العدد ٣٢ - ٢٠٢١

الشِّعر في السجن

«فتحتُ الشِّعر كي يطلّ الأطفال» ٢/٢

٣١

إن الثغرة التي يشكو منها البناء الفني في قصيدة «كليم الماء» تتركز في لحظة الانتقال من الصوت الأول إلى الصوت الثاني، حيث يبرز صوت ثالث، لا أجد له الآن مبررًا فنيًا قويًا، وإن كان المبرر الموضوعي لا يستدعي مثل هذا الصوت البارز، مثل النشاز الموسيقي في السيمفونية. الصوت الثالث هو:

(تفجّر كالطلع صوتٌ، يُكالم ماءَ التحوّل يا سيد الماء ها إننا قد سمعنا)

هذه الثغرة ليست مستعصية على التعديل، لكن تعديلها يستدعي إضافة بناء شعري جديد يتمثل في:

حذف هذه الجملة بكاملها.

تحويل الجزء الأول كصوت إلى مقطع منفصل، وكذلك الجزء الثاني كصوت جديد.

تصير القصيدة مقطعين، كل مقطع يمثل صوتًا مستقلاً. يظل مثل هذا التعديل في حدود الإمكان فقط.

إن جملاً مثل: (وليس يُجير سماسرةَ الموت، في ساعة الهجم، حصنٌ، إذا ما وصلنا)، تحمل قدرًا من المباشرة النثرية ما كان لهذه القصيدة أن تقع فيه، لولا الانسياق وراء المعنى بدون صورة شعرية، والتردد في مواجهة تجربة القافية.

وهذه الجملة بالذات وقعت في تعثّر لغوي، لأنها تحمل بذرة الخلل أصلاً- فقد تعرضت للتعديل في وقتها- وأعتقد أن هناك جملاً مباشرة وتقريرية أخرى، يمكن العثور عليها إذا أمعنّا النظر في القصيدة.

ما زلت أجد أن جملة (تكن نصف كونا) أجمل شعريًّا من (كونٍ). وتمسّكي هنا بأن تكون (كونا) ليس ارتباطًا بالقافية، ولكن في مثل هذا الموقف ستفقد كلمة (كون) القدرة على الإضاءة والتوهج إذا ما وُضعت في صيغة «الجر»، أما (كونا) فأرى أنها تحمل سحرًا شعريًّا، ببنْيتها الإيقاعية، لا أستطيع تفسيره، لكنه الجمال السرّي الذي يكمن في الشعر. وأعتقد أنني في حالة نشر القصيدة، ستظل كلمة (كونا) منصوبة بإطلاق، ومحاطة بهلالين، إشارةً إلى التحفظ اللغوي. وإلا فإنني سأموت وفي قلبي شيء من (كونا).

يبقى أن أشير إلى تكرار العدد الهائل لدرجة الملل، من حرف العطف (الواو) في القصيدة، لكي أتذكر التعليق القديم لأحد نقاد الخمسينيات على بدايات الشاعر عبد الوهاب البياتي، قال فيه: (لولا حرف الواو لما كتب البياتي شعرًا).

في (كليم الماء) صارت الموسيقى رقصًا، أو هكذا حاولت، ولعل أهم ظاهرة إيقاعية في موسيقى (كليم الماء) هي الإيقاع الداخلي بين القوافي أو ما يمكن تسميته- تجاوزًا- بـ«القافية الثانية»، مثل: (كالجحيم الحميم)

(فيا أيها الماء يا رايةً في الطريق، ويا سيدًا في الحريق)

و(بأوسمة لا تقاس)

(خلّ عنك النعاس).

تبدو هنا هذه الإيقاعية المجلجلة باهتة شعريًّا، ولا تكاد تبين، ولكنني أعتقد أنها ستتطور في القصائد اللاحقة، كما سنلاحظ، ويمكنني القول إن هذه الظاهرة إفراز فني لتجربة القافية أساسًا. لأن هيامي بالإيقاع يجعلني لا أملك الحماس لأي قصيدة تغيب عنها الموسيقى الواضحة والمناسبة، فإنني أكاد لا أفرّق بين الشعر والنثر سوى بالإيقاع. بالموسيقى. والقصيدة عندي تولّد إيقاعًا قبل أن تبدأ رحلة الورق، أعني المعنى، وأكتشف الموسيقى على طريقة ماياكوفسكي، إذ كان يؤرجح ذراعيه وهو يسير ويكتشف إيقاعه أثناء المشي، لذلك تأتي القصيدة غناءً ورقصًا في نفس اللحظة. ومرة قال بيتهوفن: «إن العالم موسيقى».

(إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها)، هذه هي الخلفية الموضوعية التي كتبت فيها (كليم الماء). ليست كمسلّمة قرآنية، ولكن كمعنى حضاري، وبُعد واقعي لمضمون القصيدة.

