العدد ٣١ - ٢٠٢١

مقدّمة لـ«أسس نقد الاقتصاد السياسي» (١٨٥٧) ٢/٢

ترجمة فواز طرابلسي

نشرت «بدايات» في عددها السابق القسمَ الأول من مسوّدة «أسس نقد الاقتصاد السياسي» Grundrisse، الثمرة الأولى لشغل ماركس على الاقتصاد السياسي والتي دوّنها في شتاء ١٨٥٧ و١٨٥٨ ونشرها كارل كاوتسكي في العام ١٩٠٣. وفي هذا العدد تنشر «بدايات» القسم الثاني من المخطوطة.

 

ج- التبادل والتداول والإنتاج

التداول بحدّ ذاته ليس إلا طورًا معيّنًا من أطوار التبادل، أو هو التبادل منظورًا إليه بكلّيته.

عندما يتوسّط التبادل بين الإنتاج والتوزيع (الذي يحكمه الإنتاج مثلما الإنتاج يحكم الاستهلاك) وعندما يبرز الاستهلاك كعامل مع عوامل الإنتاج، ينخرط التبادل في الإنتاج كطور من أطواره.

من البيّن أولاً أن تبادل النشاطات والكفاءات داخل مجال الإنتاج يشكل جزءًا عضويًّا من هذا الإنتاج وعنصرًا أساسيًّا من عناصره. ويصحّ ذلك ثانيًا بالنسبة لتبادل المنتجات بالقدر الذي يكون فيه هذا التبادل الأداة التي تضع اللمسات الأخيرة على المنتوج المعدّ للاستهلاك المباشر. بذاك القدر، يكون التبادل نفسه نشاطًا منخرطًا في نشاطات الإنتاج. ثالثًا، التبادل بين التجار هو، من حيث تنظيمه، محكوم كليًّا بالإنتاج بقدر ما هو نشاط إنتاجي قائم بذاته. ولا يظهر التبادل مستقلّاً عن الإنتاج، غير متأثر به، إلا في المرحلة الأخيرة [من عملية الإنتاج] عندما تجري مبادلة المنتوج بقصد الاستهلاك الفوري.

ولكن يجدر أن نتذكر هنا الأمور الآتية: أولاً: لا تبادل بدون قسمة عمل، أكانت هذه القسمة طبيعة أم محصّلة من محصّلات التاريخ. ثانيًا: التبادل الخاص يفترض الإنتاج الخاص. ثالثًا: إنّ كثافة التبادل، واتساعه ونمطه، كلها أمور يحكمها تطور الإنتاج وبنيته، كما هو الحال مثلاً بالنسبة للتبادل بين المدينة والريف، والتبادل في الريف والتبادل في المدينة، إلخ. في جميع هذه الحالات، يظهر التبادل على أنه مشمول مباشرةً بالإنتاج أو محكوم به.

لكننا نخلص من ذلك ليس إلى أنّ الإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك أمور مطابقة بعضها لبعض، وإنما إلى أنها عناصر في كلّية واحدة وتمايزات داخل وحدة واحدة. وهكذا فالإنتاج يتعدى إطاره المخصوص في نفيه لنفسه مثلما يتعدى إطار العناصر الأخرى. وتبدأ العملية مجددًا انطلاقًا من الإنتاج ذاته. فبديهي أن لا التبادل ولا الاستهلاك يمكنه أن يكون العنصر الغالب. وينطبق القول ذاته على توزيع المنتجات. أما التوزيع بوصفه توزيعًا لعوامل الإنتاج، فما هو إلا طور من أطوار الإنتاج. من هنا إنّ شكلاً معيّنًا من أشكال الإنتاج يحكم أشكالاً معيّنة من الاستهلاك والتوزيع والتبادل كما يحكم كل العلاقات المحدّدة القائمة بين هذه العناصر. بالتأكيد فالإنتاج، بالمعنى الحرفي للكلمة، محكوم بدوره بالعناصر الأخرى. فعندما تتّسع السوق مثلاً- أي عندما يتّسع مجال التبادل- ينمو حجم الإنتاج ويتنوّع. كذلك فإنّ تعديلاً يطرأ على التوزيع يؤدي إلى تعديل في الإنتاج. وهذا هو الحال مثلاً عندما يتمركز رأس المال أو يختلف توزيع السكان في المدن عنه في الريف، إلخ. وأخيرًا، فالحاجات الكامنة في صميم الاستهلاك تتحكم بالإنتاج.

ثمة تفاعل بين هذه العناصر جميعها. وهذا هو الحل بالنسبة لكل وحدة عضويّة.

 

٣ – منهج الاقتصاد السياسي

عندما ندرس أوضاع بلد معيّن من منظار الاقتصاد السياسي، نبدأ عادةً بدراسة سكانه، وتوزُّع هؤلاء السكان إلى طبقات، وبين ريف ومدينة وساحل، كما ندرس مختلف فروع الإنتاج، والاستيراد والتصدير وأرقام الإنتاج والاستهلاك السنويين ومعدلات الأسعار، إلخ.

