العدد ٣٢ - ٢٠٢١

حق العودة ومنزلقات البحث العلمي المعاكِس

ترجمة رباب عبيد

 

“أريد أن أُعيد فلسطين إلى أرضنا”، هذا ما دوّنته الطفلة الفلسطينيّة ذات السنوات العشر في مخيّم شاتيلا على رسمها خلال ورشة عمل لمنظمة غير حكوميّة في لبنان. “بَدِّي أَرجّع فلسطين عا أرضنا”. حقق الرسم نجاحًا قياسيًّا. وحين سُئلت الفتاة عن مكان أرضها، أجابت بأن أرضها في المخيّم. هكذا أضحت علاقة الفلسطيني بالمخيم قصة تبدو وكأنها تنسف فكرة عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى فلسطين. وُضع الرسم في معرض وحاز على اهتمام به لذاته وطُبع على قمصان تي شيرت.

نال رسم لطفلة في العاشرة من العمر تقديرًا كبيرًا برغم افتقاره لأي قيمة فنية، ومثّل تعلُّقَ الفلسطينيين بمخيم شاتيلا وإرادتَهم البقاء فيه. وصار يُستحضر كلّما احتدمت قضية عودة اللاجئين، كأنما للقول بأن الفلسطينيين ينتمون إلى مخيماتهم وبأنهم يشعرون فيها بأنهم في ديارهم: «أرضنا بالمخيم».

حق العودة في انقلاب المعاني

بالطبع، لَفت الحدث الانتباه إلى المنظمة غير الحكومية التي استخدمتْه بدورها في كثير من مقترحات مشاريعها لتقول «إننا نقوم بأمر مختلف عن الباقين لأننا نفسح المجال للأولاد أن يقولوا ما يريدون وأن يعبّروا عن ذواتهم بحرّية من دون قيود، على عكس المنظمات غير الحكومية الأخرى التي تحاول تلقين الأولاد المبادئ التي تتماشى مع سياساتها»، بحسب تعبير أحد العاملين في المنظمة. هذا هو المصطلح المتكرّر: «نحن مختلفون عن الآخرين، ولا نفعل ما يفعلونه». ما أريدُ النظر فيه هنا يتعلق بالأبحاث عن حق العودة في لبنان (حق العودة من الآن فصاعدًا).

تبحث هذه الورقة في كيف أنّ حوافز وضغوط منح التعليم العالي واقتصاديات النشر يمكنها أن تكون معاكسة للسائد- وأقصد بذلك ما تفرضه من حاجة مستمرة إلى استنباط أفكار وحجج جديدة خدمةً للريادة في الأعمال- فتؤثّر في الطريقة التي يُدرس بها حق العودة ويُفهم في لبنان. سأسمّي الباحثين «رائدات وروّاد الأعمال المعاكِسات والمعاكِسين»، وأبيّن كيف أن الاقتصاد السياسي للأبحاث الأكاديمية يؤثّر في دراسة النضال في سبيل العودة.

المفارقة في الأمر أن الكَمّ المبالغ فيه من الأبحاث العلمية عن الفلسطينيين بلبنان يرتبط بحق العودة. أصبح مخيم شاتيلا معروفًا كموقع لدراسة اللاجئين بسبب تضافر عوامل مختلفة خلال التسعينيات. أدّت انطلاقة «عملية السلام» إلى تصنيف اللاجئين كموضوع يتعلق بالوضع النهائي من تنفيذ «اتفاق أوسلو». وكنتيجة لذلك، تأجل أي اتفاق حول وضعهم إلى أجل غير مسمّى.

شهدت تلك الفترة أزمة اقتصادية؛ وساهم النقص في الوظائف، إضافةً إلى إطلاق قروض التعليم، في ازدياد كبير في أعداد الطلاب الذين التحقوا ببرامج الدكتوراه في الولايات المتحدة وأماكن أخرى. ولقد ألهمت «حركة العودة» خلال التسعينيات العديد من أولئك الطلاب فعادوا لإجراء دراساتهم عن اللاجئين.