ترى هل نجحت في الاستفادة من هذا البعد؟

٣٢

حين لَمح الشاعر جورج شحادة كلمةَ الطفل تحاول أن تطير، هَمَّ لكي يفتح النافذة لها. أما أنا فقد فتحت الشعر لكي يطلّ الأطفال. وقلت: (هيئوا غبطة للطفولة). لقد كان نجاحي في هذه القصيدة (كبيرًا)، مثل نجاح من يحاول وصف الملائكة!؟

هل يمكن ذلك؟ كيف يمكن تحويل الحلم إلى كلمات؟ هذه هي المسألة. إن هذه القصيدة ولدت من الحلم أصلاً، لذلك جاءت أقرب إلى «قصيدة الموضوع» منها إلى «قصيدة التجربة». ولم تشفع لها الصور الشعرية المصنوعة بغزارة، لأن الأطفال يظلون أكثر جمالاً في الأحلام منهم في الكلمات.

المحذور الثاني الذي جعل القصيدة أقرب إلى الموضوع منها إلى التجربة، أنها كانت أيضًا محاولة لا شعورية لتعويض الفشل الكبير الذي وقعت فيه قصيدةٌ سابقة في شتاء العام ١٩٧٥، وهي قصيدة «لغة للطفولة»، والتي سبق الحديث عنها في مكان آخر. بالطبع لا يمكن المقارنة بين القصيدتين، ولكن «هيئوا غبطة للطفولة» في الوقت الذي طمحتْ إلى أن تحتضن أطفال العالم من خلال أطفال الشاعر، ضعفتْ أمام السيل الجارف من الصور المتلاحقة، التي تصور الجو الخيالي المتصل بحلم الشاعر. وأدى هذا إلى إطالة غير مستحبة.

وللقافية في هذه القصيدة فاعلية مختلفة عن فاعليتها في قصيدة «كليم الماء». فهنا تنويع متفاوت القوافي، وأعتقد أن السيولة في غزل القافية هنا أكثر وضوحًا من «كليم الماء»، والعناصر البنائية لهذه القصيدة أكثر غنًى لدرجة أنها تصل إلى نوع من الترف الفني في بعض المواقع. ربما كان هذا ناتجًا من نقطة ضعف الشاعر أمام الإيقاع والاستسلام له، ومثْل هذا الضعف كفيلٌ بأن يسبب للشاعر مآزق فنية في المستقبل.

هل كتبتْ هذه القصيدة للأطفال، أم عن الأطفال؟

هذا سؤال، برغم بساطته الظاهرة، دقيق وبالغ الإحراج، لأنه يشير إلى مسألة فنية في صميم القصيدة، فالقارئ يلتقي بالصور البسيطة التي تناسب الأطفال حينًا، ويصادف في الوقت نفسه بصور أقرب إلى التركيب الذي لا يناسبهم. ولأن المناخ الرئيسي للقصيدة مناخ طفليّ، فإن القارئ يحار في مواجهة هذه الظاهرة.

وحين طرح أحد الأصدقاء سؤالاً بهذا المعنى، عرفتُ كم هو محرج موقف هذه القصيدة حين تواجه مثل هذا السؤال. في الحقيقة، لم أكتب هذه القصيدة للأطفال، لكنني أيضًا لم أكن قاصدًا أن أكتب (عن) الأطفال. ولا أدري الى أي حد يمكنني الزعم بأنني كنت أكتب (كطفل)، فالتعبير عن حب أطفال ليس شأنًا فنيًّا.

٣٣

فيما كنت أكتب هذه القصيدة، كانت تنفجر في داخلي قصيدة جديدة. كان البركان يتصاعد، مثل الحب اللامتناهي الذي تحدّث عنه «رامبو». وكنتُ مذهولاً لما يحدث لي. لم أكن معتادًا على هذا الأمر. عادةً كنتُ بين القصيدة والأخرى، أستغرق زمنًا قد يصل إلى أشهر عدة، أما هذه المرة فما يحدث لي كان غريبًا فعلاً. كما لو أنني في تفجّرات مستمرة. وقد خفتُ من ذلك فعلاً، خفتُ أن يغلبني الشعر ويصرعني من حيث لا أدرى. كنتُ في أسوأ حالاتي الصحية من جهة، كما كان الشعر، من جهته، يضاعف إرهاقي الجسدي.

من الصعب أن يشعر الإنسان بأيّ الأمرين أفضل:

أن يموت نائمًا أو يقضي مستيقظًا.

غير أن الشعر قد علّمني أن الموت في اليقظة أجمل. لذلك سهرتُ ليالي طويلة أصارع رفيقين لدودين هما الشعر والمرض. كان شيئًا لا يُحتمل ولا يصدّق أيضًا. وكنتُ في لحظات نادرة (أرى) بعض الكلمات تتوهج في ظلام الزنزانة، كما لو كنتُ في حلم.

وعادةُ الكتابة في الظلام كانت تدرّب عندي قدرة داخلية على السبر والرؤية عند الشاعر، رؤيةٌ توشك أن تصير رؤيا.

٣٤

جاءت قصيدة «تجليات العاشق» لكي تعبّر عن عذابات الشاعر، بأبعادها المتنوعة والمتداخلة، وكانت مرحلة مثقلة بالعذاب الفني في نفس الوقت.

القافية، مجددًا، هي نقطة ضعف قصيدة «تجليات العاشق». وهذا ما جعلني أتردد طويلاً قبل أن أكتبها. هذه القصيدة الوحيدة التي لم أكتبها في تدفق واحد متواصل ومستمر، ولم تنجَز في ليلة واحدة كما القصائد الأخرى. بل احتاجت إلى ليالٍ عدة وأيام أيضًا. وكنتُ خائفًا من أن تكون القافية قبرًا جميلاً للقصيدة.

