في كتابه «نكبة وبقاء: حكاية فلسطينيين ظلّوا في حيفا والجليل (١٩٤٨- ١٩٥٦)»، الصادر عن «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» في بيروت عام ٢٠١٦، يصرّح عادل منّاع بأن الكتاب محاولة لسرد رواية الفلسطينيين الذين بقوا في قراهم ومدنهم في الجليل ومناطق أخرى داخل إسرائيل بعد النكبة، وهم الفلسطينيون الذين بقوا خارج السرد التاريخي في الروايتين الإسرائيلية والعربية١. يرى الكاتب أن مساهماته في عدة مجالات بحثيّة تشمل النكبة والأبحاث عن فلسطينيي أراضي الـ٤٨. إلا أنّ للكتاب مداخلة أخرى لا يضعها الكاتب صراحةً كأحد أهدافه، وهي الجدل حول الشيوعيين الفلسطينيين ودورهم تحديدًا، كما يدّعي الكاتب، في تمكين وحتى دعم المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. يشغل هذا الموضوع حيّزًا كبيرًا في الكتاب. وإلى حدّ ما، تجعل معالجةُ منّاع لهذه القضية الكتابَ كتابين غير متناسقين في بعض المقاطع. كما أنّ المناهضة الأيديولوجيّة الواضحة للحزب الشيوعي تقوّض، في نهاية المطاف، بعض مساهماته الهامّة وتُبعده عن هدفه السامي لكتابة تاريخ الفلسطينيين الباقين.
الرواية الفلسطينية للنكبة
تأتي مساهمة منّاع الكبرى من إصراره على إعطاء الصدارة للطرح الفلسطيني للنكبة. يشكّك الكتاب بالسردية الإسرائيلية التي تقلّل من فداحة النكبة ومن الدور الذي لعبتْه إسرائيل فيها، وذلك من خلال اعتماده على مائةٍ وعشرين مقابلة شفويّة بالإضافة إلى المذكّرات وكتب التاريخ المحليّة. ويساهم الكاتب، عبر تركيزه على الفلسطينيين الذين بقوا، بالإجابة عن أكثر سؤال شائك حول النكبة: هل دخلَت الحركةُ الصهيونية الحرب بنيّة مبيّتة لطرد الفلسطينيين بشكل جماعي خلال الحرب؟
يستند المؤرخون الذين يصرّون على عدم حصول تطهير عرقيّ إلى حقيقة بقاء حوالى مائة وخمسين ألف فلسطيني في حدود وقف إطلاق النار، متسائلين: «كيف بقي هؤلاء لو كان هناك مخطط من هذا النوع؟». في المقابل، يقول منّاع إنّ قصص أولئك الذين بقوا داخل الدولة الجديدة تؤكّد وجود سياسة طرد رسميّة من قبل كبار المسؤولين الإسرائيليّين، عوضًا عن كونها تشير إلى قرارات فرديّة اتخذها ضباط منفردون. في هذا السياق، تأتي أفضل مساهمة للكتاب، إذ يعرض منّاع شهادات يروي من خلالها تفاصيل وحشيّة «الهاغاناه» والجنود الإسرائيليين ضد الفلسطينيين في قرى الجليل خلال الحرب، بما في ذلك المجازر والطرد في مجد الكروم (قرية الكاتب) وعيلبون وصلحة والصفصاف وغيرها. من هذه الروايات، يستنتج منّاع أنّ هناك نمطًا متكرّرًا يثبت وجود أوامر عليا، حتى لو لم نجد حتى الآن وثائقَ في الأرشيف تثبت ذلك٢. ويعرض الكاتب الأسباب التي مكّنت بعض الأماكن والفئات من البقاء، ومنها الهوية الدينيّة، إذ عقد بعض مشايخ الدروز اتفاقًا مع الطرف الصهيوني مكّن أبناء الطائفة من البقاء في قراهم، كما أنّ القيادات الإسرائيلية تعاملت، عمومًا، مع القرى المسيحية بتساهلٍ أكبر. بالإضافة إلى ذلك، أثّر الموقع الجغرافي والتخوّف من ردود الفعل الدوليّة على مصير القرى وأهلها. من خلال الشهادات الشفويّة، يُلقي منّاع الضوء على عاملٍ آخر ساهم في تمكين الفلسطينيين من البقاء: قراراتهم وتصرفاتهم. فعند احتلال الجليل خلال الأشهر الأخيرة من الحرب، كان سكانها قد شهدوا بأنفسهم مأساة أولئك الذين صاروا لاجئين، وبناءً على هذه التجربة، أصرّوا على البقاء ومقاومة محاولات الطرد، أو التسلل والعودة إلى قراهم، على الرغم من ويلات الحرب واعتداءات الجيش.
