ولدت «عامّية باريس» العام ١٨٧١ من صدمة هزيمة عسكرية. رفضت المدينة الاستسلام وتسليم السلاح في وجه حكومة خيانة وطنية ذات غالبية من الملكيين تسعى للارتداد على المكتسبات الجمهورية. حكمت نفسها بنفسها خلال ٧٢ يومًا تاريخيًّا تسلّم العمّال خلالها السلطة في المدينة المحاصَرة وأعلنوا «الجمهورية الاجتماعية»: استبدلوا الجيش المحترف بالشعب المسلّح وأسّسوا أول تجربة في الديموقراطية المباشرة والعلمانية والعدالة الاجتماعية. في ما يلي رواية العناصر الرئيسة لتلك التجربة.
في تموز/ يوليو ١٨٧٠، أعلن نابليون الثالث الحرب على الاتحاد الألماني الشمالي بقيادة بروسيا واجتاح الأراضي الألمانية. هُزِم الجيش الإمبراطوري خلال أسابيع ووقع الإمبراطور في الأسر ونُفي إلى إنكلترا وانهارت الإمبراطورية الثانية.
في ٤ أيلول/ سبتمبر ١٨٧٠ تشكّلت «حكومة دفاع وطني» أعلنت الجمهوريةَ الثالثة وواصلت الحرب إلى أن هزمتْها القوّات البروسية وحاصرت باريس. في ذلك اليوم ثارت باريس الشعبية على الهزيمة رافضةً الاستسلام، فأطبق عليها حصارٌ مزدوجٌ من الجيش البروسي والجيش الجمهوري.
باريس تحت الحصار
جاعت باريس في الشتاء القاسي. عاشت أكثرية سكانها على ضوء الشموع. كان رغيفُ الخبز الوجبةَ الرئيسة لمعظم الأهالي. أكل فقراءُ المدينة الفئران والقطط ونخاع الكلاب وذُبحت للأغنياء حيوانات حديقة الحيوان. تضاعفتْ نسبة الوفيات أربعة أضعاف. بدأ القصف البروسي على المدينة مطلع العام الجديد. طالب تيارٌ واسعٌ في المدينة بالخروج لفكّ الحصار ومحاربة البروسيين. في ٣١ تشرين الأول/ أكتوبر خرجت تظاهرة عمّالية مسلّحة لتعلن أن العامّية وحدها تستطيع مجابهة خيانة الحكومة المؤقتة وشنّ حرب طويلة المدى ضد الجيش البروسي.
بدأ تشكيل «النوادي الحمراء» في دوائر باريس العمّالية والشعبية. استُلهمت تجربة الثورات السابقة في ١٧٩٤ و١٨٣٠ و١٨٤٨، لكن بمشاركة عمّالية متنامية ونفوذ واسع للأفكار والمجموعات الاشتراكية والمجموعات اليسارية. السلطة في النادي للجمعيات العمومية تنعقد «من أجل أن نتعرّف على حقوقنا والدفاع عنها»، على ما ورد في محضر اجتماعات أحد النوادي، «فعندما يعبّر كلّ واحد منا عن رأيه يَسهل علينا التوصّل إلى قراراتٍ جماعية تتعلق بالأحداث الجارية».
ظهرت الملصقات الثورية على الجدران. «الملصق الأحمر» الصادر عن «لجنة دوائر باريس العشرين» يدين «حكومة الدفاع الوطني» على اعتبارها استمرارًا للإمبراطورية ويعلن: «أفسحوا المجال أمام الشعب! أفسحوا المجال أمام العامّية!». كانت هذه أوّل استعادة لصيغة الحكم الذاتي لباريس على يد سكانها كما مورست لأول مرة خلال الثورة الكبرى عام ١٧٩٤. في ٣١ تشرين الأول/ أكتوبر، احتلّت فيالق عمّالية مبنى البلدية واعتقلت عددًا من الوزراء. لكنّ الجيش ما لبث أن استعاد المبنى.
في ٢١ كانون الثاني/ يناير ١٨٧١ نظمت «النوادي الحمراء» تظاهرة عارمة ضد الاستسلام للغزاة خلال مفاوضات الهدنة بين الحكومة والجيش البروسي. بعد أسبوع، وقّعت الحكومة الهدنة وسلّمت قطاعات من الجيش أسلحتها وسرّحت ٢٢٠ ألف جندي أرسلوا إلى مناطقهم. وأعلنت الحكومة استسلام باريس. رفضت المدينة الاستسلام ورفض الحرس الوطني تسليم سلاحه.