وشهدت التسعينيات أيضًا نقاشًا حادًّا في لبنان حول الحقوق المدنية للفلسطينيين. كان موقف السلطات اللبنانية على الدوام أن منح أي حقوق مدنية للّاجئين الفلسطينيين سوف يؤدي إلى التوطين. وهو الفزاعة التي سوف ترفع باستمرار متذرّعةً بما ورد في الدستور من رفضٍ للتوطين.

بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر ٢٠٠١ خبا هذا الضجيج الإعلامي، وبدأ الباحثون إعادة قراءة حق العودة والقضايا المتعلقة بالتواجد الفلسطيني في لبنان. في تلك الفترة كان نقد ما بعد الكولونيالية للقوميّة وللنضالات الوطنية في أوجّه. إضافة إلى ذلك، ونظرًا إلى التضخم البحثي خلال الفترة السابقة، اضطر الباحثون إلى إيجاد طرق جديدة لتمييز أبحاثهم، ومحاولة العثور على ثغرات جديدة في الأدبيات المتداولة، واختبار أطر علمية جديدة في عملهم الميداني. فبدل أن يكونوا سكانًا مهجّرين يواجهون التمييز ضدّهم في الدولة المُضيفة، فيما هم يناضلون من أجل العودة إلى وطنهم، أضحى الفلسطينيون في أوائل الألفية الثانية بحاجة إلى من يخلّصهم من هويتهم الفلسطينية ويعيد رواية قصتهم بما هي سرديّة أناس يريدون العيش حيث هم والانتماء إلى ذلك المكان. «لا يمكن للّاجئين أن يتحملوا عبء حق العودة ولا عبء النضالات الفلسطينية»، حسب تعبير أحد الباحثين.

وبالطبع، بينما لا يجوز اختزال الفلسطينيين أو حصرهم بفلسطينيّتهم، هنالك قضايا سياسية وأخلاقية يُفترض أن تُطرح حول الطريقة التي بها نجرّدهم من فلسطينيتهم، مهما تمّت تورية ذلك بلغةٍ بحثية إنسانوية لا تسعى إلا إلى أن تعيد للفلسطينيين إنسانيتهم كأفراد.

بالإضافة إلى المنظمات غير الحكومية التي تحاول تفصيل خطابها على مقاس المموّلين، فإن انبهار الأكاديميين بما هو جديد ومختلف قاد بعضهم إلى إخراج الخطاب عن حق العودة من سياقه وإسباغ تفسير واحد عليه، والتشكيك بالتالي في نوايا الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم. وفي ما يلي أمثلة ثلاثة على ذلك.

حق العودة والحقوق المدنية

المسار الأول الذي سأتناوله هو المنزلقات التي تصاحب عزل حق العودة عن الحقوق المدنية. في لبنان أُفرغ حق العودة كشعار من مضمونه، وذلك عن طريق بطله الأول، «منظمة التحرير الفلسطينية» التي أدارت ظهرها كليًّا للفلسطينيين. المسار الثاني يتعلق بالبطل الثاني لحق العودة، الدولة اللبنانية، وهي مسؤولة عن التمييز القانوني الممنهج ضد الفلسطينيين ومعاملتهم كتهديدات أمنية محتملة وكمسبّبين للحرب الأهلية. في الواقع، كلّما ازدادت مناهضة سياسيين لبنانيين للفلسطينيين (على سبيل المثال ميشال عون والتيار الوطني الحر وحزبا الكتائب والقوات اللبنانية) ازداد احتمال أن يدافع هؤلاء عن حق العودة من أجل إخراج الفلسطينيين من لبنان.

