العدد ٣١ - ٢٠٢١

كيف يمكن إنقاذ الغد؟

وأَنا المُسَافِرُ داخلي
وأَنا المُحَاصَرُ بالثنائياتِ،
لكنَّ الحياة جديرَةٌ بغموضها
وبطائرِ الدوريِّ....
(محمود درويش)

في التسعينيات، عندما باشرتُ في إخراج أول فيلم لي «سجلّ اختفاء»، كنت أريد أن أسجّل موقفًا. كنت أريد أن أبيّن كيف أنّ سردية فلسطين ليست خطّية، بل تتكون من سرديات متعددة، من كسور صغيرة، ولحظات في الهوامش؛ وأنها تسكن في التجارب الشخصية واليومية المشتركة والمعيشة. وبهذا تصبح فلسطين العالمَ مصغّرًا، وتصير سرديتها سردية كونية بفضل اللغة السينمائية، فتغيّر بالتالي نظرة العالم إلى فلسطين. أي أن اللغة السينمائية ستضع فلسطين على الخريطة، بمعنى ما. أو هكذا أقنعت نفسي.

بعد عقود من ذلك، لم تعد فلسطينُ العالمَ مصغّرًا. فحالة العالم المشوّهة والحزينة قلبت المعادلة: بات العالم الآن فلسطين مصغّرة.

غضبُ المواطنين الموجّه ضد حكوماتهم وأنظمتهم الفاسدة يواجهه الرصاص والغاز المسيل للدموع. والعديد من الناشطين والفنانين والكتّاب والشعراء ومخرجي الأفلام والمثقفين قد تعرّضوا للاعتقال وانتهوا إلى أن حجروا أنفسهم في المنازل أو انكفأوا على مداواة جراحهم.

في تلك الأثناء تعرض مفهوم الكونية ودلالتها بالذات إلى تحدّ جادّ، هوجمت بشراسة وتهددتها بعنف عولمةٌ كانت تتسلل خفيةً منذ عدة عقود، وها هي الآن تمجّد بفظاظة لبذاءتها وسرعتها في التدمير.

تقلصت مساحات الانكفاء على النفس، وارتفعت الحواجز. ذات مرة، كانت السماء هي الحد، والآن باتت رحلات الروح الداخلية محدودة بالتجول في أنفاقٍ ضيّقة ومعادية. ننظر في عين الحيوان بتعبيره الحزين الصامت، كأنه يودّع التعبير المستوحد لعالمه وعالمنا السائر نحو الانطفاء.

المؤكد أن الحقيقة المؤلمة هي أننا نجتاز مرحلةً تاريخية حيث المخاطرُ الظاهرة أو الجوفية التي تهدد العدالة، والحروب، المعلن منها والخفيّ، التي تُجرّم البريء، تشوّه الحسّ العام الذي حريّ به أن يقودنا إلى فهم عالمنا الذي يتكشّف أمامنا. إن الإيمان بالحقيقة يقع الآن في عين عاصفة بلا وجه، تسيّرها قوى جاهلة تعيش على أنصاف الحقائق.

منذ عام تقريبًا، بلغت مأسي العقود الماضية ذروتها بأن رمتْنا بجائحة. ومذ ذاك، أطبق الصمتُ والشللُ على عالمٍ بات أبكمَ وبلا حراك.

في حديثٍ على العشاء مع الكاتب جون برجر قبل قليل من وفاته - ولعلّه، بالمناسبة، السبب في أني أصنع الأفلام - سألته، في لحظة تبخيسٍ للنفس والمعنويات الهابطة كنت أعيشها، «كيف يمكنك أن تظلّ متفائلاً إلى هذا الحد، عندما تشاهد العالم في أحواله الحالية اليوم؟ كيف يمكنك أن تحافظ على الأمل؟» قال: «لا نزال ننظر إلى العالم بأمل ولكننا ننظر إليه بعَينٍ فزعة».

ولهذا، أواصل الصمود. أعيد إيقاد إيماني باللغة الشعرية التي تتجاوز روحُها الخالدة الحدودَ وحواجز التفتيش على أنواعها، بما فيها الأوبئة والجائحات، منذ أن كان العالم. إن فنّ الشعر يملك مناعةً ضد الجائحات.

والحقيقة أني عندما أستجمع قواي وأضع صورة سينمائية جنب أخرى، ويتكشّف لي معنًى كان متواريًا، فثمة وعد. تتضخم تلك اللحظة، يتضخم ذلك المعنى، ويتحول إلى طاقة على استدعاء أشياء أفضل. فأواصل، متغاضيًا عن الأوضاع الراهنة. أو أعيش حالة إنكار، ولو إلى حين.

«والإيقاع لا يأتي من الكلمات
بل من وحدة جسدين
بل من ليل طويل»
(محمود درويش)

عندما كنت أصوّر الجزء الأول من فيلمي الأخير «إن شئت كما في السماء»، أخذتْ معنوياتي تتدهور يومًا بعد يوم، نتجت تلك المرة عن مشاهدة ما حلّ بمسقط رأسي، الناصرة. يعمّ المدينة شعورٌ من الأسى واليأس. إنها «غيتو» قاتم بلا فكاهة: وجوه منقبضة حزينة وابتسامات صفراء وعصابات ترود الطرقات الرئيسة في وضح النهار وفي الليالي المقمرة.

تساءلتُ يائسًا «أين تجمّعات الشباب الحيوية الجميلة؟ هل هي موجودة أصلاً؟». «إنهم في حيفا» قيل لي. انتقلوا إلى حيفا من الناصرة، وأيضًا من عدد كبير من القرى والبلدات الفلسطينية. وقيل أيضًا: «كل الأحداث التي تستحق الذكر تجري هناك».

«أريد أن أشاهدها» قلت.

شاهدتها. هو جيل جديد بأكمله قد تخلفتُ عنه.

مقاومتهم نشيدٌ موقّع، احتفالي، ثقافي، غير أيديولوجي، لحسن الحظ، ولا هو قَوموي. لذا هويّتهم الفلسطينية كناية عن مقولة، وهي ليست متجذّرة داخل حدود أيديولوجية. تتحدد هويّتهم بالأحرى من خلال تماهيهم مع القضايا العادلة عبر العالم.

خلال نشأتي، سعيت إلى تحقيق الوعد الذي سمّاه هيغو دُ سان فيكتور «الغريب الكامل». فقلت في نفسي «كل ما أردت أن أكونه ولم أكنه، كانوه هم». لقد حقق هذا الجيل الشابُّ رسالته، عضويًّا، دون تجربة المنفى وما قد تمنحه من فوائد؛ حقّقوا ذلك دون ارتحال. ونجحوا بدلاً من ذلك في بناء ديرة شعرية كأنما تشكلت مثل غيوم بيضاء، ديرة دائمة التحول إلى ما لا نهاية. وهذا هو مصدر إلهامهم ومقاومتهم الثقافية – حيث يتواشج الرابط الشخصي والسياسي مع مُحاور ما ورائي يستعيد لغةً أليفة أو يتحدث عن قيَم وجماليات وحدودٍ أخلاقية وحنان وتضامن وعزاء ومتع وجودية، وعن اللذة بذاتها ولذاتها.

فكيف إذًا يمكن إنقاذ الغد؟

«أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرة؟» نقرأ في نشيد من شعر محمود درويش.

إن وجِد ثمة «هناك» فسوف يكون مَقصد هذا الجيل من الفلسطينيين!

العدد ٣١ - ٢٠٢١

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.