العدد ٣١ - ٢٠٢١

«أنتَ النار وتسأل عن وقت النيران؟» ٢/١

إلى جميع رفاقي المعتقلين،
في السجن وخارجه، قاسم.

١

أين يبدأ الشعر وأين ينتهي؟
هل يمكن معرفة ذلك؟
لكن أيضًا هل يمكن أن نعرف حدود الأفق،
أين يبدأ الأفق وأين ينتهي.
أنت ترى الأفق هناك، تمشي إليه وتمشي، لكنك لا تصل.
إنه أفق، والأفق لا يبدأ ولا ينتهي.
إنه أفق فحسب.

هكذا الشعر.
يُقال بأن الشعر قد بدأ مع الإنسان، أكاد أشك في ذلك.
غير أنني أخشى الوقوع في الفهم المثالي. أفهم، مثاليًّا من نافذة:
في البدء كانت الكلمة.
لأن الشعر الذي أعنيه هنا هو الفعالية، وليست الكلمة الواقفة في المطلق.
أقول أشك في بدئية الشعر مع الإنسان. والأكيد أن النثر قد جاء بعد الشعر. الشعر أولاً، وبعده جاء النثر، فكل ما هو ليس شعرًا هو نثر. وضمن النثر يتكوّن نقد الشعر.
كل قارئ هو مشروع ناقد، وفي القارئ تستطيع أن تعرف، هل استمرّ الشعرُ هنا أم توقف. هل تمكّن القارئ أن يصير شعرًا من خلال قراءته؟
من هذه الشرفة تلمس الإمكانية المتوفرة لدى القارئ ليصير مشروعًا نقديًّا، وأحيانًا كثيرة، يحدث هذا، من حيث لا يدري. وعندي،
فإن أفضل النقد هو الذي يأتي من حيث لا يدري القارئ. فالحساسية الشعرية أمرٌ لا يمكن تفسيره، ولكن يمكن اكتشافه. أحيانًا كثيرة يتوقف الشعر قليلاً عند الشاعر لكي يبدأ النثر.

٢

في الرقص،
بين الرقصة والرقصة، يتوقّف الراقص، ليأخذ قليلاً من الراحة الداخلية–الجسدية. عند الشاعر تتحول هذه الراحة إلى فعالية نثرية، يحاور فيها الشاعر ذاته + تجربته. وتتفاوت مساحة هذه الفعالية النثرية بين الشاعر والآخر في القدرة على المحاكمة. عادةً تكون هذه المحاكمة حوارًا داخليًّا في نفس الشاعر، تتحول فيها التجربة السابقة، التي تم إنجازها، إلى نار تضيء ما هو آت. هذه الفعالية من الحميمية بحيث يحافظ الشاعر على سريّتها، وعدم كشفها للقارئ، إما مكابرةً، عند الكثيرين، أو رغبةً في إبعاد القارئ عن عالمٍ معقّد، قد لا ينجح الشاعر في التعبير عنه.

أحيانًا كثيرة تكون هذه الفعالية النثرية/ النقدية لا تدور في خلد العديد من الشعراء. ويمكننا اكتشاف ذلك من إنتاجهم.

٣

الشاعر الذي لا يرى في شعره إلا الجوانبَ الإيجابية بائسٌ ويستحقّ الرثاء. والشاعر الذي لا يعترف بنقاط الضعف في نصوصه، يظل متمتّعًا بقدرٍ لا بأس به من موهبة الغباء.

٤

الحديث عن الشعر يكون محفوفًا بالمخاطر، فأن يتحدث الشاعر عن شعره، يكون الأمر أكثر خطورة. لكن الأمر يختلف إذا كان التوجّه لمحاورة التجربة الشعرية، لا لتفسير الشعر.

هنا ينبغي أن نوضّح الأصوات التي ستشارك في هذه المحاورة.

بالنسبة لي، هذه الفعالية النثرية/ النقدية، كانتْ تحدثُ ذاتيًّا، في شكل حوار داخليّ حميم، ليس بين مرحلة شعرية «فنيّة» وأخرى فحسب، بل بين كتابة القصيدة وقبل كتابة القصيدة التالية أيضًا.

هذه العملية كانت تشاركني فيها أصواتٌ عدة، يمكنني اعتبارها العناصر الأساسية لكل عمليةٍ نقدية، تساعد الشاعر ليكتشف خلالها طريقَه بوضوح.

هذه الأصوات/ العناصر، هي:

التجربة الشعرية–ذاتًا،
التجربة الشعرية–موضوعًا.
القارئ.
حين أوفّق في محاورة هذه الأصوات، تكون العملية النقدية اكتشافًا وإضاءةً لتجربتي، وحين أفشل، ترتبك قصيدتي القادمة، وأحيانًا تتعطل عندي الكتابة، أو أتوقّف عن الشعر بعض الوقت. وعندما أكتب ثانية، تسقط القصيدة المرتبكة من اعتباري وأفتح حوارًا جديدًا.

٥

الآن،

للمرة الأولى، أحوّل هذه الفعالية النثرية/ النقدية إلى الخارج. يدخل الآخرون في هذه العملية: مع الحفاظ – قدْر الإمكان–على حميمية الحوار، خصوصيته وحرارته. بمعنى أن أتفادى مهادنة الأصوات في العناصر الثلاثة التي تشارك في هذه الفعالية.

وهنا،

إذا كانت هذه التجربة جديدةً بالنسبة للقارئ مرةً واحدة، فإنها جديدة بالنسبة لي كثيرًا، لأنني في مثل هذه العملية النقدية–الشعرية، أخوضُ اكتشافات جديدة، لا أصل إليها إلا عن طريق الحوار. لذلك فإنني هنا أكون مكتشفًا وكاشفًا في ذات اللحظة. وأهمية هذه الاكتشافات أنها تكون في أغلب الأحيان شاهدًا صارمًا، وغيرَ محايد، على التجربة الشعرية، لأن التوجّه الرئيسي في هكذا حوار هو الإمساك بسلبيات التجربة.

هذا هو أحد الهواجس التي تشغل بال الشاعر، ولأنّ الشاعر، إذا جازَ له التحدّث عن تجربته، يحتاج إلى أن يثبت قدرته على ممارسة النقد الموضوعي لتجربته. ويقول: لقد فشلتُ هنا، لا لكي يقول: لقد أبدعتُ. فمثل هذا الموقف موقف أمام الذات، يجعل الشاعر إلهًا صغيرًا في نظر نفسه، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وعندها يصير الشاعر دجّالاً لطيفًا، ويكفّ عن كونه فنانًا.

الهاجس الثاني الذي يرافقني في مثل هذه العملية هو هاجس إضاءة التجربة الشعرية فنيًّا + موضوعيًّا + إنسانيًّا أمام القارئ، باعتباره صوتًا شرسًا يشترك في الحوار، ويطرح أسئلته الجوهرية المشروعة.

٦

(الحب اللامتناهي سيتصاعد في نفسي،
وسأذهب بعيدًا،
بعيدًا جدًّا،
مثل بوهيميّ عبر الطبيعة،
سعيدًا،
كما لو مع امرأة)
«رامبو»

٧

سأهتمّ هنا بالتجربة الشعرية، التي تتحدّد في الفترة ما بين صيف ١٩٧٥ حتى كتابة هذه السطور. بمعنى أنني سأكتب عن تجربتي الشعرية في السجن، لأسبابٍ عدّة أهمها:

اعتقادي بأن هذه الفترة، بما أفرزته من إنتاج شعري، تمثّل مرحلة فنية شبه متكاملة، كون هذه الفترة - التجربة قد تميّزت بدرجة من الاختلاف في الملامح الخاصة والمغايرة للمراحل الفنية السابقة (بغضّ النظر عن كون هذا الاختلاف سلبًا أو إيجابًا):
شعوري بأن كتابة الشعر في السجن، تجربة مهمة في حدّ ذاتها، جديرٌ بالشاعر أن يحاورها، من حيث هي امتحان إنساني عميق ودقيق في نفس الوقت.
كون هذه التجربة—القصائد، «الإنتاج»—قد جعلت العديد من الأسئلة تطرح بأشكال مختلفة، ومتفاوتة من قبل الأصدقاء في السجن، وخارجه. هذه الأسئلة التي يمثّل معظمها إضاءاتٍ صارمة لجوانب مهمة (أكاد أقول خطيرة) في تجربتي الشعرية عمومًا، وشعوري الحادّ بأني إذا لم أبدأ مبكرًا في محاكمة تجربتي، ربما ارتكبتُ خطيئة الشعر، وقد أضعف أمام ضغط الكلمة وأكتب المزيد من القصائد، فأضيف بذلك إداناتٍ أكثر.
(غيّر الصوتُ إيقاعه في دمائي