يلخّص حازم جمجوم معضلة حق العودة في لبنان ببراعة في قوله: «كمطلب شعبي سياسي، يتّخذ حق العودة صفتين، فمن جهة هو حلم طال أمده وهو إصلاح لأذى جماعي من تهجير ومنفى، ومن جهة أخرى فالمطالبة به علنًا تضعك في صف الفاشيين الذين يريدون ذهابك ويحاربون بكل ما يملكون من قوة لحرمانك من حقوقك المدنية. وعلى صعيد ثالث، هناك مطالبة شعبية بالعودة، إذ منذ اتفاقية أوسلو وقيادة «التحرير» الفلسطينية قد غسلت يديها تقريبًا من حق العودة».

برغم كل هذه التعقيدات المتعلقة بحق العودة، ما زال العديد من الأكاديميين يجدون في إعلان الفلسطينيين عن هذا الحق بوصفه من أولويات حقوقهم المدنية على أنه مدخل للمحاججة، بأنه لا ينبغي أن نحصر دراسة وضع الفلسطينيين بالنضال الوطني والهوية الوطنية. فتجدهم يستحضرون اقتباسات مأخوذة من مسيرات حول الحقوق المدنية أعلن خلالها الفلسطينيون بطريقة أو بأخرى أنهم لا يريدون حق العودة. وإذ نضع الأمور في هذا السياق، يتبيّن أن الفلسطينيين الذين يتكلمون وكأنهم ضد حق العودة خلال التظاهرات المطالبة بحقوقهم المدنية، ربما كانوا يعلنون الصرخة ضد ربط الحكومة اللبنانية الحقوق المدنية بحق العودة. وقد تكون تلك طريقة للإضاءة على أهمية الحقوق المدنية بالنسبة لهم أكثر مما هي استنكار علني لِحق العودة، ناهيك عن الإعلان عن التخلّي عنه.

ربما كان إخراج هذه الأقوال من سياقها لغرض «تحرير» الدراسات الفلسطينية والفلسطينيين أنفسهم من النضال ومن «ظلم» اختزالهم إلى مقاتلين في سبيل الحرية، والمناظرة في الحاجة إلى التركيز على الأمور اليومية، تشكل هي ذاتها طريقة أخرى لاضطهاد الفلسطينيين، لأنها تسلبهم حق الاختيار والحق في تقرير الكيفية التي يُفتَرض بها دراسة أوضاعهم أو تصوير حياتهم كأفراد في المخيمات. يقول بعض الباحثين بأن هذا أمر «أخلاقي»، لكن الأخلاق هنا تلغي السياسة.

القول العام والقول الخاص

الأمر الآخر الذي سأسلّط الضوء عليه هو الكتابات عن الخاص في مقابل العامّ، وكيف أن ما يقوله الفلسطينيون في العلن عن حق العودة يختلف عما يقولونه في مجالسهم الخاصة. ويُعزى ذلك إلى اضطرار الفلسطينيين للالتزام بخطاب يبيّن فلسطينيتهم في العلن خوفًا من رفض مجتمعاتهم لهم، أو رفض الأحزاب السياسية في المخيمات، أو النظر إليهم كخوَنة. لذلك وجب التأنّي دومًا بفهم ما نسمعه من الفلسطينيين في المجال العام، إذ هو نوع من الأداء الاجتماعي، أداء لإظهار هويتهم كفلسطينيين ينتمون إلى كيان جمعي ومحرومين من فرديّتهم، وذلك في سياق تُشكّل فيه هويتُهم الوطنية ضغطًا عليهم.