عداءٌ للحزب الشيوعي
إلا أن الضعف الأساسيّ في الكتاب يكمن في معاملته للشيوعيين الفلسطينيين، الذين أدّوا دورًا هامًّا في تلك المرحلة. في التركيز على هذه المجموعة، يشارك منّاع في جدلٍ انتشر خلال العقود الأخيرة بين الفلسطينيين، خصوصًا في الداخل، حول دور الشيوعيين خلال النكبة. يشدّد منّاع على أنه يسعى إلى الابتعاد عن «ثنائية البطولة والخيانة» لكي يراجع تاريخ الحزب الشيوعي الإسرائيلي وأعضائه الفلسطينيين بأسلوبٍ نقدي وتحليليّ٣، إلا أنّ عداءه الأيديولوجي للحزب واضح للغاية. يبرز هذا العداء في خيارات لغته (مثل التعبير عن علاقة الشيوعيين بالحكومة الإسرائيلية على أنها «شراكة خفيّة أو مستورة»)٤، وفي انتقائيّة استخدام الأدلّة، وأيضًا في الإطار التحليلي الذي يستخدمه. والأمر المحيّر حقًّا هو أنّ الكاتب نفسه الذي يحاول جاهدًا إيضاح عمق الفاجعة الفلسطينية في أعقاب النكبة، يستثني الشيوعيين الفلسطينيين من تَبعاتها، ومن تعاطفه مع ضحاياها الآخرين، لدرجة أنه يؤطّر الفصل الرئيس الذي يخصّصه لهم (الفصل الثالث، وعنوانه «الشيوعيون العرب ما بين النكبة والاستقلال») ضمن إطار الاستثناءات لتجربة النكبة التي عاناها الفلسطينيون، إذ يقول إنهم كانوا جزءًا من «أقلية صغيرة، غير متجانسة، لم يطاولها مثل هذا الشعور الطاغي بالهزيمة والضياع»٥.
لا يتماشى هذا الفصل مع الترتيب الزمني للكتاب حتى إنّه يبدو كأنه مقالة منفصلة عنه. والفصل جزء من حملة الكاتب السياسية ضدّ الشيوعيين أكثر من كونه جزءًا من موضوع الكتاب. يناقش منّاع دور الحزب الشيوعي خلال الحرب وبعد النكبة، بدءًا من قبول «عصبة التحرّر الوطني» لقرار التقسيم في شباط/ فبراير ١٩٤٨، بعدما طالبت طيلة السنوات السابقة بدولة ديموقراطية كحلٍّ للاستعمار في فلسطين، رافضةً أيّ طرح يشمل التقسيم (مع استمرار الرفض من قِبل مجموعة من الأعضاء، خصوصًا إميل توما. و«عصبة التحرّر» هي المنظَّمة العربية التي انفصلت عن الحزب الشيوعي الفلسطيني عام ١٩٤٣ والتي شكّلت الجسم الرئيس لنشاط الشيوعيين العرب، وإن لم تعرِّف عن نفسها بأنّها حزب شيوعي. ويفسّر منّاع هذا التغييرَ على أنّه نتاج تبعيّة الشيوعيين العرب للاتحاد السوفييتي، الذي كان تغييرُ موقفه «العاملَ الأهم في اتّخاذ قرار الأغلبية داخل العصبة»٦. ويستعرض منّاع دور الاتحاد السوفييتي في دعم إنشاء دولة إسرائيل عسكريًّا ودبلوماسيًّا، ويلمّح إلى تواطؤ الشيوعيين في هذا الدعم٧، بل يذهب أبعد من ذلك، فيعلن أنّه بعد مؤتمر الناصرة في شباط/ فبراير ١٩٤٨، «تدحرجَ موقف رجال العصبة من تأييد التقسيم إلى التحالف مع الأصدقاء والشركاء في الطرف اليهودي ومعاداة الإجماع العربي الفلسطيني»٨. بهذا، يصل منّاع إلى استنتاجاتٍ لا تدعمها الدلائل التي يقدّمها. صحيح أنّ الاتحاد السوفييتي، وممّا لا شك فيه، دعم قرارَ التقسيم وقيام دولة إسرائيل، وأنّ صفقة الأسلحة التشيكية كان لها تأثير مدمّر على قدرة الفلسطينيين في مقاومة تشريدهم، كما نعرف أيضًا أنه كان للشيوعيين اليهود دور في التوسّط في صفقة الأسلحة، غير أنّ منّاع بهذا لا يُثبت هنا أنّ الشيوعيّين العرب تعاونوا مع القوّات الإسرائيلية ضد مصلحة الفلسطينيين، كما يدّعي، إذ إنّ هذه الأمور لا تعني تلقائيًّا أنّ الشيوعيين العربَ كانوا جزءًا منها، ولا يمكن اتهامهم دون أدلّة٩.
