خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، بدت النضالات من أجل «الاعتراف بالاختلاف» مشحونةً بوعد تحرّري. كثيرون من الذين التقوا تحت رايات الجنسانية والجندر والإثنية و«العِرق» لم يطمحوا فقط إلى توكيد هويّات لا تزال تعاني من الإهمال، وإنما أيضًا إلى إضافة بُعد جانبي أكثر ثراءً لمعارك إعادة توزيع الثروة والسلطة. عشية القرن الجديد، زادت مركزية مواضيع الاعتراف والهوية لكن العديد منها بات محمّلاً بمحمول مختلف: من راوندا إلى البلقان كانت مسائلُ الهوية تغذّي حملات التطهير العرقي إن لم نقُل حملات إبادة أجناس، التي حفّزت بدورها حركات مناوئة لها.
لم يتغيّر طابع النضالات فقط، تغيّر مستواها أيضًا. فمطالب الاعتراف بالاختلاف تُحرك الآن العديد من النزاعات الاجتماعية عبر العالم: الحملات من أجل السيادة الوطنية والحكم الذاتي للجماعات ما دون وطنية، ومعارك التعددية الثقافية، والحركات التي زخمت حديثًا من أجل حقوق الإنسان على النطاق الدولي، وهي الساعية إلى الترويج للاحترام الكوني للإنسانية المشتركة والتمايز الثقافي في آنٍ معًا. وقد غلبت حركات الاعتراف تلك داخل الحركات الاجتماعية مثل الحركات النسوية التي كانت سابقًا في صدارة إعادة توزيع الموارد. بالتأكيد، فإن هذه النضالات تغطّي مروحة واسعة من التطلّعات، من التطلعات التحررية الصرفة إلى تلك التي تستدعي الإدانة الحاسمة (ولعلّ معظمها يقع في منزلة بين المنزلتين). ورغم ذلك، فإنّ اللجوء إلى لغة مشتركة يستحقّ النظر فيه. لماذا اليوم- بعد انهيار الشيوعية من النمط السوفييتي وتسارع وتيرة العولمة- يتّخذ مثل هذا العدد الكبير من النزاعات هذا الشكل؟ لماذا تُغلّف العديدُ من الحركات أهدافَها بمصطلح «الاعتراف»؟
إنّ طرح هذا السؤال يعني أيضًا ملاحظة التراجع في المطالبات بإعادة التوزيع ذات الطابع المساواتي. إنّ لغة التوزيع أقل بروزًا في أيامنا هذه بعدما كانت اللغةَ المهيمنة على الاحتجاج السياسي في وقتٍ مضى. المؤكد أنّ الحركات التي تجرأت على المطالبة سابقًا بحصة من الموارد والثروة، لم تختفِ كليًّا. لكن تقلّص دورها كثيرًا تحت وطأة الهجوم النيوليبرالي الحثيث والمتكلّف ضد نزعة المساواة، وغياب أي نموذج ناجع لـ«اشتراكية قابلة للتحقيق» ووسط الشكوك واسعة الانتشار في جدوى كينزية الدولة التي تعتمدها الاشتراكية الديموقراطية في وجه العولمة.
إننا نواجه إذًا كائنات جديدة في لغة التعبير عن المطالب السياسية وهي مثيرةٌ للقلق لاعتبارين اثنين. الأول، هو أن النقلة من إعادة التوزيع إلى الاعتراف تتم بالرغم من تسارع العولمة الاقتصادية، أو أنها تتم بسببها، في وقتٍ تُفاقم فيه رأسماليةٌ عدوانيةٌ توسعيةٌ الفوارقَ الاقتصادية على نحو جذري. في هذا الصدد، فإن مسائل الاعتراف لا تخدم في تدعيم وتعقيد وإثراء نضالات إعادة التوزيع قدر ما تخدم في تهميشها وحجبها وانزياحها. سوف أسمّي هذه المشكلة «مشكلة الانزياح». الاعتبار الثاني: تجري نضالات الاعتراف في لحظة من التنامي العظيم للتفاعل والتواصل العابر للثقافات، حيث الهجرات المتسارعة ووسائل الإعلام الكونية قد ضاعفت عدد الأشكال الثقافية وزادت في تهجينها. على أنّ السبل التي تسلكها تلك النضالات لا تخدم الترويج للتفاعل اللائق بين أطر ثقافية تتكاثر عددًا، وإنما تخدم في التبسيط المروّع للهويات الجماعية وفي تشييئها. فتسعى إلى تشجيع الانفصال والتزمّت والشوفينية والبطريركية والتسلّط. وسأسمّي هذه المشكلة «مشكلة التشييء».
تتساوى مشكلتا الإزاحة والتشييء في خطورتهما البالغة، فبالقدر الذي تتولّى فيه سياسات الاعتراف إزاحة سياسات إعادة التوزيع، فإنها قابلة لأن تفاقِم بذلك من اللامساواة الاقتصادية. وبالقدر الذي تتشيّأ فيه الهويات الجمعية، فإنها تهدد بخطر تكريس التعدّيات على حقوق الإنسان وتجميد التناقضات ذاتها التي تزعم أنها تتوسّط بينها. فلا عجب إذًا أن يغسل العديد أيديهم من «سياسات الهوية» أو أن يقترحوا التخلّص من النضالات الثقافية بالجملة. قد يعني ذلك لبعضهم إعادة الاعتبار للطبقة على حساب الجندر والجنس و«العرق» والإثنية. وقد يعني لبعض آخر إحياء النزعة الاقتصادوية. وقد يدفع ذلك آخرين إلى رفض كل المطالب «الأقلويّة» بالجملة والإصرار على الاندماج حسب القواعد التي تفرضها الأكثرية باسم العلمانية والكونية والمبادئ الجمهورية.