وهيامًا باللام مرفوعًا،

كما لو فتاة صاغها الخجل.

قلت: ليكن. إنها القصيدة التي ستعلّمني أشياء جديدة، وإذا لم أكتبها الآن فستظل تؤرّقني. خاصةً أن التجربة التي ولدتها تختصر تاريخًا داميًا للشاعر والإنسان وصيغة الجمع.

حملت القصيدةُ سلبيات القافية إلى حدّ لا يمكن احتماله (في حالة نشرها). ومن هذه السلبيات، الوقوع في الإسهاب والإسراف في الزوائد التي لا تضيف إلى المعنى عُمقًا. فتلك زوائد توفّر قافيةً فقط. وهذا ينطبق – مثلاً - على:

(ولا ميزانها في الحب يحتملُ، ولا عشاقها لاموا ولا عذلوا).

وجُمل كثيرة على هذه الشاكلة يمكن مصادفتها في النص. ولعل وحدة القافية طوال القصيدة أرهقت البناء وهلهلته كثيرًا، وفوّتت على الشاعر فرصة الحركة الحرة.

وظنّي أن القافية قد فعلتْ بهذه القصيدة ما فعله تكرار حرف العطف (الواو) في قصيدة «هيئوا غبطة للطفولة».

أما تقسيم القصيدة إلى سبعة مقاطع ذات عناوين منفصلة، فهو محاولة لإعطاء التجربة آفاقًا رمزية تتصل بالتجربة «الواقعية» التي يعيشها المتصوف، ومحاولة كسر التصاعد إلى الذروة الغيبية، بحيث تحولت الذروة إلى فاعلية مادّية تتمثل في (الترجل)، وأعتقد أن القصيدة ستأخذ جمالاً مختلفًا في ما لو جاء كل مقطع في قافية مختلفة، بحيث تقترب القصيدة من بناءٍ هارموني أكثر حيوية.

في مقطع «التجلي» لمحة مفتعلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة بوضوح،
تلك التي تبدأ بـ(تعال لنا وكن ربًّا... إلى سئمناه، لعل إلهنا الصنميّ يسـمنا ويرتحل). فمثل هذه المعالجات لم تعد تملك البريق الفنّي والفكري الجديد. وليس جديرًا بالشعر أن يقع في هذا المحذور، فإذا كانت مثل هذه المعاني تُطرب القارئ للوهلة الأولى، كما لاحظتُ بين الأصدقاء وقتها، فإنها لا تمثل إبداعًا شعريًّا، ولكنها نثرٌ خالص.

أقول، نثرٌ خالص، لكي أوضّح بأنه ليس كل ما يصاغ وزنًا يمكن اعتباره شعرًا. النثر في القصيدة هو المعنى الساذج الذي لا يحمل نكهة ونقاء وجمال الإبداع الشعري. وفي «تجليات» شيء غير قليل من النثر.

قالت القصيدة في كلمتها الأولى حقيقة وقع فيها الشاعر بشكل أقرب إلى السلبية. قالت «الشعرُ إغراءٌ يقيّدني»، ولم أكن أحب القيود. ولكن قيود الشعر أساور حنان. تدلهتُ عشقًا في حبها. لذلك فإنني أستحق ما ألاقيه من فشل بين الوقت والآخر.

يمكن اعتبار القصيدة تمرينًا لغويًّا مهمًّا، ففيما كنتُ أغزل الصور الجميلة، كنتُ أيضًا أكتشف علاقات لغوية جديدة، تتفتح عفويًّا حينًا، وقصدًا حينًا آخر. لقد كانت هذه القصيدة بامتياز، قصيدة صور.

وفي «تجليات العاشق» كثيرٌ من النحت والصناعة، لأن القافية كانت فارسًا شجاعًا. لكنه أعمى. وحين قال لي صديق بأنه أقرأ القصيدة على الساحل، ثم أُلقي بها مباشرةً في البحر، كان واضحًا أنه يعني بأن القصيدة لن تُحسن العوم. وكان صادقًا بالفعل. وقد تذكرت «ايزامبار» الذي كان قد كتب عن إحدى قصائد (رامبو):

(وهكذا يا صديقي فإنك ترى أن كل إنسان يستطيع أن يكتب سخفًا)

٣٥

يكتب الشاعر القصيدة وهو يهجس بأنها ربما كانت قصيدته الأخيرة، فيحاول أن يقول فيها كلمته الأخيرة.

وبعد أن ينتهي منها، يشعر بأنه لم يتمكن من قول ما يريد، أو كل ما يريد بالذات، فيستعدّ لكتابة قصيدته التالية، والتي ستكون الأخيرة أيضًا، كما يعتقد.

