لقد اقتصر توثيق ودراسة الإنجازات الثقافية لرواد الهجرة الأوائل من السوريين واللبنانيين والفلسطينيين وغيرهم إلى الولايات المتحدة، بمعظمه، على تسليط الضوء على أدباء الرابطة القلَمية عمومًا. وعرّجت الدراسات أحيانًا للحديث عن إسهامات بعضهم في حقول مختلفة، مثل حسن كامل الصباح في تلك الفترة ومايكل دبغي لاحقًا. لا يعني ذلك أنه قد تمّت تغطية كل ما أنتجه الروّاد على الصعد الثقافية المتنوّعة، إذ يبدو أن أفرادًا من الأجيال المتعاقبة، ولأسباب عديدة، بدأوا يهتمّون بنبش التراث واستحضاره بناءً على معطياتٍ بحثية لخدمة سردية الحاضر وغيره من العلوم الإنسانية. وهذا ما يساعد على سدّ الفجوة في كتابة التاريخ الثقافي/ الإبداعي لمسيرة الروّاد في حقول عديدة لم تُستكشف، كالغناء والتمثيل والرسم والنحت والسياسة وإدارة الأعمال والانخراط في الشؤون اليومية لمتطلبات الحياة وغيرها.
في مجتمعٍ تتعدّد فيه هويّات مهاجريه، تضيع بصمات الإثنيات على نسيجه إن لم تُسجَّل. وفي ظل هيمنة ثقافة الأنكلو- ساكسون البيض – البروتستانت، ينعدم تشجيع إشهار الهوية. حاليًّا، بدأت الأجيال اللاحقة التصدّي لهذه المهمة، وقد ساعدت وسائلُ التواصل الاجتماعي وسهولةُ النشر على ولادة أركولوجيا تاريخية عن زمن كان يُعتبر مندثرًا.
عصارة عشرين عامًا
كتاب «فارس سليم معلوف. صوت في الظلمة: مسيرة ناشط عربي أميركي» تأليف تشارلي معلوف سماحة (٢٠١٩، ٥٩٨ صفحة مع صور) استحضارٌ لحياة الناشط اللبناني فارس سليم معلوف بكل تفاصيلها في الولايات المتحدة الأميركية، واختصارٌ وانعكاس وتأريخ لحراك الجالية اللبنانية/ السورية/ الفلسطينية على الصعيد السياسي والدبلوماسي في النصف الأول من القرن العشرين.
وتشارلي سماحة، المحامي القاطن في فلوريدا، صرَف عشرين عامًا من عمره مفتّشًا وموثقًا كل ما يمتّ إلى فارس بصلة. واعتمد في ذلك على مذكراته اليومية التي كان يحرص على كتابتها قبل النوم، وعلى ما وجده من وثائقَ في بيوت عشرات الأصدقاء والمعارف وفي مقارّ الجمعيات السياسية والثقافية والاجتماعية، إضافةً إلى ما تحويه مكتبة الكونغرس من شهاداتٍ له أمام لجانه، وما نشرتْه الصحف باللغتين العربية والإنكليزية، وما احتفظت به المتاحف من صور، ليُدوّن تاريخَ ناشطٍ على الصعيدين السياسي والدبلوماسي (كانت له علاقات مع السلك العربي الدبلوماسي في نيويورك وواشنطن). وهكذا كان يؤرّخ الكاتب، في الوقت نفسه، لحقبة غنية ولكن غائبة عن رادارات الدراسات الإثنية ومؤرّخيها، ويحْيي ذاكرة الجالية العربية الأميركية الحالية، ناهيك عن ذاكرة البلاد الأمّ التي هاجروا منها.
قبل الدخول في المراجعة لا بد من الإشارة إلى نقطتين:
النقطة الأولى: ينحو بعض الدراسات الجامعية وبعض مراكز الأبحاث المؤرِّخة للروّاد سابقًا ولتجربة العرب الأميركيين حاليًّا، إلى الإستنتاج بأن تراكمًا كيفيًّا ونوعيًّا حصل منذ بدء هجرتهم في أواخر القرن الثامن عشر وحتى الآن، الأمر الذي يسمح بالنظر إلى هذا التاريخ ككلٍّ متّصل مكوّن من لُبنات متراكمة أفضت إلى ما هم عليه حاليًّا. أعتقد أن هذه الفكرة تدل على قصور بمعرفة آلية تطور وتغيّر هوية المجتمعات الاستيطانية والمجتمع الأميركي بشكل خاص.