اشترط البروسيّون إجراء انتخابات عامّة لتكريس شرعية الحكومة التي ستوقّع معاهدة السلام. في شباط/ فبراير أسفرت الانتخابات عن «جمعية وطنية» ذات أكثرية من الملكيين والمحافظين اجتمعت في مدينة بوردو وانتخبت حكومة من الملّاك العقاريين والرأسماليين برئاسة أدولوف تيير المعروف بدوره في قمع الانتفاضة العمّالية خلال ثورة ١٨٤٨. استسلمت الحكومة للشروط المذلّة التي فرضها رئيس الوزراء البروسي أوتو فون بسمارك وأبرزُها دفع تعويضات مالية باهظة وضمّ منطقتي آلزاس ولورين ونزع سلاح باريس. إمعانًا في الإذلال، أصرّ بسمارك على أن يستعرض قوّاته المنتصرة في جادة الشانزيليزيه بالعاصمة. أمام رفض باريس الاستسلام وتمسُّك الحرس الوطني بسلاحه، دعا تيير الجيشَ البروسي إلى احتلال عاصمة فرنسا، ردّ بسمارك أنّ هذا ليس من شأنه.
تسارعت الأحداث باتجاه إمساك شعب باريس بمصيره. اتّفق الفرع الفرنسي لـ«الجمعية الأمميّة للشغيلة»، أو «الأممية الأولى»*، و«مجلس اتحاد النقابات» و«لجنة دوائر باريس العشرين» على ضرورة تسلّم العمّال للسلطة السياسية وتصفية حكومة الأوليغارشية و«الإقطاع الصناعي» وتشكيل حكومة تمنح العمّال وسائل الإنتاج وتوزّع الأرض على الفلاحين وتحقق المساواة السياسية والاجتماعية.
في ١٥ آذار/ مارس، استكمل الحرس الوطني الباريسي تنظيم صفوفه وبات يضمّ ٣٠ ألف متطوّع بينهم عدد كبير من العمّال والحرفيين، وقد تنامى نفوذ الفرق الاشتراكية الجذرية في صفوفه. أعلن الحرس تأسيس فيدرالية للدفاع عن الجمهورية ضد الغزو البروسي وضد عودة الملكيين، وانتخب مجلسًا من ٥٠٠ مندوب انتخبوا بدورهم لجنةً مركزية.
انسحبت وحدات الجيش النظامي المتبقية في المدينة إلى منطقة القصور الملكية في ڤرساي وقد انتقلت إليها الجمعية الوطنية والحكومة من بوردو.
أكبر مدينة أوروبية بيَد العمال
يوم ١٨ آذار/ مارس ١٨٧١، أوفد تيير قواتٍ من الجيش للاستيلاء على ٣٠٠ مدفع تابعة للحرس الوطني في الضاحيتَين العمّاليتين مونمارتر وبلفيل. رفضت باريس تسليم المدافع وقد تزوّد بها الحرسُ خلال ثورة العام ١٨٤٨ وموّلها من خلال اكتتابات عمالية وشعبية. ثم إن المَدافع كانت وسيلة الدفاع الوحيدة التي يملكها أهالي باريس في وجه الجيش الألماني الذي يطوّق العاصمة ويقصفها بالمدافع. خرجت جماهيرُ حاشدة تتقدّمها النساء لمنع الجنود من جرّ المدافع. رفض الجنود أوامر إطلاق النار وانضمّ عددٌ منهم إلى الأهالي الذين اعتقلوا جنرالاً أطلق النار على الحشود. فشلت محاولة الاستيلاء على المدافع. وأسر الحرسُ الوطني الجنرالين توما ولوكونت وأعدمهما.
في ٢٦ آذار/ مارس انتخبت باريس ممثليها في «مجلس العامّية» المكوّن من ٩٢ نائبًا يمثّلون دوائر المدينة العشرين. شارك في الانتخاب ٢٢٧ ألف ناخب، أي حوالي نصف ناخبي العاصمة. انخفض عدد النواب إلى ٦٠ بعد استقالة نواب الأحياء الميسورة. كان نصف المجلس مكوّنًا من العمّال و١٢ مدرّسًا، أمّا الباقون فموظفون ومحاسبون وأطبّاء ومحامون وصحافيون. وكان معظم النواب شبابًا وجُددًا على السياسة. وأبرز القوى السياسية الممثلة في المجلس اليعاقبة، من أنصار التيار الراديكالي في الثورة الكبرى (١٧٨٩)؛ أنصار المفكر الاشتراكي المثالي برودون؛ أنصار أوغست بلانكي والتي دعتْ إلى قيام دكتاتورية مؤقتة قبل تسليم الحكم إلى الشعب؛ وأعضاء «الأممية» الموزّعون بين أنصار باكونين وأنصار ماركس. وقد التحق الماسونيون بـ«العامّية» لاحقًا بعدما تأكدوا أنّ حكومة ڤرساي ترفض أي تسوية.