يمكننا أن نتفهّم ردود الأفعال تلك. ولكنها في خطل عظيم أيضًا. ليست كل سياسات الاعتراف مضرّة، فبعضها يمثّل ردود أفعال تحررية حقّة على مظالم خطيرة لا يمكن معالجتها بواسطة إعادة التوزيع وحدها. ثم إنّ الثقافة ميدان شرعي، بل ضروري، للنضال، إنها ميدان مظالم بذاتها ولكنها تتداخل بالعمق مع اللامساواة الاقتصادية. إذا ما أدركنا نضالات الاعتراف بطريقة سليمة، يمكنها أن تساعد على إعادة توزيع السلطة والثروة وعلى تشجيع التفاعل والتعاون في ما يتجاوز نواقص الاختلاف.
كل شيء يتوقف على كيفية مقاربة الاعتراف. أريد المحاجة هنا بأننا في حاجة إلى طريقة لإعادة التفكير في سياسة الاعتراف بطريقة تسمح بحلّ مشكلات الانزياح والتشييء أو بالتخفيف منها على الأقلّ. هذا يعني البلورة النظرية للنضالات من أجل الاعتراف بحيث يمكن دمجها في النضالات من أجل إعادة التوزيع، بدلاً من إزاحتها وتخريبها. وهذا يعني أيضًا تنمية رصيد للاعتراف يتّسع لكلّ تعقيد الهويات المجتمعية، بدلاً من رصيد يروّج للتشييء والنزعة الانفصالية. وإني أقترح في ما يلي طريقةً في إعادة التفكير بالاعتراف.
النموذج الهويّاتي
تبدأ المقاربة المألوفة لسياسة الاعتراف- التي سأسمّيها «النموذج الهوياتي»- من الفكرة الهيغلية التي تقول بأنّ الهوية تُبنى بالحوار من خلال عملية اعترافٍ متبادل. يعيّن الاعترافُ عند هيغل علاقةَ تبادلٍ مثالية بين فاعلَين، يرى كلّ واحدٍ إلى الآخر على أنه مساوٍ له ومنفصل عنه في آنٍ معًا. وهذه العلاقة عنصر مكوّن للذاتية: يصير المرء ذاتًا فردية فقط بفضل الاعتراف، وبفضل أن تعترف به ذاتٌ أخرى. من هنا إنّ اعتراف الآخرين جوهري لتنمية الإحساس بالأنويّة. أن تُحرَم من الاعتراف- أو أن «يساء الاعتراف بك»- يعني أن تعاني من تشويهٍ في علاقتك بذاتك وأن تصاب بجرح في هويتك.
ينقل دعاة النموذج الهوياتي صيغة الاعتراف الهيغلية إلى الميدان الثقافي والسياسي. يزعمون أنّ الانتماء إلى جماعة تبخِس الثقافة المسيطرة من قيمتها يعني إساءة الاعتراف بها، ومعاناتها من تشوّه في علاقتها بذاتها. ونتيجة تكرار المجابهات مع النظرة التعييريّة الصادرة عن الآخر المسيطِر ثقافيًّا، يستبطن أفرادُ الجماعة المعيّرة صورًا ذاتية سلبية عن ذواتهم ويحرمون من تنمية هوية ثقافية صحيّة بجهودهم الذاتية. وفق هذا المنظار، تهدف سياسات الاعتراف إلى إصلاح هذا الانزياح الذاتي بأن تضع موضع تساؤل صورة الجماعة كما تظهر في عين الثقافة السائدة. وتقترح على أعضاء الجماعات مبخوسة القيمة أن ترفض تلك الصورة لصالح تصوّراتٍ ذاتية جديدة من صُنعها هي، فتنبذ الهويات المستبطَنة والسلبية وتتكتّل جماعيًّا لإنتاج ثقافة خاصة بها تفرض نفسَها بنفسها لكسب الاحترام والتقدير من المجتمع ككلّ وقد تجهّزت بتلك الثقافة. والحصيلة، عندما تكون ناجحة، هي «الاعتراف»، أي العلاقة غير المشوّهة بالذات.
ما من شك في أنّ نموذج الهوية هذا يحتوي على بعض النظرات النافذة إلى الآثار النفسانية للعنصرية والتمييز الجندري والاستعمار والإمبريالية الثقافية. غير أنه نموذج إشكالي نظريًّا وسياسيًّا، فهو إذ يساوي بين سياسات الاعتراف وسياسات الهوية، يشجّع على تشييء الهويات الجماعية وعلى إزاحة إعادة التوزيع.