من ناحية هوية وانتماء الجالية السورية/ اللبنانية، يمكن الحديث عن مرحلتين. تمتدّ الأولى منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى إقرار الحقوق المدنية للأقليات في المجتمع الأميركي في منتصف ستينيات القرن الماضي. والمرحلة الثانية تستمر من منتصف الستينيات حتى اليوم. في المرحلة الأولى كان أبناء الجالية يرتبطون بالدولة العثمانية، وكان لقب “تركو” هو السائد في ملفات دخولهم وتسجيلهم. وبعد سقوط السلطنة في الحرب العالمية الأولى، اعتُمدت تسمية السوري أو اللبناني بعد الولادة السياسية للبنان عام ١٩٢٠. أما اعتماد تسمية «العربي الأميركي» التي تنطبق على كل أبناء البلدان العربية في غرب آسيا وشمال أفريقيا، فتمّ في المرحلة الثانية، أي بعد إقرار الحقوق المدنية للأقليات، وهو مستمر إلى الآن.
أدّى توقّف العمل بقانون جمع الشمل (١٩٢٥- ١٩٦٥) إلى انحسار الهجرة، وهذا ما أعطى مجالاً لتمثّل الحياة الأميركية والتسرّب إلى الثقافة السائدة والتماهي معها. يومها كان طموح المهاجرين يتلخص بأن يكونوا من أبناء الطبقة الوسطى، أي بتحقيق «الحلم الأميركي»- امتلاك سيارة وبيت وعمل- الذي سيطر على مخيلة الشعب خلال سنوات الرخاء بعد الحرب العالمية الثانية وإنشاء دولة الرعاية الاجتماعية تحت عنوان “العقد الجديد”، والذي ننعم حاليًّا بأحد أهم إنجازاته: الضمان الاجتماعي والصحي للمتقاعدين. ولم يكن لهذا الطموح أن يتحقق لو لم تتشذب شخصية المهاجر وتتبنّ قيَم الأنكلو- ساكسون البروتستانتية. لذلك نجد أنّ هَمّ معظمهم كان تعليمَ أولادهم - الذين تبنّوا أسماء إنكليزية في معظم الأحيان أو التي حُرّفت لتواكب السائد - كيفيةَ الانخراط في عجلة الإنتاج وتحقيق الحلم، أي تخليص ما يميّز شخصية المهاجر/ة من العنصر الثقافي للهوية كي تنسجم مع السائد.
يتمحور كتاب معلوف حول الحراك السياسي للروّاد من السوريين واللبنانيين والفلسطينيين، من خلال سيرة أحد الناشطين باعتباره يمثّل مرحلة واحدة متكاملة ومنفصلة كليًّا عن المرحلة التي تلت إقرار الحقوق المدنية عام ١٩٦٤ وألغت التمييز العنصري المرتكز على اللون والعِرق والانتماء، إضافةً إلى تحقيق المساواة على مختلف المستويات، مع إقرار حقوق الإثنيات بتعلّم لغاتها وثقافاتها.
تميزت المرحلة الثانية بهجرات اللبنانيين والفلسطينيين واليمنيين، ولاحقًا العراقيين والسوريين، وكل المتضررين من أنظمة القمع والفساد والحروب الأهلية واعتداءات الكيان الصهيوني في العالم العربي. وقد امتدّت من عام ١٩٦٥ إلى الآن. وقد بسط مهاجرو هذه الحقبة ثقافتهم بكل أوجهها على السائد من حياة الروّاد السابقين والمتجذّرين منذ ١٩٢٥ حتى ١٩٦٥. من الناحية الدينية، انتشر الفكر الوهّابي مع الصحوة الإسلامية، بتشجيعٍ من السياسة الأميركية/ السعودية لمواجهة الغزو السوفييتي لأفغانستان وانتصار الثورة الإسلامية في إيران. وهكذا أصبح الإسلام، بنسختيه، يتضمّن أصوليةً لم يعهدها المسلمون سابقًا في الولايات المتحدة. وثقافيًّا، أيضًا، تعزّز حضور وانتشار اللغة العربية في الإعلام والمدارس والمجتمع واستُحضرت كافة العادات الاجتماعية المهيمنة في المجتمعات الأمّ وأصبحت هي السائدة وأقصت بجديدها الثقافي كل ما كان قائمًا في السابق.