قصائد الشاعر محاولات فاشلة. هذا الفشل الذي سيدفعه في كل مرة لكتابة قصيدته التالية. ربما لن يكتب الشاعر قصيدته «الناجحة» إلا بموته، كما يقال عادة، كأنما موت الشاعر هو الإضاءة الساطعة لكل قصائده «الفاشلة». وموتُ الشاعر أيضًا هو المفتاح الوحيد لعدد كبير من الغوامض في شعره. والشعور الدائم لدى الشاعر بأن كل قصيدة يكتبها تحمل قدرًا معينًا من الفشل، هذا الشعور الغامض بدوره، هو الذي يدفعه إلى محاولته التالية. وربما يبدع من جهة ويفشل من جهة أخرى. مثل هذه الأمور الحميمة، التي تبدو للمرء ضربًا من الهذيان، أحد أهم عناصر تكوين الإبداع الشعري المتجدد القادر على العطاء، فالشاعر كائن غير قنوع، وفي الشعر، القناعة كنز لا ينفع.

وحين يعتقد الشاعر أنه كتب قصيدته الناجحة، يكون قد فقد هاجس الطموح اللجوج الذي لا يهدأ. وبالتالي توقّف عن الحلم.

٣٦

قال لي الشاعر «سان جون بيرس»:

(لا تخف من رؤياك، فقد طمأنتني الدهشة، وأبقيت عينًا مفتوحةً لهذه الخطوة العظيمة).

لذا تداخلتُ في أفق الصعلوك المكابر «مالك ابن الريب»، وكتبت قصيدة «الشهيد». لقد كان حضور ابن الريب ملتهبًا في روحي، فيما كانت القصيدة تتخلّق في الكتابة. وكنتُ من حقل العصافير قريبًا.

لم تعد رؤياي النارية تهتم بحالتي الصحّية والاعتلال البدني المتواصل، ولكنها تفتح طريقًا للنور.

كان «مالك» يرثي نفسه في أهم وأجمل قصائده، ففتحت معه حوارًا، وتفاهمنا جيّدًا.

يقوم بناء القصيدة الفني على لحظة زمنية قصيرة جدًّا، هي ما بين الانثناء والانحناء، هي ساعة الاحتضار، حيث يختصر البناء في هذه اللحظة تاريخًا تراجيديًّا للمفرد الذي هو بصيغة الجمع. وبقدر ما تكون القصيدة قد نجحت في تكثيف وتركيز التاريخ العريض في لحظة واحدة، تكون قد حققتْ نجاحًا فنيًّا. سيبدو واضحًا هنا كم هي وثيقة الحالة بين المضمون والشكل في العمل الفني، ويبدو أيضًا المعنى في المفهوم النقدي الذي يقول بأن المضمون هو الذي يخلق شكله الفني المناسب.

يمثل الصوتان في القصيدة المعادلةَ الموضوعية الفنية في التجربة. ولا يقلل من أهمية الصوت الذي «يصغي»، كونُه لم يأخذ مساحة أكبر من:

(قال لي وانثنى/ قال وانحنى).

الصوتان أصليّان في التجربة، وهما عبارة عن تنغيم إيقاعي في المعنى، يطمحان إلى بناء فنية القصيدة من خلال علاقتهما الجدلية إنسانيًّا.

هنا، يتفجّر الشهيد، كتجربة، صعلوكًا عصريًّا لا يموت في الاستشهاد، لكنه يمثل إشارة ساطعة لموت القاتل.

هنا، أيهما صوت الشاعر؟ الصوت الأول أم الثاني؟ من الصعب الاقتناع بأن الشاعر «يصغي»، كما أنه واقعيًّا نرى الشاعر لم يستشهد.

وفي هذا الموقع لا تنفع المسطرة للفصل بين الذات والموضوع.

إلى حد ما، يمكن الاقتناع هنا بأن أجمل رقصات البجعة هي الرقصة الدموية في لحظة الموت.

٣٧

هيامي بتجربة طرفة بن العبد الإنسانية لا حدود له، وعلاقتنا الرؤيوية قديمة. في عام ١٩٧١ بدأت العلاقة بيننا تأخذ شكل الكتابة. وعام ١٩٧٣ صارت شعرًا، حيث «تحولات طرفة بن الوردة». وفي «إشراقات طرفة بن الوردة» تواصلت الرؤية. ولعل الشكل الذي أخذتْه القصيدة كان محاولة لموازاة اللحظة الواقعية التي يعيشها الشاعر كمن يفصد دمه، ويرقب القطرات تسيل فيأتي الشعر متفصّدًا على شكل مقاطع صغيرة، وكانت القطرة الأخيرة من الدم. توازي «أو بالعكس» المقطعَ الصغير في ختام القصيدة «لا تثقوا بحياد الماء».

يبدو أن طرفة بن الوردة لم يزل قريبًا مني فنيًّا، لذلك فإنه لم يترك لي مجالاً للتحديق من شرفة الأفق.

إنني أتبع نصيحة الشاعر المتصوّف «النفرّي» الذي قال: «انس ما قرأت، وامحُ ما كتبت». لئلا أكرر نفسي، وكي لا أهادن كلماتي. وأعتقد أنني سأنسى أخيرًا كل شيء، وأكتب.

٣٨

«زهرة الوقت» و«إشراقات طرفة بن الوردة» تنويع شعريّ على العزف الرئيسي للتجربة الفنية الراهنة. القافية هنا لم تضمحلّ تمامًا، لكنها تنمو وتتبلور بشكل ما. وأستطيع القول إنه لولا تجربة القصائد الأخيرة، لما جاءت البنية الإيقاعية في هاتين القصيدتين بهذا الشكل.