في محاولة أخرى لدعم طرحَه، يركّز الكاتب على المنشورات الشيوعية خلال أشهر أيار/ مايو وحتى تموز/ يوليو عام ١٩٤٨، ومهاجمة العصبة للجيوش العربية١٠. لا خلاف في أنّ العصبة دعَت في هذه المنشورات إلى إخلاء الجيوش العربيّة من فلسطين، كما يشدّد منّاع، إلا أنّ المشكلة تكمن في أنّه يغفل عن ذكر الأسباب التي ذكرتْها العصبة لرفعها هذه المطالب. فبدلاً من كونها تهدف إلى توسيع سيطرة الجيش الإسرائيلي، كما يلمّح منّاع، طالبت العصبة بهذا الإخلاء لضمان إقامة دولة عربيّة إلى جانب الدولة اليهوديّة بحسب قرار التقسيم، أي كي لا تضيع فلسطين كاملة، بعد أن أصبح واضحًا في تلك المرحلة أنّ الدولة اليهوديّة قائمة. وقد أكدت العصبة «أنّ النضال في سبيل تأليف الدولة العربيّة هو الطريق إلى إنقاذ المشردين وردّهم وإلى إنقاذ الفلاحين من سطوة جيوش الاحتلال، عربيّة ويهودية وإعادة عكّا والناصرة وقرى الجليل ويافا واللد والرملة... إلى أهلها العرب». (وللتذكير، أصدر قسطنطين زريق كتابه «معنى النكبة» خلال هذا الصيف، أي أنّ نكبة فلسطين كانت واضحة قبل أن تنتهي الحرب، ولهذا ليس من الصعب تصديق أنّ الشيوعيّين فهموا ذلك أيضًا في هذه المرحلة وحاولوا إنقاذ ما بقي).
إن تهجّم الكاتب على الشيوعيين، في هذا السياق، يبدو محيّرًا الآن بعدما أثبت الباحثون أنّ القيادة الأردنيّة تآمرت مع الحركة الصهيونية والاستعمار البريطاني لمنع قيام دولة عربية في فلسطين، وهو بالضبط ما حذّر منه الشيوعيون في منشوراتهم: «إنّ مبعوثِي الملك عبد الله يتفاوضون مع مبعوثِي الحكومة اليهوديّة من أجل ضمّ القسم العربي من فلسطين إلى شرق الأردن»١١. بالإضافة إلى ذلك، يستعمل منّاع هذه المنشورات ليسوّق حجّته بأنّ الشيوعيين ألقَوا باللائمة في حصول النكبة على القيادة الوطنية الفلسطينية والأنظمة العربية والاستعمار، بينما تغاضَوا عن دور القيادة الصهيونيّة. لكن الصحيح أنّ العصبة كتبت: «إن هذه المأساة ليست من صنع الغلاة الصهيونيين الذين نفّذوا رغائب فحسب بل ويساهم فيها أيضًا أولئك الزعماء بقسط وافر»١٢. وبما أنّهم يتوجهون بهذا الكلام إلى الفلسطينيين، يبدو واضحًا أنّ كاتب المنشور والقارئ عرفا أنّ يد الصهاينة هي التي سبّبت الكارثة، والمنشور فقط يضيف مسؤولية الطرف الآخر.
وأكثر ما يُدينه منّاع هو تصرّف الشيوعيين العرب بعد اندماج العصبة مع الشيوعيين اليهود في الحزب الشيوعي الإسرائيلي- ماكي في تشرين الأول/ أكتوبر عام ١٩٤٨. يدّعي الكاتب أنّ الشيوعيين الفلسطينيين في إسرائيل احتفلوا بقيام الدولة وامتنعوا عن انتقاد تصرّفاتها وجرائمها وتجاهلوا مأساة شعبهم، وبهذا ساهموا في شرعنة ضمّ الجليل وغيره من المناطق التي خُصِّصت للدولة الفلسطينية في قرار التقسيم، وإذ يقر منّاع بأنّ الشيوعيين العرب انضموا إلى «ماكي» من موقع ضعف، حيث اضطرّ الفلسطينيون، كجزء من الشعب المهزوم، إلى قبول شروط المنتصرين اليهود، فإنّه يتغاضى عن تَبعات توازن القوى الناتج عن ذلك على إمكانيّات التصرّف الممكنة للشيوعيّين العرب١٣.