تغيرتُ)

كانت هذه الكلمات الأخيرة في آخر قصيدة كتبتُها قبل الاعتقال، كان ذلك في آذار/ مارس ١٩٧٥، وهي قصيدة «الدم الثاني». وبعفوية الشعر المدهشة جاءت هذه القصيدة ختامًا احتفاليًّا لمرحلة فنية/ موضوعية، كنتُ اعتقدتُ بنضوجها الجنيني، ذلك النضوج الذي يشير إلى نهاية موجة فيما تصل لخَطّ الساحل من جهة، كما يشير إلى بداية رحلة الموجة القادمة في أفق البحر. وليس أمام الشاعر عندها سوى أن يحاول احتضان الموجة القادمة، فإذا فشلَ مات، وإذا نجحَ وُلدَ من جديد.

في «الدم الثاني» حياة ذاتية وموضوعية مختصرة، في صورة قصيدة.

قصيدة من قصائد التجربة، وعندي، غالبًا ما تكون قصيدة التجربة أكثر قوةً ونجاحًا من قصيدة الموضوع.

في «الدم الثاني» تلتقي خيوط الرموز المحورية في تلك المرحلة، لتشكل شبكةً من العلاقات اللغوية التي تنتمي إلى حرارة تجربة تحمل طموحًا في التعبير، يتناسب مع طموح الحياة. وإذا كان للشاعر قصيدة واحدة مهمّة في كل مرحلة من مراحل حياته، فإن «الدم الثاني» في تقديري، هي القصيدة التي يمكن قراءتي من خلالها، بصورة لا تتوفر كاملةً في القصائد الأخرى لتلك المرحلة. وكأنّ كلمات تلك القصيدة تشير إلى برزخٍ خطيرٍ يقفُ فيه الشاعر، وحيدًا.

٩

لقد كان برزخًا جهنميًّا بالنسبة لي، فبعد قصيدة «الدم الثاني»، توقفتُ عن كتابة الشعر فترةً ليست قصيرة، شعرتُ فيها كما لو أنني كنتُ عصفورًا يكاد ينسى عادة الطيران. كنت أحيانًا أعتقد بأنني لن أكتب شعرًا إلى الأبد. ومثل هذا الشعور بالنسبة للشاعر يمثّل عذابًا يشبه الموت. ففيما كنتُ أعدّ قصائد ديوان «الدم الثاني» للطبع شعرت شعورًا مريرًا، وكأن طبع المجموعة إعلانٌ عن وفاة الشاعر.

ربما لا يكتشف القارئ، في تلك المجموعة، سببًا لهذا الشعور، ولكن كلما طالت فترة توقفي عن الشعر، صار الشكّ في قدرتي على الكتابة يقترب من حدود اليقين. وحين لا أكتب شعرًا يعني أنني أصير جثّةً تمشي، أتحوّل مخلوقًا بلا لسان. وعندما تم اعتقالي صارت هذه المعاناة تتضخم، وحاجتي للشعر أخذتْ تكبر، فقد كنتُ أحترق انتظارًا له، غير أن الشعر لا يجيء.

ومنذ صيف ١٩٧٥ حتى شتائه كنتُ أفقدُ القدرةَ على الكلام.

وكمحاولات اليائس، قفزتُ لكي أطير، ولكنني فشلت.

أذكر تجربتين حاولت فيهما الكتابة، ولكن قبل أن أنتهي تغلبتُ على نفسي ومزّقت الأوراق.

لم يستطع العصفور التحليق.

يبدو أنه نسيَ الطيران بالفعل.

كان الأصدقاء حين يسألونني عمّا إذا كان لديّ شيءٌ جديدٌ، يساهمون مساهمة فعالة في العذاب الذي أحمله أربعًا وعشرين ساعة في اليوم. وفي تشرين الأول/ أكتوبر من ذلك العام كتبتُ «لغةٌ للطفولة». كان الطفل محمد (ابني)، الذي جاءَ إلى هذا العالم بعد اعتقالي بخمسة أشهر، هو الذي قذَف بي في هوّة الشعر. تلفتُّ حولي كمن يريد أن يقول للعالم: انظروا إنني ما زلت قادرًا على الكتابة. لم تكن فترة قصيرة، منذ آذار/ مارس ١٩٧٥ إلى تشرين الأول/ أكتوبر ١٩٧٥. لا بمقياس الزمن، ولكن بدرجة العذاب الذي عشتُه انتظارًا على عتبة الشعر، شحاذًا يسكن البرد والغربة والتشرّد. وربما في تشرين الثاني/ نوفمبر كتبتُ القصيدة الثانية «قصيدة حب».

١٠

أثارت «قصيدة حب» جدلاً لذيذًا بيني وبين بعض الأصدقاء ساعَتَها. ولم تكنْ ملاحظات الأصدقاء خاليةً كلها من الصحة، لقد اعتقدتُ بأنني أستعيد توازني، بعد فترة المرارة، ولأن القصيدة كانت قصيدةَ موضوعٍ تحمل قدرًا لا بأس به من نقاط الضعف الفنية، التي ساهمتْ، إلى حد بعيد في ارتباك البناء الموضوعي في القصيدة. بدا لبعض الأصدقاء أنني أتّهم وطنًا بلا وطنيّته، وحين كنت أحاكم تفسّخًا يرفع رايته في أحداقنا، كما كنتُ أشير إلى البلدوزر الرجعي الزاحف من طرف الخريطة إلى الطرف الآخر.

كنتُ أقول في القصيدة:

هناك سياسيٌّ بايع إسرائيل صديقًا للعرب المقتولين

وأقول عن الذين:

شالوا أرض لبنان من الأرض، وخلوا نَهرَ الدم

من بيروت إلى صنين.

وعن الجاهليّ القادم من صحراء الجزيرة بسيوفه السوداء.

كان ذلك في تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩٧٥. ورأينا، بعد ذلك، البلدوزر يمشّط الخريطة جيدًا. ولم يشفع لـ«قصيدة حب» استشرافُها لما حدث بعد ذلك التاريخ، فالنثر يظل نثرًا، ما لم يرْقَ إلى درجة الشعر، فنًّا وبناءً.

وتظل قصيدة الموضوع تحمل نقاط ضَعفها، ما لم تنصهر وتصرْ قصيدةَ تجربة.

وعندي أنّ قصيدة الموضوع ظلتْ ترافق تجربتي الشعرية منذ بداية علاقتي بالشعر حتى قصيدة حب.

١١

من الوجهة النقدية، أرى ضرورة إيجاز ما أعنيه بقصيدة الموضوع وقصيدة التجربة والفرق بينهما.

قصيدة الموضوع هي القصيدة التي يغلب عليها طابَع الرصد الموضوعي لظاهرةٍ، أو ظاهرات مادّية في الحياة. ويكون الشاعر في هذه القصيدة جزءًا صغيرًا، ودوره يتحدّد في تسليط الضوء الساخن، مختزلاً في مسافةٍ شاسعة تفصله عن المعاناة المباشرة ذاتيًّا. بمعنى أن الشاعر جاء لكتابة القصيدة عن الموضوع الفلاني، وكلما اتسعت المسافة بين الذات والموضوع في القصيدة، اقتربَت القصيدة درجةً أخرى من الفشل، أو نقاط الضعف في أفضل الأحوال. وحين تبدو الذات في القصيدة غائبة تصير القصيدة «قصيدة موضوع».

قصيدة التجربة: هي القصيدة التي لا يكتبها الشاعر عن الموضوع الفلاني، ولكنها قصيدة لا يستعدّ لها، بل تباغتُه، كما لغمٌ ينفجر من حيث لا يدري الشاعر، وهي القصيدة التي ليس بوسْع الشاعر إلا أن يكتبها، لأنه من دونها يكفُّ عن كونه شاعرًا، فهي الشعر الحقيقي في حياته.