فيما كنت أستعد لتدوين هذه السطور، دهمني الوقت مزدهرًا. وما زالت المسافة بيني وبين القصيدة الأخيرة قصيرة، قصيرة جدًّا. (آه، ليس الموت يقتلني).

أكثر من صديق قال: هذه الآه تتكرر في كل القصائد. لماذا؟ فعدت اقرأ القصائد مجددًا باحثًا عن هذه الآه. وسألت: هل تدلّ الآه دومًا على حدة «الألموت» أعني: الألم/ الموت؟

لا أعتقد ذلك، قلت.

أحيانًا يطلق الإنسان الآه لذةً أو شوقًا عارمًا أو دهشة. لذا أعتقد بأن الآه عندي تأخذ دلالات وأبعادًا مختلفة.

اكتشفتُ فجأةً أن «زهرة الوقت» تخلو من الموت بكل درجات الظل فيه. إن هذا مدهش حقًّا. عبّرتُ لأحد الأصدقاء عن دهشتي لهذه الظاهرة، طالبًا منه عونا لتفسيرها. لكنه كان يتسلح بقسوة محبّبة، فتحداني أن أقدم له- وحدي- توضيحًا لما يمكن أن تكون قد مارستْه هذه القصيدة ضد الموت، فأخفقتُ. وفيما أنا اقرأ القصيدة، لاحظتُ أنها تختلف عن القصائد الأخرى، ليس بغياب هاجس الموت فحسب، ولكن بمفردات وصور شعرية مغايرة إلى حد ما.

هل هذه القصيدة جوابٌ حواريٌّ للمعنى الذي جاء في قصيدة سابقة:

حلمٌ ونافذةٌ ورؤيا في الغموض،

معجزات،

آه كم من شاعر أضحى نبيًّا، إنما الملل.

هل جاء الشعر: (مثل برقٍ أو براقٍ)

كي يقول: (اقرأ باسم هذا الوطن)

أقول: هل ...؟!

٣٩

(سَمّوني الغامض، وكان حديثي عن البحر

سَمّوني الغامض،

وكنت أسكن البرق،

والراحات الكبيرة الضاحكة

تفتح لي دروب الحلم الذي لا يرتوي)

هكذا تكلم «سان جون بيرس»

وحين «يُتهم الشاعر بالغموض لا تنتفخ أوداجه غرورًا، كما يعتقد البعض. ولكنه يصرخ مع ماياكوفسكي بضراوة المفؤود:

(ها قد بدأ الجنون)

يمثّل هاجس الوصول إلى القارئ همًّا مستمرًّا بالنسبة للشاعر. لكنه لا يلجأ إلى شرح القصيدة لفهم القارئ، لأن محاولة الشرح تشابه محاولة معرفة سرّ الوردة، تفكيكُ وريقات الوردة تفصل التويجات، تحلل البذور، وتعرف (بعض) السر، لكنك تفقد الورد وعطرها في الوقت نفسه. لست أدعو إلى الجمال شكلاً، لكنني أطمح في الجمال فعالية.

الشعر فعالية الشاعر في الكون، والقارئ فعالية القراءة والبحث.

قال أحد الأصدقاء: لماذا صرنا نفهم عليك الآن أكثر من السابق.

أين الخلل سابقًا، هل عندك أم عندنا؟

بالطبع يختلف هذا الطرح عن ذاك الذي قال: هذا هو الشعر الذي يجب أن تكتبه. فالطرح الأول يحمل بذرة الحوار، والثاني يسير إلى تعسّف الأحكام المسبقة.

مرةً أخرى، لا أقرّ الرأي الذي يقول بأنني أصبحتُ واضحًا الآن، لأنني لم أكن غامضًا لكي أصير واضحًا. كنت «أحاول» الوصول إلى القارئ، والقارئ الذي يحاول الوصول إلى الشاعر كان يفهمني. ربما لم يجد البعض الوقت لمثل هذه الفعالية المشتركة، لذلك تبدو القصيدة «غامضة»، لأنها ليست سهلة ومتاحة للقارئ العابر المتسرّع الطارئ. ولم أكن مؤهلاً لكتابة القصيدة السهلة، لأن شيئًا في الحياة لم يكن سهلاً، إلا التفاهة.

ليست الحياة تافهة ولا الموت.

رغم ذلك كنت أطمح في أن أصل إلى أبعد قارئ- لا أعرفه-بواسطة الشعر.

٤٠

من الوجهة النقدية، يمكننا القول إن لكل مرحلة فنّية رموزًا محورية تشكل العناصر الرئيسية للبناء الشعري، الذي يشيّده الشاعر في مجموعة من قصائده. بغضّ النظر عن درجة النجاح أو الفشل الذي يتحقق فيها. أحيانًا يستمر الرمز في مرحلة أخرى، ولكن بتبلور مناسب مع المرحلة الجديدة. بل إن بعض الشعراء يمكن تمييزهم برموز معيّنة، تأخذ ملامحها المكتملة مع التطوّر الفني للشاعر، فتحمل إلى القارئ أبعاد التجربة التي يعبّر عنها الشاعر. هل الماء هو الدم الثاني الذي يجري في شرايين القصائد؟ منذ نهاية مجموعة «الدم الثاني» حتى القصائد الأخيرة أحاول أن أعرف ذلك. ويمكن اعتبار «كليم الماء» ذروةً وصل إليها الماء رمزيًّا، لكن.

