، وتحرير «ثقافة المرأة»، لا تحرير المرأة ذاتها- والمقصود طبعًا المرأة المسلمة- على اعتبار أن المرأة ثقافة بذاتها أو أنّ لها ثقافة مخصوصة بما هي... مرأة. أما الدعوة الديموقراطية فغلب عليها ترويج التعددية وحقوق الإنسان (الفردية من دون الاقتصادية والاجتماعية) على حساب المساواة السياسية والقانونية والمواطنة.
ولمّا كان النقص الثقافي نقصًا بالقياس إلى «ثقافة الآخر»، احتلت الترجمة عن الثقافة الغربية المرتبة الأولى في مهمات تدارك النقص الثقافي العربي. لم تتردد «تقارير التنمية البشرية العربية» في تقريع العرب المعاصرين على هزال ما يترجمون وتذكيرهم بماضيهم التليد إذ ترجموا في عهد الخليفة المأمون وحده لا أقلّ من ١٠٠ ألف مؤلف. وقد وضِع الرقم المُبهر بمواجهة إحصائيات تقول بأن الدول العربية مجتمعةً لا تترجم أكثر من بضع مئات من الكتب في السنة. لكن لم يلبث أن صحّح «التقرير البشري» أرقامه في إصدار لاحق إلى ١٠ آلاف كتاب تُرجمت في عهد المأمون. (وفي الحالتين القصوى والدنيا، تُرجى ملاحظة دقة دوائر الإحصاء في العهد العبّاسي!) وقد طَعن باحث ألماني في شؤون الكتاب العربي في الأرقام الهزيلة عن الترجمة السنوية عربيًّا فكشف أنها مأخوذة من دراسة للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم «الألكسو» (المقابل العربي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «أونيسكو») نقلاً عن أطروحة «ماستر» جامعية!
ختامًا، إن الخطاب الثقافوي يحجب ويصرف النظر عن الفوارق والمظالم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الكونية والبنيوية التي تصوغ المشكلات الاجتماعية وتولّد النزاعات عبر العالم العربي المعاصر. إنه يجوّف التحليلات السياسية والتاريخية وقد بات جزءًا من عدّة الترويج لمشاريع «الإصلاح» النيوليبرالية عن طريق تأطير تلك المشاريع على اعتبارها ذات ظروف كونية وبما هي المستقبل الاجتماعي الوحيد الممكن والمرغوب في التطور والتغيير في عصر نهاية التاريخ وانتصار الرأسمالية. والخطاب الثقافوي، إلى ذلك، يجرّد الثقافة من علاقاتها الطبقية ومن الاقتصاد على امتداد البلدان العربية.
أما في النتاج الجامعي، فقد انعكست الثقافوية أيضًا في غياب الشغل والبحث العيني عن العالم العربي وإنتاج موادّ لا تاريخية تحاول فرض نظريات معينة على العالم العربي منزوعة السياق.
ونشوء ما يسمّى «الطفرة الشبابية». يلاحظ «تقرير التنمية البشرية العربية» للعام ٢٠١٦ أن الشباب بين عمر ١٥ و٢٩ يشكّلون ثلث سكان المنطقة العربية، أي نحو ١٠٥ ملايين نسمة، ويمضي ليؤكد أنه «لم يسبق أن شهدت المنطقة احتلال الشباب مثل هذه الحصة الكبيرة من عدد السكان».
أما العامل الثاني فهو تهميش الشباب وإضعاف دورهم وإقصاؤهم في القطاعين العام والخاص على نطاق واسع في المنطقة العربية. ويشكّل إقصاء الشباب على نطاق واسع إحدى أبرز العقبات أمام التنمية في تلك المنطقة. ولم يُعترف بعد بالشباب على أنهم فاعلون شرعيون في عملية التغيير ولا يجري تمكينهم لتحمّل تلك المسؤولية.
إن الشباب ضحايا إقصاء يمارس رسميًا عليهم من رجالٍ في متوسط العمر وكهول يسيطرون على المجتمع بقوة القيَم التقليدية وممارسات الدولة الاقتصادية عميقة الجذور. كذلك الأمر يواجه الشباب عقباتٍ عديدةً للحصول على الوظائف والزواج والسكن، فيما الفئات المتقدمة في العمر من السكان تتمتّع بامتيازات حصلت على معظمها في ظل برامجَ حكومية خلال فترات الطفرات النفطية (تقرير التنمية البشرية العربية، ص ٣٢، ١٧٠).
ولكن بالرغم من الجاذبية التي تتمتع بها سرديّة الاهتمام بالشباب وبتمكينهم، ثَمة حاجة للنظر إليها بحذر وبروح نقدية، ذلك أن نموذج الشباب في التنمية والأمن يدعو إلى القلق ويثير عددًا من المشكلات.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.