استبعاد إعادة التوزيع
لننظر أوّلاً في الطرائق التي تتّجه بها سياسات الهوية إلى أن تحلّ محلّ النضالات من أجل إعادة التوزيع. بسبب التزامه الصمت المطبق إلى حدٍّ كبيرٍ على موضوع اللامساواة الاقتصادية، يعالج نموذجُ الهوية عدمَ الاعتراف على أنه أذًى ثقافي قائم بذاته: يتجاهل العديدُ من دعاته الظلمَ في التوزيع ببساطة وبالجملة، ويركّزون حصرًا على الجهود المبذولة لتغيير الثقافة. فيما يدرك آخرون، في المقابل، جدّية سوء التوزيع ويرغبون بصدقٍ في تصحيحه، ومع ذلك فالتيّاران ينتهيان باستبعاد مطالب إعادة التوزيع.
يتّهم التيار الأوّل عدمَ الاعتراف بأنه مشكلة تبخيسٍ ثقافي. فجذور الظلم موجودة في التصورات التحقيرية، لكن هذه لا يُنظر إليها على أنها ذات أرضية اجتماعية. فأصل المشكلة في نظر هذا التيار هو الخطابات الطائشة وليس الدلالات والقواعد الممأسسة. وإذ يجسّد الطرفان الثقافة، يجرّدان عدم الاعتراف من أرضيّته المؤسساتية وينشران الغموض على تقاطعه مع الظلم التوزيعي. فقد يتغافلون مثلاً عن الروابط (الممأسسة في أسواق العمل) بين مقاييسَ ذكورية تبخّس من النشاطات المسمّاة «أنثوية» من جهة وبين الأجور المنخفضة للنساء العاملات من جهة أخرى. وهم يتغافلون بالمثْل عن الروابط الممأسسة داخل أنظمة الرعاية الاجتماعية بين المقاييس التي تجرّم المِثلية من جهة وبين إنكار موارد وميزات المِثليين والمثليات. وإذ يخلطون تلك الروابط، يجرّدون عدم الاعتراف من جذوره المجتمعية البنيوية ويساوون بينه وبين الهوية المشوّهة. وإذ تُختزل سياسات الاعتراف إلى سياسات هوية، تجري إزاحة سياسات إعادة التوزيع.
أما التيار الثاني من تيّارات سياسات الهوية فلا يكتفي بمجرّد تجاهل سوء التوزيع بهذه الطريقة. إنه يعترف بأنّ المظالم الثقافية غالبًا ما تكون مرتبطة بالمظالم الاقتصادية، لكنه يسيء فهم طبيعة تلك الروابط. ونظرًا لالتزام دعاة هذه النظرة الصارم بالنظرية «الثقافوية» للمجتمع المعاصر، يفترضون أنّ سوء التوزيع إن هو إلا أثرٌ ثانوي من آثار عدم الاعتراف. يرون إلى الفوارق الاقتصادية على أنها مجرد تعبير عن تراتبات ثقافية، وهكذا يصير الاضطهاد الطبقي أثرًا فوقيًّا لتبخيس قيمة الهوية الثقافية للبروليتاريا (أو لـ«الطبقية»، كما يقال في الولايات المتحدة). فينتج من هذه النظرة أنه يمكن معالجة كل سوء إعادة توزيع بطريقةٍ غير مباشرة من خلال سياسة اعتراف: أي أنّ إعادة الاعتبار للهويات المحرومة ظلمًا تعني في الآن ذاته التصدي للموارد العميقة للامساواة، فلا حاجة بالتالي لسياسات إعادة توزيعٍ معلنة.
بهذه الطريقة يكرّر دعاة سياسات الهوية الثقافويون ادعاءات شكلٍ سابق من أشكال الاقتصادوية الماركسية المبتذلة، فيسمحون لسياسات الاعتراف بأن تزيح سياسات سوء التوزيع، مثلما سمحت الماركسية المبتذلة ذات مرة لسياسات إعادة التوزيع بأن تزيح سياسات الاعتراف. والواقع أنّ الثقافوية المبتذلة ليست أكثر ملاءمةً لفهم المجتمع المعاصر ممّا كانتْه الاقتصادوية المبتذلة.
الأكيد، قد يكون للثقافوية معنًى إذا كان المرء يعيش في مجتمعٍ لا توجد فيه أسواق تتمتّع باستقلال ذاتي نسبي، ولا تُدار ترسيمات القيمة الثقافية وفق علاقات الاعتراف وحدها وإنما بناءً على علاقات إعادة التوزيع أيضًا. في ذاك المجتمع، تنصهر اللامساواة الاقتصادية مع التراتب الثقافي بلا أي نتوءات، فيترجم تبخيس الهوية ترجمةً كاملةً ومباشرةً إلى الظلم الاقتصادي، ويقود عدمُ الاعتراف مباشرةً إلى سوء التوزيع الاجتماعي. ويمكن بالتالي معالجة شكلَي الظُلم بضربة واحدة، فإذا نجحت سياسة الاعتراف في معالجة عدم الاعتراف تكون قد تصدّت لسوء التوزيع في الآن ذاته. إنّ فكرة مجتمع «ثقافي» صافٍ لا علاقات اقتصادية فيه قد تكون فكرة ساحرة بالنسبة لأجيال من الانثروبولوجيين، لكنها بعيدة كل البعد عن الواقع الراهن، ذلك أن الاقتصاديات السوقية قد اخترقت كل المجتمعات، بهذه الدرجة أو تلك، الأمر الذي أدّى على الأقلّ إلى فصلٍ ولو كان جزئيًا لآليّات التوزيع الاجتماعي عن أنساق القيمة والهَيبة الثقافيتين. والأسواق المستقلّة نسبيًّا عن تلك الأنساق، تتبع منطقها الخاصَّ، فلا هي مقيّدة كليًّا بالثقافة ولا خاضعة لها؛ والحصيلة أنها تنتج مظالمَ اقتصادية ليست مجرد تعبيرات عن مراتب الهوية. في مثل تلك الظروف، الفكرة القائلة إنه يمكن للمرء أن يصحّح كل أنواع سوء التوزيع من خلال سياسة اعتراف فكرةٌ واهمةٌ كليًّا، لن تكون نتيجتها الصافية غير إزاحة النضالات من أجل العدالة الاقتصادية.