لا شك أننا ما زلنا نحتاج إلى أبحاث جديّة لدراسة أقوال ونشاطات الشيوعيين الفلسطينيين، وأيّ بحث كهذا سيواجه صعوباتٍ كبيرة نظرًا إلى محدودية المصادر المتاحة، لكن هذا البحث، كأيّ بحث تاريخي آخر، يتطلّب فهْم التاريخ والإقرار بالإمكانيات والقيود والتخيّلات السياسية للجهات التاريخية الفاعلة. وبينما ينجح منّاع بتفهّم «البقاء» بصفته مفهومًا أساسيًّا في تاريخ الفلسطينيين الذين أصبحوا حينها مواطنين في إسرائيل، إذ كانوا أقلية مشتّتة وجزءًا من شعب حطّمته الحرب، وقد شهدوا كيف انتصرت إسرائيل على جيوش الدول العربيّة؛ وعايشوا وسمعوا عن البشاعات والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ووجدوا أنفسهم بمعزل عن شعبهم دون أيّ إمكانيات للاتصال معه، فهو يستثني الشيوعيين الفلسطينيين. إلا أنهم لم ينجَوا من مصير العزْل عن الشعب، بل حملوا عبئًا إضافيًّا، فقد آمنوا بأنّ المسؤولية تقع على عاتقهم لقيادة جماهيرهم وضمان بقائهم في وطنهم. وما نعرفه اليوم، بعد الحدث، هو أنّهم بلا شك أخطأوا بوضع ثقتهم الكاملة بأنّ الاتحاد السوفييتي سيعمل على إنشاء دولةٍ فلسطينية، فنحن ندرك أنّ الاعتبارات الإقليميّة وحسابات الحرب الباردة قادت القيادة السوفييتية إلى دعمها قيام الدولة اليهوديّة، آملةً بخلق حليف لها في المنطقة. إلا أنّ وظيفة المؤرّخ هي تحليل خطوات شخصياته التاريخيّة في سياقها، وليس حسب ما نعرفه اليوم، لا إصدار أحكام أخلاقيّة بشأنها. وإذا نظرنا إلى مقالة المحامي حسن جبّارين عن تلك الفترة، والتي يشير إليها منّاع لدعم طرحه بأنّ الشيوعيين الفلسطينيين شَرعنوا ضمَّ الجليل، نجد مثالاً جيدًا على ذلك: يقترح جبارين أنّ مشاركة الفلسطينيين في الانتخابات البرلمانية الأولى في إسرائيل في كانون الثاني/ يناير عام ١٩٤٩ ساهمتْ من دون قصدهم بشرعنة السيادة الإسرائيلية لدى الأمم المتحدة. عوضًا عن اتهامهم بخيانة قضيتهم، يتفهّم جبارين أنّ قرار الترشّح والمشاركة في الانتخابات كان قرارًا اتخذه «شعب مهزوم، قد تمّت السيطرة عليه وإهانته ومَلؤه بالخوف من الطرد. كان همّه الوحيد هو البقاء، وإنقاذ حياة عائلاته، وتجَنّب الترحيل»١٤.
بين العربية والعبرية
بالإضافة إلى ما سبق، تقدّم المقارنة بين الطبعتين العربيّة والعبريّة أوضح دليل على تأثير مناهضة منّاع الأيديولوجيّة للحزب الشيوعي على خياراته في تفسير مصادره وتحليله التاريخي. فمثلاً، عندما يناقش في الطبعة العربيّة قضية منشور الحزب الشيوعي في حزيران/ يونيو ١٩٤٨، يجْمل الكاتب أنّ «هذا التصعيد في خطاب الشيوعيّين ضد القيادات العربيّة... يعكس مدى التقارب بينهم وبين حلفائهم الجدد من الماركسيين الصهيونيين في حزب مبام»١٥. وتخْلو النسخة العبريّة من أيّ استنتاج مشابه برغم البحث في المصادر نفسها. وتشير أبحاث المؤرّخ موسى البديري، الباحث الخبير في شؤون الشيوعيين الفلسطينيين خلال فترة الانتداب، إلى أنّ هذا الخطاب هو حقًّا استمرارٌ لخطابهم السابق، اذ إنّهم انتقدوا الأنظمة العربيّة بشِدة قبل النكبة بسنوات، واتهموها بالعمل وفق «مؤامرة إمبريالية» (وهو نفس الخطاب في المنشورات التي يذكرها منّاع). كما كانت العصبة قد غيّرت موقفها من القيادة الفلسطينيّة منذ بداية عام ١٩٤٦، إذ توقّفت عن المطالبة بالمشاركة في إطار وطني موحّد في الهيئة العربيّة العليا وبدأت بانتقاد هذه القيادات بشكل علنًا حول سياساتها١٦. لذا، لا يمكن نَسب عداء الشيوعيين تجاه الأنظمة العربية للتقارب مع اليسار الصهيوني.