انتخب المجلس «لجنة مركزية» وأوغست بلانكي المعتقل في سجن ڤرساي رئيسًا فخريًّا. وفي ٢٨ آذار/ مارس ١٨٧١، أعلنت اللجنة المركزية قيام «عامّية باريس» في بيان ورد فيه:
«يدرك عمّال باريس، وسط إخفاقات وخيانات الطبقات الحاكمة، أنّ الساعة قد حانت لإنقاذ الوضع بأن يتولّوا إدارة الشؤون العامّة بأنفسهم... وهم يعُون أن واجبهم الأسمى، وحقهم المطلق، أن يصيروا أسياد مصائرهم من خلال الاستيلاء على سلطة الدولة».
احتلّ «الحرس الوطني» مبنى البلدية مجددًا ورفع عليها العلم الأحمر، «أحمرَ من دم العمّال» كما ورد في النشيد. وانعقد احتفال شعبي عارم حضره عشرات الألوف أعلِنتْ فيه «الجمهورية الاجتماعية» «من أجل خوض المعركة الكبرى بين العمل والتطفّل وبين الاستغلال والإنتاج». وأنشدت الجموع «نشيد الرحيل» الذي وضع عام ١٧٩٤ يقْسِم فيه المتطوعون للقتال على تلبية نداء الجمهورية لسحق المَلكية والتضحية بالأرواح في سبيل الحرية والسلام.
رفضت «العامّية» الاستسلام للشروط الألمانية وقررت قتال الغزاة. شنّ الحرسُ الوطني عدة حملات لكسر الطَّوق البروسي حول العاصمة، لم تنجح المحاولات فتقرّر إعطاء الأولوية لترسيخ السلطة الثورية وتجهيز الدفاع عن باريس. أُعلنت التعبئة العامة ورُفعت المتاريس في الأحياء.
«خلال ٧٢ يومًا، كانت أكبر مدينة في القارة الأوروبية بين أيدي البروليتاريين»، على ما كتب ليساغاري، مؤرّخ «العامّية».
الديموقراطية المباشرة
وفصل الكنيسة عن الدولة
أعلنت «العامّية» الديموقراطية المباشرة التي تجمع المهمّتين التشريعية والتنفيذية، وتقوم على لامركزيةٍ موسّعة تمارسها المجالس البلدية في دوائر المدينة. يكلَّف المندوبون (بديل الوزراء) المنتخبون بمهمّات تنفيذية معيّنة، وهم عرضة للمساءلة والمحاسبة والعزل بناءً على التنفيذ. وكانت كل الوظائف الحكومية منتخبة بما فيها مناصب الضباط وموظّفي الخدمة المدنية والقضاة والمدّعين العامّين. وأُلغيت امتيازات الموظفين.
وجّهت باريس الثائرة نداءً إلى الفلاحين: مصالحنا مشتركة، باريس تريد الأرض للفلاحين، والعمل للجميع، وتملّك العامل والحرفي لأدوات عمله. لم تستجب الأرياف. استجابت مدن عدّة. أعلِنتْ العامّيات في ليون، سان إتيين، كروزو، مارسيليا، تولوز وناربون. لكنها انطفأت الواحدة تلو الأخرى تحت الهجمات الدموية التي شنّها العسكر المهزوم.
خلال حياتها القصيرة، اتخذت العامّية جملةً من القرارات تُشكّل سوابق تاريخية:
فصل الكنيسة عن الدولة وإعلان أملاك الكنيسة أملاكًا وطنية.
إلغاء الجيش النظامي والتجنيد الإجباري واستبدال الجيش المحترف بالشعب المسلّح. ومن مناسبات «العامّية» المشهودة الحشدُ الجماهيري في ساحة ڤاندوم الذي حطّم العمودَ المرفوع عليه تمثالُ نابليون بونابارت تمجيدًا لانتصاراته العسكرية.
إخضاع الشرطة لسلطة مجلس العامّية وتجريدها من كل امتيازاتها.
إلغاء عقوبة الإعدام. وفي ٦ نيسان/ أبريل نظم الحرس الوطني احتفالاً شعبيًّا أحرقت خلاله المقصلة، رمز الاستبداد الملكي، وكأنّ إحراقها كان أيضًا كفّارة عن استخدام ثوار ١٧٨٩ آلة الإعدام الدموية بعضهم ضد بعض.
إعلان قيام التعليم الرسمي العلماني المجاني والإلزامي. وافتتاح مدارس مهنية تؤهّل التلاميذ لممارسة المهَن اليدوية بعد نَيل الشهادة الابتدائية. وبوشر سحب الإشارات والصور والتماثيل الدينية من المدارس.