تشيّؤ الهوية
على أنّ الإزاحة ليست المشكلة الوحيدة. إنّ نموذج الاعتراف المحكوم بسياسات الهوية ينزع أيضًا إلى تشيئ الهوية. فهي في تشديدها على الحاجة لبلورة هوية جمعية أصيلة مستقلّة تمارس التأكيد الذاتي، والجَهر بها، تضغط معنويًّا على الأفراد لكي ينصاعوا إلى ثقافة جمعية معيّنة. ينجم عن ذلك تقييد التمرد والتجريب الثقافيين، هذا عندما لا يجري وصمهما بالخيانة. وينطبق الأمر نفسه على النقد الثقافي، بما فيه الجهود المبذولة لاستكشاف انقسامات بين الجماعات، مثل الانقسامات الجندرية والجنسية والطبقية. وهكذا فبدلاً عن الترحيب بالتدقيق في السلالات البطريركية في ثقافة خاضعة معيّنة، يتجه تيار النموذج الهوياتي إلى وصم مثل هذا النقد بأنه «غير أصيل». فإذا الأثر الإجمالي هو فرض هوية جمعية واحدة، تبسيطية على نحو كارثي، تنكر تعقيد حياة الناس، وتعدُّدَ أشكال تعريفهم لأنفسهم والتجاذبات المتبادلة بين انتماءاتهم المختلفة. والسخرية في الأمر، بالتالي، أنّ نموذج الهوية يخدم كواسطة لعدم الاعتراف: فتشييء الهوية الجمعية ينتهي إلى التعتيم على سياسات الهوية الثقافية، وعلى الصراعات داخل الجماعة على شرعية وسلطة تمثيلها. وهذه المقاربة، إذ تصرف النظر عن تلك الصراعات، تحجب سلطةَ الأجنحة المسيطرة وتعزّز السيطرة داخل المجموعات. وهكذا يخدم النموذج الهوياتي بسهولة فائقة الأشكال القمعية من الطائفية فيروّج للامتثال، والتعصّب والبطريركية.
والمفارقة هنا أنّ نموذج الهوية ينزع إلى إنكار مرتكزاته الهيغلية. فبعد أن يبدأ بالافتراض أنّ الهوية حوارية، ومؤسسة على التفاعل مع ذاتٍ أخرى، ينتهي إلى إعلاء قيمة المونولوجات، مفترضًا أنّ ضحايا عدم الاعتراف يمكن بل يجب أن يبنوا هويتهم بأنفسهم. وهو يفترض إلى ذلك بحقّ الجماعة في أن تفهَم وفقًا للشروط التي تضعها هي وحدها حصرًا- وأنّ ما من أحد مخوّل أن يرى إلى كائن آخر من منظار خارجي، في أي حال، أو أن يخالف الآخر بالكيفية التي يفسّر فيها الآخر ذاته. على أنّ هذا يجري أيضًا على عكس النظرة الحوارية ويجعل من الهوية الثقافية وصفًا ذاتيًّا منتجًا ذاتيًّا، يقدّمه المرء لآخرين بما هو ملاحظة عابرة. وإذ تسعى سياسات الهوية هذه إلى إعفاء التمثلات الذاتية الجَمعية «الأصيلة» من كافة التحديات الكامنة في الفضاء العام، نادرًا ما تشجّع على التفاعل المجتمعي العابر للاختلافات، بل تشجّع، على العكس من ذلك، على الانفصالية والتقوقع الجمعي.
إن نموذج الاعتراف الهوياتي، إذًا، مشروخ شرخًا عميقًا. إنه منقوص نظريًّا وإشكالي سياسيًّا، يساوي سياسات الاعتراف مع سياسات الهوية، وإذ يفعل ذلك، يشجع على تشييء الهويات الجمعية وإزاحة سياسات إعادة التوزيع.
عدم الاعتراف بما هو إخضاع لموقع
سأقترح في ما يلي مقاربة بديلة: إنها معالجة الاعتراف بما هو مسألة موقع اجتماعي. من هذا المنظار، يصير المطلوب الاعتراف به ليس الهوية الجمعية المخصوصة إنما موقع أعضاء الجماعة الأفراد بما هم شركاء كاملون في التفاعل المجتمعي. فلا يعود عدم الاعتراف يعني تبخيس الهوية الجمعية أو تشويهها، بل يكتسب معنى الإخضاع المجتمعي- أي منع مشاركة الأفراد كنُظراء في الحياة المجتمعية. على أن تقويم هذا الظلم لا يزال يتطلّب سياسة اعتراف، ولكن هذا لن يعود مختزلاً في منظور «نموذج الموقع» إلى مسألة هوية، بل يعني بالأحرى اعتماد سياسة هادفة إلى التغلب على الإخضاع من خلال تثبيت الطرف غير المعترف به بما هو عضو كامل العضوية في المجتمع قابل للمشاركة مع الآخرين على قدم المساواة.