قصيدة التجربة هنا هي الذات والموضوع منصهرَين في بناءٍ فنيّ واحد، إلى درجة أنك لا تستطيع الفصل—بالمسطرة —بين حدود الذات والموضوع في القصيدة.

الفرق بين «قصيدة الموضوع» و«قصيدة التجربة» إذن، هو أنّ الشاعر في الأولى يكتبُ عن الحياة، وفي الثانية يكتبُ الحياة.

أقول، هذه رؤية نقدية ليست مكتملة، بسبب أنها اجتهادٌ فنّي، فرضتْه طبيعة المسؤولية الذاتية في نقد كتابتي، والمستقبل كفيل بتطوير هذه الرؤية وتنقيَتها وتقنينها، لتكون واضحةَ الملامح من حيث هي مقياسٌ نقديٌّ ممكن.

أعتقد الآن أن في ديواني «خروج رأس الحسين من المدن الخائنة» نماذجَ مثل الحَجاج يقدّم أوراق اعتماده + حبيبتي الخروج من الدهشة + صلاة الخوف، تشير، بشكل متفاوت، إلى قصيدة الموضوع البارزة في تجربتي السابقة، ومثل هذه الرؤية النقدية لم تكن متوفّرة في السابق، وإلا فإن عددًا من القصائد لتأخذ طريقها للنشر في مجموعةٍ شعرية جديدة. ولكنني أعتبر مثل تلك الظاهرة، بعد وعيها، ينبغي أن تتوقف عند «قصيدة حب»، وهي القصيدة التي تمثل ذروة النماذج في قصائد الموضوع وأسوئها في الوقت نفسه. غير أن هذا القرار من الشاعر، إلى أي حدّ سيكون ساري المفعول،

ومتى يبدأ؟

١٢

بعد قصيدتي «شتاء ٧٥»، بدأتُ بشيء من القلق والتردّد، أدخل في محاكمة الموجة الجديدة القادمة من أفق البحر. أعرف أن العودة إلى كتابة الشعر بمثابة العرس الجديد.

حسنًا،

ولكن،

بعد ذلك العذاب المرير هل تأتي الثمرة بارتباكٍ واضحٍ كما لو كنت أكتب للمرة الأولى؟

كان العصفور منتوفَ الجناح، يحلّق بصعوبة.

لقد طُبعتْ مجموعتي الثالثة «الدم الثاني» وأنا في السجن، وحين وصلتْ لنا نسخة من الكتاب، واطّلعتُ عليها، كانت كفيلة بأن تجعلني أقف، هنا، بصرامة أكبر أمام القصيدتين الجديدتين. فقد تسنّى لي بشكل أفضل أن أستعيد تجربتي الشعرية، التي قلتُ في ختام آخر قصائدها:

(غيّر الصوت إيقاعه في دمائي، تغيّرتُ).

فسألتُ نفسي:

هل تغيرتُ فنيًّا في المحاولات الجديدة؟

وإشفاقًا على تلك المحاولات – كما يبدو- أجّلتُ الإجابة عن هذا السؤال الجارح.

قلتُ: لا بأس، بعد السجن، سيكون بإمكان الشاعر أن ينظر إلى أشعاره بهدوء أكثر، ربما كان الأمر مهادنة مؤقتة.

١٣

وبدأتْ رحلة عذاب جديدة.

لأن القلق حول نجاح أو فشل محاولة الشتاء الشعرية، كان رفيقًا شقيًّا لي، تحولتُ إلى بحث مجنون عن طريق للخروج من الحصار الذي أعيشه، وانتابني، مجددًا، ذلك الانطباعُ العميق بأن الشعر قد ودّعني إلى غير رجعة.

هذه المرة كنتُ أجبَنَ من أن أمسك القلم لأكتب محاولة أمزّقها قبل النهاية. ولأنّ الشتاء بالنسبة لي المناخُ الرائع الذي كنت كتبتُ فيه أجمل قصائدي، فإن فشل محاولة «شتاء ٧٥»، وانتهاء الشتاء من دون أن أكتب شيئًا مهمًّا، جعلني ألجأ إلى الاحتراق الداخلي، على أمل أن يؤدّي هذا الاحتراقُ إلى تحرك نحو الأمام.

وامتدّت المرحلة حوالي ستة أشهر، حيث بدأتُ في محاولة كتابة قصة قصيرة، فوجدتُ نفسي أنجز شيئًا جديدًا بالنسبة لي. ليست قصة قصيرة، ليست قصيدة، ولا هو مسرح، لكن كل هذه الأشياء في نص مبتكر، لم أستطع تسميته إلا (مشروع رواية)، اعتبرها بعض الأصدقاء تجربةً ناجحة. كان معظم الانطباعات التي لمستُها مشجعة، ولكن مثل هذا الإعجاب جدير بأن يُشبع غرور الشاعر، ولكن ضميره الفني يظل ذلك الهدف الذي لا يُطال.

١٤

(وطن في حالة الصلب)

تلك التجربة الفنية المفاجئة - بالنسبة لي - أوقعتْني في مأزق خطر لم أكن أتوقّعه. فإذا كانت الرواية تجربة تعبيرية ناجحة، من حيث هي أسلوب جديد بالنسبة لي، فإنها في ذات الوقت زادتني رعبًا، خشيةَ تسرب ماء الشعر من بين أصابعي نهائيًّا.

ودهمني شعورٌ غامضٌ كما لو كانت الرواية هي العزف الجنائزي على قدرتي الشعرية. وخيّل لي في وقت من الأوقات أنني أقف أمام مفترق طرق، الأمر الذي خلق عندي ارتباكًا جديدًا، فإذا كان فقْد الشاعر جناحه الشعريَّ مسألةً مرعبة، فإن الدخول في إقليم الرواية لا يقلّ رعبًا من ذلك. الرواية بالنسبة لي ليست تحليقًا، إنها قفزٌ في الهواء لمسافات بعيدة، وأحيانًا عالية فقط.

كنتُ أبحثُ في ليل الكتابة، بدون قناديل، فالشعر صار رمادًا في حريق الغابة.

١٥

بعد فترة التوقف الطويلة، كانت محاولةُ كتابة القصة القصيرة الدبوسَ الذي ثقَبَ البالون المتحفّز، وحين انفجر المِرجلُ، جاء التعبير في شكلٍ روائي غامض، وغير متوقع، لغته من الشعر، وبناؤه في النثر.

إذا وضعنا في الاعتبار فشل محاولة «شتاء ٧٥» الشعرية، ففي أيار/ مايو ١٩٧٦ تزيد فترة الانقطاع عن عام كامل، لذلك ففرصة التعبير عن المعاناة المخزونة كانت مواتية، لقد انفتح الصمّام للقصة القصيرة، ففاض البركان بشكل عفوي وعشوائي إلى درجةٍ ما، فجاء شعرًا حينًا ومسرحًا أحيانًا وروايةً في بعض الأحيان، وحوارًا أيضًا، ولم يكن بإمكاني السيطرة على الفيضان إلا في حدود المرتبك. كنتُ ساعتها كمن يبحث عن لسان، ولأن قصائد الشتاء فشلت، فهاجس اللغة الجديدة المجهولة كان يرافق قلقي. فاعتقدتُ أن هذا الذي يتفجّر كالشيطان بين يدي هو لغتي الجيدة.

من الوجهة النقدية، فإن أي كاتب يمتلك اللغة والتجربة الأدبية، ومعرفةً لا بأس بها في الرواية، يستطيع أن يكتبَ كالذي كتبتُه، مع بعض التفاوت. فإذا كانت هذه التجربة مفهومة بالنسبة لسواي، فإنها بالنسبة لي كانت تمثل عذابًا جديدًا، فالشعر هو الأصل عندي.

١٦

في ذلك المناخ الفني، الذي فرضتْه تجربة الرواية على ذهني، بدأتْ لديّ فكرة لكتابة محاولة روائية أخرى، تحت عنوان «الفقد»، لم أبدأ فيها. ففي حمأة الانفعال فقدتُ الرغبة في كتابة «الفقد»، لأن الشعر جمرة الدم، لا يطفئها سوى الموت. وقتها كان الموت سلوكًا غير مستحبّ.