لعل من المستحسن أن ننطلق من الواقع ومن العناصر العيانية، من الشروط المسبقة الفعلية. فنبدأ في الاقتصاد، مثلاً، بالسكان الذين يشكّلون قاعدة الإنتاج الاجتماعي برمّتها وفاعليها. إلا أنّ نظرةً أدق إلى الأمر تُرينا أن هذا المنطلق خاطئ. يمسي السكان مجرّد مقولة تجريدية إذا تناسينا الطبقات التي ينقسمون إليها. وتمسي هذه الطبقات بدورها مصطلحات فارغة إذا لم يدرك المرء العناصر التي تعتمد عليها كالعمل المأجور ورأس المال وغيرها. فهذان العنصران مثلاً يفترضان وجود التبادل وقسمة العمل والأسعار إلخ. فرأس المال لا يساوي شيئًا بدون العمل المأجور، بدون العملة والأسعار، إلخ. لذا، فإذا انطلقنا من السكان، لا نلبث أن نجد أمامنا فكرةً جدّ غامضة عن كلية مركّبة. فنصل تحليليًّا، عبر التدقيق والتمحيص، إلى مفاهيم متزايدة البساطة. هكذا ننطلق من مصطلحات محدّدة، ظاهريًّا فقط، إلى تجريدات عويصة حتى نصل إلى أبسط التعريفات. إذ ذاك، لا بد من استعادة الرحلة بالوجهة المعاكسة حتى نصل مجددًا إلى «السكان» الذين لم يعودوا فكرة غامضة لكلية مركّبة، وإنما كلية تشتمل عدة تحديدات وعلاقات.

المنحى الأول هو المنحى التاريخي الذي اعتمده الاقتصاد السياسي عند نشأته. فاقتصاديّو القرن السابع عشر مثلاً انطلقوا على الدوام من الكلية الحيّة كالسكان والأمّة والدولة وعدة دول، إلخ. إلا أن التحليل كان يقودهم دائمًا، في نهاية المطاف، إلى استكشاف بضع علاقات مجرّدة وعامّة كقسمة العمل والعملة والقيمة. وعندما انتهت عملية استخلاص هذه العناصر المنفردة وإرسائها إلى قواعد راسخة، نشأت مفاهيم اقتصادية تنتقل من مفاهيم بسيطة كالعمل وقسمة العمل والطلب والقيمة التبادلية إلى مقولات كالدولة والتجارة الدولية والسوق العالمية. إن المنهج الأخير هو بدون شك المنهج الأصوب علميًّا. المفهوم المحدّد يكتسب تحديده من كونه تركيبًا لعدّة تحديدات، فيكون بالتالي وحدة متعدّدة الأوجه. لذا يظهر هذا المفهوم المحدّد على صعيد الفكر كخلاصة؛ كنتيجة، وليس كنقطة انطلاق، مع أنه نقطة الانطلاق الحقيقية وبالتالي مصدر الإدراك والتخيّل. إن المنهج الأول يضفي صورًا ذات معنى على تعريفات مجرّدة. أما الثاني فيسمح بالانتقال من التعريفات المجرّدة إلى تمثّل للوضع المحدد على صعيد الفكر. هكذا أدرك هيغل الفكرة المجرّدة القائلة إن العالم الحقيقي إنما هو حصيلة التفكير الذي يولّد تركيبه بنفسه، ويعمّق نفسه، ويولّد حركته الذاتية. هذا في حين أن منهج الانتقال من المجرّد إلى المحدّد هو ببساطة الوسيلة التي يتمّ فيها تمثّل المحدّد عن طريق العقل، ويعكسه على أنه مقولة فكرية محددة. إلا أن ذلك ليس مطابقًا، بأي حال من الأحوال، للعالم المحدّد نفسه. إن أبسط مقولة اقتصادية- كالقيمة التبادلية مثلاً- تفترض وجود السكان الذي ينتجون في ظروف معينة، كما يفترض نمطًا خاصًّا من الأسر والجماعات والدول، إلخ. فالقيمة التبادلية لا توجد إلا كعلاقة مجرّدة، أحاديّة الجانب، في كلية عضوية محددة معطاة سلفًا. إلا أن القيمة التبادلية، بوصفها مقولة، موجودة منذ ما قبل الطوفان. لذا فإن الوعي (والوعي الفلسفي من ضمنه) الذي يعتبر أن العقل المدرِك مماثل للإنسان الحقيقي والعالم المدرَك، بالتالي، مماثل للعالم الحقيقي، يرى أن عملية إنتاج المقولات إنما هي عملية الإنتاج الحقيقيّة- التي تتحرّك بفعل عوامل خارجية مع الأسف- وأن منتوجها هو العالم الحقيقي. هذا قول صحيح بالقدْر الذي تكون فيه الكلية المحددة، التي نعتبرها كلية مفهومية وواقعًا ذهنيًّا، نتاجًا للفكر والإدراك. لكن هذه الكلية المحددة ليست بأي حالٍ من الأحوال نتاج فكرة تنمو وتتطوّر عفويًّا خارج نطاق الإدراك والمخيّلة، وإنما هي نتاج عملية استيعاب للمدركات والصور وتحويلها إلى مفاهيم. إن الكلية بوصفها كيانًا مفهوميًّا يدركه الذهن، هي نتاج الذهن المفكّر الذي يتمثل العالم بالطريقة الوحيدة المتاحة له والمختلفة عن طريقة تمثّل العالم في الفنون والديانات والنشاط العملي. إن الفاعل المحدّد يبقى خارج الفكر، مستقلّاً عنه، بالقدر الذي يتبنّى الفكر فيه موقفًا تأمليًّا ونظريًّا محضًا. ينبغي رؤية الفاعل دائمًا- والفاعل هنا هو المجتمع- على أنه الشرط المسبق للإدراك، حتى عندما نستخدم المنهج النظري.