ماذا يعني الشاعر برمز الماء؟

يتطلب هذا السؤال الكثير من الشاعر. ويتغافل كثيرًا عن الإمكانيات المتوفرة لدى القارئ، وكما قلنا في البداية «القارئ مشروع جيد للفعالية. لذلك ليس بوسعي أن أقول ذلك نثرًا، ولكن يمكن أن أخلق حوارًا أصير فيه صوتًا ثالثًا، وداخليًّا في الوقت نفسه، وأصوغ لقارئ، عن طريق العلاقات، قارئًا من تحوّلات الماء. رمز الماء، في مواقف مختلفة لكي أقرّب القارئ من تحولات الماء. وقت الحلم الأول:

من منكم يأتي ويرجّ حياد الماء؟

الدم الثاني:

إنه الليل الذي حوّلني غصنًا من النوم إلى الماء،

فصار الماء نار.

حولني العشق شيئًا من النار

شيئًا من الماء.

فقد علمتني البلاد الغريبة إيقاعها

أخذت من يدي مائي الأول المستريب

وأعطتني ماءً لأسرارها.

وقفت بين شفرة الحب وأول القراءة

كانت يدي صديقة العشاق

كنت الشجر الخجول

وكان مائي طفلة الحقول.

ماؤك الدموي تاريخي.

قال للماء: غير رؤاك.

قال للماء: ضيّعت مني دمًا في الهواء.

قلت مَنْ ينقذ الماء من لونه.

هي الآن مرتاحة في ضميري

تراوح بين الدماء وبين المياه

تعالي دما آخرَ سوف يقرأه الأنبياء.

كليم الماء:

توضّأ بالنفط كلُّ الملوك،

هو الآن ماءٌ لهم،

فكن في دمانا دمًا ثانيًا،

ولا تسهُ عنا.

فيا أيها الماء يا راية في الطريق،

سيدًا في الحريق.

يا أيها الماء يا سيدي.

إشراقات طرفة بن الوردة:

لا تثقوا بحياد الماء.

الآن، يغمر الماء الكون رمزًا، ويحييه واقعًا... و...

معذرة، فإن فكتور هيغو يعترضني صارخًا:

لا تُكثر الإيضاح، تفسد روعة الفن.

٤١

الطفولة:

الأطفال هم النقاء الخالد في أشياء الكون، وهم أكثر نقاءً من الماء.

٤٢

الحلم:

يصير الحلم رمزًا، لأنه الاختصار الأليف لطموحات الإنسان المقهور، على امتداد التاريخ والأرض.

لكن ما هو الحلم؟

شيء يقوله الشعر ولا يقوله النثر.

يتفاوت هذا الحلم وضوحًا وغموضًا في القصائد، بناءً على الشكل الذي يأتي به السياق، ويتعرف القارئ على ملامح الحلم الذي يذهب إليه الشاعر، من خلال موقع هذا الرمز في القصيدة.

ليست هناك تفسيرات جاهزة للحلم- كرمز- في الشعر، مثلاً:

فالحلم الشاهق سيدنا

ويأتي في قصيدة أخرى:

فالحلم سلاح ألبسه.

إذن، فالحلم الذي هو سيدنا وسلاحنا في الوقت نفسه، لن يكون سوى ذلك الذي يقترب من المعنى العظيم في كلمة «لينين»:

الحالمون بناة العالم،

وفي تأكيده أيضًا:

ينبغي أن نحلم،

ويكون الرمز في الشعر متوهجًا، إذا عرفنا كم هو شمولي ودافئ هذا الحلم الثوري في قلوب المناضلين. ترى هل يمكن الشعر لولا الحلم؟ الحزن أيضًا هو خضرة اليأس، التي يطلع منها الأمل، والحلم في حياتنا حزين لأنه يكتشف الأسرار التي تغفل عنها العقول الساذجة. الحلم إذا كان حزينًا فهذا يعني أنه واقعي. وأحزاننا تكون حالمة، لأن الشعر هو تجاوز الحيرة التي يخلقها الحزن المجرد عند الإنسان.

والحزن سيدنا

في «الدم الثاني» أيضًا، يرتبط الحزن بالحلم، فيتفجر الأمل.

قال لي صديق: لماذا أنت حزين إلى هذا الحد، هل أنت يائس؟ فشعرت أن هناك من يحرّضني على الانسجام مع الواقع. لأنّ من لا يحمل حزنًا في قلبه لن يجيد اكتشاف الواقع. عندما طُرح ذلك السؤال، تلفتُّ باحثًا عن حصان تشيكوف لأحكي له سبب كآبتي، فهاهنا شخصٌ لا يفهمني.