١٧

لكن متى يأتي الشعر؟

إن هاجس التطور الذي يحمله الشاعر، يمثّل القيد الذاتي الذي يحافظ عليه الشاعر طوال الوقت. فإذا لم يحمل الإنتاجُ الجديد إشارةً إلى التطور، فمن الصعب أن يقبله القارئ الذي يضع له الشاعر ألف حساب، فما بالك إذا كان الشاعر نفسه عبارة عن سيّافٍ مستعد دومًا لجلد أي قصيدة، ليستْ ضعيفة فحسب، ولكن حتى إذا كانت تراوح في مكان سابقتها.

في مثل هذا المناخ الشعري كنتُ أجد نفسي باستمرار،

وكانت قصيدة «الدم الثاني» الرادع الذي كنتُ أحمل معي وأعيد دراسته، لئلا أقبل أي قصيدة لا تحمل جديدًا، مقارنةً بتلك القصيدة. وأعرف في نفسي أنني ما لم أكتب شيئًا ينقلني إلى أحضان موجة الأفق الجديدة، لن أقبل بأقل من ذلك. وكلما طالت فترة الغياب والانتظار، صار الشوق لذيذًا وفعالاً،

لكن متى يأتي الشعر؟

أسأل نفسي وأضع رأسي على كتف الكلمة.

١٨

الظروف غير المواتية للحياة، هي الظروف المواتية للشعر.

بالطبع هذه الحقيقة ليست مطلقة، ولكنني أطرحها هنا كتجربة ذاتية.

هل يمكن ذلك؟

تبدو المعادلة معقدة نوعًا ما. أو هي في أحسن الأحوال مجانية الهدف. وإلا فما معنى أن يتعذب الإنسان لكي يكتب الشعر؟

ما أعنيه بالضبط هو أن الشاعر لا يكتب شعرًا حقيقيًّا إلا في الحياة الصعبة. وكلما كانت معاناة الشاعر قاسية كانت أشعاره أقدر على التوهج. لستُ واثقًا من هذا.

بالنسبة لي فإن دخول المعاناة الجديدة في شكل السجن الصحراوي كان إنقاذًا لي بالدرجة الأولى، فطوال فترة الاعتقال في جزيرة (جده) كنتُ أتحوّل إلى مرجلٍ ملتهبٍ يحتاج إلى هزّة صغيرة تجعله انفجارًا، وليس أقدر من الزنازين لتفجّر ذلك اللغم.

وسأعتقد بأن آذار/ مارس ١٩٧٧ هو البداية الحقيقية للمرحلة الفنية الموضوعية الجديدة، بمعنى أنّ فترة الانقطاع عن كتابة الشعر تكون قد امتدّت إذًا من آذار/ مارس ١٩٧٥ حتى آذار/ مارس ١٩٧٧، وكل ما كُتب خلال العامين، إما أنه محاولات فاشلة، كمحاولتي «شتاء ٧٥»، أو أنه قفزٌ في الهواء، أو هو تعبيرٌ مرتبكٌ في رافدٍ غير مألوف، كبانوراما «وطن في حالة الصلب».

١٩

تغيير ظروف الاعتقال خلقَ مناخًا نفسيًّا وحياتيًّا غير عادي بالنسبة للجميع. وبالنسبة للشاعر فإن المسألة تأخذ طابعًا دقيقًا، فإما أن تتحوّل هذه المعاناة إلى طاقة فنية وأدبية، يتسلّح بها الشاعر، ويهدم الواقع، ويبني داخل الإنسان عالمًا صلبًا، أو أن يكفّ عن كونه شاعرًا، فيتغلب عليه الواقع، ويفوّت بذلك أيضًا أخصب اللحظات لولادة الشعر، فالشعر يأتي في الوقت المناسب، من وجهة نظر الشعر وليس الشاعر.

يبدو أن ظلام إحدى ليالي آذار/ مارس الباردة، كان وقتًا مناسبًا، من وجهة نظر الشعر، وفي الزنزانة الخشبية، المترين في مترين، اتسعت الأرجاء في ذلك الليل الضيق.

٢٠

(نسمعُ صوتَكِ سيدتي يختصر الوقت)

إنها الخطوة الأولى لإعادة التوازن، ومحاولة لكسر حصاراتٍ عدة، يعانيها الإنسان في تلك اللحظات. وينكسر حصارٌ خاصّ يعانيه الشاعر في ذات اللحظة، ذلك هو غياب الشعر.

وجاء إيقاع القصيدة هادئًا كالخروج من حلم والدخول في حلم، وأسأل:

هل صدفة أن يكون الصوت محورًا في القصيدة، بعد أن كان قد (غيّرَ الصوت إيقاعه في دمائي) في «الدم الثاني»؟

في داخلي، فرحتُ بولادة هذه القصيدة، كما عصفور ينجح في العبور من غصن إلى آخر في الشجرة، للمرة الأولى.

ولكن يدي كانت على قلبي فيما أرقبُ الأصدقاء وهم يقرأون، فقد غبتُ طويلاً عن القارئ،

لكن.... /

وفيما أعالجُ جرحَ القصيدة الأولى، جاءت القصيدة الثانية:

(ولقد ذكرتكِ،

آهِ من جرحٍ يَطيبُ ومن جراحٍ لا تداويها الحروبُ،

وأنت جرحي).

الشعر يهجمُ ويباغت، وينتصرْ، ويفلت زمامُه من بين يديّ.

وحين لبّيتُ صوتَ الفارس العبسيّ في القصيدة الثانية، كادت القافية أن تلبسني، فهربتُ.

بالرغم من أن جمالاً تقليديًّا بدأ في مدخل القصيدة، إلا أنني كنتُ أضعفَ في تلك اللحظات من حرف الباء.

في التراث العربي مواقف رومانسية للفارس، حاولتُ في هذه القصيدة أن أضيءَ بها رؤيةً معاصرة لموقف إنساني جديد. ولكن فترة التوقف عند الشعر كان لها دورٌ في جعلي مرتعشًا وأنا أكتب من جديد.

لذلك جاءت القصيدتان ببعض الضعف الفني من الناحية البنائية، خاصةً بالنسبة إلى القصيدة الثانية. ولكن من جهة أخرى عبّرتِ القصيدتان عن توقٍ في البحث عن لغة شعرية مغايرة للسابق، وتبقى مسألة: إلى أي حد فشلتُ أو نجحتُ هنا مربوطةً بالقادم.

ولكن قبل القادم،

يمكنني القول إنه بالرغم من النكهة الجديدة التي حملتْها القصيدتان، والإشارة الضمنية الصغيرة، إلى الأفق، التي جاءت مع هذه النكهة، تظل مسألة عدم وضوح الرؤية الفنية في القصيدتين. ربما بسبب كون هذه المحاولة هي الخطوة الأولى نحو المرحلة الجديدة، إضافةً إلى الارتباك الذاتي في لحظة المواجهة مع الشعر بعد الغياب الطويل.

أقول،

لم تكن المحاولة أكثر من إشارة، وهذه الإشارة لم تحدّد الملامح الفنية التي يمكن أن تتميز بها المرحلة الجديدة.

على الصعيد الذاتي، وضعتني هذه المحاولة في درجة من التحفز، انتظارًا لما أرهصتْ به التجربة، كيف يمكن احتضان الموجة القادمة من أفق البحر بحنان أكثر.

هذه هي المسألة.

٢١

قلتُ،

كنتُ أضع يدي على قلبي وأنا أرقب الأصدقاء يقرأون الخطوة الأولى: (سيدتي نشتاق+ وذكرتك)

هنا فعالية القارئ.

ربما يطرح سؤال عن كيفية التعامل مع هذه الفعالية في ظروف السجن غير الطبيعية؟

لا شك أن في هذه المسألة شيئًا من التعقيد، ولكن في تقديري، ومن تجربتي الذاتية، أنّ نماذج القرّاء بين الأصدقاء هنا، تمثّل، إلى حدّ كبير، التفاوت النسبي الذي يمكن أن نجده خارج السجن، أقول: إلى حد كبير ليس غير.

وبناءً عليه ينبغي أن يتمتع الشاعر بدرجة من الحساسية، لكي يُحسن التعامل مع فعالية القارئ المتفاوتة، والتي تصل أحيانًا إلى درجة من التشابك، بحيث يكتشف، حتى في الموقف السلبي للقارئ، جانبًا إيجابيًّا.