من القصص التي تُروى لتبيان هذه الازدواجية قصةُ الرجل العجوز الذي يبشّر دومًا في العلن أمام الصحافيين والباحثين بالعودة ويعبّر عن حنينه لفلسطين ولقريته، كما يعبِّر باستمرار عن استعداده لفعل أي شيء ليرى قريته من جديد. حصل أفراد عائلته على جواز سفر أوروبي وتمكن أحدُ أبنائه من زيارة القرية التي أُجبِرت عائلته على النزوح منها عام ١٩٤٨ على يد القوات الصهيونية. وحين عاد وأراد أن يُري والده الصوَر، وجد أن الرجل الثمانيني لم يرِد حتى النظر إلى صور قريته، رافضًا رفضًا قاطعًا أن يعاينها. كانت غاية الباحث من تكرار سرد هذه القصة تأكيدَ الحاجة إلى التنبّه إلى أداء الجيل الأكبر سنًّا من الفلسطينيين لأنهم اعتادوا تمثيل فلسطينيتهم المطالِبة بحق العودة.

يمكن طرح أسئلة كثيرة هنا حول إعطاء تفسير وحيد لتصرّف الوالد، وحول التحليل القائم على ثنائية العام والخاص والطرق التي يتعلم بها الفلسطينيون أداء هويتهم الوطنية علنًا، الأمر الذي لا يفعلونه على المستوى الخاص. يمكننا أن نعزو رفض الوالد مشاهدة الصور إلى حقيقة أنه قد تكون لمشاهدتها وطأة شديدة يصعب عليه احتمالها، أو ربّما لا يريد مشاهدتها لأنه يريد الاحتفاظ بالمشاهد في ذهنه كما عرفها حين ترك المكان. هل من غير المعقول أن يريد رجل في الثمانين تلافي نكء جراح تهجيره القسري بالنظر إلى صور موقع تلك الصدمة؟ وربما يخاف النظر إلى الصورة، الأمر الذي يمكن تفسيره بأنه تزكية لزيارة ذاك الفرد من عائلته إسرائيلَ التي يعتبرها الكثير من العرب، وليس الفلسطينيون وحدهم، بمثابة تطبيع مع احتلال فلسطين. أو لعلّ العودة إلى قرية ما زالت تحت الاحتلال، وبإذن من القوات العسكرية التي تحتلّها، لمجرد تصوير بعض اللقطات الفوتوغرافية، ومن ثم مغادرتها مجددًا، لا تمثِّل العودة التي ينشدها الأب، حتى في «أدائه» المُعلَن.

بالنظر إلى كل تلك الاحتمالات ذات الصلة الوثيقة والقابلة لتفهّم رفض العجوز مشاهدة الصور، لماذا تحوّل فعل الرفض هذا إلى نقاش مبالغ فيه عن ازدواجية في النّفْس الفلسطينية تؤدي دورًا في المجال العام يطالب بالعودة، ما يتناقض بشكل صارخ مع رفض داخلي وشخصي لتلك العودة؟

إضافة إلى ذلك، تستدعي المحوريّةُ المعطاة لازدواجية العام والخاص في هذا النوع من النقاش مزيدًا من التدقيق. أين هو المجال الخاص في تلك اللحظة التي رفض فيها الرجل المسنّ النظر إلى صور قريته المدمرة والتي اقتُلع أهلها منها؟ لم تذكر القصة من كان حاضرًا أيضًا في الغرفة، عِلمًا أنّ عودة فرد من العائلة بعد طول غياب من المفترض أن تشكّل مناسبة عائلية، وبإمكاننا تخيّل انتقاء هذا الفرد لحظة اجتماع العائلة لإبراز هذه الصور الثمينة، كما يمكننا تخيّل ردّة الفعل التي يمكن أن تتأتّى عن مشاهدتها، مع العلم بأنّ هذه التوقعات قد أطاح بها رفضُ الوالد. أين يكمن المجال الخاص هنا؟ هل غياب الصحافيين والباحثين يجعل من هذا الحدث حدثًا خاصًّا؟ وهل وجود الشاهد الغربي هو فقط ما يولّد المجال العام؟

سنعود ونأخذ شاتيلا معنا

هنالك مجموعة ثالثة من الكتابات ترتبط بالأبحاث عن الهوية الفلسطينية والتوق إلى الوطن. الشعور بالانتماء والتوق إلى الوطن أصبح مهمًّا في الأبحاث حول الهجرة. أين هو الوطن، وماذا يعني الوطن؟ إلخ. أودّ مقاربة هذا التيار من الكتابات ذات الصلة ومنزلقاتها من خلال قصة خَبِرتها.