النقطة الثانية: موضوع الكتاب، وبالتالي المراجعة، هو لمرحلة الروّاد في النصف الأول من القرن العشرين. ولذلك ينبغي التمييز بين الروّاد المهاجرين سابقًا والعرب الأميركيين حاليًّا. فالروّاد تمثّلوا بمعظمهم ما كان سائدًا، من دون أي طرح لمسألة الانتماء لإثنيتهم قبل الهجرة، فهم ليسوا أكثر من أبناء أصلٍ لأوطانهم، ومنهم من حافظ على هويّته الدينية بما لا يتعارض مع الطموح ليصبح من الطبقة الوسطى ماديًّا وثقافيًّا. أما مفهوم العرب الأميركيين المعتمَد حاليًّا فوليد إنجاز الحقوق المدنية التي تحقّقت كتتويج لنضال الأقليات، خصوصًا الأفارقة والإسبان/ التشيكانو. ومن إرهاصات هذا النضال في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، ولادة مؤسسات عربية أميركية مثل «لجنة مكافحة التمييز الأميركية العربية» “ADC” و«منظمة الخرّيجين العرب الأميركان» “AAUG”و«المركز العربي للخدمات الاجتماعية والاقتصادية» “ACCESS” وغيرها. وهكذا أسس الجيل الأوّل من المهاجرين بعد ١٩٦٥ البُنى المادّية التي اعتُمدت كمنصّة لولادة الجيلين الثاني والثالث السياسية، والذي بدأ يبزغ في التسعينيات باندفاعةٍ تعبّر عن مكنوناتٍ مهمة وواعدة. وخير من عبّر عن صعوبة بدايات العرب الأميركيين في هذه المرحلة، والتي أسست لما تلاها من نجاح، الدكتور أحمد بيضون في كتابه «بنت جبيل ميشيغان» الصادر في ثمانينيات القرن الماضي: “المهاجرون محاصرون بالموت والغربة”، مضيفًا بأن “الجالية حصرت أميركيّتها في المعاش واستبقت سائر وجوه حياتها”.
فارس سليم معلوف
ولد معلوف عام ١٨٩٢ في قرية زبوغا الواقعة في سفح جبل صنين الغربي في قضاء المتن اللبناني. يومها، شكّلت الهجرة إلى العالم الجديد حلمًا يدغدغ كل المراهقين المتسكعين في قرى جبلية من دون فرص عمل، أو أي أمل بالخلاص من الجور العثماني والحروب أو النزاعات الطائفية والمحلية. بعد التحاق أخيه رشيد بكنيسة “سانت آن” لطائفة الملكيين الكاثوليك في القدس لدراسة اللاهوت (أصبح لاحقًا أسقفًا للطائفة في بعلبك حتى عام ١٩٦٧، وتبنّى اسم يوسف)، وبعد هجرة أخيه الأكبر ناصيف إلى البرازيل، أصرّ فارس وأخوه يوسف، على الرغم من صغر أعمارهما، على الهجرة إلى الولايات المتحدة لأن أختهما سبقتهما إليها بصفتها زوجة لأحد أبناء الضيعة. هاجر فارس (١٥ عامًا) ويوسف (١٦ عامًا) بالرغم من توسّل الوالدين لإبقائهما في لبنان. عام ١٩٠٧ حطّا الرحال في بوسطن تاركَين وراءهما، بالإضافة إلى الوالدين، أخًا وأختًا من ذوات الاحتياجات الخاصة. وكمعظم الروّاد، بدأ الأخوان العمل في بيع “الكشة”. وفي خلال عامين كانا قد غَطّيا بترحالهما معظمَ ولايات الجنوب، جورجيا وميسيسيبي وكارولاينا وتينيسي وألاباما وكانتكي. ولطالما عبّر فارس عن سخطه من المعاملة العنصرية السيّئة التي كانت تمارس ضد الأفارقة في تلك الولايات. وعلى الرغم من الجهد الكبير الذي بذله الشقيقان في بيع “الكشّة”، لم يبتسم الحظّ لهما. بعد سنتين تلقّيا نبأ وفاة والدهما في لبنان، وتضاعَف حزن فارس عند موت أخيه ورفيق رحلته يوسف، فعاد إلى بوسطن ليبدأ حياةً جديدة، وليعمل مياومًا في العديد من المصانع. كما حرص على تعلّم اللغة الإنكليزية بعدما تيقّن بأنها الأساس لمعرفة المجتمع ولبناء مستقبل.