هنا أقفُ إزاء فعالية القارئ، كالعادة، باحتمالات عديدة، ولكن بهاجس واحد: القارئ يمثل المتابعة الممكنة لكي تتحول القصيدة إلى فعل في الحياة، ولكن في ذات اللحظة التي يمثل القارئ فيها هذه الأهمية، فإن الشاعر ليس له أن يجعل القارئ، أيّ قارئ، المقياس الأخير والنهائي لنجاح أو فشل التجربة- القصيدة، لأنّ مثل هذه المقاييس تُوقع الشاعر في مأزق خطر، كأن يعتقد، مثلاً، بجودة قصيدة فاشلة، أو فشل قصيدة ناجحة، وعندها يضيع الشاعر كشخصية واضحة أمام تجاربه.

٢٢

قال أحدهم: (هذا هو الشعر الذي «يجب» أن تكتبه)

وقال آخر: (لقد قلتَ ما كنتُ أحسه، أو ما كنتُ أريد قوله تمامًا، وأنا بين أيدي الجلادين – وذكرتُكِ).

وقال ثالث: (لقد أصبحتَ واضحًا الآن).

هذه نماذج من «الانطباع» الأوّلي و(المتأنّي)، الذي كان على الشاعر أن يتعامل معها بهدوء، فالقارئ هو الناقد الشعبي الذي يَطرح ملاحظاته (أو هو لا يجهر بها أحيانًا كثيرة) بعفوية، بودّ أو بعدائية، باضطراب أو بوضوح، وتأتي مسألة تقنية، كل ذلك للوصول إلى الإضاءة الجوهرية في الفعالية النقدية للقارئ.

من هذه الشرفة أستطيع أن أحاور القارئ الذي يقول: (يجب) على الشاعر أن يكتب كذا.

تبدو المسألة سهلةً للبعض لأن يفرض على الشاعر، مثلما يطلب من آلة الخدمة الأتوماتيكية بأن تعطيه زجاجة «البيبسي كولا» بعد أن يضع في كتفها القطعة النقدية المطلوبة.

رأيتُ أحدهم يرفس إحدى الآلات، لأنها تأخرتْ قليلاً عن الدفع له بالزجاجة المثلجة المطلوبة.

وعندما يرفسني أحدهم في خاصرتي لكوني لم أكتب ما يتوجب عليّ كتابته، سأشعر بالرعب لأن بعض القرّاء يتعامل مع الشاعر كتعامله مع تلك الآلة. ولن أغفر لقشرة الحضارة جريمتها البشعة. وبصيغة ما، في هذا الرأي (البسيط) إلغاءٌ تامّ لكل ما كتبتُه من شعر قبل قصيدتي «مارس ٧٧». لأن ما كتبتُه قبل الآن—حسب هذا القارئ—ما كان يجب أن أكتبه.

هذا هو المعنى الساذج لذلك الرأي.

وإذا ما أخذ الشاعر ما يقوله هذا القارئ حرفيًّا وبشكل جامد، يكون قد ظلم نفسه وظلم القارئ في نفس الوقت، فالقارئ ليس ناقدًا أدبيًّا منهجيًّا، لكنه ناقد شعبي عفوي، وهنا تكمن خطورة الأمر.

الرأي الآخر الذي قال لي: (لقد أصبحتَ واضحًا الآن)، جعلني أعود إلى التأمل في الوضوح الذي يتحدث عنه. لم أكن غامضًا لكي أصير واضحًا الآن. ثم إن هاتين القصيدتين لا تمثلان أسلوبًا واضحًا، فهما ما زالتا معلّقتين في هواء الأفق الجديد ولم تمسّا أرض هذا الأفق. واللغة الجديدة لم تسلم نفسها للشاعر بعد.

فهل يهجس بها القارئ مبكرًا؟

لقد كان واضحًا أن ذلك القارئ يعني بالوضوح تلك المفردات المباشرة التي سطعت في القصيدتين، بصورة لم يتوقعْها مثل ذلك القارئ، فيما لم أكن قد تعمّدتها في التجربة. ولكن أيضًا أن أي مراجعة سريعة لقصائد قديمة سيجد ذلك القارئ مثل هذه المفردات كثيرة، وأكثر مباشرةً أيضًا. المسألة هنا تأخذ طابع حرارة التجربة التي عايشها هذا القارئ لحظة بلحظة مع الشاعر، مما جعله يكتشف، مثلاً،

(أخذونا من سجن البحر...)

و(فلنا أحلامٌ سيدتي لا تمنعها الجدران)

و(أمشي إليكِ،

وكل من يمشي إلى عينيكِ يسمو).

سيحتاج مثل هذا القارئ شجاعةً أدبية كبيرة، ليعترف بقصوره الذاتي في القدرة على الاكتشاف، ما دام هو بحاجة إلى أن يخوض التجارب الحياتية التي يعيشها الشاعر في الواقع اليومي، فمثل هذه الإمكانية غير متيسّرة لكل القراء في العالم.

لذلك فإنني لن أستغرب إذا جاء مثل هذا القارئ—خارج السجن—وقال ببلاهة:

(ماذا تعني بقولك:

تأتي رائحة الحب إلينا فتزيد السجن حلاوة.

لأنه لم يتمتع بعذوبة الحلم في ليل الزنازين الخشبية الضيقة كقشرة البندق، الواسعة كالفضاء.

٢٣

في المستشفى، للعلاج أثناء الاعتقال، تسنّى لي أن اقرأ قصيدتيّ «لغة للطفولة» و«قصيدة حب»، وأكتشف كم كنت موغلاً في الحذلقة. لقد كانت «قصيدة حب» نثرًا، و«لغةٌ للطفولة» طموحًا شعريًّا ليس أكثر، كما أن مجرد اعتمادي القصيدتين، وإدخالهما في حدود التجربة الشعرية، ونشرهما سيكون تشويهًا لتجربتي.

فأسقطتُ القصيدتين من اعتباري، وشطبتُ أيضًا أحد الفصول في مشروع رواية «وطن في حالة الصلب»، كما أوقفتُ مشروعًا لنشرها.

شعرتُ براحة عظيمة حين تخلّصتُ من عبء القصيدتين، فقد كان القلق يساورني طوال الوقت بشأن تلك المحاولة.

أذكر حين أجّلتُ الإجابة عن سؤال حاسم بشأن هذه المحاولة، قلتُ إنها عملية مهادنة مؤقتة. فالمهادنة تعني عدم القناعة بالواقع، بل التأمل فيه. والناقد الذي سينظر في هاتين القصيدتين بعد انتهائه مباشرةً من قراءة قصيدة «الدم الثاني» سيكون محقًّا إذا ما اعتبرني شاعرًا يعاني من انفصام الشخصية الفنية، ويتبرع لي بسرير في مستشفى الأمراض العصبية.

٢٤

(قابعٌ في زنزانتي المظلمة

ولكن قلبي يخفق مع أبعد نجم في السماء)

هكذا تحدّثَ الشاعر التركي ناظم حكمت، وهكذا تعلمت قلوبنا كيف تخفق مع نجوم السماء، مهما ابتعدتْ. وتُعايش العالم كما لو كانت موجودة في كل العالم.

هنا الشاعر يتوهج أكثر كلما حدّقَ في حركة الحياة من حوله.

هنا الشاعر لا يصير بحيرة نائمة ولا يأسن، لكنه يتحوّل نصلاً ملتهبًا ورهيفًا وغير قابل للانسجام مع الواقع.

كانت مسافة أشهر ثمانية جديدة من آذار/ مارس ١٩٧٧ حتى كانون الأول/ ديسمبر ١٩٧٧، لم أكتب شيئًا خلالها. ولكن ذلك الشعور السابق بغياب الشعر لم يخالجني هذه المرة، بل إنني كنت أعيش مناخًا شعريًّا غامرًا طوال هذه الأشهر. وأثقُ أكثر من أن مرجلاً يلتهب هنا.

واعتبرت قصيدتي «مارس ٧٧» بمثابة «دخان البراكين» المتقطّع الذي ينذر بقرب انفجار الأتون البركاني.

