في أحد مشاهد الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة، علّق الشباب أعلام فلسطين ببالونات معبّأة بالغاز حلّقت في سماء القدس والجنود الإسرائيليون يحاولون عبثًا إلقاء القبض عليها. في مشهد من أحد أفلامه، يطيّر إيليا سليمان بالونًا عليه صورة كبيرة لياسر عرفات فوق حاجز إسرائيلي. هي الحياة تقلّد الفن، كما يحدث في الأحداث الهامة والأعمال الفنية الملهمة.
هي مناسبة لنرسل هذه التحية إلى إيليا سليمان من خلال نصين، واحد كتبه صديقه جون برجر لمناسبة نيل إيليا جائزة الأمير كلاوس (٢٠٠٨)، والثاني يتحدث فيه إيليا عن اكتشافه الجيل الفلسطيني الجديد. نحسب أنّ الانتفاضة الأخيرة أجابت ببلاغة على سؤال إيليا عن «الأين» الذي يقصده شباب فلسطين: إنهم ماضون لإنقاذ الغد.
يجب أن أرسم صورة شخصية لإيليا ذات يوم. الخطوط المرسومة غالبًا ما تكون أدقَّ من السطور المكتوبة. وربما ينبغي أن أرسمه في الناصرة بفلسطين حيث وُلد، فلم يولد رجلٌ يضاهيه في الانتماء إلى مكان وإلى مصيره.
لعلّ هذا يجعله يبدو أنه رسمي، على العكس، إنه مازح. ليس من نوع مطلِقي النكات بعد العشاء. إنه مهرّج.
مثله مثل العديد من المهرّجين، يرى إيليا إلى الحياة على أنها مضحكة، ليس بسبب ما فيها من كوميديا وإنما بسبب الطريقة البذيئة التي بها تلحق خيبةٌ خيبةً إلى أن تنتهي البَكَرة وتظهر كلمة «النهاية».
يـظهر المهرّجن بمظهر البراءة، وهذا زيّهم التنكّري. الواقع أنهم مراقِبون حذقون للتجربة، يشاركوننا فجأةً وبخبث، نحن الجمهور، شعورًا مشتركًا من الخسران في وجه مظالم الحياة. وهذه المشاركة التي يرافقها الضَحِك تشجّع على الصمود وعلى شكلٍ مخصوصٍ من التضامن. لهذا يضيق صدر الطغاة بالمهرّجين ولا تطيقهم الهيئات التي تعشق السلطة لمدة طويلة. إنهم يقعون على الجانب الغلط من القانون، القانون
كما صنعه الأقوياء.
الإنصات إلى إيليا يتحدّث أو مشاهدته وهو يمثّل أو يتابع مشاهِدَ كتبَها، يذكّراني باستمرار بباستر كيتون.
كلاهما، راويًا أو ممثلاً، يستخدم التباعد ذاته الذي يصل إلى حدود الحطّ من قدْره، وهو يحافظ مع ذلك على هدوء الآلهة كما لو أنه يملك من الصبر ما يكفي لا لعُمرٍ واحدٍ وإنما لألفية كاملة. (يتشاركان في أفلامهما بإحساس مُشابه بالسماء والمكان) وفي تلك الأثناء ينطوي التباعد عند هذا وذاك على اتهام ضمني، على الرغم ممّا فيه من هدوء. هدوء يجعل كل نوع من أنواع الجشع يبدو وضيعًا.
***
إضافةً إلى كونه مهرّجًا، إيليا المخرج السينمائي شاعرٌ معاصر. ولغته الشعرية جزءٌ من جسده المهاجِر. ليس مَعبدًا. إنه يحمله معه. يفتحه في الليل عندما يكون وحيدًا. يتحدث إليه بخفَر بكلماتٍ سرية خاصة به. الشعر أسلوب في السفر بخفّة حاملي اللغة الأمّ وفي الحديث عن الأمور المهمة بحد أدنى من التفخيم. لم يعد الشِّعر ينتمي إلى أي مركز، بات ينتمي إلى الأطراف. مثله مثل الناصرة أو رفح.
الشِّعر الغنائي موجّه للسماء. إنه الملجأ الأخير، بمعنى ما. يُكرَه الشاعرُ على تأليفه عندما تثبت سائر الأفعال الأخرى أنها عديمة الجدوى. إنه نداءٌ يتطلب الاعتراف، إلى إعطاء صوتٍ لما يجري إهماله، لما يعامَل على أنه لا شيء مع أنه موجود كصلة وصل بين من هم بمتناول اليد. في شعر إيليا السينمائي ليست تتضمن تلك المشاعر أيّ إشفاقٍ على النفس مطلقًا — إن المهرج في إيليا يلغي
هذا الاحتمال.
إيليا الشاعر يجمع الكسور والصمتَ الذي يحيط بها، اعتقادًا منه أنّ صمتها يرممها ويعيد تجميعها في كلٍّ واحد، لا ينكسر، لأنه يمثّل حقيقة من منظار السماء. «يدٌ إلهية» (عنوانُ أحد أفضل أفلامه) لا يشير إلى معجزة وإنما إلى دور للسماء في تسلّم شهادة.
***
إن شئنا التعرّف إلى ما يجري في عالمنا اليوم – أكان الأزمة الاقتصادية المتوقعة والراهنة، أم الخديعة المسمّاة «الحرب ضد الإرهاب»، أم ظاهرة الهجرة الكونية اليائسة الناتجة عن أشكال الفقر الجديدة التي هي مِن صنع الإنسان، أم عن الوضع في فلسطين، حيث كلّ إحقاق للعدالة مؤجّل أبدًا – وكان علينا الاعتراف بما يجري في العالم لكي نعطي حيواتنا معنًى ما – فإننا لم نعد نستطيع الاتّكال في ذلك على القادة السياسيين ورجال الأعمال، ولا على نشرات الأخبار، فكلها تبالغ في التبسيط والكتم والنسيان، وتعيد النظر بالتاريخ على نحو كيفي أو أنها تكذب بكل بساطة. إن نصدقّها تتفلّت من وعينا الوقائع المعيشة حُكمًا.
ثمة حقبات تاريخية (توصف عادةً بأنها مظلِمة) تكون فيها الحقيقة وألمُها وآمالها جوفية، أعمق بكثير من مقاعد السلطة. وبداية القرن الواحد والعشرين حقبة من هذا النوع. باتت الشهادات البديلة ضرورة جوهرية لإعطاء معنًى لما يجري.
لهذا نحتاج إلى المهرّج بحسه التراجيدي وإلى الشاعر بمهارته في إنقاذ الأجزاء المتناثرة. ولهذا يستحق إيليا سليمان والأفلامُ المستقلة بشراسة التي أخرجها الجائزةَ التي مُنحت له.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.