كان ذلك عام ٢٠٠٠ وقت رحلة لنا إلى الحدود بعد تحرير الجنوب. كنت مع مجموعة من المراهقين من مخيم شاتيلا حيث كنت أعمل لفترة. نما لديهم شعور قوي بالانتماء للمجموعة، وقد ترسخت هذه الروابط القوية من خلال لقاءاتنا اليومية. كانت حماسة التلاميذ عارمة لأنهم ذاهبون «لمشاهدة فلسطين» عبر الحدود. وكان يومًا حافلاً بالمشاعر. حين وصلنا إلى الحدود كان هناك فلسطينيون من قرى على الجانب الآخر من سياج الأسلاك الشائكة، وعبر هذا السياج راح أولئك الذين تجمهروا عند الحدود يسألون بعضهم البعض شتّى أنواع الأسئلة ويتبادلون الحكايات والضحكات والدموع. وتجدر الإضاءة على أن المراهقين حملوا معهم حفنات تراب جُمعَت من فلسطين إلى المخيم. في طريق العودة، فجأةً طرحت فتاةٌ سؤالاً: ماذا سيحدث لو عدنا جميعًا إلى فلسطين؟ هل سيذهب كل منا إلى قريته!؟ دفعها التنافر في هذه الفكرة إلى التمعن في الخارطة لمعرفة مَن مِن الآخرين سيكون قريبًا منها، فقد كانت من ديشوم. ساد الصمت، وبعدها صرخ أحدهم من الجزء الخلفي للحافلة قائلاً: لا تخافوا، سنشيّد قرية في فلسطين ونسمّيها شاتيلا، هكذا نستطيع البقاء معًا!

بالنسبة لباحث من النوعية التي أتناولها في هذه الدراسة، العبرة من لحظات كهذه ستكون بالطبع الزعم أنه حين يواجه هؤلاء المراهقون الفلسطينيون العودةَ كحقيقة محتملة سوف لن يريدوا العودة لأنهم يجدون في مخيم شاتيلا موطنهم. أما بالنسبة إلينا، نحن ركاب الباص الواعين لأدقّ تفاصيل العلاقات في تلك المجموعة، فكان من الواضح أن هذه مجموعة من المراهقين قضوا معظم حياتهم معًا، تزاملوا في المدرسة وانعقدت بينهم صلات صداقة تشكّل محورًا لشعور كل منهم بالتوق إلى الوطن وبالانتماء. إلا أنّ الصداقة بين اللاجئين ليست موضوع دراسة في العادة، وهذه ليست دعوة لدراستها. رويت القصة مرارًا وتكرارًا للدلالة على الموقع الذي يشعر فيه أولئك المراهقون بأنهم في موطنهم، وفي جميع الأحوال تبقى مسألة الشعور بالانتماء للوطن معضلة وجودية لطبقة اجتماعية عالمية أكثر منها همًّا يؤرّق اللاجئين.