اسمحوا لي أن أشرح ذلك. النظر إلى الاعتراف بما هو مسألة موقع يعني تفحّص الأنساق المؤسساتية للقيمة الثقافية بحثًا عن آثارها على المكانة النسبية للفاعلين المجتمعيين. فإذا ومتى اعترفت تلك الأنساق بالفاعلين بما هم أكفاء، قادرون على المشاركة على قدم المساواة في الحياة المجتمعية، إذذاك يمكننا الحديث عن اعترافٍ متبادل وعن مساواة في الموقع. وفي المقابل، حين يجري تعيين بعض الفاعلين على أنهم دونيون، ومستبعَدون، وغرباء كليًّا أو محتجبون ببساطة، وبعبارة أخرى، بما هم أقل من شركاء كاملين في التفاعل المجتمعي- إذذاك نستطيع الحديث عن عدم اعتراف وإخضاعٍ موقعي. من هذا المنظار، لا يكون عدم الاعتراف تشوّهًا نفسانيًّا ولا أذًى ثقافيًّا مجانيًّا إنما هو علاقة ممأسسة من الإخضاع المجتمعي. وبالتالي فعندما تكون عرضة لعدم الاعتراف، فهذا ليس مجرّد النظر إليك نظرة سوء، أو نظرة تعالٍ أو تبخيس في عين آخرين في المعتقدات أو التمثلات. الأحرى أنه إنكار لموقعك بما أنت شريك كامل في التفاعل المجتمعي، وفق أنساق ممأسسة من القيمة الثقافية تحرم المرء حقه في الاحترام أو التقدير قياسًا بالآخرين.
على أن عدم الاعتراف، من منظار نموذج الموقع، لا يتواصل من خلال تمثّلاتٍ أو خطابات ثقافية طافية بلا مرتكزات، إنه يتوالد، كما سبق، من خلال أنساق ممأسسة، بعبارةٍ أخرى من خلال آليّات تشغيل مؤسسات مجتمعية تنظّم التفاعل وفق معايير ثقافية عادمة للتكافؤ. قد تشتمل الأمثلة على قواعد الزواج التي تنبذ الشراكة المثلية على أنها غير شرعية وشاذة، وسياسات الخدمة الاجتماعي التي تصمُ الأمهات الوحيدات بأنهنّ طفيليات ومنحلّات جنسيًّا، كما تشمل ممارسات أمنية، مثل «الاشتباه بناءً على العرق»، تربط الأشخاص المحددين عرقيًّا بالميل إلى الإجرام. في كل واحدة من هذه الحالات، ينتظم التفاعل عن طريق نسَق مؤسساتي من القيمة الثقافية فتتشكل بموجبه بعض فئات الفاعلين المجتمعيين بما هم قياسيون فيما الآخرون ناقصون أو دونيّون: «المستقيم» طبيعي «المثلي» شاذ؛ «الأسَر ذات الرأس الذكوري» سليمة، «الأسر ذات الرأس الأنثوي» ليست كذلك، «البِيض» مطيعون للقانون، «السود» خطرون. في كل حالة من هذه الحالات، تكون النتيجة إنكار حق بعض أعضاء المجتمع في أن يكون لهم موقع الشركاء الكاملين في التفاعل والقدرة على المشاركة مع الباقين على قدم المساواة.
وكما يتبيّن من هذه الأمثلة، فإن عدم الاعتراف يمكن أن يتّخذ أشكالاً متنوعة. وفي مجتمعات اليوم المعقّدة والمتمايزة، نلقى أنّ القيَم المانعة للتكافؤ ممأسسة في عدد من المؤسسات وفق أنماط متباينة نوعيًّا بعضها عن بعض. في بعض الحالات، يكون عدم الاعتراف مكرّسًا جهارًا في قانون وضْعيّ؛ وفي حالات أخرى، ممأسسًا في سياسات حكومية، وقواعد إدارية أو ممارسات مهنية. ويمكنه أن يكون ممأسسًا على نحو غير رسمي، في أنماطٍ تشاركية، وأعراف عريقة أو رواسب ممارسات مجتمعية فاعلة في المجتمع المدني. ولكن مهما تكن الفوارق من حيث الشكل، يبقى جوهر الظلم واحدًا: ففي كل حالة، ثمة نسق قيمة ثقافية ممأسس يعيّن عددًا من الفاعلين المجتمعيين على أنهم أدنى من أعضاء كاملين في المجتمع ويمنعهم من المشاركة على قدم المساواة مع الآخرين.