ولكن، ألا تملك هذه المقولات البسيطة وجودًا تاريخيًّا وطبيعيًّا سابقًا على وجود المقولات الأكثر تحديدًا؟ يصعب حسم الأمر لهذه الجهة أو تلك. إنّ هيغل، مثلاً، يتناول أبسط علاقة قانونيّة يدخلها الفاعل- المُلكيّة- كنقطة انطلاق لفلسفة الحق. غير أنّ الملكية لا توجد حيث لا توجد الأسرة أو قبل نشوء علاقة السيد/ العبد؛ وهاتان العلاقتان أكثر تحديدًا من علاقة الملكية. ولكن يصحّ القول، من جهة ثانية، بأن ثمّة عائلات وقبائل برمّتها تعرف الحيازة لا الملكية. هكذا تظهر أبسطة مقولة على أنها علاقة بين أسرة أو تجمّعات قبليّة بسيطة وبين الملكية. أما في المجتمعات التي بلغت طورًا أرقى في تطوّرها، فتظهر المقولة على أنّها علاقة بسيطة نسبيًّا موجودة في جماعة أكثر تقدّمًا. إلا أنّ الأرضية المحددة التي تقوم عليها الملكية تبقى دائمًا مفترضة سلفًا. يستطيع المرء أن يتخيّل فردًا بدائيًّا له حيازات، إلا أنّ حيازته هنا ليست علاقة قانونيّة. ولا يصحّ الظنّ بأنّ الحيازة هي التي أدّت إلى نشوء الأسرة في سياق التطور التاريخي. بل بالعكس، فإنّ الحيازة تفترض دومًا هذه «المقولة القانونية الأكثر تحديدًا». وقد نستخلص من ذلك أنّ المقولات البسيطة تمثّل علاقات أو ظروفًا قد تعكس بدائية الوضع المحدّد دون أن يكون بمقدورها أن تقدّم، في المقابل، العلاقة أو الظرف الأكثر تعقيدًا الذي يعبّر عن نفسه مفهوميًّا في مقولة أكثر تحديدًا. أمّا من جهة ثانية، فقد تستبقى المقولة ذاتها كعلاقة ثانوية خاضعة في ظروف محدّدة وأكثر تطورًا. لقد وُجدت العملة، تاريخيًّا، قبل وجود رأس المال والمصارف والعمل المأجور إلخ. يمكن القول، في هذا السياق، إن المقولة الأكثر بساطة، إما أن تعبّر عن علاقات غالبة في كيان لم يكتمل بعد، وإما أن تعبّر عن علاقات خاضعة في كيان أكثر تقدّمًا - هي علاقات وُجدت تاريخيًّا قبل أن ينمّي هذا الكيان الجوانب التي عبّرت عن نفسها في مقولة أكثر تحديدًا. إنّ منحى هذا التفكير التجريدي الذي ينتقل من أبسط المقولات إلى أكثرها تعقيدًا يكون بهذا المعنى مجاريًا لسياق التطور التاريخي الحقيقي.

ولكن يصحّ القول، في المقابل، إنّه توجد تكوينات اجتماعية بالغة التطوّر- دون أن يعني ذلك أنها ناضجة تاريخيًّا- تستخدم بعض الأشكال الاقتصادية الأكثر تقدمًا- كالتعاون مثلاً، وقسمة العمل المتطورة، إلخ.- دون أن تكون قد عرفت التّبادل المالي على الإطلاق. هكذا كان الحال بالنسبة لحضارة البيرو مثلاً. كذلك تجد أن المال في المجتمعات السلافيّة- وشرطه المسبق: التبادل- لم تكن له أهمية داخل الجماعة الواحدة وإنّما كان يُستخدم على الحدود حيث يجري التبادل التجاري مع التجمّعات الأخرى. ثم إن الافتراض بأنّ التبادل عنصر أصليّ مكوّن من عناصر كل المجتمعات لهو افتراض مغلوط كليًّا. بل العكس هو الصحيح: ففي البدء يبرز التبادل في العلاقة بين مختلف المجتمعات بدون حتى أن ينشأ بين أفراد المجتمع الواحد. ثم إنه على الرغم من أنّ العملة تبدأ بلعب دورٍ هامّ في فترة مبكرة من التطوّر التاريخي وبأشكالٍ متعدّدة، فما من دليل على كونها لعبت دورًا غالبًا في التاريخ القديم إلا بين الأمم التي سلكت منحًى معيّنًا- الأمم التجارية. فحتى لو أخذنا اليونان والرومان- وهما أكثر أمم التاريخ القديم تقدّمًا- نجد أنّ العملة لم تصل عندهما إلى تطوّرها الكامل- الذي بات يشكّل الشرط المسبق لوجود المجتمعات البرجوازية الحديثة- إلا في فترة انهيار هاتين الحضارتين. وهكذا فكلّ ما تخزنه هذه المقولة البالغة في البساطة من زخمٍ لا يظهر تاريخيًّا إلا في أكثر الحقبات تقدّمًا من تطور المجتمعات؛ وهو بالتأكيد لا يتسلّل إلى كلّ العلاقات الاقتصادية إلا عند بلوغها تلك الحقبة. فالضرائب والتقديمات العينيّة، مثلاً، ظلّت تشكّل القاعدة [الاقتصادية] للامبراطورية الرومانية حتى في أوجّ تطورها. وبالتأكيد فإنّ روما لم تعرف نظامًا نقديًّا متطوّرًا إلا في داخل الجيش، لكنّ هذا النظام لم يشمل كلّية العمل المركّبة للمجتمع بأسره. لذا، فعلى الرغم من أنّ أبسط مقولة قد توجد تاريخيًّا قبل المقولة الأكثر تحديدًا، إلا أنّها لا تبلغ مرحلة تطوّرها الشامل والمكثف والمتكامل إلا في تكوينٍ اجتماعي مركّب؛ في حين أنّ المقولة الأكثر تحديدًا قد تظهر وتبلغ كامل تطوّرها في تكوينٍ اجتماعي أكثر بدائية.