تلازُم الدرس مع عملٍ يوميّ دائب ودراسةٍ ليلية، أعطى أُكُله عندما نجح فارس في امتحان الولاية لنيل (Bar exam)، رخصة ممارسة مهنة المحاماة عام ١٩٢٨. وفي تلك الأثناء نجح في استقدام أمّه وأخيه الأصغر وأخته، فأصبح معظم أفراد العائلة في عهْدته، بالإضافة إلى زوجته. وبعد تعرّض أخيه ناصيف وابن أخيه في البرازيل لعملية قتلٍ متعمّدة ومدبّرة، استقدم فارس أربع فتيات من أطفال ناصيف فنشأنَ في كنَفه. وتنبغي الإشارة إلى أن يوسف وأخاه الأصغر لم ينجبا أطفالاً. ارتبطت إحدى بنات أخيه برجلٍ من الخنشارة، وهي والدة مؤلف الكتاب الذي ما زال يمارس مهنة المحاماة في فلوريدا، وهو عضوٌ نشط في العديد من الجمعيات العربية الأميركية ومنها منظمة «RAWI» للكتّاب العرب الأميركيين. ومن مؤلفاته بالإنكليزية، كما وثّقها مركز «خيرالله للانتشار اللبناني» Moise A. Khayrallah Center for Lebanese Diaspora Sudies، كتاب عن قريته زبوغا، وكتابان عن عائلة معلوف ومسوّدتان عن خطار ناصيف سماحة وعن أبي جورج صليبا- بتغرين، وناصيف معلوف ١٨٢٣- ١٨٦٥ الترجمان والمستشرق.
شراكة عقاريّة مع جبران
لم يكن فارس بعيدًا من أعضاء الرابطة القلَمية وإنتاجهم الثقافي، حتى أنه اشترك مع جبران خليل جبران في استثمارٍ خاسر في عقار ببوسطن. كلّفتهما الخسارة مبلغًا ماديًّا كان له أثر سلبي على حياة جبران لمدّة عامين (١٩٢٤-١٩٢٥) كما يذكر الأخير في رسالته إلى ميخائيل نعيمة، وقد أنقذتهما من الهلاك المادّي ماري هاسكل، التي كانت متأهّلة يومها من ثريّ في ولاية جورجيا. وفارس هو ابن تلك الحقبة، المُلِمّ بعمقٍ بتاريخ المنطقة العربية وثقافتها ولغتها، وأوضاعها السياسية والاجتماعية. أثمرت جهوده في دراسة الحقوق لإتقان اللغة الإنكليزية والتكلم بها وبلكنة أهلها، وأَهّلَهُ ما تمتّع به من كاريزما قيادية وقدرة على الخطابة، واقتناع بأخلاقية وصوابية معتقداته، للانخراط بقضايا مجتمعه. فحجز لنفسه مقعدًا في قيادة كل المنظمات التي شارك في عضويّتها أو في تأسيسها. وكرّس حياته وبشكلٍ يومي وشبه متفرّغ لتحقيق أهداف ما التزم به، ولإحقاق ما آمن بصوابيّته، فتسلّم مواقع تخوّله تمثيل المصالح الحيوية لشعوب لبنان وسورية وأهمها قضية فلسطين، سواءً في اتصالاته مع المسؤولين في الولايات المتحدة أو في أوروبا، أو مع البعثات الدبلوماسية العربية في واشنطن أو في الأمم المتحدة. ومن الجمعيّات التي نشأت في تلك الفترة «الفيدرالية السورية اللبنانية الأميركية في الولايات المتحدة – الشرقيـة» اسمها (Syrian and Lebanese American Federation/ Eastern States /or SLAF/ES) التي تأسست عام ١٩٣٢، ولا تزال فروعها الثلاثة نشطة بإدارة أحفاد الروّاد.