حركة الشعر داخلي كانت مثل سرّ الحب في قلب الفتاة العاشقة. لكن ما هو الوقود الذي يجعل هذا المرجل مشتعلاً؟ إنها هموم الإنسان الدائمة. وعذابات الشاعر التي لا تفسر، وأسئلة العذاب الشوكية المغروسة في كبد الشاعر، والتحديق في ما يحدث في العالم. ماذا يجري هنا وهناك وهنالك.

هنا: قيصر الجزيرة يغرس وتدًا لخيمته في دماء أضاحٍ كثيرة. النفط الجاهليّ يغطي سماءنا بعباءته ويستفرغ تراثًا وسخًا كاليأس. أُطِلُّ في ابتسامة طفلٍ رهنَ الاعتقال فأصيرُ مستقبلاً.

هناك: يتسع الخندق الذي يحفره «البلدوزر» الأسود، تصير القبور على امتداد الأفق العربي، يدخل العرب تاريخ اللجوء. القتَلة يتعلمون أسرع من المقتولين أو المرشحين للقتل. وأسمع الوقت يشحذ أسلحتَه.

هنالك: تزدحم مائدة العالم بأنخاب كثيرةٍ من دماء الفقراء. الفقراء الذين لم يموتوا بعد، يعانون تخمة الجوع، وفيما تجري الأحداث بشكل دراماتيكي، يعمل الأغنياء على تأخير ذروة التراجيديا العالمية.

غير أن هذا ليس كل شيء، فهناك أيضًا المرض، الشعور المتوتّر بالألم الذي تزخر به هذه المسافة، والألم بالنسبة للشاعر نزهة عجائبية نحو الموت، حيث يكون كل شيء تجربة في حياة الشاعر. حتى الموت (في المستشفى كانت الغرفة المجاورة قد لفظتْ ثماني جثث من بينهم طفلة في الخامسة من عمرها، جميعهم أكلت لحمهم النار، حين أنصت قليلاً كنت أسمع صراعهم النهائي مع الموت). تجربة تجعلني أعتقد بعدم عدالة الموت، وأن الموت ليس سوى حيوان مجنون لا يملك غير قرونٍ وأقدام قوية. وأتأمل، ملتهبًا، في الرفاق الذين استشهدوا وأسأل:

هل يمكن أن يكونوا قد ماتوا حقاً؟

لستُ مخبولاً، ولكن شعورًا ينتابني بأني سألتقي بكل الشهداء حين أمشي في شوارع الوطن، وأنهم لم يذهبوا الى الأبد.

غريبٌ هذا الموت الغريب.

وهذا ليس كل شيء أيضًا،

ففي هذه المسافة أيضًا كانت استعادة قصيدتي «مارس ٧٧» والبحث فيها عن ضوءٍ يُنير الخطوة التالية، لقد كان فيهما كثير من الضوء.

٢٥

دخان البراكين يعلن عن البركان، ولكنه ليس بركانًا، يأتي متقطعًا متفاوت التدفّق. وهذا ما ينطبق على قصيدتي «مارس ٧٧».

والبحث في هاتين القصيدتين من قِبَل الشاعر لاكتشاف ما يمكن أن تبشّر به، يؤدي إلى توضيح الرؤية الفنية عند الشاعر، وجسد الإمكانية الشعرية التي قد تحملها هذه التجربة. وهل هذا الدخان صادق الإشارة أم أن البركان خامد، وليس هناك سوى حملٍ كاذب؟؟

هذه المسألة قد تكفّلَ بالإجابة عنها الإنتاجُ اللاحق. ولكن الإضاءة المهمة التي يمكن للشاعر أن يستشفّها من سلبيات تجربته، تكمن في عددٍ لا يُحصى من التفاصيل التي من المحتمل جدًّا ألا يتّفق معه القارئ على وجهة النظر النقدية فيها. هنا جانب من معطيات المراجعات المتواصلة التي كنتُ أمارسها لدخان البراكين.

في «ولقد ذكرتك» يبدو لي جليًّا كيف أن الفارس القديم قد تغلّب - فنيًّا- على الفارس الجديد. فقاموس الشاعر القديم ومفرداته قد جاءا في بعض المواقع بدون الإشعاع الجديد. ولغة القصيدة حين استعارت هذه المفردات، عجزتْ عن إضاءتها بنكهة معاصرة. الأمر الذي جعل صوت الفارس الجديد بالكاد يبدو في مساحة أكبر من مساحة الصوت، الذي يفترض أن يكون أداة فنية فحسب. ذلك هو صوت الشاعر- الفارس القديم. ولعل مدخل القصيدة التقليدي المتوشح بقافية غير واثقة - فنيًّا- ساهم في خلق مناخ ماضويّ، مما أثّر في ذهن أحد الأصدقاء، ودفعه ليقتر كلمة «الخطوب» بدل كلمة «الحروب» معتقدًا بأفضليتها للسياق، في:

(ومن جراحٍ لا تداويها الحروب).

وفات صاحبَنا أنّ المسألة ليست رفع كلمة ووضع أخرى مكانها، فبالإضافة إلى كون كلمة «خطوب» غير مشعّة فنيًّا، فإنها ستكون بالفعل مسمارًا كبيرًا في النعش التقليدي الذي يحتضن القصيدة المسكينة.

ومناخ الفارس القديم التقليدي كان ضاربًا أوتادَه في نقطة أخرى، وهي القافية التي تبرز وتختفي بخجل، لا يدل على تردد الشاعر في استخدام القافية فقط، ولكن يدل أيضًا على عدم الاستعداد الفني لدى هذه القصيدة، لأن القصيدة التي تعتمد تجربة شعرية لشاعر قديم، ينبغي لها في الحالات الحديثة أن تكسر الشكل الفني للتجربة القديمة، وتبني شكلاً جديدًا، ليس بالضرورة لأن ذلك الشكل كان عاجزًا عن التعبير، ولكن لكي لا يؤدي استدعاء التجربة الشعرية القديمة - روحًا وجسدًا- إلى مأزق، يكون فيه الشاعر الجديد باهتَ الصوت، مشوّش الصورة، بالإضافة إلى قافية الباء التي اعترضتْ مدخل القصيدة، نرى التلاعب الساذج بالقافية في:

(بيني وبينك غابة الطعنات والقانون والقاضي

ولقد تعلمتُ القتالَ على يديك،

فلن تمرّ الخيل إلا فوق أنقاضي)

هنا يبدو الشاعر فارسًا تقليديًّا أولاً.

ويبدو المقطع كأنه قادم لكي ينهي القصيدة ثانيًا. ويفضح لنا كم هي انتقالات غير موفّقة، تلك التي حاول بها الشاعر ربط مقاطع القصيدة ثالثًا.

التدفق في القصيدة، إن كان قويًّا موضوعيًّا فهو من المؤكد لم يكن متسقًا فنيًّا. وهذا واضح في مواقع عدة، مثل الانتقال من نهاية الشطر المذكور قبل قليل إلى «أيا امرأةً تخيط»، والانتقال في المقدمة من «فاخترعت الحلم كنتِ في دمي» إلى «ولقد ذكرتك والرماح حديقة أزهو بها»، وهذا أدى إلى بناء فنيّ أقرب إلى التفكك. ومن الممكن أن يعتقد القارئ الحصيف بأن القصيدة لم تتعرض لنظرة متأنية من الشاعر قبل أن يعتمدها. بحيث يزيل منها شوائب الولادة الأولى، فالطفل حين يأتي إلى العالم في اللحظة الأولى، لا يبدو جميلاً كما هو بعد أن يتم تنظيفه وغسله وتخليصه من شوائب العالم الذي جاء منه بعد تسعة أشهر، وسيكون الاعتقاد مشروعًا من قبل القارئ.

أذكر هنا تجربة مماثلة لهذه التجربة، حيث كانت قصيدة «سقوط البكائيات الواقفة» التي نشرت في مجموعتي الثانية «خروج رأس الحسين من المدن الخائنة»، والتي استخدمت فيها موقفًا مضادًا لدعوة امرئ القيس التي قالها في مدخل معلقته «قفا نبكِ» حيث استخدمت نفس بُنية ذلك النص للقصيدة، وكانت خاتمة القصيدة الجيدة كلمة «قفا نضحك». والفرق أن التجربة، حسب تقديري، أكثر نجاحًا من تجربة «ولقد ذكرتك»، إذ إنّ بناء القصيدة الفنّي كان متناسبًا مع الموقف الجديد الذي يطرحه الشاعر، ولم تسيطر روح الشاعر القديم على صوت الشاعر الجديد، الأمر الذي لم يتوفر في التجربة الجديدة.