تحت شعار «العمل من الجميع ومن أجل الجميع»، صدرت قرارات اجتماعية منها منع عمل الأطفال، وإلغاء عقوبات العمل، وإقفال مكاتب الرهونات، وتعليق الفوائد على الديون، ومصادرة المشاغل التي غادرها أصحابها وتسليم إدارتها للعاملين فيها.
«الشعلة المقدّسة في قلوب النساء»
لعبت النساء دورًا كبيرًا في العامّية، عبّر عنه أحد الصحافيين بحديثه عن «الشعلة المقدّسة التي تحترق في قلوب النساء». تأسس «اتحاد النساء» معلنًا «أن انتصار النضال الحالي يهمّ النساء والرجال على حدّ سواء». أسهمت في التأسيس المدرّسةُ النسويةُ والاشتراكيةُ لويز ميشيل، التي ستتحول إلى أيقونة العامّية؛ وإليزابيث ديميتريف، الروسية الجميلة الثرية، مندوبة كارل ماركس؛ الاشتراكية ناتالي لوميل، مجلّدة الكتب التي أسست تعاونية ومطعمًا مجانيًّا؛ الكاتبة أندريه ليو بول مينك؛ آن جاكلار، الأرستقراطية الروسية التي آثرت الزواج من مناضل بلانكي فرنسي على الزواج من الروائي الشهير دوستويفسكي لكي تتفرّغ للنضال الاشتراكي.
برزت النساء بدور خاص في التعليم وعملن في عربات الإسعاف والمستوصفات والمشافي للعناية بالجرحى، وتطوّعن في الحرس الوطني، وتَشكّل منهنّ فوج نسائي تولى مهمة الدفاع عن «الساحة البيضاء» وقاتلن على المتاريس ووقع منهنّ ٦٦٠ امرأة في الأسر خلال القتال. وأبرز المطالب النسوية المساواة الكاملة بين الجنسين، حقّ الاقتراع للنساء، الاعتراف بالأولاد المولودين خارج الزواج وإلغاء الدعارة.
انتظم عمل «النوادي الحمراء». تجتمع في الكنائس بعد تحوّلها إلى ملك عام، مع أنّ العامّية لم تمنع ممارسة الشعائر الدينية فيها خلال النهار. تروّج النوادي للفكر الاشتراكي وتعمل على تعميق الطابع السياسي والاجتماعي التقدمي للعامّية، وتحوّلت إلى منابر للبحث في الأوضاع الجارية وشؤون الحياة تشارك في صياغة السياسات وترفع التقارير والتوصيات والمقترحات والانتقادات إلى المجلس واللجنة المركزية.
في كل الأحوال، لم يفارق العامّيةَ التناقضُ بين ضرورات مقاومة الحصار والاستسلام والاهتمام بتطبيق إجراءات الثورة الاجتماعية. كان الأمر حمّال أوجه. هذا نادٍ يتساءل في أحد تقاريره: ما فائدة الانتصار على ڤرساي إن لم نجد الجواب على المشكلة الاجتماعية ولم تتحسن معيشة العامل؟ مهما يكن، كان على النوادي المشاركة بالرد على الحملات المنظَّمة التي يشنّها خصوم العامّية في الداخل، من الصحف المعارضة إلى نشاطات الإكليروس في التحريض ضد «العامّية»، باسم الدين، والتجسس عليها. فلم يكتفِ بعض النوادي بشنّ حملات دعائية ضد رجال الدين، أرفقوها بحملات ضد الدين ذاته. وفي كل الأحوال، سرعان ما استأثرت المهمات العسكرية واللوجستية والأمنية للدفاع عن المدينة بالأولوية على التخطيط والإنجاز في الحقلين الاقتصادي والاجتماعي.
المثقفون في العامّية
انتعشت الصحافة في ظلّ العامّية ولم تكن مجرّد منابر للصراع الفكري والسياسي والردّ على الحملات المعادية، وأعطت «العامّيةَ» عددًا من أبرز قادتها. هذا هو حال جول ڤاليس، مؤسس صحيفة «صرخة الشعب». قاد حركة انقلابية مسلّحة ضد حكم نابليون الثالث وسُجن، وهو كاتب «الملصق الأحمر» وعضو بارز في الفرع الفرنسي من «الأممية». أسهم في تأسيس «العامّية» ومثّل الدائرة ١٥ في مجلسها. ويمكن اعتبار ڤاليس نموذجًا عن المثقف الثوري في ذلك الزمن: تولّى مسؤولية لجنة التعليم العامّ في مجلس العامّية وقاد فوجًا في الحرس الوطني في القتال. وعُرف عنه أنه تحفّظ على قرار فصل الكنيسة عن الدولة وعارض قرار منع «الصحف الرجعية».