يبدو «العمل» على أنه مقولة بسيطة جدًّا. وفكرة «العمل»، على هذا النحو الشمولي، وفكرة العمل بشكل عامّ، هي أيضًا فكرة سحيقة القِدم. غير أنّ «العمل»، ببساطته هذا، يُعتبر، من منظار علم الاقتصاد، مقولة حديثة بقدر حداثة العلاقات المولّدة لهذا التجريد البسيط. فالنظام النقدي، مثلاً، لا يزال يعتبر الثروةَ، موضوعيًّا، كشيءٍ له وجود مستقلّ على شكل عملة. بناءً على وجهة النظر هذه، يمكن القول إنّ تقدّمًا ملموسًا حدث عندما تمكّن نظام المانيفاتورة أو النظام المركانتيلي من تحويل مصدر الثروة من الموضوع إلى النشاط الذاتي- العمل التجاري أو الصناعي- إلا أنّه ظلّ يعتبر أنّ هذا النشاط المحدود هو وحده الذي ينتج المال. في مواجهة هذا النظام، يفترض الفيزيوقراطيون أنّ شكلاً مخصوصًا من أشكال العمل- الزراعة- هو مصدر الثروة، ولا يرون الموضوع على شاكلة العملة، وإنما كمنتوج بشكلٍ عامّ، كنتيجة شاملة للعمل. بناءً على هذا النشاط المحدود، يبقى المنتوج منتوجًا يتطوّر على نحو طبيعي، أي يبقى منتوجًا زراعيًّا، منتوجًا للأرض بلا منازع.

عرف علم الاقتصاد قفزةً هائلةً عندما رفض آدم سميث كلّ القيود المفروضة على النشاط المنتج للثروة، فاعتبر أنّ العمل بحدّ ذاته هو المنتج للثروة؛ لا العمل المانيفاتوري ولا العمل التجاري أو الزراعي، وإنّما كلّ أشكال العمل بدون تمييز. إنّ الشمولية المجرّدة التي تنتج الثروة تفترض ضمنًا أيضًا شموليّة الأشياء المعتبرة ثروة. فإنّها منتجات بحدّ ذاتها، أو عمل بحدّ ذاته هو، في هذه الحالة، عمل مجسّد. أما الدليل على صعوبة هذه القفزة وضخامتها، فهو أنّ آدم سميث نفسه ارتدّ أكثر من مرّة إلى تبنّي النظام الفيزيوقراطي. وقد يبدو، من هذا المنظار، أنّ تعبيرًا مجرّدًا قد وُجد لأبسط وأقدم علاقة تجمع البشر كمنتجين، بغضّ النظر عن نمط الإنتاج الذي ينتظمهم. هذا صحيح بمعنى وليس صحيحًا بمعنى آخر. القول إنّ شكل العمل المعيّن ليس مهمًّا هو قول يفترض وحدة مركّبة بالغة التطوّر من أشكال العمل الراهنة لم يعد أيّ منها الشكل الأهمّ الذي لا يمكن الاستغناء عنه. إنّ أعمّ التجريدات لا تولد في العادة إلا عندما يكون التطوّر العيني أكثر شمولاً، بحيث تصبح صفة مميّزة ما مشتركة بين عدة ظواهر أو مشتركة بينها جميعًا. إذّاك لا يعود بالإمكان رؤيتها فقط بشكلها المخصوص.

أما من جهة ثانية، فإنّ تجريد العمل هذا ليس مجرّد الناتج المفهومي لمختلف أنواع العمل المحدّدة. ذلك أنّ القول إنّ نوعًا خاصًّا من العمل المبذول ليس مهمًّا هو قول يصحّ بالنسبة لتكوين اجتماعيّ ينتقل الأفراد فيه بسهولة من نوع من العمل إلى نوع آخر بحيث يكون نوع العمل الخاص الذي يبذلون مجرّد صدفة، فلا يحمل بالتالي أيّة أهمية بالنسبة لهم. لقد أمسى العمل وسيلة لإنتاج الثروة بشكل عام- العمل بما هو واقع وليس بما هو مقولة ذهنيّة- فلم يعد صفة معيّنة مرتبطة بفرد معيّن. وتبرز هذه الحالة بأوضح ما تبرز في الولايات المتحدة حيث أكثر أشكال المجتمع البرجوازي حداثة. هناك فقط تجد أنّ مقولة «العمل» المجرّدة، «العمل بحدّ ذاته»، العمل لا غير، قد أصبحت نقطة الانطلاق للاقتصاد الحديث كما تجسّدت واقعًا عمليًّا. من هنا إنّ التجريد الأبسط- أي العمل- الذي يلعب دورًا حاسمًا في الاقتصاد السياسي الحديث، التجريد الذي يعبّر عن علاقة قديمة تجدها في كافة التكوينات الاجتماعية، لا يظهر على أنّه صحيح مثلاً في شكله المجرّد هذا بوصفه مقولة في أكثر المجتمعات حداثة. قد يقال إنّه الظواهر التي هي منتجات تاريخية في الولايات المتحدة- على سبيل المثال، تفاهة شكل معيّن من أشكال العمل - تظهر عند الروس، مثلاً، كمؤهّلات أنتجتها الطبيعة وطوّرتها. ولكن ثمّة فارقًا كبيرًا، انطلاقًا، بين برابرةٍ يملكون مؤهّلة تسمح بتشغيلهم في أعمال منوّعة وبين أناس متمدّنين يمهّدون لممارسة أعمال متنوّعة. ثم تجد بالنسبة للروس، أنّ عدم اكتراثهم بنوع معيّن من العمل يوازيه، في الممارسة، تقليد متوارث عندهم بالتمسّك السريع بنوع عمل خاص جدًّا لا تنتزعه منهم إلا العوامل الخارجية.