في «سيدتي نشتاق» سيطرت الموسيقى الهادئة إلى درجة الرتابة، بحيث بدتْ إيقاعيًّا لا تتناسب مع حرارة الانفعال العاطفي الذي تعبّر عنه كلمات القصيدة، وحين لا يتناسب اللحن مع معاني الكلمات تعاني الأغنية من الخلل الأساسي.

أعتقد أن هذا قد حدث بالنسبة لهذه القصيدة.

اللعبة الشعرية مغرية، لكنها ليست مأمونةً في أغلب الأحيان، لذلك سيبدو هذا المقطع «فأنتِ أغاني العرس/ النجمة في اليأس» جميلاً للوهلة الأولى بالنسبة للشاعر والقارئ أيضًا. ولكنه يشير إلى ضعف الشاعر أمام إغراء اللعبة الشعرية. ومثل هذا المقطع يؤدي بالشاعر إلى ما يمكن تسميتُه بالرقص المنفرد إذا صحّ التعبير.

هذا النوع من الرقص يشطّ بالشاعر إلى خارج القصيدة روحيًّا.

ولا تختلف هذه النظرة كثيرًا عند المقطع «منعوا الحلم عن الحالم. إلخ»، وسيكون جميلاً جدًّا لو أن الشاعر تخلّص من «أخذونا من سجن البحر إلى سجن الصحراء» ليحقق:

التخلص من الزوائد التي جاءت في شكل تكرار لا يضيف عمقًا،

تفاديًا للوقوع في التقريرية والمباشرة اللتين تعاني منهما هذه التجربة، ويُيسّر لها تماسكًا أكثر في بنائية القصيدة.

ماذا يقول دخان البراكين عن اللغة الشعرية؟

٢٦

«حين تتسع الرؤيا تضيق العبارة»

كم هي قادرة على التعبير هذه الكلمات التي قال «النفرّي» إنها تجسّد العذاب الذي يحمله الشاعر طوال رحلة البحث عن لغةٍ شعرية جديدة، كما يبحث الطفل عن الحلَمة، والجناح عن الريح.

إن اتساع الرؤية عند الشاعر هو التغلغل المتواصل في الواقع، والتنامي المكتشف لجذوة الأشياء، والسفر الدائم في وهج النيران. وكلّما توغّل الشاعر في هذا السفر، بدت اللغة أضيق من المعنى والمعاناة، فإذا اتكأ الشاعر على لغة شعرية واحدة، ورَكَنَ إليها قانعًا، فسيقول كلماتٍ مكرّرة، ويجترّ القشور اللغوية، ويعجز عن الوصول إلى اللبّ. وستصاب محاولاتُه التعبيرية بالكساح. وإذا لم يهتمّ الشاعر بنفض الغبار التراثي عن لغته، (ذلك الغبار الذي تفرزه اللغة القديمة ذاتُها)، ستموتُ بطيئًا داخل البوتقة الشعرية التي يتقوقع فيها الشاعر، كحلزون يُولد ولا يلد.

تكبر معاناة الشاعر، فيبحث عن الصوت القادر على حمل هذه المعاناة. أكثر من «صوت بحجم الفم» على حدّ تعبير الشاعر شوقي بغدادي. والرؤيا هي المعاناة + الشاعر. فإذا التقى الشاعر بلغته القادرة، يكون قد اتّجه إلى تحقيق طموح الشعر: إعادة تشكيل العالم بالشعر «محاولة بناء الكون ثانية».

إعادة خلق العالم يبقى طموحًا لا يتحقق.

لقد كان واضحًا، بالنسبة لي على الأقل، أنّ «دخان البراكين» لغة ضيّقة إلى حدٍّ ما، لغة لا تسعُني. فهي تنتمي إلى لغة القصائد القديمة بصورة أو بأخرى. وعلاقتها بالمستقبل تتمثّل فقط في الإرهاصات التي تلمع قليلاً في ثنايا المفردات، الطموح الذي تحمله هذه
الدفقات المرتعشة:

كم هي صغيرةٌ هذه الكأس/ فهمتُ أبحثُ عن كأسٍ تستوعبني.

البحث عن لغة جديدة، وعلاقات لغوية جديدة، هو هاجسٌ من الهواجس التي رافقتني بإلحاح في الفترة بين آذار/ مارس وكانون الأول/ ديسمبر ١٩٧٧. ويقينًا أنّ اللغة الشعرية الجديدة، عندما تكون همًّا وهاجسًا وهيامًا عند الشاعر، سيكون قادرًا على التحول دائمًا كطائر الفينيق، يطلع من رماد حرائقه، ينفض أجنحته ويحلّق.

٢٧

ماهي اللغة الشعرية؟

أجد من الضروري أن أقرّب هذا المفهوم النقديَّ للقارئ، لكي تتماسك الصلات بينه وبين فهم التجربة الشعرية، لأيّ شاعرٍ كان. قلت «أقرّب» هذا المفهوم، لأنّ مثل هذه المحاولة جدير بالشاعر أن يقصّر في الحديث عنها، ويفشل. فهو جزءٌ منها، بعكس الناقد الذي سيكون متهيئًا أكثر من الشاعر لمثل هذه المهمة.

المواد الأولية التي تتكوّن منها اللغة الشعرية هي:

حشدٌ لا متناهٍ من الأدوات الفنية، زائد ملَكات الشاعر، في تبسيطٍ مخلٍّ يدعى «الموهبة». أما الأدوات الفنية فكثيرة، في مقدّمتها:

المفردة+ علاقات المفردة بالأخرى+ الموسيقى+ الصورة+ الرمز+ المعنى بكل درجات الظل فيه+ لبّ الكلمة وقشرتها+ الأبجدية التي أُرهقتْ منذ امرئ القيس حتى اليوم+ الريح والحجر والانتظار والألوان والتعب والضوء والتنهد والأشرعة والناس والتراب. وكل شيء، كل شيء. إنها كل العالم. الشاعر يحوّل العالم لغةً باللغة، أو كما قال الشاعر الأميركي أزرا باوند «الشعر هو اغتصابُ العالم باللغة».

اللغة الشعرية التي يبحث عنها الشاعر منذ الأزل، إنها العالم كله+ الشاعر إبداعًا. وإذا نحن تمكّنا، بصعوبة، من تسمية الأدوات الفنية للّغة الشعرية، فإننا لن نصل حتى إلى الفشل، إذا حاولنا تسمية ذلك الشيء الغامض كالوردة، الذي يقال عنه «الموهبة».

إنه السر غير القابل للتفسير.

٢٨

(أنا الحامل عبء الكتابة

سأمجّد الكتابة) «سان جون بيرس»

٢٩

مرةً صرخ جان جون بيرس: «ضيّقةٌ هي المراكب»،

(فسألتُ النورس والبحّار عن البحر

سألتُ، سألت، سألت

فما جاوبني.

وحين اتسع الكون،

ضاقتْ كل لغات الحب بأشجاني)

فتيقّنت بأن «سان جون بيرس» كان محقًّا.

(فهِمتُ أبحث عن لغةٍ تستوعبني)

وكان الشعر صدرًا واسعًا أضاعني زمنًا. فحين كتبت «الوصية» تلذذتُ بشعور الطفل وهو يعثر على الحلمة.

اعتقدتُ بأني استعدتُ توازني الذي فقدته طوال الفترة السابقة، والذي فشلتُ في استعادته أيام «دخان البراكين». وجاء فرحي «بالوصية» مختلفًا عن فرحي بـ«دخان البراكين». الفرح هناك كان غرورًا، والفرح هنا جاء ضميريًّا.

لكن «الوصية»، كيف، ولماذا؟

جلعت غرابةُ العنوان عددًا من الأصدقاء يطرح أسئلة استغرابية. وأدرك تمامًا أن عنوان القصيدة جاء غامضًا، لذلك كنتُ أقول بأنه عنوانٌ مؤقت. ليس لأنه كذلك، ولكن لكي أتفادى شرحَ مسألة غير قادر على تفسيرها.