بدأ معلوف نشاطه السـياسي والاجتماعي في «Syrian American Club of Boston» “SACB” في بوسطن، والذي تأسس من دون ترخيص عام ١٩٠٣، لمساعدة غير المحظوظين والوافدين الجدد من أبناء الجالية، ونال الترخيص عام ١٩١٣. وكان الانتساب إليه محصورًا بمن حصل أو مَن تقدّمَ بطلب للحصول على الجنسية الأميركية. انتسب فارس للنادي عام ١٩١٦، بعد سنة من حصوله على الجنسية. وأصبح رئيسًا له عام ١٩١٧ وحتى عام ١٩١٩، أيّد خلالها دعم الحلفاء للتخلص من العثمانيين وضَمان استقلال سورية الكبرى. وقد استجاب لدعوته حوالي ألفَي شخص تسجلوا للتجنّد في الجيش على أمل تخصيص فرقة منهم لتحرير سورية من العثمانيين. كما أن الحملة المادية لبيع سندات دعم المجهود الحربي أسفرتْ عن جمع ١٨٥٠٠ دولار أميركي. كذلك استطاع أن يحثّ «Syrian Ladies Aid Society SLAS» (١٩١٧ - ٢٠١٧)، على المساعدة في إرسال معدّات مستشفى مَيداني إلى لبنان. ولم يقتصر نشاط فارس على الصعيد المحلّي. أبرق إلى رئيس الوزراء البريطاني حينها لويد جورج لشكره وتهنئته على تحرير فلسطين من العثمانيين وحثّه على تحرير سورية. كما أوكل إلى رجل الدين إبراهيم متري الرحباني تمثيل النادي السوري/ بوسطن “SACB” في مؤتمر فرساي في باريس للسلام (١٢ حزيران/ يونيو ١٩١٩- ١ نيسان/ أبريل ١٩٢٠) على أن يعبّر عن آمال السوريين بتحرير سورية الكبرى واستقلالها، وتلخّص شعارُه بعبارة «سوريا للسوريين موحّدة ومستقلة». ويذكَر أن هذا الشعار لم يرقَ لقلةٍ من الموارنة الذين أرادوا استقلال لبنان عن سورية الكبرى، فانقسم الموقف السياسي في أوساط الجالية إلى اتجاهين واضحين: أحدهما مع استقلال سورية ووحدتها بوصايةٍ أميركية، وكان فارس معلوف من مؤيّديه، والثاني يمثله ناشر جريدة «الهدى» نعوم مكرزل، الذي نادى باستقلال لبنان بوصايةٍ فرنسية.
أما الكاهن إبراهيم رحباني، والذي أصبح مستشارًا ومترجمًا للملك فيصل، ومبعوث فارس، فلم يمثّل النادي السوري الأميركي في بوسطن “SACB” فقط، بل مثّل أيضًا «الرابطة السورية الوطنية» (Syrian National Society - SNC) التي تأسست عام ١٩١٨، وبدأت تعاونها مع “SACB” لتشابه مهمّات المنظمتين: دعم تحرير سورية والمحافظة على وحدتها وتعزيز العلاقات بين الشعبين الأميركي والسوري. شدّ هذا التعاون عُرى الثقة والصداقة بين فارس معلوف وكافة الناشطين والأكاديميين المهاجرين من أنحاء سورية والوطن العربي، فأصبح صديقًا للمؤرّخ فيليب حتّي وللدكتور جورج خيرالله. في معظم الأحيان، كان يُعزى الانقسام وتبايُن الآراء في أوساط الجالية إلى أسباب طائفية، أي بين الموارنة والأرثوذكس. في حين نجد أن التباين حصل نتيجة الموقف من “وعد بلفور”، فقد رأى فريقٌ في هذا الوعد خطرًا ليس فقط على فلسطين بل على سورية أيضًا، بينما اعتبره الرأيُ الثاني، الذي يمثله مكرزل، أضغاثَ أحلام لن يستطيع الصهاينة تنفيذه، وأنه يشبه أمنيات العرب بالعودة إلى الأندلس.
تفتّحت صفات القيادة في شخصية فارس ونضجت حتى قبل تتويجه محاميًا ناجحًا عام ١٩٢٨. لقد نسج فارس شبكة علاقات موسّعة بفضل غزارة النشاطات التي شارك بها، جعلتْه قطبًا رئيسيًّا في نشاطات منظمات الجالية، وفي الاتصال مع الإدارة الأميركية أو مع البعثات الدبلوماسية العربية في واشنطن ونيويورك. في تلك المرحلة بدأ توسّع الولايات المتحدة الإمبريالي، ولكن ليس باتجاه الشرق الأوسط ، فظنّ الناشطون العرب وراهنوا على إمكانية إقناع المسؤولين في الإدارة الأميركية بأهمّية التعاون والاستجابة لرغبة الشعوب العربية بالاستقلال والوحدة والحرّية، إيمانًا منهم بمبادئ نشر الديموقراطية و تمدين مجتمعاتهم، ومنْحها حق تقرير المصير التي يروّج لها الإعلام. ولكن بعد “وعد بلفور” وضرورة التصدّي له، وجد الناشطون العرب أنهم بمواجهة قوةٍ متنامية للصهاينة لاستمالة الحكومة الأميركية والاستئثار بدعمها. وهكذا أصبح النشاط السياسي لمعظم المنظمات في أواخر العشرينيات والعقود اللاحقة موجّهًا نحو القضية الفلسطينية .
على صعيد آخر، نجح فارس بمطالعته أمام لجنة الكونغرس المؤقّتة عام ١٩٣٦ في أن يضمن الجنسية وكل العطاءات المفترضة لكل مَن شارك من العرب بالتجنيد خلال الحرب الأولى- فقد حُرموا منها لأنهم مولودون في أرض الأعداء- واستفاد من حمْلته أكثرُ من ١٢ ألفًا من العرب.