ومن قادة «العامّية» أيضًا الصحافي والمسرحي الاشتراكي فيليكس پيا، مؤسِّس صحيفة «Le Combat» (المعركة) وقد تولى مسؤوليات عسكرية أيضًا. وپيا من منظمي حملة تدمير عمود ساحة ڤاندوم ومنزل تيير وإحدى الكنائس.
«الثورة الاجتماعية» صحيفة أسستْها وأدارتها مناضلتان: آن جاكلار وأندريه ليو، الاسم المستعار للمناضلة النسوية والاشتراكية ليوديل بيرا التي نشطت باكرًا في «جمعية الدفاع عن حقوق المرأة» مع لويز ميشيل وپول مينك وايلي رُكلو وآخرين. واللافت في مقالات ليو اهتمامها الكبير بالمسألة الفلاحية، وبالتناقض بين باريس الثائرة والأرياف المحافظة، وقد تخلّى الفلاحون مجددًا عن العاصمة في انتخابات ١٨٧٠ ومنحوا أصواتِهم لملّاك الأراضي والرأسماليين والأحزاب الملكية، وقد رفعوا قبل ذلك نابليون الثالث إلى سدّة الرئاسة والامبراطورية. نادت ليو باشتراكية للفلاحين وتباكت على مصير «باريس التي سوف تُسحق تحت ركبة الفلاح القوي، أخيها العاق».
تكاثرت الصحف ذات الأسماء المعبّرة عن العهد الجديد: «الشِّعار»، «منبر الشعب»، «النداء»، جريدة فكتور هوغو، «الطليعة»، «العدالة» «باريس الحرّة»، «الجمهورية الجديدة»، إلخ.
لم يكن الكتّاب والأدباء على المستوى نفسه من الإيجابية. اتّخذ غوستاف فلوبير وجورج صاند موقف العداء الصريح من العامّية. أيّد فيكتور هيغو أهدافها مع أنه دانَ مرسوم الأسرى وتدمير نُصب ساحة ڤاندوم وانتقد نزعة البلانكيين الانقلابية. ومرسوم الأسرى هو الذي بموجبه قرّرت العامّية أسرَ عدد من وجهاء باريس الموالين لحكومة ڤرساي بعدما أعدم جيشُ هذه الأخيرة أربعةً من قادة العامّية، التي توعّدت بالمعاملة بالمثل، لكنها لم تنفّذ قرارها إلا بعدما صارت قوّات ڤرساي داخل باريس. وقد وضع هيغو إصبعه على الجرح إذ أعلن حقّ باريس في إعلان عاميّتها لكنه تساءل: أهذا هو الوقت المناسب لذلك؟ الحرب الأهلية بعد الحرب الوطنية؟ ألم يكن من الأفضل الانتظار حتى ينسحب العدوّ من أرضنا؟ ومع ذلك، حمّل الشاعر الكبير جماعةَ ڤرساي المسؤوليةَ الأولى عن الحرب الأهلية. لم يكن إميل زولا بمثل تسامح هيغو. اتّخذ موقعًا وسطيًّا بين ڤرساي وباريس، وتوقّع أنّ العامّية سوف تخيّب أمل الطبقات الفقيرة، لكنه دانَ في الوقت نفسه «جنونَ اليمين» الذي يريد سحق العامّية، وكان جلّ همّه عودة الأمن إلى المدينة.
برز الرسّام الاشتراكي كوربيه بين وجوه العامّية القيادية. تولّى مندوبية التعليم وكان مسؤولاً عن حماية آثار باريس. وأخذ المبادرة بتأسيس اتحاد للفنانين في اجتماعٍ حضره ٤٠٠ فنانة وفنان. أما الفنان الانطباعي إدوار مانيه فلم يكن إيجابيًّا تجاه العامّية لكنه ترك لنا رسمتين عنها بعنوان «المتراس» و«الحرب الأهلية».
«الأسبوع الدامي»
يوم ٢١ أيار/ مايو، اخترق نحو ١٣٠ ألف جندي من الجيش الجمهوري دفاعات العاصمة معزَّزين بالخيّالة والمدفعية. قاتل ثوار باريس لثمانية أيام، قاوموا على المتاريس من دائرة إلى أخرى في دوائر باريس الحمراء. شعارهم «خيرٌ أن نموت واقفين من أن نعيش راكعين».