ليس هناك عنوان في العالم مناسبٌ لهذه القصيدة غير هذا العنوان. إنه مثل كعب «أخيل» في الأساطير الإغريقية.

لن يموت «أخيل» إلا إذا استطاع المقاتل أن يصيب كعب المقاتل. جزء صغير في الجسد لكنه قناة الحياة والموت.

كذلك «الوصية» بالنسبة للقصيدة. إذا أفرغنا كلمة الوصية من المفهوم السائد، القائل بأن الوصية هي النص الذي يتركه الميت للأحياء، نستطيع أن نتجاوز المعاني السابقة للكلمات.

وصعب جدًّا أن أوضح لماذا، وماذا تعني كلمة الوصية، ما علاقتها بالقصيدة. فبالإضافة إلى أنني غير مؤهّل لتفسير الشعر هنا، فإنني حقيقةً لا أستطيع التعبير عما أحسستُه تجاه هذا الموضوع. فإن هذه القصيدة تمثّل حلقة وصلٍ مهمة بين «الدم الثاني»، كختام مرحلة مهمة، شعريًّا، وبين ما جاء من قصائد بعد «الوصية» كمرحلة شعرية جديدة.

وأخشى أنني سأقع في التبسيط المخلّ الذي (يعقّد) الأمر، إذا أشرتُ بأن هذه القصيدة قد حملت «الوصية» من «الدم الثاني» وما تمثله جملةً وتفصيلا، فنًّا ومعنى، إلى كل ما سوف يُكتب بعد ذلك. فنًّا ومعنى.

هل قلت شيئًا مفيدًا.

يساورني بعض الشك في ذلك.

في «الوصية» قدْر كبير من العذاب. لا أقرّر ذلك، ولكنني ما زلتُ أعانيه حتى الآن. من هذه القصيدة بالذات. لم أعان عذابًا من قصيدة كما عانيتُ من «الوصية». ومحور أسباب العذاب هنا هي جملة وردتْ خلال القصيدة، حمل معنًى من أكثر المعاني تعقيدًا في «الوصية»:

(سمعت العزف على قتلي. مَنْ يقتلني)

كلمة «من يقتلني» هنا تحمل بحق معنى معذِبًا، ومعذَبًا أقرؤها في ذات اللحظة. «مَنْ يقتلني». ما زلتُ حائرًا في حقيقة الصيغة النحوية التي أقرؤها بها. هل هي صيغة السؤال، أم صيغة سؤال يحمل نكهة التحدّي، أم أنها صيغة سؤال المتمنّي الذي يطلب النجدة برصاصة الرحمة، لكي تخلّصه من عذاب حالة الاحتضار الطويلة، أم أنها تحمل صيغة غامضة لا أعرفها؟

لا أذكر بالضبط حالة تلك اللحظة، هل هي لحظة الكتابة، كيف كانت تلك الصيغة وما هو مصدرها، لقد وقعتُ في الحيرة حين وصلت عندها وقت إعادة القراءة. فالجمل التي تأتي قبلها وبعدها لا تفسّرها لي كثيرًا.

«الشمس صديقة أحزاني»، تأتي بعدها ولكنها تزيد الأمر غموضًا.

وسيكون عذابي مضاعفًا إذا اقتنع القارئ بصيغة «سؤال التحدّي» لهذه الجملة، ولكن القارئ الذي يكتشف شيئًا لم أكتشفْه، سيكون قد حقّق فعالية عجز عنها الشاعر. وحين يعجز، وينجح القارئ، تولد القصيدة من جديد. فأنا مع الشاعر الذي يطمح أن يكون لقصيدة من المعاني بعدد قرّائها.

سبع مرات تكرّرت كلمة «كئيبًا» في هذه القصيدة. وقصيدة في حجم «الوصية» كثيرٌ عليها هذا التكرار. أليس بإمكان الشاعر أن يخلق الكآبة كمناخ من خلال الصورة، بدل أن يقرر ذلك سبع مرات؟ أسأل. ولكن بعد أن صارت القصيدة بعيدة عن متناولي. لأنّ تفادي مثل هذا التكرار لا يمكن حدوثه إلا في مستقبل القصائد الأخرى.

بالرغم من أن القافية واحدة طوال القصيدة، إلا أنه لم تبرز من حيث بناؤها الإيقاعي قريبةً من العلاقات الموسيقية للقصيدة التقليدية. وهذا البناء الإيقاعي جديدٌ بالنسبة لي. فلم تتوحّد القافية في قصيدة لي منذ «خروج رأس الحسين من المدن الخائنة» حتى «الدم الثاني». ولعلّ تجربة «دخان البراكين» في لعبة القافية المرتبكة كان الضوء الأول، لمَا اتضح أكثر في «الوصية» ولما سيتأكد في القصائد الآتية «الوصية» التي ربما تخلّصت من أهم عيوب «دخان البراكين»، وهي ذات اللغة المباشرة وتفكك البنية والارتباك الهارموني.

أرجو أن يكون ذلك صحيحًا.

٣٠

قال أفلاطون:

«إذا تغيّرت الموسيقى اهتزّت أركان المدينة».

وقصيدة «كليم الماء» وضعتْني في مواجهة تجربة جديدة بالنسبة لي من الوجهة الفنية، فقد كانت القافية في هذه القصيدة إيقاعًا متميزًا، كان كفيلاً بأن يُحدث خللاً في أركان مدينتي الشعرية. فإن القافية التي بدت تتململ منذ «دخان البراكين» استطاعت هنا أن تفرض نفسها بقوة، لكن بلطف وليس بوحشية. ولعلّ فعل الأمر في «تدفق لتفتح للشعر قافية وتُموسق وزنًا» لم يأتِ عفويًّا أو من غير دلالة. لأن القافية بالفعل قد لعبت دورًا لا يُستهان به في تفجير البركان الشعري الذي لحق «كليم الماء» هاجس هذه القصيدة، مضمونًا، كان يتحرك عندي منذ أيام «دخان البراكين» ولكنه وقتها كان قويًّا فيما كنتُ ضعيفًا. فلم يتجاوز الهجس.

وإذا جاز للشاعر أن يسَمّي قصائده المحورية، فإن «كليم الماء» تمثّل محورًا من محاور المرحلة الشعرية الجديدة التي أعيشها، ويمكنها أن تُقيم حوارًا جيدًا مع «الدم الثاني».

القافية، بالنسبة للشاعر المعاصر، منطقةٌ مليئةٌ بالمحاذير والأخطار، أو هكذا يقال. وأذكر حين بدأتُ إحدى قصائدي القديمة جدًّا، أظن أنها قصيدة «أحبيني»، ملتزمًا قافية النون، فشلتُ في أن أعبّر بواسطة هذا السور، فاعتبرت أن العيب في القافية، لأنها لا تستوعب ما أريد التعبير عنه. (لقد كنت مغرورًا صغيرًا وقتها)، فواصلت القصيدة خارجًا عن سور القافية الواحدة، وما زلتُ حتى الآن لا أشك بأن «القالب» الموروث يظل عاجزًا عن حمل معاناة الإنسان الجديد، غير أن القافية ليست قالبًا، إنها أداة من أدوات التعبير، ولأن تجربتي الصغيرة، ما زالت صغيرة، فهناك عدد كبير من الأدوات الفنية التي لم أستفِد من فعاليتها، قديمة أم حديثة.

وقد قالت لي تجربة الشاعر مظفر النواب: إن في القافية سطوعًا بإمكانك أن تكتشفه. وحملتُ هذه اللفتة بجدية، وهِمتُ بالرقص الذي استطاعت القافية أن تخلقه في داخلي، لكنني كنت خائفًا من المحاذير التي ترافق القافية. فالتعامل مع القافية يستدعي قدرة تحويل هذا السور إلى سوار، سوار جميل أيضًا. فلم تخلُ «كليم الماء» من نقاط الضعف التي أدركتها مباشرة، فقلت:

حسنًا، إنه اللقاء الأول مع قافية من هذا النوع، ولابد أن يشوبه بعض الارتعاش والذعر، ربما خجلاً، وربما مفاجأة، ولكنه ليس فشلاً ذريعًا على كل حال.

العدد ٣١ - ٢٠٢١

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.