إنّ المثال الذي اتخذناه عن العمل إنما يقدّم الدليل الأكيد على أنّ حتى أكثر المقولات تجريدًا على الرغم من أنّها تنطبق على كلّ الحقبات- وبالضبط لمجرّد كونها تجريدات- هي أيضًا نتاج ظروف تاريخية حتى عندما تكتسي شكلها المخصوص كتجريدات، وهي لا تحتفظ بكامل جدواها إلا داخل هذه الظروف ولسببها.

إنّ المجتمع البرجوازي هو بين الأشكال التاريخية لتنظيم الإنتاج أكثرها تعقيدًا وتقدّمًا. لذا فإن المقولات التي تعكس علاقاته وتنمّ عن فهمٍ لبُنيته، تشكّل منفذًا تطلّ منه إلى بنية وعلاقات الإنتاج العائدة لكل التكوينات الاجتماعية السابقة التي استخدمت أنقاضها وعناصرها المكوّنة في بناء المجتمع البرجوازي. ويحمل المجتمع البرجوازي بعضًا من هذه البقايا غير المستوعبة، أما بعضها الآخر، الذي كان موجودًا في السابق بشكل جنينيّ، فقد تكوّر وبلغ كامل دلالته، إلخ. إنّ شراحة الإنسان هي المفتاح لشراحة القرد. أما من جهة ثانية، فإنّ ترسّبات الأشكال الأكثر تقدّمًا في فصائل الحيوانات الدنيا لا يمكن فهمها إلا بعد معرفة الأشكال الأكثر تقدمًا. هكذا يشكّل الاقتصاد البرجوازي مفتاحًا لفهم الاقتصاد القديم، إلخ. ولكن يستحيل التوصّل إلى هذا الفهم على طريقة أولئك الاقتصاديين الذين يمحون كلّ الفوارق التاريخية ولا يرون في كلّ الظواهر الاجتماعية إلا ظواهر برجوازية. إن معرفة الريع العقاري مثلاً تسمح بفهم الجزية والعُشر إلخ. ولكن هذا لا يعني أنها جميعًا واحدة.

وبما أنّ المجتمع البرجوازي هو، بالإضافة لذلك، مجرّد شكل متناقض من أشكال التطور، فإنّه يشتمل على علاقات عائدة لمجتمعات سابقة غالبًا ما تكون بشكلها أو حتى بشكل ممسوخ، كالملكيّة الجماعية مثلاً. وهكذا، فعلى الرغم من أن مقولات الاقتصاد البرجوازي صالحة لكلّ التكوينات الاجتماعية الأخرى، فإنّ هذا قول لا يُؤخذ به إلا بتحفّظ، لأنّ هذه التكوينات الاجتماعية قد تشتمل على مقولات الاقتصاد البرجوازي إما على شكل متقدّم أو معوَّق النموّ أو ممسوخ، إلخ؛ أي أنّها لا تشتمل عليها دائمًا وهي مختلفة جذريًّا عمّا هي عليه فعلاً. إنّ ما يسمّى هذا التطوّر يعتبر الأشكال التي سبقته كمراحل متلاحقة في نموّه هو ذاته، فلا يراها إلا على نحو أحاديّ الجانب طالما يندر أن يمارس مجتمع ما النقد الذاتي، أو قُل إنه لا يمارسه إلا في ظروف استثنائية. غير أننا لسنا نتحدّث هنا عن حقبات تاريخيّة تعتبر نفسها حقبات ركود وانحطاط. لقد تمكّنت الديانة المسيحية من الإسهام في فهم موضوعيّ للميثولوجيات السابقة فقط عندما مهّدت لممارسة النقد الذاتي. لذلك، فإنّ شروع المجتمع البرجوازي بانتقاد ذاته هو الشرط الذي يسمح للاقتصاد السياسي البرجوازي بأن يفهم الأنظمة الاقتصادية الإقطاعية والقديمة والشرقية. وبالقدر الذي يرفض الاقتصاد السياسي البرجوازي التمثّل بالماضي على نحو أسطوري، يُمسي نقده للأنظمة الاقتصادية السابقة- وبخاصة نقده للنظام الإقطاعي الذي خاض نضالاً مباشرًا- شبيهًا بنقد الديانة المسيحية للوثنية أو نقد البروتستانتية للكاثوليكية.