في نموذج الموقع، إذًا، يشكّل عدم الاعتراف نوعًا من الإخضاع الممأسس ويكون بالتالي خرقًا خطيرًا للعدالة. فحين يقع ومتى يقع، وجبت المطالبة بالاعتراف. ولكن لنلاحظ بدقّة ما الذي يعنيه هذا: إنه لا يهدف إلى تزكية الهوية الجمعية وإنما إلى التغلب على الإخضاع، ففي هذا المقاربة، تسعى المطالبةُ بالاعتراف إلى تثبيت الطرف المخضَع بما هو شريكٌ كامل في الحياة المجتمعية، قادرٌ على التفاعل مع آخرين على قدم المساواة. إنها تسعى، بعبارة أخرى، إلى نزع الصفة المؤسساتية عن أنساق القيمة الثقافية التي تعيق التكافؤ في المشاركة وتستبدلها بأنساق تشجع عليها. فبات تصحيح عدم الاعتراف يعني تغيير مؤسسات مجتمعية – وبدقة أكبر، تغيير القيم الناظمة للتفاعل التي تعيق التكافؤ في المشاركة على المواقع المؤسساتية. أمّا كيف يتم ذلك تمامًا فيتوقف في كلّ حالة على النمط الذي به تأسّسَ عدم الاعتراف. فالأشكال المُقوننة تتطلّب تغييرًا قانونيًّا، والأشكال الراسخة سياسيًّا تتطلب تغييرًا في السياسات، أما الأشكال التشاركية فتتطلب تغييرًا تشاركيًّا، وهكذا دواليك. إنّ نمط التصحيح وفاعليته يختلفان قدْر اختلاف المواقع المؤسساتية. ولكن الهدف هو ذاته في كل حالة: فتصحيح عدم الاعتراف يعني استبدال أنساق القيمة الممأسسة التي تعيق التكافؤ في المشاركة بتلك التي تمكّنها أو تشجع عليها.
لننظر مجددًا في حالة قوانين الزواج التي تنكر التكافؤ في المشاركة للمثليين والمثليات. كما أسلفنا، فإنّ جذر الظلم هو المأسسة القانونية لقيمة ثقافية غيرية ترسم أنّ الغيريين هم الطبيعيون والمثليين هم الشاذّون. فيتطلّب تصحيحُ الظلم نزعَ الصفة المؤسساتية عن النسق القيمي واستبداله بنسق بديل يشجع على التكافؤ. ويمكن تنفيذ ذلك بطرائق متنوعة: تقضي واحدة منها أن يُمنح الاعتراف ذاته لشراكات المثليين والمثليات كالذي تتمتّع به الشراكات الغيرية، وذلك بتشريع الزواج المثلي؛ وتكون طريقة تصحيح أخرى بنزع الصفة المؤسساتية عن الزواج الغيري، ونزع تعويضات التأمين الصحي، مثلاً، عن الموقع الزوجي ومنحها على أساس آخر، كالمواطنة مثلاً. ومع أنه قد توجد أسباب مجدية لتفضيل طريقة على أخرى، فكلتاهما من حيث المبدأ تشجع على التكافؤ الجنسي وتصحّح هذه الحالة من عدم الاعتراف.
على العموم، إذًا، ليس نموذج الموقع ملتزمًا سلفًا بأيّ نمط من أنماط علاج عدم الاعتراف. الأحرى أنه يسمح بمروحةٍ من الإمكانات اعتمادًا على الحاجات المخصوصة للأطراف الخاضعة ليمكّنها من المساهمة بتكافؤ في الحياة المجتمعية. فقد تحتاج، في بعض الحالات، إلى أن تتحرّر من نزعة التمايز المتطرّفة، أكان التمايز أصليًّا أم مكتسبًا؛ وقد تحتاج في حالات أخرى إلى فرض الاعتراف بتمايز لم يحظَ باعترافٍ كافٍ من قبل. في المزيد من الحالات، قد تحتاج الأطراف الخاضعة إلى نقل التركيز إلى مجموعات مسيطِرة أو متميزة، بما ينزع التمايز عن هذه الأخيرة التي كانت تتشاوف زورًا بأنها ذات بُعدٍ شمولي. ومن جهة أخرى، قد يكون المطلوب حاليًّا هو تفكيك شروط إنتاج الاختلافات المكتسبة. وفي كل حالة من تلك الحالات، يفصِّل نموذجُ الموقع المعالجَة لتناسب الإجراءات العينية التي تعرقل التكافؤ. وهكذا، فعلى خلاف نموذج الهوية، لا يقدّم نموذج الموقع امتيازًا مسبقًا لمقاربات تُعلي من شأن الخصوصية الجمعية. الأحرى، أنه يسمح مبدئيًّا بما قد نسمّيه اعترافًا شموليًّا واعترافًا تفكيكيًّا، كما يسمح بالاعتراف الجازم بالاختلاف. ومجددًا، فالنقطة الحاسمة هي أنّ سياسات الاعتراف وفق نموذج الموقع، لا تتوقف عند حدود الهوية بل تسعى إلى معالجات مؤسساتية للأضرار المكرّسة في مؤسسات. وإذ تركّز هذه السياسة على الثقافة في أشكالها الراسخة اجتماعيًّا (قياسًا إلى أشكالها الطليقة)، تسعى إلى تجاوز إخضاع الموقع عن طريق تغيير القِيم التي تتحكم بالتفاعل، فترسّخ أنساق قيم جديدة تروّج للمشاركة المتكافئة في الحياة المجتمعية.