تحركت مجموعات من النساء لحرق أبنية حكومية بزجاجاتٍ معبأة بالمواد الحارقة بما يشبه زجاجات «كوكتيل مولوتوف». هكذا ولدت أسطورة «النفطيات» les pétroleuses. عبّرت عن مزيج من خوف البرجوازية من العامّة ومن الفزع الذكوري من تمرّد النساء. روّج لها سياسيون وإعلاميون بهدف اتهام نساء العامّية بالعدوانية في سياق تصوير استباحة باريس على أنها حرب بين الحضارة والهمجية. وهؤلاء هم أنفسهم الذين روّجوا التهديد الذي أطلقه تيير «إذا كان لا بد من حرق باريس، فسوف نحرق باريس!». ومهما يكن من أمر، تبيّن من تحقيقات لاحقة أنّ أفدح الأضرار التي أصابت الأبنية، التي قيل إنها أحرقت مبنى البلدية والقصر الملكي وقصر العدل، نجمت عن القصف المدفعي لا عن الحرائق.
استباح جيش فرنسا عاصمة فرنسا العاصية. مَن كان بيده سلاح قُتل للفور ومثْله كل أجنبي. تكاثرت الأعمال الانتقامية. أُعدم ٤٢ رجلاً وثلاث نساء وأربعة أطفال اختيروا عشوائيًّا في الموقع الذي قُتل فيه الجنرالان بمونمارتر خلال حملة مصادرة المدافع. وأُعدم ١٤٧ ثائرًا على جدار مقبرة «بير لاشيز» ورُميت جثثهم في خندق مفتوح.
سقط آخر متراس في باريس يوم ٢٨ أيار/ مايو. ووقف آخر قائد عسكري للحرس الوطني فوق أحد آخر المتاريس يستقبل الموت.
بلغ عدد الضحايا ١٧ ألف قتيل، حسب الأرقام الحكومية، و٤٥ ألف أسير. نُظّمت محاكمات صوَرية لقادة العامّية. جرّوهم إلى المحاكمة رجالاً ونساءً وسط شتائم وبصاق حشودٍ من رجال ونساء البرجوازية والأرستقراطية. صدرت أحكامٌ بالإعدام بحق مئات، وبالنفي إلى كاليدونيا الجديدة بحق ستة آلاف.
مثُلت لويز ميشيل أمام المحكمة في ١٦ كانون الأول/ ديسمبر ١٨٧١. رفضت أن تدافع عن نفسها وأن يدافع عنها أحد. أعلنت انتماءها الكامل إلى الثورة الاجتماعية. أفادت بأنها تتحمل كامل المسؤولية عن جميع أفعالها. قالت إنها تناضل في صفوف «العامّية» من أجل «إلغاء كل أشكال الاستغلال، وإحلال ملكوت العمل محلّ ملكوت رأس المال؛ ومن أجل أن يكون تَحرر العمال من صنع العمّال أنفسهم. لم تنكر أبرز تهمة منسوبة إليها أنها قائدة «النفطيات». قالت: «أردتُ أن أواجه غُزاة ڤرساي بحاجزٍ من نار». نفت أن تكون لها شريكات في تلك الأفعال التي تحمّلت المسؤولية عنها بمفردها. وفي ختام مطالعتها طلبت لويز ميشيل لنفسها الإعدام: «لمّا كان كل قلبٍ يطالب بالحرية لا يحق له إلا بضعُ رصاصات، فإني اطالب بحصّتي منها. إذا تركتموني على قيد الحياة، فلن أتوقّف عن المطالبة بالانتقام...» وأضافت متحدّيةً «اقتلوني، إن لم تكونوا جبناء». حكموا عليها بالنفي. سوف تعود لويز ميشيل من المنفى وتساهم مع رفيقات ورفاق المنفى والوطن في تأسيس أول حزب اشتراكي خلال الأعوام ١٨٧٨-١٨٨٠. مثلت مجددًا أمام المحاكم لنضالها الاشتراكي ودخلت السجون. ومشى مائة ألفٍ من أهالي باريس وراء نعشها عندما تُوفيت في العام ١٩٠٥.
لم ينتهِ الانتقام من العامّية فصولاً. تجسّد في الحجر والرخام. تقوم الآن فوق عقبة مونمارتر، بأعلى نقطة في باريس، بازيليكا «القلب الأقدس». في أصل مشروع إنشاء هذا الصرح المكرّس من البابا اقتراحٌ من الأسقف فورنييه أرادَه تكفيرًا عن هزيمة فرنسا أمام بروسيا العام ١٨٧٠-١٨٧١. فسّر فورنييه الهزيمة على أنها عقاب ربّاني أُنزل بفرنسا بسبب «التدهور الأخلاقي» الذي أصابها على امتداد قرن كامل منذ ثورة ١٧٨٩. ولكن عندما أقرّت «الجمعية الوطنية» قانون بناء البازيليكا في ٢٤ تموز/ يوليو ١٨٧٣، شدّدت على أن يكون موقعها قريبًا من المكان الذي سقط فيه الجنرالان توما ولوكونت، وحدّدت سببًا مختلفًا لتشييد الصرح: «التكفير عن جرائم العامّية». أما الرواية المقدّمة للسيّاح الذين يزورون مونمارتر، وهي حيّ الفن والفنانين حاليًّا، فتقول إنّ بازيليكا «الساكري كور» شيّدت تخليدًا لذكرى ٥٨ ألف فرنسي قضَوا في الحرب الفرنسية-البروسية، ١٨٧٠-١٨٧١!