ومثلما نفعل عادةً عندما نتفحّص أيّ علم تاريخي أو اجتماعي، كذلك ينبغي علينا، في معالجتنا لتطوّر المقولات الاقتصادية، أن نتذكّر دومًا أنّ الفاعل- المجتمع البرجوازي المعاصر في هذه الحالة- معطى سلفًا في الواقع والذهن معًا، وأنّ المقولات تعبّر بالتالي عن أشكال وجود وشروط وجود هذا الفاعل- أو أنّها قد تكون أحيانًا مجرّد تعبير عن أوجهٍ مستقلة له. وهكذا فالمقولة، حتى من وجهة النظر العلميّة، لا تبدأ إطلاقًا من اللحظة التي يجري فيها نقاشها هي بذاتها. هذا أمر لا يجوز أن يغيب عن بالنا لأنّه مقياس هامّ من مقاييس ترتيب المواد. فكلّ شيء يشدّ بنا إلى البدء بالريع- على اعتباره البداية الطبيعية- أي البدء بالملكيّة العقارية طالما أنها متعلّقة بالأرض، والأرض هي مصدر كل إنتاج وحياة؛ وهذا يعني بالتالي البدء بالزراعة، لأنها الشكل الأول للإنتاج في كلّ المجتمعات التي بلغت درجة من الاستقرار. ولكن ليس ثمّة ما هو أكثر إيغالاً في الخطأ من ذلك. في كل تكوين اجتماعي فرع إنتاجيّ معيّن يقرّر موقع وأهمية سائر الفروع الأخرى، كما تحكم العلاقاتُ السائدة في هذا الفرع العلاقاتِ داخل الفروع الأخرى. فكأننا بصدد لونٍ أصليّ واحد مسلّط على كلّ شيء، صابغًا كلّ الألوان الأخرى ومعدّلاً من سماتها المميّزة؛ أو كأننا بصدد موشور خاص يتحكّم بجاذبيّة كلّ الأشياء الموجودة فيه. لنأخذ القبائل الرعويّة مثالاً على ما نقول. (أما القبائل العائشة فقط على القنص والصيد فقد تخطّت الحدود التي يبدأ معها التطور التاريخي). تمارس هذه القبائل نشاطًا اقتصاديًّا معيّنًا يتحكّم، هو بدوره، بملكيّة الأرض. هذه الملكيّة جماعية. هي تحتفظ بشكلها الجماعي هذا بالقدر الذي تحافظ فيه هذه القبائل على تقاليدها كما هو الحال بالنسبة للملكيّة الجماعية عند السلافيين. أما عند الجماعات الزراعية المستقرّة، أو المستقرّة إلى حدّ كبير، حيث تغلب الزراعة (كما هو الحال بالنسبة للمجتمعات القديمة ومجتمعات الحقبة الإقطاعية) فنجد أنّ الحِرَف باتت تتّسم- من حيث بنيتُها وأشكال الملكيّة المقابلة لهذه البنية- بسمات زراعيّة مميّزة. فإما أن تكون هذه الحِرَف معتمدة كليًّا على الزراعة، كما في الفترة الرومانية الأولى؛ وأما أن تنقل إلى المدن وظروفها المميّزة نمط التنظيم [الإنتاجي] السائد في الريف. ثم إنّ رأس المال ذاته في القرون الوسطى كان يتكوّن من الأدوات التقليدية وظلّ محتفظًا بطابع زراعي مميّز- اللهمّ إلا عندما كان موجودًا على شكل رأسمال مالي. ويحدث العكس في المجتمع البرجوازي. هناك تتحوّل الزراعة، اطرادًا إلى مجرّد فرع من فروع الصناعة، ويسيطر عليها رأس المال سيطرة كاملة. وينطبق القول ذاته على الرّيع. ففي كلّ التكوينات التي تلعب فيها الملكيّة العقارية الدور الحاسم، تظلّ العلاقات الطبيعية هي المسيطرة. أما في التكوينات التي يشكّل فيها رأس المال الدور الحاسم، فتسيطر العناصر الناتجة عن التطور الاجتماعي والتاريخي. ولا يمكن فهم الريع بدون فهم رأس المال؛ ولا هذا بدون ذاك. إنّ رأس المال هو القوة الاقتصادية المسيطرة على كلّ شيء في المجتمع البرجوازي. فلا بدّ له من أن يكون نقطة الانطلاق ونهاية المطاف. ولا بدّ، إذن، من عرضه قبل عرض الملكية العقارية. ثمّ بعد أن نحلّل رأس المال والملكية العقارية كلّا منهما على حدة، نبحث في العلاقات المتبادلة القائمة بينهما.

لذا فإنّ عرض المقولات الاقتصادية حسب تعاقبها في لعب الدور الغالب في التاريخ أمر متسرّع ومغلوط. لا بل إنّ العكس هو الصحيح: فإنّ تتابع هذه المقولات تحكمه علاقاتها المتبادلة في المجتمع البرجوازي الحديث. وهذا هو عكس ما يبدو على أنّه القانون الطبيعي أو متطابقٌ مع سياق التطوّر التاريخي. فالمسألة ليست الدور الذي لعبتْه مختلف العلاقات الاقتصادية في تتابع التكوينات الاجتماعية عبر التاريخ؛ ولا هو إطلاقًا تتابعها «بما هي مفاهيم» (على حدّ قول برودون- في فكرته الضبابية عن العملية التاريخية)؛ وإنما المسألة هي مسألة موقع هذه العلاقات داخل المجتمع البرجوازي الحديث.

والواقع أنّ غلبة الشعوب الزراعية على العالم القديم هي التي دفعت الأمم التجارية- كالفينيقيين والقرطاجيين- إلى التطوّر على نحوٍ صافٍ (الخصوصية المجرّدة) كشعوب تجارية. ذلك أنّ رأس المال بشكله التجاري أو بما هو رأسمال ماليّ لا يظهر على هذا النحو المجرّد إلا حيث لم يتحوّل رأس المال بعدُ إلى عامل غالب في المجتمع. هذا وقد احتلّ اليهود واللومبارديون في المجتمعات الزراعية في القرون الوسطى الموقع ذاته الذي احتلّه الفينيقيون والقرطاجيون في العالم القديم.

تشكّل الشركات المساهمة وكمثال آخر على تفارق الأدوار التي تستطيع أن تلعبها عينَ المقولات في حقبات مختلفة من تطوّر المجتمع، ها هي الشركات المساهمة، آخر أشكال المجتمع البرجوازي. إلا أنّها قد نشأت أيضًا في الفترة الأولى من تطوّر البرجوازية على شكل الشركات التجاريّة الاحتكارية ذوات امتيازات.