التصدي لسوء التوزيع
ثمة فارق إضافي هامّ بين نموذج الموقع ونموذج الهوية. فبناءً على نموذج الموقع، لا تكون الأنساق الممأسسة للقيمة الثقافية هي العقبات الوحيدة في وجه المشاركة المتكافئة. بل بالعكس، تتعرّض المشاركة المتساوية هي أيضًا للعرقلة عندما يفتقر بعض الفاعلين إلى الموارد اللازمة للتفاعل المتكافئ مع الآخرين. في حالات كهذه، يشكّل سوءُ التوزيع عقبةً أمام المشاركة المتكافئة في الحياة المجتمعية، فيصير بالتالي شكلاً من الإخضاع الموقعي ومن الظلم. وخلافًا لنموذج الهوية، نموذج الموقع يفهم العدالةَ الاجتماعية على أنها تنطوي على مستويين متمايزين تحليليًّا: مستوى الاعتراف، المتعلق بآثار الدلالات والمعايير الممأسسة عن الموقع النسبي للفاعلين المجتمعيين؛ ومستوى التوزيع، الذي يشتمل على توزيع الموارد القابلة للتصرّف على الفاعلين المجتمعيين.
وهكذا، فكل مستوى يرتبط بوجهٍ تحليليّ متمايز من وجوه النظام المجتمعي. فمستوى الاعتراف يقابل نظامَ الموقع المجتمعي، فهو يقابل بالتالي تشكيل أنساق قيمة ثقافية راسخة مجتمعيًّا لأصنافٍ محددة ثقافيًّا من الفاعلين الاجتماعيين- أي جماعات موقع- تتمايز كلّ واحدةٍ منها بنسبةٍ من الهَيبة والسمعة والتقدير تجاه الآخرين. في المقابل، يوازي مستوى التوزيع البنية الاقتصادية للمجتمع، وبالتالي فهو حصيلة ما كوّنته أنظمةُ الملكية وأسواقُ العمل من أصناف اقتصادية من فاعلين أو طبقات، تتمايز بحصّتها المتفاوتة من توزيع الموارد١.
ثمّ إنّ كل مستوى يرتبط بشكل متمايز تحليليًّا من أشكال الظُلم. فالظلم المرتبط بمستوى الاعتراف، المذكور أعلاه، هو عدم الاعتراف. في المقابل، الظلم المرتبط بالمستوى التوزيعي هو سوء التوزيع حيث البُنى الاقتصادية وأنظمة الملكية أو أسواق العمل تحرم فاعلين من الموارد اللازمة للمشاركة المجتمعية الكاملة. وأخيرًا، فكل مستوى يقابله شكلُ إخضاعٍ متمايزٍ تحليليًّا. فكما أسلفنا، مستوى الاعتراف يقابل الإخضاعَ الموقعي، المتجذّر في أنماطٍ ممأسسةٍ من القيمة الثقافية؛ ومستوى التوزيع، في المقابل، يقابل الإخضاع الاقتصادي، المتجذّر في سمات بنيوية للنظام الاقتصادي.
على العموم، إذًا، يضع نموذجُ الموقع مشكلةَ الاعتراف في إطار مجتمعيٍّ أوسع. من هذا المنظار، تبدو المجتمعات بما هي حقول معقّدة لا تشمل أشكالاً ثقافيّةً من التحكّم الاجتماعي فقط وإنما أشكالاً من التحكّم الاقتصادي. يتشابك هذان الشكلان من أشكال التحكم في كافة المجتمعات. على أنه يتعذّر اختزال واحدهما بالآخر كليًّا في ظروف الرأسمالية. بل بالعكس، ينفصل المستوى الاقتصادي نسبيًّا عن المستوى الثقافي، بما هما ساحتان خاضعتان للسوق، يغلب فيهما الفعل الاستراتيجي، تتمايز عن ساحات غير خاضعة للسوق، حيث يغلب التفاعل الخاضع لمبدأ القيمة. فتكون الحصيلة انفصالاً جزئيًّا للتوزيع الاقتصادي عن بنى الجاه. لذلك، ففي المجتمعات الرأسمالية، لا تتحكّم أنساق القيمة الثقافية حصرًا بالتوزيع للموارد الاقتصادية (بالضد من النظرية الثقافوية للمجتمع) ولا تكون الفوارق الطبقية الاقتصادية مجرّد انعكاسٍ لتراتبات الموقع؛ الأحرى أنّ سوء التوزيع ينفصل جزئيًّا عن عدم الاعتراف. أمّا بالنسبة إلى نموذج الموقع، فلا يمكن التغلّب على كل أنواع الظلم التوزيعي بواسطة الاعتراف وحده. يستوجب الأمر اعتماد سياسات إعادة توزيع.
ومهما يكن من أمر، لا يمكن فصل التوزيع والاعتراف واحدهما عن الآخر بسهولة في المجتمعات الرأسمالية. يتشابك المستويان ويتفاعلان سببيًّا واحدهما مع الآخر في نموذج الموقع. فالمسائل الاقتصادية مثل توزيع الدخل لها تداعيات تتعلق بالاعتراف: ذلك أنّ أنساق القيمة الممأسسة في أسواق العمل قد تزكّي النشاطات المسماة «ذكورية» أو «بيضاء» وسواها على تلك المسمّاة «نسوية» أو «سوداء». وبالعكس، فمسائل الاعتراف- الأحكام القائمة على القيمة الجمالية مثلاً- لها تداعيات توزيعية: ذلك أنّ تقليص فرص الوصول إلى الموارد الاقتصادية قد يعيق المشاركة المتساوية في الإنتاج الفني. فتكون النتيجة حلقة مفرغة من الإخضاع، فيما نظام الموقع والبنية الاقتصادية يخترق واحدهما الآخر ويدعّمه.