وفي مثال آخر، يتطرّق الكاتب إلى مكانة الشيوعيين في إسرائيل، ويشير إلى وثيقة مجهولةِ المؤلّف يعود تاريخها إلى آب/أغسطس ١٩٤٨ ورد فيها: «إنهم يُظهرون في كلّ نشاطاتهم وتَحرّكاتهم إخلاصًا لدولتنا. لذا علينا أن نرى فيهم (رجال العصبة) عاملاً سياسيًّا مهمًّا وحليفًا فعليًّا لدولة إسرائيل». في الطبعة العربية، يعقّب منّاع: «مثل هذا الكلام يفسّر إلى حدٍّ كبير أسباب «كرم» الحكومة الإسرائيلية تجاه رفاق العصبة»١٧. في المقابل، يعلّق الكاتب في الطبعة العبرية بشكلٍ أكثر اتزانًا فيقول: «وبالتالي فقد قدّر المسؤولون الإسرائيليون أنّ نشاط العصبة لم يشكّل تهديدًا أمنيًّا، وقد يكون مفيدًا»١٨. ويكرّر منّاع تلميحاته إلى أن المسؤولين الإسرائيليين دعموا الشيوعيين، أو على الأقل قبِلوا ومكّنوا من نشاط الشيوعيين بين الفلسطينيين١٩. وفي الواقع، وبخلاف ادّعاء منّاع، فإنّ الحزب الحاكم «ماباي» أظهر عدائيّته تجاه الشيوعيين منذ البداية، وعمل أعضاؤه جاهدين على تقويض نفوذهم. وتوضّح ذلك أبحاثُ روبنسون وكوهين، اللذين يبيّنان التقييدات التي وضعها الحكم العسكري على نشاط الشيوعيين والمضايقات التي عانوا منها طوال العقود الأولى (وإن كان حزب «مبام» قد ساعد الشيوعيين العربَ في الأشهر الأولى لقيام دولة إسرائيل، لأسباب أيديولوجية أو لرغبتهم باستيعابهم)٢٠.
بالإضافة إلى البعد الأيديولوجي، أو بسببه، يحوي الكتاب مشكلاتٍ عدّة، منها ما هو مرتبط بالمصادر المستخدَمة وطرق تحليلها، بل وانعدامها في بعض الأحيان. ففي عدّة مواضع لا يستشهد منّاع بأيّ مصدر، بل يخلص إلى استنتاجات وخلاصات صارخة كأن يقول مثلاً «فكان لانضمام رجال العصبة إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي أهمّيةٌ كبرى من وجهة نظر بن غوريون ورفاقه في القيادة الصهيونية» من دون الاستناد إلى أيّ مصدر يؤكد هذا الادّعاء، مع العلم أنّ رئيس الحكومة الإسرائيلي ناصبٌ العداء للشيوعيين منذ البداية٢١.
في المحصّلة، يوفّر الكتاب «نكبة وبقاء» نصًّا إضافيًّا يعمّق من فهمنا للنكبة من خلال تقصّي تجربة الفلسطينيين الذين بقُوا في بيوتهم بعد النكبة، ويعرض التجربة بالاعتماد على رواية مَن عايشوها، لا على الأرشيفات الرسميّة للدولة التي سبّبت كارثتهم. وبهذا، ينضمّ إلى حركة فلسطينية تتحدّى الطرح الإسرائيلي الرسمي للنكبة، وتتحدّى نهج كتابة التاريخ الإقصائي الذي يمجّد الأرشيف على حساب خطاب المستضعفين والمهمّشين. ولكن للأسف، تُشتِّت مناهضة منّاع الأيديولوجية للحزب الشيوعي من تركيزه على هذه المواضيع الهامّة وتضعف من مصداقيّته على وجْه العموم.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.