إنّ مفهوم الثروة القوميّة قد وجد طريقه إلى داخل مؤلفات اقتصاديّي القرن السابع عشر في الوقت الذي وُلدت فيه الفكرة القائلة إنّ الثروة تنتَج لصالح الدولة التي تكون قوّتها موازية لحجم تلك الثروة- وهي فكرة استمرّت، إلى حدّ ما، في أعمال اقتصاديّي القرن الثامن عشر. هذا موقف خبيث، ولكن عن غير قصد، يعلن أن الثروة وعمليّة إنتاجها هما هدف الدولة الحديثة، التي باتت، في وجهة النظر هذه، مجرّد وسيلة لإنتاج الثروة.

يجب عرض الموادّ حسب التراتب الآتي: أولاً، عرض التعريفات المجرّدة العامة التي تخصّ كلّ التكوينات الاجتماعية إلى حدّ ما، ولكن بالمعنى المحدّد أعلاه. ثانيًا، المقولات التي تتكوّن منها البنية الداخليّة للمجتمع البرجوازي والتي تقوم عليها الطبقات الرئيسية: رأس المال. العمل المأجور. الملكيّة العقارية. والعلاقات بينها. المدينة والريف. الطبقات الكبيرة الثلاث. التبادل في ما بينها. التداول. نظام التسليف (الفردي). ثالثًا، الدولة بوصفها التكثيف للمجتمع البرجوازي. تحليل هذه العلاقة بحدّ ذاتها. الطبقات «غير المنتجة». الضرائب. الدين القومي. التسليف العام. السكان. المستعمرات. الهجرة. رابعًا، ظروف الإنتاج الدولية. قسمة العمل الدولية. التبادل الدولي. التصدير والاستيراد. معدّل التبادل. خامسًا، السوق العالمية والأزمات.

 

٤ – الإنتاج

وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج. علاقات الإنتاج والمواصلات. الأشكال السياسية وأشكال الإدراك في علاقتها بعلاقات الإنتاج والمواصلات. العلاقات القانونية. العلاقات العائلية.

ملحوظات بصدد نقاط يجب ذكرها في هذا الصدد وعدم إغفالها:

الحرب تنمّي [بعض الظواهر] قبل نموّها زمن السلْم؛ انظر كيف أنّه نتيجةً للحرب تطوّرت في الجيش بعض العلاقات الاقتصادية، كالعمل المأجور والمكننة، إلخ. قبل تطوّرها في المجتمع المدني. كذلك فإنّ العلاقات بين قوى الإنتاج وبين أنماط التبادل والتوزيع تظهر في الجيش بأوضح ما تظهر فيه.
العلاقة القائمة حتى الآن بين التأريخ المثالي السابق والتأريخ الواقعي. وبخاصّة ما يُسمّى بتواريخ الثقافات، التي ما هي إلا التواريخ القديمة للديانات والدول. (في هذا الصدد، يجب التحدّث عن مختلف أنواع كتابة التاريخ الموجودة حتى الآن: كتابة التاريخ المسمّاة موضوعية وذاتية (كتابة التاريخ الأخلاقية وسواها) وكتابة التاريخ الفلسفية.
الظواهر من الدرجتين الثانية والثالثة، أي علاقات الإنتاج غير الرئيسيّة لأنّها مستجرّة من علاقات أخرى أو منقولة عنها. تأثير العلاقات الدوليّة.
التهمُ الموجّهة لمادية هذا المفهوم؛ العلاقة بالمذهب المادّي الطبيعي.
جدليّة مفاهيم قوى الإنتاج (وسائل الإنتاج) وعلاقات الإنتاج، ينبغي رسم حدود هذا الارتباط الجدلي بحيث لا تلغى الفوارق الفعليّة.
العلاقة المتفاوتة بين تطوّر الإنتاج المادّي وبين تطوّر الفن مثلاً. هنا لا يجوز أن نفهم مفهوم «التقدّم» بالطريقة المجرّدة المعتادة. الفن الحديث، إلخ. هذا التفاوت ليس بأهمية أو صعوبة استيعاب التفاوت داخل العلاقات الاجتماعية المحدّد، كما في التعليم مثلاً. علاقات الولايات المتحدة بأوروبا. أما الصعوبة الفعليّة فتكمن في إدراك كيف تساهم علاقات الإنتاج في هذا التطوّر المتفاوت بوصفها علاقات قانونية. على سبيل المثال، علاقة القانون المدني الروماني بالإنتاج الحديث (وهذا ينطبق، ولو بدرجة أقلّ، على القانون الجزائي والقانون الدستوري).
يظهر هذا المفهوم على أنه تطوّر حتمي. ولكن لا بدّ من تفسير الصدفة. كيف؟ (الحرية وأمور أخرى). (تأثير وسائل النقل. إن التاريخ العالمي لم يكن موجودًا منذ الأزل؛ إن التاريخ بوصفه تاريخًا عالميًّا هو ذاته نتيجة [التطور التاريخي].
طبيعي أن يكون المنطلق هو عوامل طبيعية، ذاتية وموضوعية. كما تتجلّى في القبائل، الأجناس، إلخ.
أما بالنسبة للفن، فمن المعروف أنّ بعضًا من قمم تطوّره لا تتوافق إطلاقًا مع سياق التطوّر العام للمجتمع المعنيّ؛ ولا هي متوافقة بالتالي مع القاعدة المادية التي تشكّل العمود الفقري لتنظيم الفن. لنقارن مثلاً بين الإغريق وبين [الأمم] الحديثة، أو حتى شكسبير. لا بل إنّ البعض يعترف بأنّ بعض فروع الفن، كالملحمة مثلاً، لم يعد بالإمكان إنتاجها بشكلها الكلاسيكي الرائع بعد أن بدأ الإنتاج الفنّي ذاته؛ وبمعنى آخر يوجد بعض الآثار الفنية الهامّة لا يمكن إنتاجها إلا في حقبة مبكرة من حقبات تطوّر الفن. وإذا كانت مختلف فروع الفنّ تتطوّر بشكل متفاوت داخل عالم الفن ذاته، فلا عجب إذن أن يكون هذا هو الحال أيضًا بصدد العلاقة بين عالم الفن بمجمله وبين التطوّر العامّ للمجتمع. هذا وتكمن الصعوبة فقط في الصياغة العامّة لهذه التناقضات. ولكن ما إن نلخّص هذه التناقضات بأسئلة معيّنة حتى نكون قد فسّرناها.