من أجل فلسطين
الفصل الثالث من الكتاب زاخرٌ بالنشاط المتعلق بالقضية الفلسطينية ويغطّي أعوام ١٩٣٨ وحتى ١٩٤٥، هنا يبدو واضحًا لدى كل الناشطين العرب أن المحور الرئيسيّ لحراكهم يجب أن يركز على الموضوع الملحّ والخطر المحْدق بفلسطين، وبالتالي بالبلدان العربية. ومن المنظمات التي تصدّت لذلك «رابطة العرب الوطنيين» (Arab National League/ ANL) التي أسسها فؤاد عيسى شطارة عام ١٩٣٦ واستمرّت حتى عام ١٩٤٢. وكان فارس رئيس فرع الرابطة في بوسطن، والذي كان يتمتّع باستقلالية عن المركز في نيويورك. وقد حدّدت هذه الرابطة أهدافها بسورية الموحّدة والمحرَّرة والمتماهية مع النظام الأميركي كونه الأكثر ديموقراطية في العالم. أما الخطوات العملية فعبارة عن اعتماد برنامج إصلاحي يرتكز على توظيف الرأسمال في مجال النفط، واعتماد الرأسمالية كأساس في نظام سورية الاقتصادي. واعتبر أعضاء الجمعية أنفسهم رسلاً للولايات المتحدة ولمصالح العالم العربي. وبدأت في هذه المرحلة تبرز عبارات العالم العربي ووحدته بجانب الوحدة السورية. وقد لعب أمين الريحاني دورًا في هذا المجال. إضافةً إلى ذلك، أدّت هذه الرابطة دورًا تنويريًّا في تثقيف الجمهور الأميركي حول القضية الفلسطينية. وعمل في فرع بوسطن العديدُ من المثقفين على مختلف الجبهات للتصدّي للبروباغندا الصهيونية، والتي راح نشاطها يبرز شيئًا فشيئًا. وتمثّلت الفكرة الرئيسية التي حملتْها الرابطة، وبتأثيرٍ من فارس، في أنّ المشكلة ليست مع اليهود - والتاريخ شاهد على ذلك- بل مع الصهيونية وطموحاتها الخطرة. وتدلّ قراءةُ إحدى مقالاته في صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» في ٣ آذار/مارس ١٩٣٩، على مدى بُعد نظره وسِعة اطّلاعه وموضوعيته، التي تُضفي راهنية وحداثة واستشرافًا على تحليله واستنتاجاته.
صدر «الكتاب الأبيض» بشأن القضية الفلسطينية عام ١٩٣٩ فأثار الصهاينةَ كونه يحدّ من الهجرة، ولم يُهدّئ من روع العرب. وتجلّى الصراع في تظاهراتٍ من قبَل الطرفين في بوسطن وغيرها من المدن. دعا أعضاء الرابطة حاييم وايزمن، الذي كان يزور بوسطن، إلى مناظرةٍ فلم يستجب، كما أرسل فارس رسالةً تشرح له حقّ الفلسطينيين التاريخي في بلدهم، وضرورة عدم المسّ بحقوقهم، واعتبر أن الهجمة الصهيونية على فلسطين إضعاف للجبهة المعادية للنازية.
استطاع مؤتمر «المؤسسة السورية الأميركية» (Syrian American Foundation/ ESF) الذي عقد في أيلول/سبتمبر ١٩٣٩ أن يجمع ٦٥ منظمة من أنحاء الولايات المتحدة، وانتخب فارس رئيسًا للجنة التجنيس فيها. كما أعلن فارس في المؤتمر توحيد أندية الجمعيات السورية اللبنانية تحت اسم «الفيدرالية السورية اللبنانية للأندية الأميركية» (National Association of Syrian and Lebanese American Federations).