٤٣

لا يستمد القارئ فعاليته من ثقافته فقط، ولكن بالدرجة الأولى من احترام الشاعر له. فالشاعر الذي يتعامل مع القارئ باعتباره غبيًّا يتوجب تعليمه عن طريق محو الأمية وإسقاط قدرته العقلية من الاعتبار وصفعه بالأدب المسطح، السطحي، بحجة لكي يفهم القارئ،

أقول: هكذا سلوك من شأنه أن يجعل الشاعر يكتب أشياء كثيرة، غير أنها لن تكون شعرًا على كل حال.

في المقابل، فإن القارئ ما دام يمثل هاجسًا بالنسبة للشاعر، فعليه أن يكوّن فعاليةً حقيقية، بأن يتحول إلى حركة فعالة نحو الشاعر، أي أن يخرج من حدود الراحة واللامبالاة، ولا يتبجّح بالقول إن الشاعر يتأخر عن الوصول إلى القارئ.

القارئ الذي يحملق في إصبع الشاعر فيما يشير إلى الشمس، يكون قارئًا أحمق، حسب تعبير حكمة صينية قديمة. أما القارئ الذي يصير آلة توليد للطاقة، فهو الذي يطمح إلى تحويل الشعر إلى طاقة فعالة في الواقع.

ها هنا مشروع شاعر، يطمح في مشروع ناقد، أي يطمح في قارئ فعال.

٤٤

دخان البراكين،

سيكون هذا العنوان، الآن، مناسبًا لقصيدتيّ اللتين كتبتهما في آذار/ مارس ١٩٧٧: «سيدتي نشتاق» و«لقد ذكرتك».

٤٥

قلت، في البدء، إن الظروف غير المواتية للحياة ظروف مواتية للشعر. وأعتقد أن المسألة الآن قد اتضحت أكثر.

أذكر أن الحياة الأسهل (؟) في سجن البحر قد عجزت عن تفجير الشعر. أما ظروف «سجن الصحراء» الأصعب فقد أعطت شعرًا غامرًا، والطريف في الأمر أن بعض الأصدقاء قد لاحظ هذه الظاهرة، وعبّر عنها بطرق مختلفة، لافتًا إلى أنني صرتُ في «سجن الصحراء» أكتب بتدفق أكبر من السابق.

لم أكن مغتبطًا بهذه الملاحظة، لكنني كنتُ قلقًا لما يمكن أن يؤدي إليه مثل هذا التدفق.

لقد كنتُ في حمأة المرض، بجانب ظروف السجن، لكن كما لو أنني أتلذذ – بلا مازوشية - لكون الشعر ينهمر. وكلما زاد وجعي توهجتُ في الكتابة. لذلك أعتقد بأن الظروف غير المواتية للحياة، ستكون، على الأرجح، مواتية للكتابة. وسأكون مجنونًا لطيفًا إذا قلت: ما دمتُ أكتب شعرًا جديدًا في العذاب، من المستحسن أن أموت. ولأن كل قصيدة هي هزيمة للموت كلما اقترب، سأكون قادرًا على مقاومة الموت.

٤٦

يمكننا أن نستخلص من هذه السياحة الشعرية - النقدية بعضَ ما يمكن اعتباره الجوانب التي قد تميّز هذه المرحلة الفنية عن غيرها، وتعطيها شيئًا من التفرد. مثل:

القافية، وحدة القافية في أغلب قصائد هذه المرحلة.
بروز الصورة الشعرية، بوصفها أداةً تتطور، وتساعد في بلورة مفهوم البناء الفني للقصيدة.
الإيقاع الثاني، أو ما يمكن تسميته، تجاوزًا، بالقافية الداخلية، التي خلقتْ هارمونية جديدة بالنسبة لتجربتي الشعرية.
الشكل المختلف، والمغاير في كل قصيدة من قصائد هذه المرحلة، بحيث تبدو كل تجربة قد اتخذت بنية فنية تختلف، بوضوح، عن القصائد الأخرى.
التدفق المتصل في فترة زمنية غير متقطعة شملت كل القصائد. وهذه من الملامح غير المألوفة، كما سبق أن قلت، بالنسبة لي في تجربة الكتابة الشعرية.
بالطبع، هذه الملامح عندما أشير إليها هنا، لا أهدف منها سوى إلى التسجيل النقدي، فإطلاق حكم قيمة فني لمجمل ما كتبتُ سيظل سلوكًا ذاتيًّا يصعب الزعم بصوابيّته، عندما يتعلق الأمر بالنقد التقني للشعر، خصوصًا وأن ما أتكلم عنه يظل تجربة في طور الاكتمال، إلى أن يأتي النقد.

٤٧

في الفترة ما بين كانون الأول/ ديسمبر ١٩٧٧ ونيسان/ أبريل ١٩٨٧، كتبتُ أكبر عدد من القصائد، قياسًا بأي مرحلة زمنية تفصل بين القصيدة والأخرى. وكان قلقي الشديد الذي يؤرّقني يتمثل في خوفي من هذا البركان المتفجر، حيث لم يكن بإمكاني إيقافه، فكل ما استطعت فعله هو أنني تخلصتُ من بعض المحاولات التي كانت تسهرني في بعض الليالي لفرط الأرق، فألجأ إلى تمزيق الورق في الصباح.

ثم أتجاهل الأمر كليًّا.

يرافقني طوال الفترة شعورٌ بأن هذه القصيدة ستكون قصيدتي الأخيرة.