لنأخذ، على سبيل المثال، العلاقة بين الفنّ الإغريقي وأدب شكسبير من جهة وبين عصرنا الحاضر من جهة أخرى. كلّنا يعلم أنّ الميثولوجيا اليونانية ليست ترسانة الفنّ اليوناني وحسب وإنّما هي الأرض الصلبة التي يقوم عليها أيضًا. ولكن فلنسأل: هل يمكن أن تستمرّ رؤية الطبيعة والعلاقات الاجتماعيّة الكامنة وراء المخيّلة اليونانية، وبالتالي الفن اليوناني، في عصر آلات الحياكة الأوتوماتيكية وسكك الحديد والقاطرات والبرق الكهربائي؟ أين «ڤولكان» من «روبرتس وشركاه»؟١، وما حَربة «جوبيتير» بالمقارنة مع قضيب الصاعقة، أو «هرمس» بالمقارنة مع «بنك التسليف العقاري»؟٢، إنّ كل ميثولوجيا تقمع قوى الطبيعة وتسيطر عليها وتقولبها في المخيّلة وعبر المخيّلة؛ ولا تزول الميثولوجيا إلا عندما تتحقّق السيطرة الفعلية على هذه القوى. فماذا يحلّ بـ«فاما» إذا وضعت جنبًا إلى جنب مع «بْرنْتِنْغ هاوس سكوير»؟٣، إنّ وجود الفن الإغريقي يفترض وجود الميثولوجيا الإغريقية، أي أنّه يفترض أن تكون الظواهر الطبيعية والاجتماعية مستوعبة في مخيّلة البشر على نحو فنّي غير مقصود. تلك هي مادّة الفن الإغريقي، وليس مطلق ميثولوجيا؛ أي ليس مطلق عمليّة استيعاب فنية غير واعية للطبيعة (والطبيعة هنا تشمل كلّ الظواهر الفيزيائية، بما فيها المجتمع)؛ فلا يمكن للميثولوجيا المصرية، بأي حالٍ من الأحوال، أن تولّد الفنّ اليوناني أو أن تشكّل قاعدة له. ومهما يكن من أمر، فالفن اليوناني يظلّ يفترض وجود ميثولوجيا؛ وهو ما كان لينبثق من تطوّر اجتماعي يستبعد موقفًا أسطوريًّا (ميثولوجيا) من الطبيعة- أي موقفًا من الطبيعة قابلاً لتوليد أسطورة- ويستبعد بالتالي مجتمعًا يطلب من الفنان أن يملك مخيّلة مستقلّة عن الميثولوجيا.

لننظر إلى الأمر من منظار آخر، هل يبقى «أخيل» ممكنًا بعد اكتشاف البارود والرصاص؟ هل «الإلياذة» أصلاً ممكنة في عصر آلة الطباعة؟ أليس من المحتوم أن تسكت ربات الشعر عن الإنشاد والكلام المباح بعد اكتشاف مكبس آلة الطباعة، وتتلاشى معها الشروط الضرورية لإنتاج الشعر الملحمي؟

يبقى أنّ الصعوبة التي نواجه ليست صعوبة فهم كيف أنّ الفن والشعر الملحمي الإغريقيين يرتبطان بأشكال معيّنة من التطوّر الاجتماعي. إن الصعوبة كامنة في تفسير كيف أنّ هذا وذاك لا يزال يمدّاننا بمتعة جمالية، وكيف أننا ما زلنا نعتبر كلاً منهما، في أكثر من وجه، مقياسًا وهدفًا مثاليًّا لا يمكن بلوغه. يستحيل على الراشد أن يعود إلى الطفولة، وإلا بدا صبيانيًّا. ولكن ألا يلتذّ الطفل بسذاجة؟ ألا يسعى هو نفسه، بعد أن اجتاز الطفولة، إلى استعادةٍ حقيقيّةٍ للطفل؟ ألا يمثّل الطفل، في كلّ حقبة تاريخيّة، طابع المرحلة في حقيقتها الطبيعية؟ إذا كان الأمر كذلك، فلماذا نستغرب إذا كانت طفولة البشرية التاريخية، حيث بلغت البشرية أجمل أشكالها، تمارس علينا سحرًا دائمًا لأنها حقبة من التطور لا يمكن استعادتها؟ يوجد أطفال قليلو التهذيب وأطفال أكبر من أعمارهم. معظم الشعوب القديمة من هذا النوع أو ذاك، أما الإغريق فإنّهم أطفال طبيعيون. لذا فإنّ السحر الذي يمارسه فنّهم علينا لا يتعارض إطلاقًا مع عدم نضج المجتمع الذي أنتجه بل بالعكس، فهذا السحر هو نتيجة مباشرة لهذا المجتمع وهو يرتبط ارتباطًا لا ينفصم بالحقيقة الآتية: إنّ الظروف الاجتماعية غير الناضجة التي أنتجت هذا الفن -والتي كانت هي وحدها القادرة على إنتاجه- لا ولن تستعاد أبدًا!

العدد ٣١ - ٢٠٢١

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.