مزاوجة الوطنية والأمَمية
العامّية التي رفضت الاستسلام للاحتلال البروسي وانتفضت ضد الخيانة الوطنية أمام العدوّ، لم تجد أيّ تعارضٍ بين الوطنية والأممية، بل أكدت التكامل بينهما وشعارها المركزي «تحيا الإنسانية». فقد انتخب ثوار باريس ليو فرانكل، العامل المجَري وممثل العمّال الألمان، مندوبًا للعمل والصناعة والمبادلات؛ واختاروا دومبروفسكي، المناضلَ الاشتراكي البولوني، قائدًا للحرس الوطني؛ وبرز في صفوفهم مناضلاتٌ ومناضلون روس أمثال إليزابيث دميترييف، وآنا جاكلار وبيوتر لافروف وآخرين. وكان بين المشاركين في «العامّية» عربٌ نعرف منهم أنيس البيطار الذي عيّنه مديرُ المكتبة الوطنية إيلي رُكلو مديرًا لقسم المخطوطات. اعترض أحد الموظفين على تعيين العربي بحجّة عدم أهليّته للمنصب في ما بدا أنه ردُّ فعل عنصري، فزاد من إصرار رُكلو على تثبيته في منصبه. يَردُ ذِكر البيطار في رواية رُكلو على أنه مصري ويظهر في رواية أخرى على أنه سوري- لبناني. وهذا كل ما نعرفه عنه وعن المشاركة العربية في حدود أبحاثنا الحالية.
كانت النزعة الأممية حاضرة عند إسقاط نُصب نابليون في ساحة ڤاندوم يوم ٦ أيار/ مايو.
والأرجح أنّ الواقعة تمثيل وتجسيد للنبوءة التي أطلقها كارل ماركس في ختام كتابه «١٨ برومير للوي بونابارت» حين قال: «عندما تسقط العباءة أخيرًا عن كتفَي لوي بونابارت، سوف يهوي تمثال نابليون البرونزي مهشّمًا من أعلى عمود ڤاندوم». هكذا حصل. عمّد الثوار الساحة، «ساحة الأممية». ومن «عامّية باريس» خرج «نشيد الأممية» (الإنترناسيونال). ألّفه الشاعر أوجين پوتّييه وهو مختبئ في باريس خلال الأسبوع الدامي. وكان پوتييه محافظًا لدائرة باريس الثانية، وقد أهدى النشيد إلى غوستاف لو فرانسيه، أول رئيس للعامّية. والنشيد من تلحين بيار دوجايتر، عضو جوقة «حزب العمّال» في مدينة لِيل، وقد أنشدتْه لأول مرة جوقة «قيثارة العمّال» في إحدى حانات حيّ «القديس المخلص» الشعبي في لِيل، يوم ٢٣ تموز/ يوليو ١٨٨٨.
وتوّجت «العامّية» نزعتها الأممية بمنح الجنسية للأجانب المقيمين في المدينة.
ماركس والعامّية
روى ماركس وقائع «العامّية» وحلّلها في تقريرٍ مسهب أمام مجلس «الأممية» نُشر بعنوان «الحرب الأهلية في فرنسا». حيّا الثورة بما هي إرهاص بمجتمع جديد. ورأى إليها على اعتبارها الثورة الأولى التي يُعترّف فيها علنًا للطبقة العاملة بأنها الطبقة الوحيدة القادرة على المبادرة الاجتماعية. وشدّد على الجديد والنوعي في اعتماد صيغة الديموقراطية المباشرة التي تَدمج التشريعي والتنفيذي، في بديل عن الصيغة البرلمانية. ورأى أن العامّية اكتشفت أخيرًا الإطار السياسي من أجل تحقيق التحرر الاقتصادي لعالَم العمل: أي أنه لا يمكن استيلاء البروليتاريا على السلطة من دون تدمير جهاز الدولة القديم بجيشه وشرطته وجهازه القضائي والإداري وقوانينه. هذا هو الاكتشاف الذي سيُعرف بدكتاتورية البروليتاريا. وبإلامكان إقامة الصلة بين الديموقراطية المباشرة في تجربة العامّية الباريسية في أيار/ مايو ١٨٧١ والديموقراطية المجالسية (السوفييتات) في الثورة الروسية في تشرين الأول/ أكتوبر ١٩١٧، لولا أنّ مجالس العمّال والجنود الروسية صدرت عن المبادرة الجماهيرية أكثر منها عن تمثُّل بالتجربة الفرنسية. وقد تبنّتها الأحزاب الاشتراكية لاحقًا وتلقّفها لينين - باسم التعلّم من الممارسة - ليحوّلها إلى مؤسسات للسلطة البديلة.