مع الوفاة المفاجئة لمؤسس الرابطة فؤاد عيسى شطارة عام ١٩٤٢، ومع تعاظم الهجوم الصهيوني وإعلاناته المتكرّرة في الصحافة التي تحثّ على ضرورة دعم الحركة الصهيونية في كل المجالات، وجد الناشطون السوريون واللبنانيون والعرب ضرورة الارتقاء في الدفاع عن الحق الفلسطيني إلى المستوى الفيدرالي، فتم إنشاء مؤسسة «الشؤون العربية الأميركية» (Institution of Arab American Affairs / IAAA) وحرص أعضاؤها على اختيار فارس نائبًا للأمين العام ثم رئيسًا، ولاحقًا أمينًا عامًّا. واستطاعت هذه المؤسسة أن تعيد اللحمة إلى جهود المغتربين للتبرّع والتضامن السياسي بعدما أنهكتهم وأضعفتهم أساليب الصهاينة التي استهدفت التجارَ بالمقاطعة الاقتصادية والناشطينَ بتهمة العمالة للخارج، مع أنّ تحقيقات مكتب التحقيقات الفيدرالي «أف بي آي» لم تصْدر أيّ إدانة. لكن الدعوة إلى مقاطعة التجار العرب حدّت من التبرّع للنشاطات السياسية، لذا عقد فارس اجتماعاتٍ على الصعيد المحلي لجمع مصاريف المؤسسة وتمويل نشر الإعلانات المضادة في الجرائد. وضمّت قيادة هذه المؤسسة العديد من الأكاديميين، أمثال فيليب حتّي وغيره، وممثّلين من كل الولايات ووضعت نصب أهدافها تجسير الهوّة بين الولايات المتحدة والدول والشعوب الناطقة بالعربية، وهدفت أيضًا إلى التعريف بالثقافة العربية وإسهاماتها الحضارية على مختلف الصعد، إضافةً إلى تعريف العرب بالثقافة والحياة الأميركيتين. واتصل فارس، بحكم منصبه في هذه المؤسسة، بأعضاء الكونغرس والنواب المؤيّدين للصهاينة شارحًا وجهة نظر العرب والفلسطينيين. جعل نشاط فارس في هذه الحقبة الغنية بالأحداث منه مَحط أنظار البعثات الدبلوماسية العربية في الأمم المتحدة، ولطالما تفاعل معها ناصحًا ومشيرًا عليها بما استطاع وما امتلك من خبرة. كما أنه عمل عام ١٩٤٥ مستشارًا مع البعثة العراقية. كانت ردّة فعل المنظمة الصهيونية العالمية على نشاط المؤسسة واضحة بتصريحها “أن اجتياحًا للبروباغندا العربية يسيطر على المشهد الإعلامي في أميركا”، خصوصًا بعدما استحدثت المنظمة فروعًا في لوس أنجليس وديترويت وبوسطن وسان فرانسيسكو وسان بول وواشنطن ومونتريال. كما أنها تواصلت مع الرئيس هاري ترومان والعديد من أعضاء الكونغرس.
خلال حقبة ١٩٤٥ -١٩٥٧ وهي ذروة احتدام الصراع مع الصهاينة بالنسبة للقضية الفلسطينية، استطاعت الـ“IAAA”، بالتواصل مع أعضاء في الكونغرس ومع مسؤولين في واشنطن، شرح وجهة نظر العرب والفلسطينيين، حتى أن الرئيس ترومان نصح رئيسَ الوزراء البريطاني كليمونت أتلي بالعودة إلى أدبيات المؤسسة لأخذ الموقف المناسب بالنسبة لـ«الكتاب الأبيض» و«لجنة تقصّي الحقائق». وهذه اللجنة هي ثمرة التنسيق بين الجانبين الأميركي والبريطاني، وقد أقامت صلاتٍ مع معظم البلدان العربية والعديد من المنظمات الصهيونية، وجامعة الدول العربية والـ“IAAA” التي كانت الممثّل الوحيد لكافة المنظمات العربية والسورية في الولايات المتحدة إضافةً إلى الرابطة الأميركية من أجل فلسطين المحرّرة. وما ينبغي ذكره في هذا الخصوص ما أورده المؤرّخ مايكل سليمان، في كتابه «العرب في العقل الأميركي»، عن حيادية الموقف السعودي، إذ إنه خلال زيارة وزير الخارجية الأمير فيصل مع أخيه الأمير خالد للولايات المتحدة عبّر عن موقف والدهم سعود بحياديّة الموقف السعودي بالنسبة للقضية الفلسطينية.