حسنًا،

هذا ما يحدث لكل شاعر، كما قلنا.

أعرف، لكن أحيانًا أكاد ألمس أطراف قوة غامضة تقف بجانبي، وتكتب القصائد معي. وهذا الشعور الغريب، اللذيذ، يذكرني بماياكوفسكي حين قال مرة في واحدة من أمسياته: أشعر بأن هذه هي إحدى لياليّ الأخيرة. لقد كان يعرف جيدًا ماذا يقول.

بالطبع لستُ ماياكوفسكي، لكن المجهول بالنسبة للشاعر، يعتبر حياةً مكتنزةً لفنّه وفعاليته الإنسانية والشعرية، حيث يتحول المجهول إلى طاقة أسطورية غامضة كالشغف والألق والأفق.

أذكر مقطعًا من المشاريع الشعرية الغامضة التي مزّقتُها ذات صباح:

سأقول لليل استفِق

وأقول للشمس استديري

وانطلِق يا صوتي المصهور

واصهل واصطخب واصرخ

وكن كالطير في الأمواج

والبس تاجك الوهاج

واضرِب في حدود الأرض

منتعلاً بروق الرفض

ذُبْ في الريح

قلْ للريح: لا تثقي

أنا عصفٌ

وذُب في البحر

قُل للبحر: يا موج الليالي السود خلّي النوم

وانطلقي.

غير أنني لم أترك للقصيدة مجالاً للانطلاق.

٤٨

أعرف كم هي مريرة هذه السياحة النقدية في التجربة الشعرية. وهي مريرة أكثر مما تبدو هنا، إنني أشعر بقصوري في التعبير عما يعتمل داخلي. لقد قلتُ منذ البدء إنه عالم معقّد، وقلت إنني سأحاول، وقلت إنه طريق محفوف بالمحاذير.

لذلك أرجو أنني لا أتسبب في إفساد متعة البعض بالشعر، فهذا الموضوع ليس دراسة نقدية، بالمعنى المألوف للنقد المنهجي، لكنه ضربٌ من الحوار الذاتي، المفكَّر به بصوتٍ عال، فربما جاء هذا النص كما لو أنه شريحة مقتطعة من داخل الشاعر.

لقد تعودتُ على ممارسة مثل هذا الحوارات، فنحن محرومون تقريبًا من فعالية النقد الأدبي، بالمعنى العميق للكلمة. نقدٌ يتناول أشعارنا بالجرأة الموضوعية. وأستطيع القول إنني منذ بدأتُ في نشر قصائدي، كنتُ أتطلع إلى القراءة النقدية الجريئة لكي أفرح بها، فغياب مثل هذا الحوار النقدي الجريء أمرٌ قد يهدد الشاعر بالموت أحيانًا. لذلك اعتدتُ أن أحاول إنقاذ نفسي من الموت بفصد السموم من دمي ذاتيًّا بين فترة وأخرى، بعمليات صارمة قاسية، لا تمثل هذه السطور إلا نموذجًا مكتوبًا منها.

كنتُ عازمًا على دخول الحوار منفردًا مع التجربة، فقلتُ لنفسي: لماذا لا أشرك القارئ معي في هذا الحوار، يؤنس وحشة الزنزانة، لعل الأمر يكون طريفًا ومشوقًا. وإن كنتُ لم أتخلص من الخشية، فرأي الشاعر في قصائده ليس بالضرورة سيعجب القارئ أو يتفق معه، فالجوانب التي تُعجب القارئ من المتوقع أن لا تعجب الشاعر، صاحب القصيدة. وهذا من شأنه أن يعرّض البعض للارتباك، بل ويدفعه إلى الشك أيضًا. لمَ لا، الشك يحْيي الشعر.

لكن لا بأس في ذلك.

قلت: سأخوض التجربة، فربما خلقتُ جسرًا جديدًا بين القارئ والقصيدة والشاعر، سعيًا نحو المزيد من الفعالية.

أنت كقارئ تعرف طريقًا نحو الشاعر، أما أنا فماذا أعرف من الطرق إليك؟

إذا كنتُ قد وقعتُ في قصورٍ من حيث توضيح ما أريد، فذلك لأنني أبدو عاجزًا عن التعبير. وحين يكون قد فاتني شيء، فذلك يعني أنني أصغرُ من مساحة الشعر. وعندما أكون قد سهوتُ عن الإشارة إلى نقطة من نقاط الضعف في قصيدتي، فإنما يدل ذلك على عدم أهليتي للقيام بدور الناقد.

٤٩

الآن،

أعتقد أنني بحاجة إلى أن أكتشف الصمت.

لقد أخبرني صديقي أن الصمت طاقة لم تُكتشف بعد. في حين أن مساحة الصمت بين التجربة الشعرية والأخرى تمثل صخبًا بالغ العمق والفعالية. لذلك فإنني أدخل في اكتشاف جماليات الصمت، وأقول مع سان جون بيرس:

خذيني أيتها اللذة في دروب كل بحر،

في ارتعاشة كل نسيم،

حيث تنشط اللحظة كعصفور يرتدي أجنحته،

سأمضي.

العدد ٣٢ - ٢٠٢١
«فتحتُ الشِّعر كي يطلّ الأطفال» ٢/٢

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.