ومهما يكن من أمر، من الصعب جدًّا حرمان الناس الانتماء إلى حيث يسكنون، وهو المكان الوحيد الذي يعرفونه. يا له من اكتشاف أن الفلسطينيين في مخيم شاتيلا يحبون مخيمهم وينتمون إليه برغم أنهم يلعنونه ويعيشون حالة مستمرة من الثورة على أوضاعهم المزرية فيه. تكمن المشكلة في استغراب أن الذين عاشوا لفترة طويلة في مكان ما ينتمون إليه، فكأننا اكتشفنا للتوّ أن الفلسطينيين ينتمون إلى حيث يتواجدون، وإن لم يُذكر هذا في السابق، ربما لأنه أمر بديهي. بالإضافة إلى ذلك، لا يعني حق العودة أن على الجميع العودة إلى فلسطين، بل أنه حق قانوني مضمون في السياسة؛ هو حق في الاختيار ما بين البقاء في شاتيلا أو العودة. وإن الشعور بروابط الصداقة والانتماء، الذي يشدّ المرء إلى المخيم، لا يُبطل بذاته هذه الحقوق بأي شكل من الأشكال. لكن في بداية الأمر، لماذا اعتُبر ذلك اكتشافًا مذهلاً أصلاً؟ من المضحك أنّ حق العودة بالنسبة لمعظم الفلسطينيين في لبنان كان معطًى طبيعيًّا، بالكاد يعلم أي منهم بوجود قرار الأمم المتحدة رقم ١٩٤ لكنهم يفكرون بأنه حقهم الطبيعي، فإذا ما طردك أحدهم من بيتك، يحق لك استعادة بيتك، الأمر بهذه البساطة. لم يشعروا بحاجة إلى قرار من الأمم المتحدة أو محكمة العدل الدولية؛ إنها حقيقة تاريخية: أخرجوا من ديارهم وإليها سيعودون يومًا ما. الأمر بديهي.

أريد أن أختم بالعودة إلى النقطة التي بدأت منها: القلق حيال الضغوط والحوافز في الجامعات والمنظمات غير الحكومية لاعتماد نهج مناقِض، أي الحاجة الدائمة إلى قول شيء جديد ومختلف. وأظن أنه إذا ما فكّرنا بهذا الموضوع بإمكاننا جميعًا إيجاد أمثلة كثيرة على هذه الضغوط والحوافز في محيط عملنا. ما أريد طرحه هنا أنّ اعتماد الاتجاه المناقض ليس دومًا مؤذيًا ولا هو إشكالي، لكن يمكن أن يصير مؤذيًا أو إشكاليًّا حين يُعتمد من أجل أن يكون مناقضًا لذاته، أو من أجل الحصول على منحة مالية جديدة، أو في سبيل نشر مؤلف جديد، أو الاستحصال على موقع ما في جانب ما من حقل الدراسات ذات الصلة.

المؤكد أنه وُجد نمط بديل من التناقضيّة، وإني أحاجج في أهمية اعتماده في البحث والعمل المتعلق بفلسطين: إنه تناقضية يمكن تسميتها تناقضية نقدية، كما في أعمال لورا نادر. إنه فعل تناقضي يختلف عن الدراسات التناقضية على طريقة البزنس التي كنت أتناولها إلى الآن. في عملها النقدي الأخير عن تداخل الأكاديمي والسلطوي، تحاجج لورا نادر بأن عالم الأنثروبولوجيا التناقضي هو جهد نقدي يسعى إلى كشف كيفية تشكّل ذهنيات المهنيين وكيف تصير مهيمنة، وهو خطوة باتجاه الالتزام بالعدل لا بالتناغم، للمستضعفين، عن طريق دراسة القوة والسلطة («وبلا «لا سلم بلا عدالة» بلا بلّوط»!) ويتوجه هذا النقد إلى الزملاء في الأكاديميا لكي يكتشفوا كيف أنهم أنفسهم جزء من النظام الذي ينتقدونه في بعض الأحيان.

بينما تشتدّ قبضة «التمويل الخارجي» على العالم الأكاديمي، ويزداد تأثير المؤسسات المالية على البحث العلمي، ويضيق الخنّاق على الناشطين من أجل فلسطين، تتّضح الحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى أبحاث مناقِضة نقدية في الدراسات الفلسطينية، وإلى بحّاثة مناقضين نقديين يكتسبون الاحترام واسع النطاق من النزاهة والصدق ومن ازدياد نفورهم من السلطة.

العدد ٣٢ - ٢٠٢١

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.