على خلاف نموذج الهوية، يرى أنموذج الموقع إلى عدم الاعتراف في إطار فهمٍ أوسع للمجتمع المعاصر. من هذا المنظار، لا يمكن فهم إخضاع الموقع بمعزل عن ترتيبات اقتصادية ولا فهم الاعتراف مجرّدًا عن التوزيع. بل بالعكس، فمن خلال النظر في كلا المستويين معًا فقط يمكن المرء أن يقرر ما هي المشاركة المتكافئة الملحّة في كل لحظة مخصوصة؛ وفقط من خلال تفكيك التشابكات المعقدة بين الموقع والطبقة الاقتصادية يمكن المرء أن يقرر ما هي أفضل وسيلة لتصحيح الظلم. هكذا يشتغل أنموذج الموقع ضد اتجاهاتٍ ترمي إلى إزاحة النضالات من أجل إعادة التوزيع. وإذ يرفض النظرةَ القائلة بأنّ عدم الاعتراف هو أذًى ثقافي بلا قيود، يدرك أنّ إخضاع الموقع غالبًا ما يكون مرتبطًا بمظلمة توزيعية. وعلى خلاف النظرية الثقافوية إلى المجتمع، يتفادى أنموذج الموقع تبسيط تلك الروابط المعقدة: فهو يدرك أنه لا يمكن التغلّب على جميع أنواع المظالم الاقتصادية بواسطة الاعتراف وحده، ويدعو إلى مقاربة تتقصّد دمج المطالبات بالاعتراف من أجل إعادة التوزيع، ما يخفّف من مشكلة الإزاحة.
إلى ذلك، يتفادى أنموذج الموقع تشييء الهويات الجمعية، وكما أسلفنا، ما يتطلّب الاعتراف في هذا الصدد ليس هوية جمعية بذاتها وإنما موقع الأفراد بما هم شركاء كاملون في التفاعل الاجتماعي. ولهذا التوجّه فوائد عدة. فمن خلال التركيز على آثار المعايير الممأسسة على قدرات التفاعل، يتحاشى النموذج موضعة الثقافة واستبدال التغيير الاجتماعي بالهندسة الهوياتية. وبالمثل، فإنّ رفض إعطاء الأفضلية لمعالجات عدم الاعتراف يثمّن الهويات الجمعية القائمة، يتحاشى أنموذج الموقع جوهرة الترتيبات الحالية وحجر التغيّر التاريخي. أخيرًا، من خلال تثبيت المشاركة المتكافئة بما هو معيار قيمي، يخضِع نموذجُ الموقع مطالبات الاعتراف لمسارات المكاشفة الديموقراطية العلنية، فيتفادى بذلك المونولوجات السلطوية عن سياسات الأصالة وتثمين التفاعل العابر للثقافات بالضدّ من النزعة الانفصالية والتقوقع الجمعي. وبعيدًا كلّ البعد من تشجيع الطائفيات القامعة، فإنّ نموذج الموقع يناضل ضدها.
على سبيل الخلاصة: إنّ النضالات الحالية من أجل الاعتراف غالبًا ما تلبس لبوس سياسات الهوية. وإذ تهدف إلى مجابهة تصويرات ثقافية تحقيرية لجماعات تابعة، تعمل على تجريد عدم الاعتراف من حاضنته المؤسساتية وتصرم روابطه بالاقتصاد السياسي. وبالقدر الذي تنادي بهويات جمعية «أصيلة»، فهي لا تشجّع على التفاعل العابر للاختلافات بقدر ما تعزز النزعة الانفصالية والاتّباعية والتزمّت. فتكون النتائج تعيسة من جهتين، ففي معظم الأحيان، تزيح النضالاتُ من أجل الاعتراف النضالاتِ من أجل العدالة الاقتصادية وتشجّع على أشكال قمعية من الممارسات الطائفية في الآن ذاته.
مهما يكن، لا يكمن الحلّ في رفض سياسات الاعتراف جملةً وتفصيلاً. فذلك يعني الحكم على ملايين البشر أن يعانوا من مظالم خطيرة لا يمكن تصحيحها إلا من خلال اعتراف من هذا النوع أو ذلك. فالمطلوب بالأحرى اعتماد سياسة اعتراف بديلة، هي سياسة غير هوياتية قادرة على أن تعالج عدم الاعتراف دون التشجيع على الإزاحة والتشييء. وقد حاججتُ أنّ نموذج الموقع يوفّر الأساس لذلك. فمن خلال فهم الاعتراف بما هو مسألة موقع، ومن خلال تفحّص علاقته بالطبقة الاقتصادية، يمكن للمرء اتخاذ الإجراءات اللازمة للتخفيف من إزاحة النضالات من أجل إعادة التوزيع، حتى لا نقول إنه سيتمكن من أن يحلّها حلّا نهائيًّا، فيستطيع أن يبدأ بالتخفيف من النزوع الخطير إلى تشييء الهويات الجمعية، إن لم نقل تبديدها بالكامل.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.