في كانون الثاني/ يناير عام ١٩٤٦ عبّر فارس معلوف وأحمد طوطة وحازم (لم يذكر اسم الأخير) كممثّلين للمؤسسة عن وجهة نظرهم التي تمحورتْ حول ثلاثة أمور: أولاً، إعلان فلسطين دولةً حرّة وانتسابها لجامعة الدول العربية. ثانيًا، منْح حكم ذاتيّ محلي للجماعات اليهودية. ثالثًا، تنظيم قوانين للهجرة عند قيام الدولة. رفَضَ ترومان هذه المقترحات، واحتدمت الصراعات والمناظرات الإعلامية والسياسية في الكونغرس وفي الجامعات وفي الصحف وعلى الراديو. وشهادة فارس وطوطة أمام لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس من أهم إنجازات عملهما السياسي. قدّم فارس في مطالعته المطوّلة (٢٢صفحة) عرضًا تاريخيًّا حول القضية الفلسطينية، وأجاب بثقة وبمنطق مقنع على كل الأسئلة التي وجهها له الداعمون للحركة الصهيونية من أعضاء الكونغرس، كما وصف إقامة دولة يهودية واستبدال شعب بآخر بأنها جريمة لا تتوافق مع مبادئ الديموقراطية الأميركية. وشهادته هذه موثّقة في الكتاب، ولا يُضعف التقادمُ الزمني عليها من أهمّيتها لكونها استشرافًا لما آلت إليه الأحداث. واستطاع معلوف أن يلتقي بترومان في ٣ تشرين الأول/ أكتوبر ١٩٥١، وقد نسّق لعقد هذا اللقاء مع «المؤسسة السورية الأميركية» (Syrian American Foundation). وقد تألّف الوفد الذي التقى ترومان من عشرة أعضاء، تكلّم فارس باسمهم وسلّم الرئيس مذكرة تحتوي على مطالبهم وأعرب عن تمنّياتهم بأن تأخذ الإدارة الأميركية بتوصياتها لحل القضية الفلسطينية. وخلال مناظرة في جامعة “هارفرد” بعنوان «هل يمكن أن تعيش إسرائيل؟» ضمن برنامج «هارفرد فوروم» في كلية الحقوق، قال فارس: “إنّ إسرائيل ومؤيّديها لم يأتوا إلى الملعب بأيدٍ نظيفة، واستمرار إسرائيل هو رهن الدولار الأميركي”، ونجح فارس كعادته في المناظرات وفي جذب الحضور الجاهل لما يحدث في الشرق الأوسط.
قَضّت نشاطات هذه المؤسسة مضاجع الحركة الصهيونية التي استنفرت كل أسلحتها لخنق الناشطين ومنظماتهم فاستعملت سياسة المقاطعة الاقتصادية لرجال الأعمال العرب، إضافةً إلى التخوين. ويَرِد في هذا الخصوص أن العالم ألبرت آينشتاين اتهم فيليب حتّي بالخيانة والعمالة إلى الخارج، بناءً على ما سرّبه المخبرون عن الناشطين في المؤسسة، ولكنه سرعان ما اعتذر لانتفاء الدليل. يُضاف إلى ذلك انفضاض العديد من اللبنانيين والسوريين عن المؤسسة بعد استقلال بلديهما، إلا أنّ ذلك لم يفتّ في عضد فارس أو حتّي أو غيرهما من الناشطين. وحتى عام ١٩٥٠، تمكّنت المؤسسة من الاستمرار في العمل بكل فروعها في العديد من الولايات. ونتيجةً لشحّ الإيرادات وتعاظم الضغوط وانتقال عمل اللوبي الصهيوني بكل قوّته إلى الولايات المتحدة، والتي استفردت بقيادة العالم الغربي بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد نجاح الصهاينة بشبْك مصالحهم مع التطلعات الأميركية، وربما بسبب بروز المكارثية وسياساتها المدمّرة لكل الحركات الليبيرالية واليسارية والديموقراطية، أخذ الناشطون قرارًا بإقفال «مؤسسة الشؤون العربية» “IAAA”.
خلال هذه الفترة سافر فارس إلى لبنان بصفته رئيس الشرف لممثّلي المنظمات الوطنية في «مؤتمر ما وراء البحار» National Association’s Official Delegation to its overseas convention لحضور مؤتمرها المنعقد في “الأونيسكو” برعاية وحضور الرئيس كميل شمعون في ٢١ تموز/ يوليو ١٩٥٥، فكانت مناسبةً لزيارة معظم المناطق اللبنانية ومنها قريتُه زبوغا. ومنها انتقل إلى سورية وقابل رئيسها شكري القوتلي، ومن ثم إلى مصر حيث قابل الرئيس جمال عبد الناصر.
ويحتوي الكتاب على توثيقٍ لمناظرات ومقالات ومراسلات فارس التي تناولت إلى جانب القضية الفلسطينية العدوانَ الثلاثي على مصر. وعلى الصعيد الشخصي، بقي منزل فارس بعد وفاة زوجته مركزَ الجذب لكل أفراد العائلة الموسّعة. وتزوّج لاحقًا وقطع على نفسه وعدًا بأن يزور مسقط رأسه زبوغا عام ١٩٥٩ لكنّه توفي بذبحة قلبية على طاولة مكتبه في ١٥ كانون الثاني/ يناير عام ١٩٥٨.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.