وحيّا ماركس النزعة الأممية في مواقف العامّية في قولٍ مأثور: «على مرأى الجيش البروسي، الذي ضمّ إلى ألمانيا مقاطعتين فرنسيتين، ضَمّت باريس إلى فرنسا الشعبَ العامل في مختلف أرجاء العالم».
سخِر ماركس من المتباكين على حرق الأبنية من دعاة الحضارة «تلك الحضارة التي تتلخّص مشكلتها الكبرى في كيفية التخلّص من الجثث المتكوّمة في نهاية المعركة». لكنه أخذ على قادة «العامّية» تجاهلهم دعوته لاستخدام العنف ضد أعدائهم المتعطشين للدم، وعزا ما أصاب العامّية من ضعف إلى تردّدهم في ذلك.
وقد تعرّضت العامّية للنقد أيضًا لأنها سمحت لجنود ڤرساي بالانسحاب من باريس وامتنعت عن مصادرة أموال المصرف المركزي الذي ظل تحت إدارة حكومة ڤرساي.
خلاصتان
في الختام خلاصتان عن تجربة عامّية باريس ١٨٧١.
أولاً، التواصل بين الثورات. ذلك أنّ عددًا من إجراءات العامّية يعود إلى ما طرحتْه أو حقّقته ثوراتٌ سابقة. ففكرة العامّية ذاتها تعود إلى الفترة اليعقوبية من الثورة الأولى عام ١٧٩٤. وتشكيل «الحرس الوطني» من نتاج ثورتَي ١٨٣٠ و١٨٤٨، التي أنشأت الجيش الشعبي القائم على التطوّع في مقابل جيوش المرتزقة أو الجيوش المحترفة للأنظمة الملكية. وقد استلهمت عامّية باريس عددًا من قراراتها الرئيسة من برنامج «مطالب الحزب الشيوعي في ألمانيا» الذي صاغه ماركس وإنغلز خلال ثورة العام ١٨٤٨ وأبرزُها الاقتراع العامّ (للرجال فقط) ابتداءً من سن الواحد والعشرين؛ والخدمة العسكرية والشعب المسلّح؛ ودور الجيوش في العمل المنتِج؛ والفصل الكامل بين الكنيسة والدولة؛ والتعليم المجاني وإنشاء المدارس المهَنية، ومجانية المعاملات القانونية، وتأميم رهونات الفلاحين وغيرها.
ثانيًا، لم تكن عامّية باريس ثورةً اشتراكية، لم تصادر أملاك البرجوازيين لكنها دعتْ إلى الثورة الاجتماعية في وقتٍ مبكرٍ من ولادة طبقة عاملة وحرفية في أوروبا، فأعطت الأولوية لإعلاء قيمة العمل وفرض احترام حرمة العمل وكرامته. لكنّ القيمة التاريخية لعامّية باريس غير المعترف بها بما فيه الكفاية أنها لم تبتكر صيغة الديموقراطية المباشرة، المتجاوزة للديموقراطية البرلمانية، وحسب لكنها تتوّج تاريخًا من الثورات التي ربطت الحرّية بالمساواة وأرست الأساس للديموقراطية السياسية والقانونية والمواطنة كما تكاملت في القرن العشرين. والأمر نفسه ينطبق على دورها الرائد في فصل الدين عن الدولة واعتماد العلمانية. وفي الحالتين تقليد شعبيّ وعمّالي متواصل منذ الثورات الألمانية والبريطانية في القرنين السابع عشر والثامن عشر والثورات الفرنسية الثلاث الكبرى (١٧٨٩، ١٨٣٠، ١٨٤٨) مرورًا بالحركة الشارترية العمّالية البريطانية منتصف القرن التاسع عشر وصولاً إلى عامّية باريس. وهو تاريخٌ يثبت مدى العسَف والتزوير في نَسْب نظام الديموقراطية القانونية والسياسية إلى البرجوازية وإغفال حقيقة أنّ كل إجراءٍ من إجراءات الديموقراطية إما أنه كان ابن المخيّلة الشعبية أو أنه تحقق بضغط من الثورات والنضالات العمالية والشعبية.
مهما يكن، عاشت باريس في المستقبل خلال سبعة أسابيع. خرج ثوار العامّية «لاجتياح السماء»، حسب عبارة ماركس، ولكن من أجل بناء ملكوت الحرية والمساواة والأخوّة على الأرض. وأورثوا الأجيال اللاحقة الأملَ بأن الجنّة على الأرض ممكنة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.